إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"دولة الهواة" نغّصت عيشنا و"جائحة كوفيد-19.. الحدث الوحش"أقضّت مضجعنا

 

بقلم:مصدّق الشّريف

* من المتوقع أن تكشف الأعوام القادمة عن جملة من التحولات الهائلة في كل مناحي الحياة الإنسانية في الاقتصاد و السياسة الدولية وسياسات الدول

في الوقت الذي كان فيه لسان حال أغلب شعبنا يردّد ما أنشده الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:

لم يبقَ عنديَ ما يبتزّهُ الألمُ ***حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرمُ

لم يبقَ عندي كفاءَ الحادثاتِ أسى *** ولا كفاءَ جراحاتٍ تضجُّ دمُ

وحينَ تطغَى على الحرَّان جمرتُهُ *** فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليهِ فمُ

 يبدو جليا أن فتحي ليسير أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسية يمعن في كشف المستور وتعرية الواقع وطنيا وعالميا وكأنّنا به يلتذّ بتعذيب نفسه مثقفا وباحثا واعيا ويزيد تعذيب شعبه اليائس والمحبط ألما. ويتمثل ذلك في إصدار كتاب "دولة الهواة سنتان من حكم الترويكا في تونس"عن دار محمد علي للنشر عام 2016. كان المؤلَّف غزيرا بمعطيات تكشف فشل الإسلاميين من الهواة في تحقيق أهدافهم السياسية وتغيير طبيعة المجتمع بفضل النضال المستميت للحداثيين والمجتمع المدني. وعرّى المؤلَّف السلفية الجهادية والاغتيالات السياسية وانهيار الاقتصاد وتفشي التهريب وتفاقم احتجاجات البطالين ومعاناة الجهات المهمّشة. وفي المدة الأخيرة، أصدر الأستاذ فتحي ليسير مؤلَّفا جديدا عن دار محمد علي للنشر عنوانه أصدق إنباء من الوصف والتوصيف: "جائحة كوفيد 19 الحدث الوحش مقالة في التاريخ الآني". والكتاب سماه صاحبه الحدث الوحش وهي تسمية دالة على هول ما وقع وما سيقع للبشرية وللعالم إثر تلك الجائحة. وفي التسمية إيحاء بما ستطرحه الجائحة من قضايا على مستقبل البشرية. وهي قضايا التنمية الشاملة والتوازنات الدولية بعد أن أوقعت هذه الجائحة أزمة حادة مميزة في القرن الحادي والعشرين تنبئ بانقلابات جديدة وجدية على كل الأصعدة.

افتتح الأستاذ فتحي ليسير مؤلفه بأقوال رجال ذاع صيتهم فكريا وسياسيا أمثال جون آلنالذي قال: "التاريخ سيكتبه المنتصرون في أزمة كوفيد-19" وجويل شاندلييه الذي قال: "نادرا ما تغيّر الأوبئة مجرى التاريخ لكنها تساهم في تسريع ايقاعه". فهلاّ أشفقت، سيّدي فتحي ليسير، على نفسك وعلينا وإن فعلت كفيتنا نحن وكفيت نفسك ضجر الأيام المرّة المريرة وكوابيسها؟ أم تراك ترى غير ما ذهبنا إليه؟

وهذا ردّ الأستاذ فتحي ليسير:

"حدث جائحة كوفيد-19 لا يمكن فهمه في إطار التناولات الأولية والمقاربات الابتدائية إلا ضمن تصور شمولي فرضته كونية الجائحة، وهذا ما يسمى في قاموس المؤرخين ب«التاريخ المتصل». فقد عالجت الجائحة بوصفها«حقيقة شاملة» بالمعنى الذي اجترحه مارسيل موس، أي حقيقة لا ينفصل فيها الواقع البيولوجي عن الظروف المجتمعية والتنظيمية لظهور الوباء ولانتشاره. ضمن هذا المنظور تم تناول مقدمات الجائحة وأطوارها وإدارتها الصحية والمجتمعية والسياسية وآثارها المباشرة على المجتمعات والدول والعلاقات الدولية، دون إغفال الحديث عن طائفة التحديات والرهانات التي طرحتها على مستقبل البشرية. ذلك أن جائحة كوفيد-19 لم تمثل مجرد وباء عابر بل إنها شكلت، في حقيقة الأمر،إنذارا ونذيرا لما ينتظر الإنسانية ويتهدّدها في المستقبل القريب إن هي تمادت في انحرافاتها التدميرية للإنسان ولكوكب الأرض الذي يعيش على أديمه.

وقد قسّمت الكتابإلى ثلاثة أبواب مهّدت لها بمقدمة طويلة طرحت فيهامعالم الإشكالية التي تحرّك في إطارها وقد جاء نصّها ليقود منطُوق الكتاب.

     كان مدار الحديث في الباب الأول بفصليه الأول و الثاني حول جائحة كوفيد من منظور المؤرخ وغلب عليه الجانب التنظيري. وقد برّرت ذلك بقولي إن العلم بمداخله لا بموضوعاته وإن التاريخ بأسئلته قبل مصادره ومنهجيته، متبنيا في ذلك مقولة ادغار موران:« التاريخ واقع معقّد، لا يمكن فهمه إلاّ من خلال فكر معقّد».

    في الباب الثاني تناولت ما سمّيته سينوغرافيا الجائحة التي أقامها على ثالوث: الحادثة - الحدث - الحدثان، أي متواليات ثلاث هيكل حدث الجائحة حولها تأسّيا بسردية تشارلز روزنبرغ المتخصّص في تاريخ الأوبئة والجائحات والمعروفة ب«القوس السردي لروزنبرغ ».

     أما الباب الثالث والأخير، والذي تألفه والآخر من ثلاثة فصول فقد كرّسته لجيوبوليتيكا الجائحة مؤكدا أن كوفيد-19 قد كشفت عن أمر مهم اعتبره أصيلا حقا مفاده أن الأزمة الصحية الناجمة عن هذه الجائحة، بوصفها متغيرا عارضا، قد أثرت في السياسة الدولية على نحو واضح وغير مسبوق ما جعلها تساهم - بقدر أو بآخر - في « إعادة هندسة شكل العلاقات الدولية بين أهم الفواعل في النظام الدولي»، خاصة وأن نتائجها قد فرضت واقع « مجتمع مخاطر عالمي». وتأسيسا على هذا تساءلت: هل ستدخل الأوبئة والأزمات الصحية الكبرى مستقبلا متغيرات جديدة في فهم الظواهر الدولية ؟ و جاء الجواب بالإيجاب اعتمادا على طائفة من الأمثلة، من بينها أن الجائحة قد رسّخت بداية انتقال مركز ثقل القوة العالمية من الغرب إلى الشرق، ومن الولايات المتحدة إلى الصين تحديدا. وسيترتب على هذا التحول، الوئيد ولكن الأكيد،إعادة نظر عميقة في بنية النظام الدولي وفي توازناته.

     ويُستبان من أبواب الكتاب وفصوله ومباحثه أن«هزّة كوفيد-19» قد ألحقت شديد الأضرار بالاقتصاديات وبالبشرفي العالم قاطبة. ومن المتوقع أن تكشف الأعوام القادمة عن جملة من التحولات الهائلة في كل مناحي الحياة الإنسانية في الاقتصاد و السياسة الدولية وسياسات الدول وأولوياتها الإستراتيجية في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولاسيما في مجالات الصحة العامة وبرامج البحث العلمي ومجال البيئة والمحيط...الخ.

لقد رصدت أهم النتائج التي ترتبت على هذه الأزمة الصحية التي من المرجح أن تطول آثارها في المستقبل أنظمة حياتية برمّتها، وهذا ما بتنا نلحظ البعض من مؤشراته منذ2020. وقبل ذلك نبّهت إلى أمر مهم هو كون وباء كورونا مازال يحتفظ بالكثير من«أسراره» حول منشئه وظروف انتشاره وتراخي الدول الغربية الكبرى بالخصوص، وحتى منظمة الصحة العالمية، وتقاعسها في التعاطي معه بجدية في البداية، فضلا عن انعدام التنسيق على الصعيد الدولي للتصدي للوباء، وكذا السباق المحموم بين الدول، مغربا ومشرقا، من أجل اكتشاف لقاح للفيروس في أسرع وقت ممكن، إلى غير ذلك من نقاط الاستفهام..

انتهيت في فصول الكتاب إلى طائفة من النتائج و«الدروس» التي أسفرت عنها جائحة فيروس كورونا المستجد منها على سبيل المثال أن الجائحة لم تكن مفاجئة تماما على الرغم من عنصر المباغتة الظاهري ذلك أن هذا الوباء كان متوقعا منذ عام 2003. وهذا ما نبّه له نفر من علماء الأوبئة، منذ ذلك التاريخ. هكذا أقامت الجائحة الدليل، مرة أخرى بعد وباء الايدز،أنالأمراض المعدية والفيروسات الناقلة للعدوى لا تنتمي إلى الماضي كما ظن إنسان الحداثة المتقدمة، بل إن البعض منها أصبح يشكل تهديدات جديّة للنوع البشري على المستقبل المنظور. كما أثبت الوباء أن ردود أفعال مجتمعات القرن الحادي والعشرين إزاء جائحة جارفة لم تختلف كثيرا عن ردود أفعال مجتمعات القرون الوسطى .فقد حضرت المراحل الخمس المعروفة نفسها في تقبل الجائحات تقريبا: الإنكار،الهلع، المساومة، الاكتئاب، القبول بالأمر الواقع. هذا إضافة الى وصم«الآخر» بكونه المتسبب في الوباء ما يجعل من كوفيد-19 نموذجا لـ« الطراز الكلاسيكي الأول للجائحات».وقد انتبهت في الفصل الرابع لكون الجائحة قد قلبت السير العادي لحياة البشر في العالم قاطبة. وقد أدخلت اضطرابا على زمنيات الأفراد والمجتمعات بسبب التفشي السريع للوباء ما أدى إلى إقرار أضخم حجر صحي في التاريخ شمل أكثر من أربعة مليار آدمي في الوقتنفسه. وكشفت الجائحة، بعيد انتشارها، عن محدودية قدرات الدول فرادى على مجابهة وباء كاسح اعتمادا على قدراتها الذاتية مهما كان مستوى رقيّها وتقدّمها، ولكنها أشّرت، في المقابل، على عودة قويّة للدولة الوطنية التي همّشتها العولمة النيوليبيرالية. ومن المفارقات التي أبانت عنها الجائحة كونها ضربت القوى العظمى أكثر من بقية الدول الأخرى.ثم إن هذه القوى العظمى لم تعط المثل في مقاومة الأزمة الصحية الأمر الذي جعلها تسجل أرفع نسب الوفيات رغم زعمها «إعلان حرب» على الجائحة. ومن المفارقات الأخرى المهمة أن دول العالم لم تتوحد في مواجهة الوباء رغم أنه كان يهدّد الجميع دون تمييز وبذا تكون الجائحة قد أقامت الدليل على فشل الحوكمة العالمية الراهنة ما يستوجب صياغة قواعد جديدة لعولمة عالمية أخرى".

وعلى العموم، يحار الفصيح والأعجمي بوصف ابن آدم الذي لا يفتأ يواصل تدمير الطبيعة ويقطع حبال وداد البشرية وينتهج سياسات تقوم على الاقتتال واعتداء الانسان على أخيه الانسان في حقوقه الكونية في حين أنّ جراح جائحة كوفيد-19 لم تلتئم بعد.

 

 

 

"دولة الهواة" نغّصت عيشنا و"جائحة كوفيد-19..  الحدث الوحش"أقضّت مضجعنا

 

بقلم:مصدّق الشّريف

* من المتوقع أن تكشف الأعوام القادمة عن جملة من التحولات الهائلة في كل مناحي الحياة الإنسانية في الاقتصاد و السياسة الدولية وسياسات الدول

في الوقت الذي كان فيه لسان حال أغلب شعبنا يردّد ما أنشده الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:

لم يبقَ عنديَ ما يبتزّهُ الألمُ ***حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرمُ

لم يبقَ عندي كفاءَ الحادثاتِ أسى *** ولا كفاءَ جراحاتٍ تضجُّ دمُ

وحينَ تطغَى على الحرَّان جمرتُهُ *** فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليهِ فمُ

 يبدو جليا أن فتحي ليسير أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسية يمعن في كشف المستور وتعرية الواقع وطنيا وعالميا وكأنّنا به يلتذّ بتعذيب نفسه مثقفا وباحثا واعيا ويزيد تعذيب شعبه اليائس والمحبط ألما. ويتمثل ذلك في إصدار كتاب "دولة الهواة سنتان من حكم الترويكا في تونس"عن دار محمد علي للنشر عام 2016. كان المؤلَّف غزيرا بمعطيات تكشف فشل الإسلاميين من الهواة في تحقيق أهدافهم السياسية وتغيير طبيعة المجتمع بفضل النضال المستميت للحداثيين والمجتمع المدني. وعرّى المؤلَّف السلفية الجهادية والاغتيالات السياسية وانهيار الاقتصاد وتفشي التهريب وتفاقم احتجاجات البطالين ومعاناة الجهات المهمّشة. وفي المدة الأخيرة، أصدر الأستاذ فتحي ليسير مؤلَّفا جديدا عن دار محمد علي للنشر عنوانه أصدق إنباء من الوصف والتوصيف: "جائحة كوفيد 19 الحدث الوحش مقالة في التاريخ الآني". والكتاب سماه صاحبه الحدث الوحش وهي تسمية دالة على هول ما وقع وما سيقع للبشرية وللعالم إثر تلك الجائحة. وفي التسمية إيحاء بما ستطرحه الجائحة من قضايا على مستقبل البشرية. وهي قضايا التنمية الشاملة والتوازنات الدولية بعد أن أوقعت هذه الجائحة أزمة حادة مميزة في القرن الحادي والعشرين تنبئ بانقلابات جديدة وجدية على كل الأصعدة.

افتتح الأستاذ فتحي ليسير مؤلفه بأقوال رجال ذاع صيتهم فكريا وسياسيا أمثال جون آلنالذي قال: "التاريخ سيكتبه المنتصرون في أزمة كوفيد-19" وجويل شاندلييه الذي قال: "نادرا ما تغيّر الأوبئة مجرى التاريخ لكنها تساهم في تسريع ايقاعه". فهلاّ أشفقت، سيّدي فتحي ليسير، على نفسك وعلينا وإن فعلت كفيتنا نحن وكفيت نفسك ضجر الأيام المرّة المريرة وكوابيسها؟ أم تراك ترى غير ما ذهبنا إليه؟

وهذا ردّ الأستاذ فتحي ليسير:

"حدث جائحة كوفيد-19 لا يمكن فهمه في إطار التناولات الأولية والمقاربات الابتدائية إلا ضمن تصور شمولي فرضته كونية الجائحة، وهذا ما يسمى في قاموس المؤرخين ب«التاريخ المتصل». فقد عالجت الجائحة بوصفها«حقيقة شاملة» بالمعنى الذي اجترحه مارسيل موس، أي حقيقة لا ينفصل فيها الواقع البيولوجي عن الظروف المجتمعية والتنظيمية لظهور الوباء ولانتشاره. ضمن هذا المنظور تم تناول مقدمات الجائحة وأطوارها وإدارتها الصحية والمجتمعية والسياسية وآثارها المباشرة على المجتمعات والدول والعلاقات الدولية، دون إغفال الحديث عن طائفة التحديات والرهانات التي طرحتها على مستقبل البشرية. ذلك أن جائحة كوفيد-19 لم تمثل مجرد وباء عابر بل إنها شكلت، في حقيقة الأمر،إنذارا ونذيرا لما ينتظر الإنسانية ويتهدّدها في المستقبل القريب إن هي تمادت في انحرافاتها التدميرية للإنسان ولكوكب الأرض الذي يعيش على أديمه.

وقد قسّمت الكتابإلى ثلاثة أبواب مهّدت لها بمقدمة طويلة طرحت فيهامعالم الإشكالية التي تحرّك في إطارها وقد جاء نصّها ليقود منطُوق الكتاب.

     كان مدار الحديث في الباب الأول بفصليه الأول و الثاني حول جائحة كوفيد من منظور المؤرخ وغلب عليه الجانب التنظيري. وقد برّرت ذلك بقولي إن العلم بمداخله لا بموضوعاته وإن التاريخ بأسئلته قبل مصادره ومنهجيته، متبنيا في ذلك مقولة ادغار موران:« التاريخ واقع معقّد، لا يمكن فهمه إلاّ من خلال فكر معقّد».

    في الباب الثاني تناولت ما سمّيته سينوغرافيا الجائحة التي أقامها على ثالوث: الحادثة - الحدث - الحدثان، أي متواليات ثلاث هيكل حدث الجائحة حولها تأسّيا بسردية تشارلز روزنبرغ المتخصّص في تاريخ الأوبئة والجائحات والمعروفة ب«القوس السردي لروزنبرغ ».

     أما الباب الثالث والأخير، والذي تألفه والآخر من ثلاثة فصول فقد كرّسته لجيوبوليتيكا الجائحة مؤكدا أن كوفيد-19 قد كشفت عن أمر مهم اعتبره أصيلا حقا مفاده أن الأزمة الصحية الناجمة عن هذه الجائحة، بوصفها متغيرا عارضا، قد أثرت في السياسة الدولية على نحو واضح وغير مسبوق ما جعلها تساهم - بقدر أو بآخر - في « إعادة هندسة شكل العلاقات الدولية بين أهم الفواعل في النظام الدولي»، خاصة وأن نتائجها قد فرضت واقع « مجتمع مخاطر عالمي». وتأسيسا على هذا تساءلت: هل ستدخل الأوبئة والأزمات الصحية الكبرى مستقبلا متغيرات جديدة في فهم الظواهر الدولية ؟ و جاء الجواب بالإيجاب اعتمادا على طائفة من الأمثلة، من بينها أن الجائحة قد رسّخت بداية انتقال مركز ثقل القوة العالمية من الغرب إلى الشرق، ومن الولايات المتحدة إلى الصين تحديدا. وسيترتب على هذا التحول، الوئيد ولكن الأكيد،إعادة نظر عميقة في بنية النظام الدولي وفي توازناته.

     ويُستبان من أبواب الكتاب وفصوله ومباحثه أن«هزّة كوفيد-19» قد ألحقت شديد الأضرار بالاقتصاديات وبالبشرفي العالم قاطبة. ومن المتوقع أن تكشف الأعوام القادمة عن جملة من التحولات الهائلة في كل مناحي الحياة الإنسانية في الاقتصاد و السياسة الدولية وسياسات الدول وأولوياتها الإستراتيجية في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولاسيما في مجالات الصحة العامة وبرامج البحث العلمي ومجال البيئة والمحيط...الخ.

لقد رصدت أهم النتائج التي ترتبت على هذه الأزمة الصحية التي من المرجح أن تطول آثارها في المستقبل أنظمة حياتية برمّتها، وهذا ما بتنا نلحظ البعض من مؤشراته منذ2020. وقبل ذلك نبّهت إلى أمر مهم هو كون وباء كورونا مازال يحتفظ بالكثير من«أسراره» حول منشئه وظروف انتشاره وتراخي الدول الغربية الكبرى بالخصوص، وحتى منظمة الصحة العالمية، وتقاعسها في التعاطي معه بجدية في البداية، فضلا عن انعدام التنسيق على الصعيد الدولي للتصدي للوباء، وكذا السباق المحموم بين الدول، مغربا ومشرقا، من أجل اكتشاف لقاح للفيروس في أسرع وقت ممكن، إلى غير ذلك من نقاط الاستفهام..

انتهيت في فصول الكتاب إلى طائفة من النتائج و«الدروس» التي أسفرت عنها جائحة فيروس كورونا المستجد منها على سبيل المثال أن الجائحة لم تكن مفاجئة تماما على الرغم من عنصر المباغتة الظاهري ذلك أن هذا الوباء كان متوقعا منذ عام 2003. وهذا ما نبّه له نفر من علماء الأوبئة، منذ ذلك التاريخ. هكذا أقامت الجائحة الدليل، مرة أخرى بعد وباء الايدز،أنالأمراض المعدية والفيروسات الناقلة للعدوى لا تنتمي إلى الماضي كما ظن إنسان الحداثة المتقدمة، بل إن البعض منها أصبح يشكل تهديدات جديّة للنوع البشري على المستقبل المنظور. كما أثبت الوباء أن ردود أفعال مجتمعات القرن الحادي والعشرين إزاء جائحة جارفة لم تختلف كثيرا عن ردود أفعال مجتمعات القرون الوسطى .فقد حضرت المراحل الخمس المعروفة نفسها في تقبل الجائحات تقريبا: الإنكار،الهلع، المساومة، الاكتئاب، القبول بالأمر الواقع. هذا إضافة الى وصم«الآخر» بكونه المتسبب في الوباء ما يجعل من كوفيد-19 نموذجا لـ« الطراز الكلاسيكي الأول للجائحات».وقد انتبهت في الفصل الرابع لكون الجائحة قد قلبت السير العادي لحياة البشر في العالم قاطبة. وقد أدخلت اضطرابا على زمنيات الأفراد والمجتمعات بسبب التفشي السريع للوباء ما أدى إلى إقرار أضخم حجر صحي في التاريخ شمل أكثر من أربعة مليار آدمي في الوقتنفسه. وكشفت الجائحة، بعيد انتشارها، عن محدودية قدرات الدول فرادى على مجابهة وباء كاسح اعتمادا على قدراتها الذاتية مهما كان مستوى رقيّها وتقدّمها، ولكنها أشّرت، في المقابل، على عودة قويّة للدولة الوطنية التي همّشتها العولمة النيوليبيرالية. ومن المفارقات التي أبانت عنها الجائحة كونها ضربت القوى العظمى أكثر من بقية الدول الأخرى.ثم إن هذه القوى العظمى لم تعط المثل في مقاومة الأزمة الصحية الأمر الذي جعلها تسجل أرفع نسب الوفيات رغم زعمها «إعلان حرب» على الجائحة. ومن المفارقات الأخرى المهمة أن دول العالم لم تتوحد في مواجهة الوباء رغم أنه كان يهدّد الجميع دون تمييز وبذا تكون الجائحة قد أقامت الدليل على فشل الحوكمة العالمية الراهنة ما يستوجب صياغة قواعد جديدة لعولمة عالمية أخرى".

وعلى العموم، يحار الفصيح والأعجمي بوصف ابن آدم الذي لا يفتأ يواصل تدمير الطبيعة ويقطع حبال وداد البشرية وينتهج سياسات تقوم على الاقتتال واعتداء الانسان على أخيه الانسان في حقوقه الكونية في حين أنّ جراح جائحة كوفيد-19 لم تلتئم بعد.