الدساتير، وجهات نظر سياسية والمحاكم الدستورية تفسّرها.. تلخّص هذه الجملة الدور الأساسي للمحكمة الدستورية التي تعمل على تفسير وتأويل النص الدستوري وفق السياقات الموضوعية والسياسية التي يتنزّل فيها.. فإذا كان الدستور في جلّ دول العالم هو التشريع الأعلى مكانة ومن هذا الدستور تُستمدّ أغلب التشريعات التي تليه في هرم القوانين قوتها وشرعيتها، فان هذا الدستور ولتطبيقه بطريقة مُثلى يحتاج إلى جهة تفسّر أحكامه وتأوّل فصوله وتنزّلها على الوقائع وتحسم في كل خلاف حول هذا النصّ الدستوري، وإذا كان هذا هو الدور المحوري الذي تضطلع به أغلب المحاكم الدستورية فان ذلك لا ينفي وجود أدوار أخرى لهذه المحاكم مثل تعديل المزاج السياسي بما يستجيب ومقتضيات الوضع الديمقراطي وفرملة كل محاولة للانحراف بالحكم نحو الاستبداد والتسلّط بالقدر الذي يسمح به النصّ الدستوري حيث لا يمكن لقضاة المحكمة الدستورية الاجتهاد خارج النصّ أو استنباط أحكام جديدة لم يأت بها الدستور الذي هو نواة عمل المحكمة الدستورية.
وتؤكد التجارب الديمقراطية أهمية وجود محكمة دستورية مستقلة عن السلطة التنفيذية والتشريعية ودورها المحوري في ضمان حياة سياسية مستقرّة، غير أن التجارب العربية مع المحاكم الدستورية تبدو في مجملها بعيدة عن روح هذه المحكمة والهدف من إنشائها حيث لم تتمكّن هذه المحاكم من أداء مهامها دون تدخّل السلطة التنفيذية التي تكون مهيمنة عادة على المشهد السياسي برمته، وهذه الهيمنة تمتد ليصبح قضاة هذه المحكمة المعينون من قبل السلطة التنفيذية في الغالب تابعين لهذه السلطة ومؤتمرين بأوامرها، وقمع كل محاولة للاستقلالية من طرف هؤلاء القضاة، وبالنسبة لتونس فان تجربتها في التحكيم أو القضاء الدستوري ما زالت تجربة مبتورة ونظرية لا يمكن الحكم عليها إلا على مستوى النصوص المنظمة لهذه التجربة.
تونس والتجربة الدستورية
وتونس شهدت تجربة تحكيم دستوري اختلفت تفاصيلها قبل وبعد الثورة، وإذا كانت التجربة في ظل نظام بن علي اتسمت بالشكلانية والتبعية إلى النظام فان التجربة بعد الثورة بقيت معلّقة على النصوص التي نظمتها ولم تنجز في الواقع سواء في دستور 2014 أو في دستور 2022 إلى حد الآن .
وبعد توليه الحكم أحدث زين العابدين بن علي بمقتضى أمر رئاسي المجلس الدستوري للجمهورية، وكان الوحيد المخوّل لمخاطبة هذا المجلس الدستوري هو بن علي فقط وقد تم حلّ هذا المجلس بمقتضى المرسوم عدد 14 لسنة 2011. ولكن بعد الثورة تحول مطلب تركيز محكمة دستورية في الدستور الجديد إلى مطلب ثوري حيث نص دستور 2014 على إحداث المحكمة الدستورية وحدد مهامها وأعضائها وذلك في الفصول من 118 إلى 124. كما نصت الفقرة 7 من الفصل 148 من ذلك الدستور على إحداث الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، الأمر الذي تم في 18 أفريل 2014 بمقتضى قانون أساسي، وكان يفترض وكما تم تحديده في الدستور أن تتولى الهيئة المؤقتة مراقبة دستورية مشاريع القوانين إلى حين انتخاب أعضاء المحكمة من طرف البرلمان، ولكن المحكمة الدستورية التي كان يفترض أن ترى النور بعد صدور الدستور بسنة، تمت المماطلة والتلكؤ في انتخابها خلال برلمان النداء/النهضة وإخضاعها إلى محاصصات حزبية مقيتة بما أجهض كل محاولة لتركيزها.
وهذا التلكؤ الذي رافق عمل ذلك البرلمان وكذلك برلمان 2019، كلّف كل الأحزاب السياسية غاليا وانتبه الجميع لأهمية هذه المحكمة عندما أعلن الرئيس قيس سعيد إجراءات 25 جويلية ولكن حدث ذلك بعد فوات الأوان.
وحسب دستور2014 فان المحكمة الدستورية تتولى مراقبة مشاريع القوانين المعروضة عليها من قبل رئيس الجمهورية التونسية أو رئيس الحكومة أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نواب الشعب، ومشاريع القوانين الدستورية التي يعرضها عليها رئيس مجلس نواب الشعب، والمعاهدات التي يعرضها عليها رئيس الجمهورية، والقوانين التي تحيلها عليها المحاكم، والنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب الذي يعرضه عليها رئيس المجلس.
وفي دستور الاستفتاء لسنة 2022 فان المحكمة الدستورية تتولى مراقبة القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نواب الشعب أو نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم يرفع إليها في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ المصادقة على مشروع القانون أو من تاريخ المصادقة على مشروع قانون في صيغة معدلة بعد أن تم رده من قبل رئيس الجمهورية. وتراقب كذلك المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهورية قبل ختم قانون الموافقة عليها. والقوانين التي تحيلها عليها المحاكم إذا تم الدفع بعدم دستوريتها في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرها القانون. كما تراقب المحكمة النّظـام الداخلي لمجلس نواب الشعب والنّظام الداخلي للمــجلس الوطني للجهــات والأقاليم اللّذين يعرضهما عليها رئيسا هذين المجلسين. ومشاريع تنقيح الدستور للبتّ في عدم تعارضها مع ما لا يجوز تنقيحه حسب ما هو مقرر بهذا الدستور.. كما يتولى رئيس المحكمة تولي رئاسة الجمهورية إلى حين إجراء انتخابات في حالة الشغور النهائي في المنصب .
ورغم أن انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية كان في البرلمانين السابقين أحد أهم المعوقات التي حالت دون تركيز هذه المحكمة حيث لم يتفق برلمانيا على أعضاء هذه الهيئة الذين ينتخبهم البرلمان، إلا أن اليوم ومع اختلاف شروط عضوية هذه المحكمة وفق نص الدستور الجديد فان السؤال الذي بدأ يطرح نفسه بإلحاح اليوم هو لماذا تأخّر في تركيز هذه المحكمة الذي أقرّها في دستوره الجديد؟
علما وأن البرلمان المجمّد وفي 4 ماي 2021 صادق على مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية بأغلبية الأصوات، وقد سبق وان صادق نواب الشعب في شهر مارس 2021، على التنقيحات الخاصة ببعض فصول القانون الأساسي للمحكمة الدستورية في قراءه أولى، لكن مشروع القانون لم يحظ بموافقة رئيس الجمهورية قيس سعيد وقام برده لمجلس نواب الشعب، كما رفضت وقتها الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين البت في ذلك الخلاف الذي جدّ بين الرئيس والبرلمان المنحل وكان أحد الأسباب التي أدت إلى إجراءات 25 جويلية.
أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي لـ"الصباح": ما أشبه اليوم بالأمس..!
في سؤال توجهت به»الصباح « إلى أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي حول تفسيرها للتلكؤ الحاصل من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد في تركيز المحكمة الدستورية، قالت القليبي أنها لا تملك تفسيرا لهذا التلكؤ وأن الأمر له علاقة بالنوايا والتي لا يمكن أن تعلمها، قائلة: »يمكنني فقط أن أقف عند تواصل تعطيل إرساء المحكمة الدستورية رغم رفع التعقيدات الإجرائية التي حالت دون التوصّل إلى اتفاق حول أعضائها وحصرهم في جهات قضائية معلومة ومحدّدة يمكن لرئيس الجمهورية تعيينها في الحين وبالتالي ما أشبه اليوم بالأمس حيث أننا بقينا في منظومة تفتقر إلى أهمّ أركان دولة القانون وهي المحكمة الدستورية إذ هي المؤسسة الوحيدة الكفيلة بضمان علوية الدستور وفرض احترامه من قبل السلطة التشريعية، بما أنه دستور 2022 سحب منها جميع الاختصاصات التي تخوّل لها فرض احترام الدستور من قبل السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية تحديدا«.
وفي وقت سابق قالت أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي أنّه كان من المتوقّع أن يتم إرساء المحكمة الدستورية بشكل سريع نظرا لكون تعيين جميع أعضائها راجع لرئيس الجمهورية وبصفاتهم ولا يوجد أيّ صعوبات إجرائية وسياسية، وأضافت "النصوص القانونية التي سيتم إرساؤها مستقبلا من قبل المجلس النيابي الجديد ستكون غير خاضعة للرقابة والطعن فيها.. والبرلمان بصدد إعداد نظامه الداخلي وينص الدستور على وجوب أن يخضع لرقابة المحكمة الدستورية، ومشروع النظام الداخلي المعروض على أنظار الجلسة العامة اليوم يتضمّن فصولا تطرح إشكالا في مدى مطابقتها للدستور«.
ورغم أنّ المحكمة الدستورية في دستور 2022 لها اختصاصات محدودة مقارنة بما كانت عليه في دستور 2014 ولكن تبقى وظيفتها الأساسية هي ضمان دستورية القوانين وفي غياب المحكمة الدستورية ستبقى القوانين في حلّ من كل رقابة.
أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار لـ"الصباح": المحكمة الدستورية مخلوق مؤسساتي أعرج لا يمكن أن يصنع الديمقراطية في فضاء غير ديمقراطي
في سؤال لـ»الصباح «حول التأخير غير المبرر في تركيز المحكمة الدستورية يقول أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية عبد الرزاق المختار: »نحن اليوم أمام منظومة دستورية يهمين عليها وجوهرها الرئيسي هو رئيس الجمهورية بموجب ما له من سلطات دستورية تميّزه عن بقية الوظائف وتجعل منه تقريبا، وبشكل واضح جدا، السلطة الوحيدة وسط مجموعة من الوظائف. وإذا عدنا إلى الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية فإننا نستنتج أن مختلف خطاباته السياسية لا تتضمّن وعودا بتركيز مؤسسات، ما عدا بعض المؤسسات التي تم تركيزها على غرار مؤسسة فداء والتي هي جزء من سردية رئيس الجمهورية ووعوده الانتخابية، وبالتالي على مستوى الخطاب السياسي، تركيز المؤسسات الدستورية لم يكن قطّ أحد الأولويات والمسألة الثانية هي أن غياب هذه المؤسسة والمقصود المحكمة الدستورية تبدو أكثر إفادة للفاعل الرئيسي من حضورها".
كما يشير عبد الرزاق المختار إلى أن هذه المؤسسة التي تقدّم أنها المؤول الرسمي للدستور على محدودية دورها، هناك مبالغة في تعليق آمال عليها، قائلا: »غياب المحكمة الدستورية يجعل من رئيس الجمهورية وبالمعني الواقعي للأمر، الجهة الوحيدة التي يخوّل لها تأويل الدستور، وذلك بالطبع ميزة مؤسساتية عزيزة على قلب الفاعل السياسي الرئيسي والذي هو الرئيس، وبالتالي الوجاهة في التأويل تعود له أكثر مما تعود لغيره وهذه هي النتيجة على المستوى المؤسساتي. أما على المستوى التأويلي للنصّ فينفرد رئيس الجمهورية بهذه الميزة على بقية الفاعلين السياسيين وبقية المؤسسات وتختلط بصفته الأكاديمية القديمة وهو أنه المؤوّل الرسمي والوحيد للنص الدستوري مع إدراكنا بحدود دور هذه المحكمة في التأويل لأنها لن تكون بمثابة دار الإفتاء الدستورية، وبالعودة إلى النص الدستوري نتبين حدود دورها".
عبد الرزاق المختار قال أنه من الصعب الإجابة عن سؤال لماذا لم تركّز المحكمة الدستورية إلى الآن ولكن يمكننا معرفة الجهة التي تستفيد من عدم تركيزها وأن الجهة الوحيدة التي تستفيد من غياب المحكمة هي رئيس الجمهورية.
وحول أهمية صلاحيات هذه المحكمة، وفق منطوق دستور 2022 يقول أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار »بالنسبة للأهمية تُقاس بمكانة المؤسسة وفاعلية المؤسسة ومكانة المؤسسات الدستورية وفاعلتيها، رهين شيئين، رهين إطارها المحيطي والذي هو طبيعة نظام الحكم والأحزاب السياسية والمجتمع المدني وحيوية هذه العناصر في تفاعلها مع بعضها البعض. الشرط الثاني هو الشرط القانوني الذي يمنحها دورها، ودستور 2014 جعل من المحكمة الدستورية محكمة بمثابة حكم، بالنص الدستوري الذي منحها إمكانيات واسعة جعلتها عنصر تعديل داخل النظام السياسي رغم أنها لم تقم بدورها في مراقبة الفصل 80 ولم تتناول حالات الشغور، إذن أعطيت هذه المحكمة دورا غير معهود في التجربة الدستورية التونسية وأعطيت كثير من الصلاحيات التي جعلت منها أحد عناصر القوة المضادة وإلا عناصر الفرملة المؤسساتية داخل النظام السياسي.. وهذه ليست هي الحالة في دستور2022 ..فهذا الدستور حصرها في الدور التقليدي للمحكمة الدستورية، فمن ناحية الدور كان بمثابة الرؤية المحافظة للدور وتم حصرها في إطار رقابة دستورية القوانين ومنحها دور محدود جدا في علاقة بالنظام السياسي وأبقاها في دور معاينة الشغور الوقتي والشغور النهائي وذلك دون أن يمنحها الإمكانية التي كانت موجودة في دستور 2014، مثل مراقبة الخرق الجسيم للدستور من رئيس الجمهورية ومراقبة التدابير الاستثنائية الخ... وبالتالي عدنا مع النص الدستوري الجديد بالنسبة إلى هذه المحكمة إلى المربع المحافظ، وبالتالي التركيبة في هذا المربع أصبحت أشبه بناد للمتقاعدين، أو القادمين على التقاعد، لأن بنيتها تضمّ أقدم رؤساء الدوائر سواء في القضاء العدلي أو الإداري أو المالي والقضاة بطبعهم وانطلاقا من تكوينهم يميلون إلى المحافظة، ففي الفكر القانوني أو حتى أحيانا الاجتماعي القاضي ينتهي معمّما، عمامة مدنية أو عمامة دينية، ربما لجملة الخطايا التي يرتكبها، وعندما يقرب سن التقاعد يصبح يفكّر في المغفرة وبالتالي سنجد أمامنا قضاة في آخر مساراتهم المهنية ولهم النزعة المحافظة والنزعة الإجرائية وبالتالي هم مطبّقي قانون أكثر منهم مؤولين لهذا القانون وللنصّ، وبالتالي سنكون أمام محكمة تغلب عليها النزعة المحافظة في ممارسة الرقابة في حدّ ذاتها بحيث سيكون لدينا ميل للمقاربة الشكلانية الإجرائية، وسيكونون قضاة محافظين وشكلانيين، والعنصر الثاني المؤثر في عمل المحكمة الدستورية هو الجانب المحيطي، وفي هذا الجانب مهما كانت المؤسسات فإنها رهينة شرطها الديمقراطي وإذا كان لدينا الشرط الديمقراطي فان حيوية المؤسسات وفاعليتها وحيوية مؤسسات الرقابة وفاعليتها تستمد من حيوية الديمقراطية ويكون لدينا الدور الديمقراطي والتأويل الديمقراطي للمحاكم الدستورية والقاضي الدستوري. إذا لدينا نظام مبني على التسلطية بأنواعها أو على اختلال بيّن في التمييز بين السلط وتفريق سلطة على سلط أخرى ولدينا دستور غير ديمقراطي فانه لا يمكن أن يرتجى من أي هيكل أن يكون ديمقراطيا، لان الهياكل لا تنزل من السماء بل تأتي ضمن خيارات تشريعية، وتبقي هذه المؤسسات رهين ضيق صدر محيطها السياسي في إطار نزوع استبدادي آو نكوص ديمقراطي.. وفي سياق نص لا يفتح مجالات واسعة ومع بنية محافظة، لا ننتظر تأويلا ديمقراطيا لنص دستوري غير ديمقراطي في حد ذاته، إذن لا يمكن أن يصنع هذا المخلوق المؤسساتي الأعرج ديمقراطية في فضاء غير ديمقراطي« .
ويختم عبد الرزاق المختار بقوله أن لهذه المحكمة في الدستور الجديد، شبه ميزة تتمتع بها وهي أنها تمنح نوعا من السكينة المؤسساتية في صورة الشغور وان اليوم هذه المحكمة الدستورية ليست أولوية في النظام السياسي الحالي.
منية العرفاوي
تونس – الصباح
الدساتير، وجهات نظر سياسية والمحاكم الدستورية تفسّرها.. تلخّص هذه الجملة الدور الأساسي للمحكمة الدستورية التي تعمل على تفسير وتأويل النص الدستوري وفق السياقات الموضوعية والسياسية التي يتنزّل فيها.. فإذا كان الدستور في جلّ دول العالم هو التشريع الأعلى مكانة ومن هذا الدستور تُستمدّ أغلب التشريعات التي تليه في هرم القوانين قوتها وشرعيتها، فان هذا الدستور ولتطبيقه بطريقة مُثلى يحتاج إلى جهة تفسّر أحكامه وتأوّل فصوله وتنزّلها على الوقائع وتحسم في كل خلاف حول هذا النصّ الدستوري، وإذا كان هذا هو الدور المحوري الذي تضطلع به أغلب المحاكم الدستورية فان ذلك لا ينفي وجود أدوار أخرى لهذه المحاكم مثل تعديل المزاج السياسي بما يستجيب ومقتضيات الوضع الديمقراطي وفرملة كل محاولة للانحراف بالحكم نحو الاستبداد والتسلّط بالقدر الذي يسمح به النصّ الدستوري حيث لا يمكن لقضاة المحكمة الدستورية الاجتهاد خارج النصّ أو استنباط أحكام جديدة لم يأت بها الدستور الذي هو نواة عمل المحكمة الدستورية.
وتؤكد التجارب الديمقراطية أهمية وجود محكمة دستورية مستقلة عن السلطة التنفيذية والتشريعية ودورها المحوري في ضمان حياة سياسية مستقرّة، غير أن التجارب العربية مع المحاكم الدستورية تبدو في مجملها بعيدة عن روح هذه المحكمة والهدف من إنشائها حيث لم تتمكّن هذه المحاكم من أداء مهامها دون تدخّل السلطة التنفيذية التي تكون مهيمنة عادة على المشهد السياسي برمته، وهذه الهيمنة تمتد ليصبح قضاة هذه المحكمة المعينون من قبل السلطة التنفيذية في الغالب تابعين لهذه السلطة ومؤتمرين بأوامرها، وقمع كل محاولة للاستقلالية من طرف هؤلاء القضاة، وبالنسبة لتونس فان تجربتها في التحكيم أو القضاء الدستوري ما زالت تجربة مبتورة ونظرية لا يمكن الحكم عليها إلا على مستوى النصوص المنظمة لهذه التجربة.
تونس والتجربة الدستورية
وتونس شهدت تجربة تحكيم دستوري اختلفت تفاصيلها قبل وبعد الثورة، وإذا كانت التجربة في ظل نظام بن علي اتسمت بالشكلانية والتبعية إلى النظام فان التجربة بعد الثورة بقيت معلّقة على النصوص التي نظمتها ولم تنجز في الواقع سواء في دستور 2014 أو في دستور 2022 إلى حد الآن .
وبعد توليه الحكم أحدث زين العابدين بن علي بمقتضى أمر رئاسي المجلس الدستوري للجمهورية، وكان الوحيد المخوّل لمخاطبة هذا المجلس الدستوري هو بن علي فقط وقد تم حلّ هذا المجلس بمقتضى المرسوم عدد 14 لسنة 2011. ولكن بعد الثورة تحول مطلب تركيز محكمة دستورية في الدستور الجديد إلى مطلب ثوري حيث نص دستور 2014 على إحداث المحكمة الدستورية وحدد مهامها وأعضائها وذلك في الفصول من 118 إلى 124. كما نصت الفقرة 7 من الفصل 148 من ذلك الدستور على إحداث الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، الأمر الذي تم في 18 أفريل 2014 بمقتضى قانون أساسي، وكان يفترض وكما تم تحديده في الدستور أن تتولى الهيئة المؤقتة مراقبة دستورية مشاريع القوانين إلى حين انتخاب أعضاء المحكمة من طرف البرلمان، ولكن المحكمة الدستورية التي كان يفترض أن ترى النور بعد صدور الدستور بسنة، تمت المماطلة والتلكؤ في انتخابها خلال برلمان النداء/النهضة وإخضاعها إلى محاصصات حزبية مقيتة بما أجهض كل محاولة لتركيزها.
وهذا التلكؤ الذي رافق عمل ذلك البرلمان وكذلك برلمان 2019، كلّف كل الأحزاب السياسية غاليا وانتبه الجميع لأهمية هذه المحكمة عندما أعلن الرئيس قيس سعيد إجراءات 25 جويلية ولكن حدث ذلك بعد فوات الأوان.
وحسب دستور2014 فان المحكمة الدستورية تتولى مراقبة مشاريع القوانين المعروضة عليها من قبل رئيس الجمهورية التونسية أو رئيس الحكومة أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نواب الشعب، ومشاريع القوانين الدستورية التي يعرضها عليها رئيس مجلس نواب الشعب، والمعاهدات التي يعرضها عليها رئيس الجمهورية، والقوانين التي تحيلها عليها المحاكم، والنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب الذي يعرضه عليها رئيس المجلس.
وفي دستور الاستفتاء لسنة 2022 فان المحكمة الدستورية تتولى مراقبة القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نواب الشعب أو نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم يرفع إليها في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ المصادقة على مشروع القانون أو من تاريخ المصادقة على مشروع قانون في صيغة معدلة بعد أن تم رده من قبل رئيس الجمهورية. وتراقب كذلك المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهورية قبل ختم قانون الموافقة عليها. والقوانين التي تحيلها عليها المحاكم إذا تم الدفع بعدم دستوريتها في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرها القانون. كما تراقب المحكمة النّظـام الداخلي لمجلس نواب الشعب والنّظام الداخلي للمــجلس الوطني للجهــات والأقاليم اللّذين يعرضهما عليها رئيسا هذين المجلسين. ومشاريع تنقيح الدستور للبتّ في عدم تعارضها مع ما لا يجوز تنقيحه حسب ما هو مقرر بهذا الدستور.. كما يتولى رئيس المحكمة تولي رئاسة الجمهورية إلى حين إجراء انتخابات في حالة الشغور النهائي في المنصب .
ورغم أن انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية كان في البرلمانين السابقين أحد أهم المعوقات التي حالت دون تركيز هذه المحكمة حيث لم يتفق برلمانيا على أعضاء هذه الهيئة الذين ينتخبهم البرلمان، إلا أن اليوم ومع اختلاف شروط عضوية هذه المحكمة وفق نص الدستور الجديد فان السؤال الذي بدأ يطرح نفسه بإلحاح اليوم هو لماذا تأخّر في تركيز هذه المحكمة الذي أقرّها في دستوره الجديد؟
علما وأن البرلمان المجمّد وفي 4 ماي 2021 صادق على مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية بأغلبية الأصوات، وقد سبق وان صادق نواب الشعب في شهر مارس 2021، على التنقيحات الخاصة ببعض فصول القانون الأساسي للمحكمة الدستورية في قراءه أولى، لكن مشروع القانون لم يحظ بموافقة رئيس الجمهورية قيس سعيد وقام برده لمجلس نواب الشعب، كما رفضت وقتها الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين البت في ذلك الخلاف الذي جدّ بين الرئيس والبرلمان المنحل وكان أحد الأسباب التي أدت إلى إجراءات 25 جويلية.
أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي لـ"الصباح": ما أشبه اليوم بالأمس..!
في سؤال توجهت به»الصباح « إلى أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي حول تفسيرها للتلكؤ الحاصل من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد في تركيز المحكمة الدستورية، قالت القليبي أنها لا تملك تفسيرا لهذا التلكؤ وأن الأمر له علاقة بالنوايا والتي لا يمكن أن تعلمها، قائلة: »يمكنني فقط أن أقف عند تواصل تعطيل إرساء المحكمة الدستورية رغم رفع التعقيدات الإجرائية التي حالت دون التوصّل إلى اتفاق حول أعضائها وحصرهم في جهات قضائية معلومة ومحدّدة يمكن لرئيس الجمهورية تعيينها في الحين وبالتالي ما أشبه اليوم بالأمس حيث أننا بقينا في منظومة تفتقر إلى أهمّ أركان دولة القانون وهي المحكمة الدستورية إذ هي المؤسسة الوحيدة الكفيلة بضمان علوية الدستور وفرض احترامه من قبل السلطة التشريعية، بما أنه دستور 2022 سحب منها جميع الاختصاصات التي تخوّل لها فرض احترام الدستور من قبل السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية تحديدا«.
وفي وقت سابق قالت أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي أنّه كان من المتوقّع أن يتم إرساء المحكمة الدستورية بشكل سريع نظرا لكون تعيين جميع أعضائها راجع لرئيس الجمهورية وبصفاتهم ولا يوجد أيّ صعوبات إجرائية وسياسية، وأضافت "النصوص القانونية التي سيتم إرساؤها مستقبلا من قبل المجلس النيابي الجديد ستكون غير خاضعة للرقابة والطعن فيها.. والبرلمان بصدد إعداد نظامه الداخلي وينص الدستور على وجوب أن يخضع لرقابة المحكمة الدستورية، ومشروع النظام الداخلي المعروض على أنظار الجلسة العامة اليوم يتضمّن فصولا تطرح إشكالا في مدى مطابقتها للدستور«.
ورغم أنّ المحكمة الدستورية في دستور 2022 لها اختصاصات محدودة مقارنة بما كانت عليه في دستور 2014 ولكن تبقى وظيفتها الأساسية هي ضمان دستورية القوانين وفي غياب المحكمة الدستورية ستبقى القوانين في حلّ من كل رقابة.
أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار لـ"الصباح": المحكمة الدستورية مخلوق مؤسساتي أعرج لا يمكن أن يصنع الديمقراطية في فضاء غير ديمقراطي
في سؤال لـ»الصباح «حول التأخير غير المبرر في تركيز المحكمة الدستورية يقول أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية عبد الرزاق المختار: »نحن اليوم أمام منظومة دستورية يهمين عليها وجوهرها الرئيسي هو رئيس الجمهورية بموجب ما له من سلطات دستورية تميّزه عن بقية الوظائف وتجعل منه تقريبا، وبشكل واضح جدا، السلطة الوحيدة وسط مجموعة من الوظائف. وإذا عدنا إلى الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية فإننا نستنتج أن مختلف خطاباته السياسية لا تتضمّن وعودا بتركيز مؤسسات، ما عدا بعض المؤسسات التي تم تركيزها على غرار مؤسسة فداء والتي هي جزء من سردية رئيس الجمهورية ووعوده الانتخابية، وبالتالي على مستوى الخطاب السياسي، تركيز المؤسسات الدستورية لم يكن قطّ أحد الأولويات والمسألة الثانية هي أن غياب هذه المؤسسة والمقصود المحكمة الدستورية تبدو أكثر إفادة للفاعل الرئيسي من حضورها".
كما يشير عبد الرزاق المختار إلى أن هذه المؤسسة التي تقدّم أنها المؤول الرسمي للدستور على محدودية دورها، هناك مبالغة في تعليق آمال عليها، قائلا: »غياب المحكمة الدستورية يجعل من رئيس الجمهورية وبالمعني الواقعي للأمر، الجهة الوحيدة التي يخوّل لها تأويل الدستور، وذلك بالطبع ميزة مؤسساتية عزيزة على قلب الفاعل السياسي الرئيسي والذي هو الرئيس، وبالتالي الوجاهة في التأويل تعود له أكثر مما تعود لغيره وهذه هي النتيجة على المستوى المؤسساتي. أما على المستوى التأويلي للنصّ فينفرد رئيس الجمهورية بهذه الميزة على بقية الفاعلين السياسيين وبقية المؤسسات وتختلط بصفته الأكاديمية القديمة وهو أنه المؤوّل الرسمي والوحيد للنص الدستوري مع إدراكنا بحدود دور هذه المحكمة في التأويل لأنها لن تكون بمثابة دار الإفتاء الدستورية، وبالعودة إلى النص الدستوري نتبين حدود دورها".
عبد الرزاق المختار قال أنه من الصعب الإجابة عن سؤال لماذا لم تركّز المحكمة الدستورية إلى الآن ولكن يمكننا معرفة الجهة التي تستفيد من عدم تركيزها وأن الجهة الوحيدة التي تستفيد من غياب المحكمة هي رئيس الجمهورية.
وحول أهمية صلاحيات هذه المحكمة، وفق منطوق دستور 2022 يقول أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار »بالنسبة للأهمية تُقاس بمكانة المؤسسة وفاعلية المؤسسة ومكانة المؤسسات الدستورية وفاعلتيها، رهين شيئين، رهين إطارها المحيطي والذي هو طبيعة نظام الحكم والأحزاب السياسية والمجتمع المدني وحيوية هذه العناصر في تفاعلها مع بعضها البعض. الشرط الثاني هو الشرط القانوني الذي يمنحها دورها، ودستور 2014 جعل من المحكمة الدستورية محكمة بمثابة حكم، بالنص الدستوري الذي منحها إمكانيات واسعة جعلتها عنصر تعديل داخل النظام السياسي رغم أنها لم تقم بدورها في مراقبة الفصل 80 ولم تتناول حالات الشغور، إذن أعطيت هذه المحكمة دورا غير معهود في التجربة الدستورية التونسية وأعطيت كثير من الصلاحيات التي جعلت منها أحد عناصر القوة المضادة وإلا عناصر الفرملة المؤسساتية داخل النظام السياسي.. وهذه ليست هي الحالة في دستور2022 ..فهذا الدستور حصرها في الدور التقليدي للمحكمة الدستورية، فمن ناحية الدور كان بمثابة الرؤية المحافظة للدور وتم حصرها في إطار رقابة دستورية القوانين ومنحها دور محدود جدا في علاقة بالنظام السياسي وأبقاها في دور معاينة الشغور الوقتي والشغور النهائي وذلك دون أن يمنحها الإمكانية التي كانت موجودة في دستور 2014، مثل مراقبة الخرق الجسيم للدستور من رئيس الجمهورية ومراقبة التدابير الاستثنائية الخ... وبالتالي عدنا مع النص الدستوري الجديد بالنسبة إلى هذه المحكمة إلى المربع المحافظ، وبالتالي التركيبة في هذا المربع أصبحت أشبه بناد للمتقاعدين، أو القادمين على التقاعد، لأن بنيتها تضمّ أقدم رؤساء الدوائر سواء في القضاء العدلي أو الإداري أو المالي والقضاة بطبعهم وانطلاقا من تكوينهم يميلون إلى المحافظة، ففي الفكر القانوني أو حتى أحيانا الاجتماعي القاضي ينتهي معمّما، عمامة مدنية أو عمامة دينية، ربما لجملة الخطايا التي يرتكبها، وعندما يقرب سن التقاعد يصبح يفكّر في المغفرة وبالتالي سنجد أمامنا قضاة في آخر مساراتهم المهنية ولهم النزعة المحافظة والنزعة الإجرائية وبالتالي هم مطبّقي قانون أكثر منهم مؤولين لهذا القانون وللنصّ، وبالتالي سنكون أمام محكمة تغلب عليها النزعة المحافظة في ممارسة الرقابة في حدّ ذاتها بحيث سيكون لدينا ميل للمقاربة الشكلانية الإجرائية، وسيكونون قضاة محافظين وشكلانيين، والعنصر الثاني المؤثر في عمل المحكمة الدستورية هو الجانب المحيطي، وفي هذا الجانب مهما كانت المؤسسات فإنها رهينة شرطها الديمقراطي وإذا كان لدينا الشرط الديمقراطي فان حيوية المؤسسات وفاعليتها وحيوية مؤسسات الرقابة وفاعليتها تستمد من حيوية الديمقراطية ويكون لدينا الدور الديمقراطي والتأويل الديمقراطي للمحاكم الدستورية والقاضي الدستوري. إذا لدينا نظام مبني على التسلطية بأنواعها أو على اختلال بيّن في التمييز بين السلط وتفريق سلطة على سلط أخرى ولدينا دستور غير ديمقراطي فانه لا يمكن أن يرتجى من أي هيكل أن يكون ديمقراطيا، لان الهياكل لا تنزل من السماء بل تأتي ضمن خيارات تشريعية، وتبقي هذه المؤسسات رهين ضيق صدر محيطها السياسي في إطار نزوع استبدادي آو نكوص ديمقراطي.. وفي سياق نص لا يفتح مجالات واسعة ومع بنية محافظة، لا ننتظر تأويلا ديمقراطيا لنص دستوري غير ديمقراطي في حد ذاته، إذن لا يمكن أن يصنع هذا المخلوق المؤسساتي الأعرج ديمقراطية في فضاء غير ديمقراطي« .
ويختم عبد الرزاق المختار بقوله أن لهذه المحكمة في الدستور الجديد، شبه ميزة تتمتع بها وهي أنها تمنح نوعا من السكينة المؤسساتية في صورة الشغور وان اليوم هذه المحكمة الدستورية ليست أولوية في النظام السياسي الحالي.