*يبقى بالإمكان مزيد التبسيط ومراعاة ظروف المتابعة للمشاهد العاديّ
عشية الجمعة 12 ماي 2023 السّاعة الخامسة و25 دقيقة فوجئت مفاجأة سارّة وأنا أتابع برامج القناة الأولى بانطلاق الحصـّــة الأولى من برنامج ثقافي جديد يحمل عنوان " فضاء الحرّيّة" ويقدّمه المثقف المعروف فريد العليبي وأستاذ الفلسفـة والكاتب المجيــد. فشدّني وبقيت مدة بثـه وهي ساعة أستمتع بما دار فيه من حوار ثريّ حول قضايا علميـّــة ثقافيـة راهنـة تشغل البال، لا سيما وقد كان ضيف الحصـّــة هو الاخر مثقّفا معروفا وأستاذ طبّ وكاتبا بارعا أعني أحمد ذياب. ولا أنوي ولا أودّ تلخيص ما استمعت إليه أثناء الحوار وما تخلّله من ومضات أدبيــة وفكرية وإبداء الرأي فيه، بل أحبّ أن أغتنم المناسبـة، في ركن هذا المنتدى من هذه الجريدة المناضلة، لأعرض بعض الخواطر التي أوحـى بها إليّ " فضاء الحريّة" التلفزي، هذا، ولأحيّــي من كان وراء بعثه وبثّه في هذا التاريخ وهذا التوقيت وبهذه القناة ولأشدّ على يدي معدّه ومقدمه مشجّعا مستزيدا.
ذلك أنني أعرف وأقدر ما يتكبّده منتجو مثل هذه البرامج وأيّ مغامرة يقبل عليها جهاز إذاعي أو تلفزي، وحتــى الصحافة المكتوبة لها قسطها من المتاعـب في هذا السبيـل. فليس أعسر - ربّما- من الدفاع عن الثقافـة وترويجـها، في عصرنا أعني الجادّ فيها والعميق صعب الاستيعاب. فمسألة تاريخ العلوم، وشأن الحداثــة والتحديث عندهم والتعليــم والتربيـة، والعقل واللغـــة، كالذي تناولته الحصـة الأولى من " فضاء الحرية" لفريد العليبــي وضيفـه أحمــد ذياب، ليست من الشؤون والمدارات التي يصبر على سماعها مشاهد اليوم، في بلادنا ويتملاّها ويتدبّرها، بيسر، ذكرا أو أنثــى على السواء، لا سيـما من فئــة المشاهديـن الشباب الذين تستهويهم المنوّعات والألعاب فدون ذلك جسور لابد من تذليلها. ولكم استحسنت الومضتيـن المتخلّلتيــن لمجرى المحاورة أو" المقابسـة" على حدّ عبارة أبي حيان التوحيدي قديما، فالأولى تعلّقت بروايـة " موسم الهجرة إلى الشمال" لصاحبها المبدع السوداني الطيّب صالح، والثانيــة قدّمت كتابا لافتا معرّبا هو " نظام التفاهة " لأدورنـو، والومضتان في تناغــم مع القضايا المثارة : الشرق والغرب، وانقلاب القيم أو زوال المفاهيـم العميقة.
ولئن خفّفت طلاقة لسان المحاور وسعة ثقافته وبداهــة المجاوب وتبحّره في اختصاصه وغير اختصاصه، من دسامـة المحاور المطروقـة وجعلها هيّنــة مستساغــة عبر ضرب الأمثلة والشواهـد، فإنّه يبقى بالإمكان مزيد التبسيط ومراعاة ظروف المتابعة للمشاهد العاديّ. ومهما يكن من أمر فلابّد من إفساح المجال لمثل هذه البرامج الثقافية والتوسّل في ذلك بطرق شتّـى: فحياتنا الفكرية حافلة بالمنابر والملتقيات والتظاهرات وتوفّر فرصا للالتقاء بالمفكريـن والمفكّرات التونسيين وغير التونسييــن الذي يفدون من البلاد العربيــة-هذا فضلا عن علوّ كعب جامعيينا الذين يبحثـــون وينشرون ويتحدثــون في قضايا الوطـــن والأمــّـــة والعصر بتبصّر وخبرة عاليــة .وإنّ استنباط البرامج التلفزية التي تكرّمهم عبر التعريف بهم وأفكارهم ، لهو من حسن التدبير والتحدّي. فالمساحات الزمنيـة في قنواتنا التلفزيـة شاسعــة ولا تضيق بمثل هذه الفضاءات.
فلنشجــع المبادرات التي تنحـــو هذا النحو ولنــحدب عليها ونعطف ونتولاها بوسائل التشويق والاغراء ذات الطابع العصري التقني من الإعلان والاشهار عبر اللقطات المختارة وإعادة البثّ وإدماجها في شبكــة الأوقات ذات المشاهدة العالية. وإحقاقا للحق فالتلفزة الوطنيـة ذات تاريخ حافل في هذا المجال رغم الصعوبات ومنها العقلية التي تبوئ النشاط الثقافي آخر الرتب وآخر المساحات الزمنية. فأعمال النّاشط الثقافي الممتاز فرج شوشان لا تنسـى وحبّذا لو تستصفى الحلقات التي قدّمها للتلفزة في محاوراته لأعلام من بلادنا ويعاد بثّ بعضها وغيره يذكر فيشكر. وإنّي -هنا- لا أستثني مبادرات القنوات التونسية الخاصة، التي بدأت تُعنـى بالثقافة والفكر وأهلها وإن كان التركيز ذاهبا نحو وجوه معيّنــة معروفـة. فلنجتهد أكثر في هذا المجال ولنتسربل بالأريحيّــة وسعة الصدر في اختيار الضيوف ولنمسك عن الاقصاء أو التغاضي أو التجاهل فسنجد في محاورات أدبائنا وعلمائنا ومهندسينا وأطبائنا ومفكرينا عامة، و"مقابساتهم" غنما كبيرا وإجابات مستفيضة دقيقة عن القضايا التي نطرحها على أنفسنا في أيامنا، درسوها جيّدا وألفوا فيها، غير أنّ بعضهم لا يحبّ الظهور ولا يبغي الشهرة المصطنعة، وتأبى عليه شهامتهأن يتزلّف ويتطفّل ليقرب من منبر تلفزي. وتقديم المؤلفات الجديدة جيّد مفيد كما شاهدت في "فضاء الحرية" للعليبي، لكن لا ننسى المؤلفات التي سبقت وهي كثيرة وأصحابها ممن حسموا في كثير من المسائل التي شغلتنا وما تزال تشغلنا، واكتفي بالإشارة إلى كتاب واحد وجدته مرجعا نفيسا رصينا لتونسي ابن بلدنا. وهو " المستقبل الثقافي بيننداء الهويــة والتجربـة الديمقراطيـة"لصاحبـه الجامعي توفيق بن عامر وقد صدر في طبعة أولى في أكتوبر 2018 أي منذ 5 سنوات. وأجدّد التحيــة والتنويـــه لمن كان سببا في هذه الخواطر.
*ناشط ثقافي (صفاقس)
بقلم :علي السّعداوي*
*يبقى بالإمكان مزيد التبسيط ومراعاة ظروف المتابعة للمشاهد العاديّ
عشية الجمعة 12 ماي 2023 السّاعة الخامسة و25 دقيقة فوجئت مفاجأة سارّة وأنا أتابع برامج القناة الأولى بانطلاق الحصـّــة الأولى من برنامج ثقافي جديد يحمل عنوان " فضاء الحرّيّة" ويقدّمه المثقف المعروف فريد العليبي وأستاذ الفلسفـة والكاتب المجيــد. فشدّني وبقيت مدة بثـه وهي ساعة أستمتع بما دار فيه من حوار ثريّ حول قضايا علميـّــة ثقافيـة راهنـة تشغل البال، لا سيما وقد كان ضيف الحصـّــة هو الاخر مثقّفا معروفا وأستاذ طبّ وكاتبا بارعا أعني أحمد ذياب. ولا أنوي ولا أودّ تلخيص ما استمعت إليه أثناء الحوار وما تخلّله من ومضات أدبيــة وفكرية وإبداء الرأي فيه، بل أحبّ أن أغتنم المناسبـة، في ركن هذا المنتدى من هذه الجريدة المناضلة، لأعرض بعض الخواطر التي أوحـى بها إليّ " فضاء الحريّة" التلفزي، هذا، ولأحيّــي من كان وراء بعثه وبثّه في هذا التاريخ وهذا التوقيت وبهذه القناة ولأشدّ على يدي معدّه ومقدمه مشجّعا مستزيدا.
ذلك أنني أعرف وأقدر ما يتكبّده منتجو مثل هذه البرامج وأيّ مغامرة يقبل عليها جهاز إذاعي أو تلفزي، وحتــى الصحافة المكتوبة لها قسطها من المتاعـب في هذا السبيـل. فليس أعسر - ربّما- من الدفاع عن الثقافـة وترويجـها، في عصرنا أعني الجادّ فيها والعميق صعب الاستيعاب. فمسألة تاريخ العلوم، وشأن الحداثــة والتحديث عندهم والتعليــم والتربيـة، والعقل واللغـــة، كالذي تناولته الحصـة الأولى من " فضاء الحرية" لفريد العليبــي وضيفـه أحمــد ذياب، ليست من الشؤون والمدارات التي يصبر على سماعها مشاهد اليوم، في بلادنا ويتملاّها ويتدبّرها، بيسر، ذكرا أو أنثــى على السواء، لا سيـما من فئــة المشاهديـن الشباب الذين تستهويهم المنوّعات والألعاب فدون ذلك جسور لابد من تذليلها. ولكم استحسنت الومضتيـن المتخلّلتيــن لمجرى المحاورة أو" المقابسـة" على حدّ عبارة أبي حيان التوحيدي قديما، فالأولى تعلّقت بروايـة " موسم الهجرة إلى الشمال" لصاحبها المبدع السوداني الطيّب صالح، والثانيــة قدّمت كتابا لافتا معرّبا هو " نظام التفاهة " لأدورنـو، والومضتان في تناغــم مع القضايا المثارة : الشرق والغرب، وانقلاب القيم أو زوال المفاهيـم العميقة.
ولئن خفّفت طلاقة لسان المحاور وسعة ثقافته وبداهــة المجاوب وتبحّره في اختصاصه وغير اختصاصه، من دسامـة المحاور المطروقـة وجعلها هيّنــة مستساغــة عبر ضرب الأمثلة والشواهـد، فإنّه يبقى بالإمكان مزيد التبسيط ومراعاة ظروف المتابعة للمشاهد العاديّ. ومهما يكن من أمر فلابّد من إفساح المجال لمثل هذه البرامج الثقافية والتوسّل في ذلك بطرق شتّـى: فحياتنا الفكرية حافلة بالمنابر والملتقيات والتظاهرات وتوفّر فرصا للالتقاء بالمفكريـن والمفكّرات التونسيين وغير التونسييــن الذي يفدون من البلاد العربيــة-هذا فضلا عن علوّ كعب جامعيينا الذين يبحثـــون وينشرون ويتحدثــون في قضايا الوطـــن والأمــّـــة والعصر بتبصّر وخبرة عاليــة .وإنّ استنباط البرامج التلفزية التي تكرّمهم عبر التعريف بهم وأفكارهم ، لهو من حسن التدبير والتحدّي. فالمساحات الزمنيـة في قنواتنا التلفزيـة شاسعــة ولا تضيق بمثل هذه الفضاءات.
فلنشجــع المبادرات التي تنحـــو هذا النحو ولنــحدب عليها ونعطف ونتولاها بوسائل التشويق والاغراء ذات الطابع العصري التقني من الإعلان والاشهار عبر اللقطات المختارة وإعادة البثّ وإدماجها في شبكــة الأوقات ذات المشاهدة العالية. وإحقاقا للحق فالتلفزة الوطنيـة ذات تاريخ حافل في هذا المجال رغم الصعوبات ومنها العقلية التي تبوئ النشاط الثقافي آخر الرتب وآخر المساحات الزمنية. فأعمال النّاشط الثقافي الممتاز فرج شوشان لا تنسـى وحبّذا لو تستصفى الحلقات التي قدّمها للتلفزة في محاوراته لأعلام من بلادنا ويعاد بثّ بعضها وغيره يذكر فيشكر. وإنّي -هنا- لا أستثني مبادرات القنوات التونسية الخاصة، التي بدأت تُعنـى بالثقافة والفكر وأهلها وإن كان التركيز ذاهبا نحو وجوه معيّنــة معروفـة. فلنجتهد أكثر في هذا المجال ولنتسربل بالأريحيّــة وسعة الصدر في اختيار الضيوف ولنمسك عن الاقصاء أو التغاضي أو التجاهل فسنجد في محاورات أدبائنا وعلمائنا ومهندسينا وأطبائنا ومفكرينا عامة، و"مقابساتهم" غنما كبيرا وإجابات مستفيضة دقيقة عن القضايا التي نطرحها على أنفسنا في أيامنا، درسوها جيّدا وألفوا فيها، غير أنّ بعضهم لا يحبّ الظهور ولا يبغي الشهرة المصطنعة، وتأبى عليه شهامتهأن يتزلّف ويتطفّل ليقرب من منبر تلفزي. وتقديم المؤلفات الجديدة جيّد مفيد كما شاهدت في "فضاء الحرية" للعليبي، لكن لا ننسى المؤلفات التي سبقت وهي كثيرة وأصحابها ممن حسموا في كثير من المسائل التي شغلتنا وما تزال تشغلنا، واكتفي بالإشارة إلى كتاب واحد وجدته مرجعا نفيسا رصينا لتونسي ابن بلدنا. وهو " المستقبل الثقافي بيننداء الهويــة والتجربـة الديمقراطيـة"لصاحبـه الجامعي توفيق بن عامر وقد صدر في طبعة أولى في أكتوبر 2018 أي منذ 5 سنوات. وأجدّد التحيــة والتنويـــه لمن كان سببا في هذه الخواطر.