في هذه القصيدة لأبي الطيب المتنبي وعنوانها (الرأي قبل شجاعة الشجعان) -والتي جاءت مدحا في الملك (سيف الدولة الحمداني)- الا انها أعطت أولوية لسلطان الرأي قبل الشجاعة.
والرأي عند المتنبي يقصد به أولوية إعمال العقل والحكمة، قبل اللجوء لقوة البنيان وكبر الأجساد وتعملقها.
وبالرغم من أن المتنبي، الشاعر الجهبذ الذي عاش في أوساط الخلافة العباسي هائما وراء السلطة بين الشام ومصر، كان من خلال هذه القصيدة يمدح الحمداني عند غزوه للروم، إلا أنه في اللغة المجردة، قد تبلغ بنا مقاصد أخرى بعيدة عن هدف الذي سعى له المتنبي وهو استجلاب إعجاب صاحب السلطة لمصلحته وجعل القصيدة كـ"جعالة" ورشوة غايتها الاستثراء، أبرزها أن الرأي الراجح الذي يأتي من عقل حر يمكنه هزم جحافل الجيوش المدججة بالأسلحة والحديد والعتاد.
والراجح أن الرأي الحكيم لا يمكن، حتى في عادات العرب قديما، من عقل واحد بل كانوا يمحصونه درسا ومناقشة في مجالس (كدار الندوة عند قريش في الجاهلية) يجمع لها أصحاب الوجاهة و"أهل الحل والعقد" ليكون حل أية معضلة يمر بالقوم، محل إجماع.
وهذا الإجماع يلزمه تعدد الآراء وتنوعها، لا النزوع نحو فردانية اتخاذه دون شورى، بما يصلح حال القوم في بيئة قاسية صحراوية مهلكة إذا لم يكن هناك توافق حول بوصلة العيش، فيصبح بذلك القوم في عرضة للإغارة والعيش على العيارة (من التشتت والعيش على التسول والسرقة).
وقد تجد آراء بعض القبائل طريقها إلى ألسنة الشعراء وفطاحل البلاغة في صحراء العرب، فيصبح الرأي مشبعا بالمدح، أو يحال للنقد فيصبح ذما، حتى إذا ما كان الرأي قد مدح من الشاعر مرة وذم في مرة أخرى، رمي القائل بالكذب وتلك كبيرة عند العرب.
ولقائل أن يقول، ما الذي يدفعنا للتذكير بمناقب الرأي وقوله وكتابته والإصداح به اليوم، وخصوصا في يوم الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة.
ذلك أن تعدد الآراء، أصبح جريرة لدى السلطة الحاكمة في تونس بعد إجراءات 25 جويلية 2021، بل وخصصت لها حواجز ونصوص قانون يعرض بموجبها أصحاب الرأي المخالف للخط السياسي العام أمام المحاكم، إذا ما كان الرأي ذما لصاحب السلطة أو لحاشيته من حكومة أو سلطات عمومية، مما يقود لتكميم الأفواه، ورجوع الرقابة للإطباق على الرأي المخالف لـ"حكمة" صاحب السلطان.
ذلك السلطان الذي خصص مرسوما بقوة فرمان (المرسوم 54)، بحجة محاربة جرائم النشر الإلكتروني للأخبار الزائفة، فأصبح بمثابة "سيف ديموقليس" مسلطا على رقاب المواطنين وأصحاب الرأي من صحفيين وسياسيين وأساتذة، وجر بعضهم في معارك أمام القضاء، وبحجج واهية، قد تسقط مع أول مرافعة لمحاميي المتهمين.
ويبدو أن هذا السيف المسلط كان عاملا وراء تقهقر تونس في مؤشر الدولي لحرية الصحافة بـ27 مرتبة، لتستقر في المرتبة 121 في الترتيب السنوي لحرية الصحافة من جملة 180 دولة، وهو ثاني سقوط حر لهذا المؤشر في ثاني عام منذ إجراءات 25 جويلية 2021.
ولعل هذا السقوط الحر سيتواصل، إذا لم تتحمل المؤسسة التشريعية مسؤوليتها، وتحيل هذا المرسوم الفرمان على التعديل أو الإلغاء، لأنه كما يهدد أصحاب الرأي في الفضاء العام، قد يصبح حجة تدخل أرنبة أنف السلطة في الفضاء الخاص للمواطنين، الذين قد يفقدون مواطنتهم ويركنون لدور الرعية إذا لم يدافعوا على حقهم في إبداء الرأي وحرية التعبير.
بقلم: نزار مقني
في هذه القصيدة لأبي الطيب المتنبي وعنوانها (الرأي قبل شجاعة الشجعان) -والتي جاءت مدحا في الملك (سيف الدولة الحمداني)- الا انها أعطت أولوية لسلطان الرأي قبل الشجاعة.
والرأي عند المتنبي يقصد به أولوية إعمال العقل والحكمة، قبل اللجوء لقوة البنيان وكبر الأجساد وتعملقها.
وبالرغم من أن المتنبي، الشاعر الجهبذ الذي عاش في أوساط الخلافة العباسي هائما وراء السلطة بين الشام ومصر، كان من خلال هذه القصيدة يمدح الحمداني عند غزوه للروم، إلا أنه في اللغة المجردة، قد تبلغ بنا مقاصد أخرى بعيدة عن هدف الذي سعى له المتنبي وهو استجلاب إعجاب صاحب السلطة لمصلحته وجعل القصيدة كـ"جعالة" ورشوة غايتها الاستثراء، أبرزها أن الرأي الراجح الذي يأتي من عقل حر يمكنه هزم جحافل الجيوش المدججة بالأسلحة والحديد والعتاد.
والراجح أن الرأي الحكيم لا يمكن، حتى في عادات العرب قديما، من عقل واحد بل كانوا يمحصونه درسا ومناقشة في مجالس (كدار الندوة عند قريش في الجاهلية) يجمع لها أصحاب الوجاهة و"أهل الحل والعقد" ليكون حل أية معضلة يمر بالقوم، محل إجماع.
وهذا الإجماع يلزمه تعدد الآراء وتنوعها، لا النزوع نحو فردانية اتخاذه دون شورى، بما يصلح حال القوم في بيئة قاسية صحراوية مهلكة إذا لم يكن هناك توافق حول بوصلة العيش، فيصبح بذلك القوم في عرضة للإغارة والعيش على العيارة (من التشتت والعيش على التسول والسرقة).
وقد تجد آراء بعض القبائل طريقها إلى ألسنة الشعراء وفطاحل البلاغة في صحراء العرب، فيصبح الرأي مشبعا بالمدح، أو يحال للنقد فيصبح ذما، حتى إذا ما كان الرأي قد مدح من الشاعر مرة وذم في مرة أخرى، رمي القائل بالكذب وتلك كبيرة عند العرب.
ولقائل أن يقول، ما الذي يدفعنا للتذكير بمناقب الرأي وقوله وكتابته والإصداح به اليوم، وخصوصا في يوم الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة.
ذلك أن تعدد الآراء، أصبح جريرة لدى السلطة الحاكمة في تونس بعد إجراءات 25 جويلية 2021، بل وخصصت لها حواجز ونصوص قانون يعرض بموجبها أصحاب الرأي المخالف للخط السياسي العام أمام المحاكم، إذا ما كان الرأي ذما لصاحب السلطة أو لحاشيته من حكومة أو سلطات عمومية، مما يقود لتكميم الأفواه، ورجوع الرقابة للإطباق على الرأي المخالف لـ"حكمة" صاحب السلطان.
ذلك السلطان الذي خصص مرسوما بقوة فرمان (المرسوم 54)، بحجة محاربة جرائم النشر الإلكتروني للأخبار الزائفة، فأصبح بمثابة "سيف ديموقليس" مسلطا على رقاب المواطنين وأصحاب الرأي من صحفيين وسياسيين وأساتذة، وجر بعضهم في معارك أمام القضاء، وبحجج واهية، قد تسقط مع أول مرافعة لمحاميي المتهمين.
ويبدو أن هذا السيف المسلط كان عاملا وراء تقهقر تونس في مؤشر الدولي لحرية الصحافة بـ27 مرتبة، لتستقر في المرتبة 121 في الترتيب السنوي لحرية الصحافة من جملة 180 دولة، وهو ثاني سقوط حر لهذا المؤشر في ثاني عام منذ إجراءات 25 جويلية 2021.
ولعل هذا السقوط الحر سيتواصل، إذا لم تتحمل المؤسسة التشريعية مسؤوليتها، وتحيل هذا المرسوم الفرمان على التعديل أو الإلغاء، لأنه كما يهدد أصحاب الرأي في الفضاء العام، قد يصبح حجة تدخل أرنبة أنف السلطة في الفضاء الخاص للمواطنين، الذين قد يفقدون مواطنتهم ويركنون لدور الرعية إذا لم يدافعوا على حقهم في إبداء الرأي وحرية التعبير.