إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ملفات "الصباح" | 20 عاما على اجتياح العراق: جريمة دون مجرم ..مأساة شعب وحطام أمة ...

 

بقلم: آسيا العتروس

 

تونس-الصباح

كيف يمكن احتساب عشرين عاما من الاحتلال من عمر الشعوب، هل يكون بعدد الصواريخ والقنابل التي انهالت عليه أم بعدد ضحاياه من المدنيين ومن النساء والشيوخ والاطفال أم بعدد ما هدم من مدارس وجامعات ومنازل وما تفجر من مساجد ومن دورالعبادة أم بعدد ما نهب من ثرواته ومتاحفه أم يكون بما تسبب فيه الاحتلال من دمار وخراب ومن تراجع وإفلاس للعراق ولشعوب المنطقة التي تحولت إلى حطام ؟

الأكيد أنّ من انتهك حرمة العراق الذي كان بقرار أمريكي ودعم بريطاني واخترق سيادته غير معني بهذا الطرح ولا يبدو ان الادارات الامريكية المتعاقبة من الجمهوريين الى الديموقراطيين تتجه الى الاعتراف بالمسؤولية عما حدث ويحدث في العراق او الاقرار بأن خطر أسلحة الدمار الشامل كان كذبة ستتضح لاحقا بهدف تدمير العراق والدفع إلى تقسيمه وإخضاعه للطائفية البغيضة بعد أن وجدت إيران الأرضية مهيأة للانتقام من العراق والدفع بملايين الإيرانيين الشيعة بعبور الحدود العراقية والهيمنة على المشهد ..

قبل يومين أصدرت الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعوى ارتكاب جرائم حرب في حق اطفال اوكرانيا ...وكان يمكن ان يكون لهذه الدعوى معنى ويكون للجنائية الدولية مصداقية لو انها لاحقت من تسبب في مقتل وتشريد وضياع ملايين الاطفال العراقيين والسوريين والافغان واليمنيين والسودانيين والفلسطينيين الذين لم يعرفوا غير الاحتلال والهوان والتصفية العرقية والقتل البطيء..

-هكذا بدأ الدمار 

في العشرين من مارس 2003 وعند الساعة 5:35 فجراً، بدأت الحرب، وأطلق عليها الأميركيون اسم «عملية حرية العراق" وفي التاسع من افريل 2003 انتهت العملية..تم نشر نحو 150 ألف جندي أميركي و40 ألف جندي بريطاني في العراق للشروع في عملية عسكرية واسعة رافقتها مئات المظاهرات الاحتجاجية في العالم ضد الحرب..ثلاثة اسابيع كانت كافية لإنهاء الحرب وحسم مصير العراق وحسم  مصير النظام العراقي والسيطرة على بغداد، ومنذ ذلك التاريخ لم يتم العثورعلى أي اثر لأسلحة الدمار الشامل التي تحدث عنها توني بلير ورامسفيلد وغونداليزا رايس وجورج بوش الابن عندما حذروا من على منبر الأمم المتحدة أنها أسلحة ستدمر العالم خلال ثلاثين دقيقة..كانت حربا جوية بامتياز نقلت تطوراتها شبكة "سي ان ان" لحظة بلحظة، وبعد 24 ساعة وصلت  الغارات إلى القصر الرئاسي..

في 25 مارس، عَبَر 4 آلاف جندي من «المارينز» مدينة الناصرية، النقطة الأساسية في الطريق نحو بغداد، التي لا تزال تبعد 370 كلم، عابرين نهر الفرات، وسط قتال عنيف.

بعد 6 أيام، دخل العسكريون الأميركيون في معركة برية مع وحدات من «الحرس الجمهوري العراقي»، قرب مدينة كربلاء.استولى الأميركيون على «مطار بغداد»، في الرابع من أفريل، بينما تحدى صدام الغزاة بنزوله في حي سكني، وإلقائه التحية على السكان.في 7 أفريل، استولى التحالف الدولي على 3 قصور رئاسية في بغداد.

في التاسع من أفريل، انهار النظام. وبقيت  صورة إسقاط تمثال ضخم لصدام في وسط بغداد عالقة في الذاكرة.

انتُزِع التمثال بدبابات أميركية من قاعدته، ثم داس عليه العشرات من العراقيين الفرحين أمام الكاميرات وأنظار العالم كله. ..

شبَّه وزير الدفاع الأميركي في ذلك الوقت، دونالد رمسفيلد، الحدثَ بـسقوط جدار برلين. ..غرقت بغداد في الفوضى، على وقع عمليات السلب والنهب للوزارات والمتاحف والمؤسسات والقصور الرئاسية لم يكن المتحف الوطني في العاصمة الذي يضم 7 آلاف عام من التاريخ، بمنأى عن عمليات النهب...

سقطت كركوك والموصل، أكبر مدن الشمال، دون مقاومة، بيد الأكراد الذين انسحبوا بعد ذلك لصالح الأمركيين. ثم استسلمت تكريت ، معقل صدام.

في الأول من ماي أعلن الرئيس الأميركي  من على متن حاملة الطائرات في كاليفورنيا نهاية المعارك، ..اختفى  الرئيس العراقي صدام حسين عن الأنظار لأشهر، رغم أن واشنطن أعلنت، في جويلية تخصيص 25 مليون دولار جائزةً لمن يعثر عليه.

بعد مطاردة استمرت 9 أشهر  تم اعتقاله يوم 13 ديسمبر 2003، بعد العثور عليه مختبئاً في حفرة بقبو مزرعة قرب تكريت...ظهر الزعيم الذي حكم العراق بقبضة من حديد في مظهر يرثى له ...تعددت الروايات وذهب البعض الى ان حارسه من وشى به ...أعدم صدام بعد محاكمة صورية فجر عيد الاضحى في 30 ديسمبر 2006 ...وغرق العراق في الفوضى والتفجيرات الإرهابية والصراعات الطائفية  ..

-عندما تبخرت أسلحة الدمار الشامل 

مطلع أكتوبر2003، أكد تقرير لمفتشين دوليين عدم العثور على أسلحة دمار شامل.. لم يعرف أبدا عدد الضحايا العراقيين وعديد التقارير تتحدث عن مليون ضحية جراء الحرب .حين أنهت القوات الأميركية انسحابها من العراق، في ديسمبر 2011، بعد 8 سنوات و9 أشهر، كانت حصيلة النزاع هائلة، من حرب الشوارع في الفلوجة، وصولاً إلى الاقتتال الطائفي والانتهاكات في سجن أبو غريب، تواترت الصدمات على الشعب العراقي وتواترت الخروقات والتهديدات للمنطقة التي ستتحول الى حطام على مدى السنوات.. بين 2003 و2011، قُتِل أكثر من مائة ألف مدني، بحسب منظمة «ضحايا حرب العراق»، بينما أعلنت الولايات المتحدة عن 4500 قتيل في صفوف قواتها وطواقمها، ولكن تبقى الحصيلة النهائية غير معلومة وكأن ضحايا الحرب الأمريكية في العراق لا يستحقون كشف الحقائق المنسية ...

في ماي 2022، خلال فعالية في تكساس، أثار الرئيس الأسبق، جورج بوش، ضحك الحضور بزلة لسان وقع فيها أثناء حديثه عن أوكرانيا، مندداً بـ«الغزو غير المبرر إطلاقاً والوحشي للعراق"...زلة لسان ولكنها تعكس ما يخالج نفس صاحبها واطلق الحرب المدمرة في العراق ...منحت أمريكا جنودها الحصانة من الملاحقة ومنعت المتورطين في الحرب المدمرة على العراق المساءلة أو المحاسبة.. سقطت كل دروس العراق وكأن ما حدث لا يفترض اعادة قراءة ظروف وملابسات تلك الحرب التي تكاد نتائجها تقرأ على شوارع العراق التي غرقت في صراعاتها الطائفية والاقتتال بين السنة والشيعة والتي سيفاقمها ظهور الجماعات المسلحة ودواعش العصر ...

-من العراق إلى القوة الغاشمة

في الفترة الأخيرة نشرت صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية تقريرا أمس بعنوان "حرب العراق تركت المجتمعات الغربية دون تغيير"، يذكر التقرير  إنه بعد 20 عاما من حرب الولايات المتحدة وحلفائها على العراق عام 2003 لم تتغير المجتمعات والسياسات الغربية أيضا، والدليل أنه بعد حرب العراق بثماني سنوات تقريبا كانت هناك حرب أخرى في ليبيا عام 2011... كما أن الدول الغربية مازالت تستخدم القوة الغاشمة في العالم، على الرغم من النتائج المدمرة للحرب التي مازال العراق يدفع ثمنها وعلى الرغم من أن المنطقة كلها تدفع الثمن، الذي من جوانبه صعود تنظيم "داعش "الإرهابي وإطلاق يد إيران في المنطقة.

وذكر التقرير الذي كتبه جانان جانيش أنه على الرغم من أن الخسائر الأمريكية كانت أعلى بكثير في فيتنام من حرب العراق فإن حرب العراق كانت أكثر الحروب إثارة للجدل خاضتها دولة غربية في نصف القرن الماضي؛ ففي فيتنام لم يشارك أي مواطن أوروبي في الحرب، لكن في العراق شاركت دول أوروبية وكانت هناك مواجهات بين المواطنين الأوروبيين حول هذه الحرب، فكان هناك مؤيد وآخر معارض مثلما كان الحال في الولايات المتحدة نفسها، لذلك فقد توقع من عاصروا تلك المرحلة أنها شكلت الثقافة الغربية لأجيال.

ويشير التقرير إلى أن ما يجعل الذكرى العشرين للحرب على العراق أمرا غريبا للغاية، على الأقل داخل العالم الغربي، أنها لم تترك تحولا يذكر في العلاقات الدولية ...

فالحرب لم يكن لها تأثير على السياسة في أوروبا ولم يكن هناك تغيير منهجي، فبعدها أعيد انتخاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي شن الحرب، وكذلك أعيد انتخاب رئيس وزراء بريطانيا توني بلير الذي شارك فيها. حتى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن كان من المؤيدين لهذه الحرب، وجميع رؤساء وزراء بريطانيا منذ 2003 كانوا مؤيدين لها وطالبوا بالمشاركة فيها .

والسؤال الذي طرحه الكاتب هو هل أدت الحرب على الأقل إلى تغيير دائم في السياسة الخارجية، طالما لم يحدث التغيير في الأفراد؟ ، ولم تتأثر المجتمعات والسياسات الغربية أيضا، والدليل أنه بعد حرب العراق بثماني سنوات تقريبا كانت هناك حرب أخرى في ليبيا عام 2011.

ما يعني أن الغرب مازال لا يتردد في استخدام القوة الغاشمة أو التهديد بها؛ حتى إن فرنسا التي لم تشارك في حرب العراق دفعت بقواتها إلى منطقة الساحل والصحراء في إفريقيا وظلت فيها تسع سنوات...

-20 عاماً على الغزو الأميركي..وتبقى الديموقراطية مؤجلة

في العام 2023، لا يزال العراق  بعيداً عن الديموقراطية التي تطلع اليها وراودته  قبل 20 عاماً، فالنزاعات الدامية والفساد وعدم الاستقرار هيمنت على البلد الذي بات تحت تاثير ايران ..

كان الهدف المعلن للإدارة الأميركية واضحاً، فالأوامر الموجهة الى القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي التي أرسلت إلى الصحراء العراقية في 20  مارس 2003 كانت مصادرة أسلحة الدمار الشامل التي يملكها نظام صدام حسين. لكن قوات مشاة البحرية الأميركية لم تعثر على أي أسلحة دمار شامل.

وبدل البحث عن اسلحة الدمار الشامل أصبحت المهمة في العراق مرتبطة بنشر الديموقراطية.. لكن "الولايات المتحدة كانت تجهل كلّ شيء عن العراق". والجيش الأمريكي لم يفهم لا طبيعة المجتمع العراقي ولا طبيعة النظام الذي أطاح به.

في الواقع، فتح الغزو الباب أمام سلسلة من الأحداث  والهجمات الدامية التي ستشكل الشرارة في اندلاع حرب طائفية ووقوع أعمال عنف غير مسبوقة استمرّت حتى العام 2008...لكن الخطر الاكبر الذي  تعرّض له العراق، كان سيطرة تنظيم  "داعش" على مناطق واسعة من البلاد في صيف العام 2014 شملت نحو ثلث مساحة العراق، وانتهت أواخر العام 2017 عندما أعلنت بغداد "الانتصار" العسكري على التنظيم المتطرّف بعد معارك ضارية.

بالمحصلة انهارت مؤسسات الدولة وتم حل الجيش وحزب البعث وأصبح العراق يعيش حالة فوضى هدامة ولم تكن خلاقة كما روجت لذالك وزيرة الخارجية غونداليزا رايس ...وتحول النفط الى لعنة بعد ان كانت مصدر ثراء ونعمة على العراق، وتوترت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي ويسعى للمزيد من الصلاحيات، خصوصاً بشأن ملف صادرات النفط التي تخرج من الإقليم...

يحتل العراق اليوم المرتبة 157 من بين 180 دولة من أكثر الدول فسادا في العالم، وفق منظمة الشفافية الدولية...والعراقيون يعانون من انقطاع في التيار الكهربائي لساعات طويلة كل يوم وغياب شبكات توزيع المياه الصالحة للشرب، وانتشار الفقر الذي يضرب ثلث سكان العراق البالغ عددهم 42 مليوناً ، يعاني البلد على الرغم من احتياطاته النفطية الهائلة من بنى تحتية متهالكة...

يبدو المشهد العراقي  على درجة من القتامة في ظل منطقة ملتهبة أو بالأحرى حطام امة ما انفكت تفرط في مقومات سيادتها وتتحول الى ساحة مفتوحة لكل التدخلات والخروقات التي لن يكتب لها أن تزول قبل عودة الوعي المفقود وإنهاء نزيف الشعوب المستمر والاقتتال الدموي والإنهاك للعقول  المجمدة والافكار المصادرة ...الحديث عن ملاحقة الجناة ومن اجرموا في حق العراق وفي حق شعبه وكل شعوب المنطقة مسألة غير مطروحة اليوم  في عالم تقوده العولمة المتوحشة ولكنه متروك للأجيال القادمة التي يتعين أن تقرر ما سيكون عليه عراق كل العراقيين ...

 

د. عبد الحميد صيام يروي لـ"الصباح" شهادته عن ايام الحرب في العراق:تجربة مريرة عشتها في عراق ما بعد الاحتلال..

 

 بمرورعشرين عاما على الاجتياح الأمريكي للعراق يقدم الدكتور عبد الحميد صيام وهو محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي الأمريكية الى جانب عمله كمسؤول اعلامي في الامم المتحدة بنيويورك وكان في مهمة ببغداد بعد الحرب ويقدم لنا من خلال هذه الورقة شهادته الميدانية التاريخية عما ال اليه الوضع وعن ظروف وملابسات مقتل الفريق الاممي في احد التفجيرات الارهابية.

 يقول محدثنا أن العراقيين كانوا يشتكون الأمم المتحدة مما يحدث في بلدهم وأن بعضهم قالوا "كنا تحت دكتاتورية رهيبة استبدلت باحتلالين أمريكي وإيراني..كنا نعتقد أن الأمريكيين سيسقطون النظام ويسلمون البلاد لأبنائها وينسحبون. ولكن الأمور الآن كشفت عن أطماع وخطط أعمق مما تصورنا"، (عن مرجعية شيعية في مدينة الحلة)....

يقول عبد الحميد صيام في استعراضه لما حدث في بلاد الرافدين مع حلول الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق  في شهادته  للصباح "تعود إلي ذكريات ثقيلة ومؤلمة عن تلك التجربة المريرة التي عشتها في عراق ما بعد الاحتلال حيث كنت واحدا من أول مجموعة دولية تصل البلاد بعد الاحتلال مباشرة، وبعد اعتماد مجلس الأمن في 22 ماي القرار 1483 (2003 ) لإنشاء بعثة سياسية في بغداد لإنجاز مهمات ثلاثة – تقديم المساعدات الإنسانية، والمساعدة في إعادة الإعمار، والعمل مع سلطات الأمر الواقع  لمساعدة الشعب العراقي في استرداد سيادته ووحدته الترابية وإعادة بناء مؤسساته السياسية والتمثيلية. وقد طلب الأمين العام الأسبق كوفي عنان، من البرازيلي الطيب سيرجيو فييرا دي ميلو، أن يرأس البعثة.

 تردد سيرجيو كثيرا ولكن الأمريكيين أصروا عليه دون سواه بسبب سمعته الطيبة ونجاحه في أكثر من مهمة وخاصة في تيمور الشرقية.

-دخان الحرب

وصلنا بغداد ودخان الحرائق من المباني العامة والوزارت ما زال يرى بالعين. كان الجيش الأمريكي منتشرا في الشوارع وعلى الجسور. ترك الوزارات والمؤسسات العامة بدون حماية لتنهب وتدمر إلا وزارة البترول والبنك المركزي. حتى المتحف العراقي الشهير الذي يضم بين دفتيه سبعة آلاف سنة من حضارة وادي الرافدين تركه الأمريكيون للنهب والسرقة.  بدأ سيرجيو فييرا دي ميلو مهمته بالاتصال بكافة أطياف الشعب العراقي.  ترك الباب مفتوحا للعراقيين ليصلوا إلينا- يحدثونا عن مآسيهم.  أصبح مقر الأمم المتحدة في ما كان يسمى "فندق القنال" أشبه بخلية نحل.  كان سيرجيو يقول جئت أتعلم من العراق باني الحضارات. من أنا حتى أقول لهم ما يجب عليهم أن يفعلوا؟

كنا نعقد ورشات عمل للقانونيين والمرأة والشباب والجمعيات الأهلية والصحافيين. وكانت مهمتي أن أعمل مع الصحافيين العراقيين لإنشاء مركز الإعلام العراقي لرفع مستوى الصحافة وعقد دورات ترفع من كفاءة الصحافي المهنية.  إنتشرت الصحف بشكل غير معقول حتى فاق عددها المئة وبسرعة عجيبة.  بعضها أنشأ بمباركة الاحتلال وبعضها كان مناوئا للاحتلال وقد تم إغلاق بعض الصحف المنددة بالاحتلال.  كنت حريصا على زيارة كافة الصحف والقنوات الفضائية ودعوتها لحضور أنشطتنا في المقر.  وقد ذهبت لمعاينة المكان الذي استشهد فيه طارق أيوب على سطح فندق فلسطين ثم زرت قناة "أبو ظبي" التي كادت تتفوق على الجزيرة في تغطيتها الإخبارية لاحتلال العراق حيث انهالت الصواريخ على مقرها كذلك وقد شرح لي الصحفي التونسي أنس بن صالح أين سقطت الصواريخ وكيف نجت المجموعة من موت محقق.  كنت في أغلب الأحيان آخذ سيارة أجرة لأتجول في بغداد وأمر على مقرات الصحف فمن الصعب أن يعتقد أحد أنني لست عراقيا وبالتالي كان تحركي أكثر أمنا من لو تحركت في سيارات الأمم المتحدة.

كنت أعقد لقاء أسبوعيا مع الصحافيين والصحافيات كل يوم ثلاثاء. كان الرجل الطيب والأكبر سنا شهاب التميمي، رئيس نقابة الصحافيين، يبدأ الحديث بكل رقة وموضوعية. ولم أكن أعلم أن يدا مجرمة ستضغط على الزناد لترديه قتيلا لأسباب طائفية بتاريخ 19 فيفري 2008..استأجرنا بناية في منطقة الوزيرية وأنشأنا المركز ووضعنا حارسين عليه واخترنا ثلاثة موظفين من بين الصحافيين للإشراف عليه وكنا ننوي إفتتاحه في أول سبتمبر لكن تدمير المقر في 19 أوت 2003 ألغى كل خططنا في العراق.

الفندق الذي كان يحتضننا لرجل لبناني سماه "جبل لبنان"،  ممنوع علينا أن نخرج إلا في عمل رسمي وبشكل جماعي.  من الفندق إلى مقر الأمم المتحدة وبالعكس.  أصبحنا أشبه بأسرة واحدة نأكل معا ونتسامر معا ويأتي الحلاق يوم الجمعة ليقص شعورنا في نفس اليوم  ويقيم بعض الفنانين العراقيين معارض داخل الفندق.

لم يمض على رحيلنا شهور حتى سمعنا أن الفندق تعرض للتفجير بحجة إيواء الأجانب.

أخبار عمليات المقاومة كانت تصلنا يوميا فقد كان الأمريكيون يشاركون الأمم المتحدة في الأخبار الأمنية من أجل السلامة. بدأت عمليات المقاومة بمعدل عمليتين في اليوم وبدأت ترتفع  مع زيادة التبرم من الوجود الأمريكي الثقيل.  كثير من الأمريكيين الذين كنا نشاهدهم لا يعرفون ما يجري في العراق ولا يعرفون لماذا هم هنا. الخوف كان يملأ عيونهم.  تقارير متواصلة كانت تصل المقر عن عمليات التعذيب في سجن أبو غريب.  ولم يوافق الأمريكيون على زيارة رسمية للبعثة لتفقد السجن.

-القيادات العراقية

كان سيرجيو حريصا على لقاء جميع قيادات الشعب العراقي السياسية والمدنية والدينية.  وضع جدولا زمنيا للقاء أساتذة الجامعات ورؤساء نقابات العمال والمرأة والمحامين.  من بين القيادات التي تركت أثرا في سيرجيو وجميع أعضاء الفريق المرافق المرحوم محمد باقر الحكيم، مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.  جلسنا معه نحو ساعتين في بيته في النجف.  جمع القيادتين السياسية والدينية وكان متواضعا وفي منتهى الوعي والقدرة على التحليل السليم واستشراق المستقبل.  خصص معظم حديثة شاكيا من التصرفات الأمريكية وخاصة في اقتحام البيوت في الليل. وقال كيف للشعب العراقي أن يصدق وعود الأمريكيين بالديمقراطية والرخاء وقد فقد الكهرباء والماء.  "قد يقال الكثير في صدام حسين لكن الخدمات الأساسية لم تنقطع يوما عن البيوت العراقية". في يوم 29 أوت بعد عشرة أيام من تفجير مقر الأمم المتحدة، جيء بسيارة تشبه سيارته تماما ووضعت أمام باب مسجد الإمام علي في الكوفة وعندما خرج من باب المسجد بعد صلاة الجمعة تم تفجير السيارة لتقتل السيد الحكيم ومائة شخص معه من المصلين. وسنظل نتعجب كيف لسيارة محملة بالمتفجرات يمكن أن تخترق كل الحواجز الأمنية وتوضع بالضبط أمام مدخل المسجد الكبير.

أحد القادة الدينيين في لقاء معه في مكتبه بالحلة خصص حديثه شاكيا على اندفاع الإيرانيين إلى العراق بمئات الألوف.  "لماذا لا تحاول الأمم المتحدة حماية حدود العراق من إيران"؟ سألنا.  قلنا له إن حدودا تزيد عن 1400 كلم تحتاج إلى آلاف الجنود المدججين فكيف لبعثة لا تزيد عن سبعين شخصا أن تقوم بهذه المهمة. الإيرانيون، بحجة شوقهم للعتبات المقدسة، تدافعوا بالآلاف عبر الحدود المفتوحة.  وبالتأكيد دخلت الأجهزة الأمنية الإيرانية ودفعت بآلاف العراقيين الهاربين إلى إيران للعودة إلى العراق للتحكم في مسار البلاد. القادة العراقيون الوطنيون كانوا يشكون مرّ الشكوى من الأوضاع الجديدة. 

بريمر وعنجهية المحتل

كان حاكم العراق المطلق، بول بريمر يصدر يوميا الفرمانات على طريقة الملوك.  ولا يمكن أن تكون قراراته الخطيرة قد جاءت صدفة خاصة قراره الأول: اجتثاث البعث وقراره الثاني بحل الجيش العراقي في 23 ماي ثم قراره الخطير بإنشاء مجلس الحكم العراقي المركب بمحاصصة طائفية يوم 13 جويليه 2003.  دعينا إلى قصر الرحاب ودخلنا المسرح ليتم الإعلان عن إنشاء مجلس الحكم العراقي. وقف يومها أكبر الأعضاء سنا وقال قرارنا الأول هو إعلان يوم 9 أبريل (يوم سقوط بغداد) اليوم الوطني للعراق. لحسن الحظ لم يعره أحد أي انتباه. 

أثناء عودتنا من الحلة وبعد زيارة مقام النبي "ذو الكفل" توقفنا في بابل. شيء مذهل.  كان سيرجو منبهرا بحضارة العراق ويسأل عن كل شيء. تجولنا في آثار بابل بصحبة ضابط أمريكي كان يشرح بأدق التفاصيل.  وأمام المسرح البابلي قال الضابط "لو أحسن صدام حسين قراءة ما كتبه البابليون على هذا الجدار لما كنا هنا".  فسأل سيرجيو وماذا كتبوا؟  قال: حكمة بابلية تقول ما معناه "لو دام الحكم لغيرك لما وصل إليك".

النهاية

كان موعدي أن آخذ إجازة قصيرة لمدة أسبوع، حسب نظام العمل في البعثات الأكثر خطورة.  قال لي سيرجيو يجب أن يأتي بديل لك كمتحدث رسمي يتقن العربية. وصلت زميلتي رهام الفرا من نيويورك مساء الثامن عشر من أوت 2003.  وفي الصباح ذهبنا سوية إلى المقر.  قدمتها للزملاء وشرحت لها كل تفاصيل المهمة.  وتناولنا طعام الغداء معا الساعة الواحدة والنصف.  ودعتها واتجهت إلى المطار ثم طرت إلى عمان.  وعندما وصلت الفندق الساعة الخامسة تقريبا أدرت التلفاز على محطة الجزيرة وإذا بها في بث مباشر من مقر الأمم المتحدة ببغداد الذي تم تفجيره عن طريق إنتحاري. كانت أعداد الضحايا ترتفع من خمسة إلى عشرة واستقرت على 22  و150 جريحا كان من بينهم سيرجيو ورهام وزملاء عرب ومسلمون في غالبيتهم الساحقة.

كانت تلك أول عملية إنتحارية في العراق.  بعد عشرين سنة ما زال القتل متواصلا والشرخ الطائفي يتسع والتفجيرات تحصد الأبرياء من العراقيين من كل الأطياف.  فهل كان الهدف الأمريكي البحث عن أسلحة الدمار الشامل أم تصدير الديمقراطية؟

  

 المفكر والباحث  د.علي محمد فخرو :مسرحية استخباراتية ...ستصبح كارثة عربية، وليست عراقية فقط

 

 يعد الدكتور علي محمد الفخرو من المفكرين والباحثين الذين تركوا بصماتهم في المشهد السياسي والمعرفي، فالدكتور علي فخروهو اول طبيب في البحرين وهو أيضا أديب وسياسي ، تولى سابقاً منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971- 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982- 1995.

 كما عمل سفير لمملكة البحرين في كل من فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدى اليونسكو.

شغل عدة مناصب في مسيرته المهنية فكان رئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضوا سابقا المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضوا سابقا للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية...

حديثه عن العراق لا يخل من المرارة والألم وهو يعتبر أن ما تعرض له العراق قبل عشرين عاما مسرحية استخباراتية اشترك في صياغتها عملاء في الخارج بالتواطؤ مع اخرين في الداخل وهو يدعو الى "إنهاء عقلية شخصنة وشبه تأليه قيادة الحكم العربي والانتقال إلى أنظمة حكم ديموقراطية حقيقية غير مزيفة ومظهرية. بناء توازن ديموقراطي فيما بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع أصبح مسألة وجودية لنا نحن العرب لإنهاء تاريخ طويل من الحكم وفي قراءته للمشهد العراقي بعد عقدين على احتلال العراق يقول :

قبل عشرين سنة انفجرت في وجه أمة العرب مسرحية استخباراتية، حاكها الاستعمار الأميركي – البريطاني – الصهيوني، وجند لها عملاء في الداخل وجواسيس استخباراتيه في كل مكان، وأقنع سياسيين انتهازيين، هما الرئيس الجاهل الامريكي بوش الإبن ورئيس وزراء بريطانيا السياسي المتقلب الشهير توني بلير، لإقناع الرأي العام في بلديهما وكثير من دول العامل بصدق تلك الكذبة الملفقة المحبوكة.

كان المسرح هو القطر العربي العراقي، وكانت التمثيلية تدور حول أكذوبة امتلاك نظام الحكم العراقي القومي العروبي المتمرد في وجه الرأسمالية الأميركية والداعم بقوة وثبات لحركات المقاومات العربية في وجه الكيان الصهيوني الجاثم على صدر فلسطين العربية وشعبها المكافح الرافض لجرائمه النازية والمخازي لحكمه الاستئصالي العرقي الناهب المجنون.

ومن أجل اكتمال كل عناصر التمثيلية شاركت مجموعات عراقية انتهازية حاقدة متعاونة ومتناغمة مع استخبارات الجهات الثلاث، من خلال وعود بالسماح لهم بسرقة مليارات العراق، وتقاسم نفود مؤسسات الحكم فيه، وتدمير هويته العروبية العالية الصوت والتأثير في الوطن العربي كله، وإعلاء شأن الهويات الفرعية المذهبية الطائفية – العرقية.

لكن، ما إن مر وقت قصير على البدء بتلك المسرحية وألاعيبها وحقاراتها، وواجهت مقاومة شعبية بطولية من قبل شعب العراق الرائع العظيم، حتى انفجرت في وجه من حاكوها، وعلى الأخص بوش الإبن وتوني بلير، فاضطرا للاعتراف أمام العالم كله بأنهما قادا مؤامرة حقيرة كاذبة في كل تفاصيل ادعاءاتها واتهاماتها، وبالتالي اعترفا ضمنياً بأنهما مجرمين مرتكبين لجرائم ضد الإنسانية.

وكان أحرى بالعالم أن يقدمهما للمحاكمة، تماماً كما فعل من قبل بالمجرمين النازيين المماثلين لهما، لكن الدولة العميقة في الغرب الاستعماري والضعف المشين في أنظمة الحكم العربية المتناحرة، وقوى المجتمعات المدنية العربية السياسية التي تخصصت في إضاعة الفرص التاريخية، ساهموا جميعاً في عدم إجراء المحاكمة وفي نسيان الموضوع شيئاً فشيئاً. وها أن المجرمين يعيشان في بحبوحة من العيش الرغيد، بينما تواجه الضحية، شعب العراق ومجتمع العراق، أهوال دخول العراق في جحيم المنافسات والصراعات الطائفية والقبلية والعرقية، وإمكانيات التقسيم السكاني والتجزئة الجغرافية، وعربدة داعش وأخواتها من التكفيريين الإرهابيين المجانين ، ومن استباحة سيادة العراق من قبل القريب والبعيد، ومن الأوضاع المعيشية والخدمات الاجتماعية المتردية التي قلبت العراقيين إلى جياع وعراة وجهلة ومرضى وهائمين على وجوههم في كل أصقاع الأرض، بينما يسرق الخونة والفاسدون وخدم الاستعمار والصهيونية ثرواته النفطية الهائلة ويستثمروها في البلدان التي ربتهم ورعتهم وجاءت بهم كفاتحين على دبابات جيوش بوش وبلير والقادة الصهاينة.

ذاك المشهد التراجيدي الحزين سيصبح كارثة عربية، وليست عراقية فقط، تاريخية، إن لم نتعلم منها دروساً وحكما وفلسفات وقيم.

إنها، جميعها، تُحمل باختصار شديد في الآتي:

 1.أنه لا منجي لأي قطر عربي كان من الاحتلال والتدمير من قبل هذه القوة الإقليمية أو تلك القوة الاستعمارية إن لم ننتقل من وضع الجامعة العربية الحالي، المليء بنقاط السيادات العابثة والضعف والخلافات، إلى وضع نوع ما من الوحدة، تضامنية مماثلة للوحدة الأوروبية أو كنفذرالية أو فدرالية، تؤمن السلام والاستقلال لكل الوطن العربي في وجه كل طامع.

      2.إنهاء عقلية شخصنة وشبه تأليه قيادة الحكم العربي والإنتقال إلى أنظمة حكم ديموقراطية حقيقية غير مزيفة ومظهرية. بناء توازن ديموقراطي فيما بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع أصبح مسألة وجودية لنا نحن العرب لإنهاء تاريخ طويل من الحكم الفردي.

3. بناء كتلة تاريخية نضالية تضامنية شعبية عابرة للحدود القطرية، مكونة من أحزاب ونقابات وجمعيات مهنية وأهلية وأفراد مثقفين ملتزمين مناضلين، تضع لها حدوداً دنيا من الأهداف، وتمارس نضالاً جماهيرياً سلمياً تصاعدياً جامعاً، وذلك من أجل حمل عبء العمل في سبيل تحقق المشروع النهضوي العربي بمكوناته الستة: الوحدة العربية، الإستقلال القومي والوطني، الديموقراطية، التنمية الإنسانية الشاملة، العدالة الإجتماعية، والتجديد الثقافي والحضاري الشامل.

4. انخراط الشباب والشابات، كمناضلين وقادة ثوريين، في تحقق تلك الخطوات التاريخية. وحدهم هم الأمل الممكن بعد أن ارتكبت أجيال من قبلهم الكثير من الأخطاء والخطايا التي قادت إلى أمثال خزي وعار احتلال واستباحة العراق الشقيق.

 

د.عبدالله تركماني:الغزو الأمريكي للعراق مرآة لتقاعس النظام الإقليمي العربي...

 

 الدكتور عبد الله  التركماني  أكاديمي وباحث سوري تونسي في الشؤون الإستراتيجية حاصل على ديبلوم دراسات معمّقة في التاريخ العربي المعاصر من جامعة الجزائر وعلى درجة الدكتوراه في التاريخ المعاصر من جامعة تونس

وهو باحث واستشاري في الشؤون الاستراتيجية منذ عام 1991، ويعمل حالياً كباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، له العديد من المؤلفات المستقلة والمشتركة يستذكر دكتور عبد الله التركماني ما حدث في العراق قبل عشرين بما حدث من قصف وصواريخ تهاطلت على بغداد ويقول في قراءته لاجتياح العراق قبل عقدين من الزمن " أن ما حدث في العراق ليس مجرد سقوط نظام ديكتاتوري، إنه انقلاب على الصعيد الإقليمي لا يقلُّ في خطورته عن زرع دولة إسرائيل في أرض فلسطين ويقول "في استعادته للأحداث قبل عشرين عاما وقراءته لحاضر ومستقبل العراق أنه "مع تهاطل صواريخ كروز وتوماهوك الأميركية على بغداد فجر 20 مارس 2003 عاودتني مشاعر الألم والقلق، التي انتابتني أثناء زيارتي ملجأ العامرية في سنة 2000، حيث كانت قنبلة " ذكية " قد اخترقت فجر 13 فيفري 1991 سقف الملجأ وقُتل على الفور 400 طفل وامرأة وعجوز، اعتقدوا أنهم بدخوله قد أمّنوا على حياتهم من الغارات الكثيفة التي كانت تستهدف بغداد آنذاك. كما داهمتني تلك الأيام التي تركت فيها عراقَيين: عراق الناس الطيبين الخائفين على مستقبلهم، وعراق النظام الذي لم يكن يملُّ الخطابات والشعارات البعيدة كل البعد عن واقع التحوّلات العميقة في السياسات الإقليمية والدولية.

وفي الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، فإذا كان هذا الغزو قد نجح في إسقاط وتغيير النظام السياسي، بيد أن الطائفية السياسية التي جاء بها سعت إلى إسقاط العراق كبلد بكامله.

إنّ ما حصل في العراق ليس مجرد سقوط نظام ديكتاتوري، إنه انقلاب على الصعيد الإقليمي لا يقلُّ في خطورته عن زرع دولة إسرائيل في أرض فلسطين، بل هو إخلال بتركيبة المنطقة تمهيداً لإعادة النظر فيها، وهو بمستوى أهمية ما جرى في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية.

إنّ العراق بهذا المعنى أضحى ساحة الصراع الرئيسي والاستراتيجي والحاسم بين الآليتين الدافعتين لوقائع السياسة والتناقض في العالم العربي: آلية الانقسام والتقسيم وتفكيك الكيانات والأوطان، وآلية الدفاع عما تبقى من محصلة تلك الكيانات والدول من وحدات وعلامات تماسك على ما قد يكون فيها من هشاشة.

لا يحتاج المرء إلى أكثر من نظرة سريعة ليكتشف أنّ العراق الجديد أضحى فيديرالية طوائف ومذاهب وأعراق وعشائر. فعندما تتحرك قوى سياسية بدوافع التقسيم المذهبي والطائفي، وتقويض انتماء العراق العربي، بينما يطالب عراقيون آخرون بالحفاظ على هوية العراق العربية، ويطالبون بالحفاظ على وحدة العراق كوطن ودولة، وبأن يستمر العراق في ممارسة دوره الإقليمي التقليدي، فهناك حالة انقسام عميقة تحتاج إلى تعاطٍ عقلاني معها.

وهنا تبدو مشكلة ميليشيات الحشد الشعبي مستعصية في ظل غياب الدولة ومرجعيتها وهيبتها وقوتها العسكرية، وفي ظل سياسات التخبّط والتشظي والتفتت، وكذلك في ظل تصاعد الاحتقان الطائفي والمذهبي.

وفي الواقع لم تكن الحرب على العراق واحتلاله، ولم يكن إخفاق العالم العربي في التنمية والتقدم بداية لأزماتنا ولا نهاية لمصائبنا إنما هو مرآة مكبرة لتقاعسنا عن إصلاح أنفسنا، ولعجزنا عن تشكيل أفضل لمجتمعاتنا، ولتكاسلنا في عملية الذود عن موقعنا في العالم. إنها مرآة لواقعنا، وصورة عن اللامبالاة بضرورة التغيير، وعن غياب التضامن العربي الفعلي والمجدي، وعن التلكؤ في دخول العصر.

وهكذا، يبدو أنّ البدائل والخيارات المطروحة على العالم العربي، منذ الغزو الأميركي للعراق في سنة 2003، تتمثل في ثلاثة بدائل مستقبلية: أولها، استمرار حالة التشتت والفوضى والبعثرة العربية، بما ينطوي عليه من هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي. وثانيهما، إعادة تنظيم المنطقة في شكل شراكات إقليمية ضمن إطار الشرق الأوسط الموسّع. وثالثها، العودة إلى النظام الإقليمي العربي بعد إنعاشه وتطويره وتغيير سلوكيات أطرافه وتحديثه.

وفي هذا السياق، من مصلحة العرب الاستثمار في العراق، ليس فقط لصد الهيمنة الإيرانية عليه واستعادته إلى البيت العربي، وإنما أيضاً لاستعادة ثقة شعبه بالعرب شعوباً وحكومات. كما هو الحال مع التلكؤ العربي إزاء الكارثة في سوريا، التي تخضع لقوى الأمر الواقع الروسي والإيراني والأميركي والتركي.

إنّ القوى والأحزاب الطائفية، التي لها امتدادات وولاءات إيرانية، لن تستسلم بسهولة لأي تطور قد يهدد مكتسباتها ومصالحها في الهيمنة، بعد أن وفّر لها الاحتلال والمرجعيات الدينية الأطر التشريعية في الانتخابات والدستور. وقد تلجأ تلك القوى للدفاع عن مصالحها إلى تصعيد استخدام القوة ضد خصومها تحت شعارات وتبريرات مختلفة.

وفي الواقع، قبل الغزو الأميركي كان هناك صدّام واحد مستبدٌّ، اليوم هناك أكثر من صدّام، كلهم ينظرون إلى البلاد وأهلها على أنها غنيمة حرب لا مفرّ من استغلالها والتحكّم فيها والاستفادة منها. هذا ما يؤمن به الكثير من العراقيين الذين احتفلوا بسقوط نظام عزلهم عن العالم وأدخلهم في حروب وأزمات ليجدوا أنفسهم بعده مسجونين في دوامة من العنف والفوضى.

وإذا كان من المؤكد أنه ليس هناك سيادة وطنية يمكنها أن تضفي شرعية على الاستبداد، ففي المقابل ما من حرب أميركية من أجل الديمقراطية. بل لعلّنا ندق أبواب المستقبل وننهض لإطلاق خطاب عربي عصري، عناوينه في توجهاته ومضامينه وفي تجديدنا له، يحتمل دائماً التأويل والتعديل لصالح شعوبنا العربية. إنها إعادة قراءة واجبة، ليس فقط في تجديد هذا الخطاب وإنما في تجديد العقل العربي المدعو إلى خوض مغامرة المستقبل بأدوات جديدة وأفق مفتوح وحوار دائم على المصالح والأهداف والممكن والمستحيل.

 

السفير مسعود معلوف:الشعب العراقي وحده يملك الاجابة هل ان العراق بحالة أفضل مما كان عليه قبل الاجتياح..

 

 مسعود معلوف ديبلوماسي لبناني سابق التحق بالسلك الدبلوماسي اللبناني عام 1972 وشغل مناصب دبلوماسية عديدة ومنها، قنصل لبنان في لاغوس نيجيريا ، ونائب رئيس بعثة لبنان لدى جامعة الدول العربية في تونس، وبعد أن تقاعد، انتقل الى واشنطن حيث أسس مكتبا استشاريا في العلاقات الدولية يقول محدثنا في استعراضه للواقع العراقي بعد عشرين عاما على الاجتياح، يقول الدكتور مسعود معلوف أن "معظم الأميركيين يعتقدون اليوم أن نشر خبر وجود أسلحة الدمار الشامل لدى صدام حسين كان خبرا مفبركا من قبل أجهزة المخابرات لتبرير الحرب، كما أن هنالك انطباعا شبه عام بأن قرار الحرب الذي اتخذه الرئيس بوش كان قرارا خاطئا ويصفه البعض بالكارثي، لدرجة أن السيد ريتشارد آرميتاج، الذي كان نائبا لوزير الخارجية أيام الرئيس جورج بوش الأب عام 2001، اعتبر أن اجتياح العراق شكل خطأ شبيها بخطأ اجتياح هتلر للإتحاد السوفياتي عام 1941 والذي أدى الى خسارة ألمانيا الحرب." و في قراءته للواقع السياسي العراقي بعد عقدين من سقوط النظام السابق يقول معلوف ما يلي :

"تحت ذرائع البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ومعاقبة النظام العراقي لمسؤوليته في أحداث 11 سبتمبر 2001، وتحرير الشعب العراقي من استبداد حكم صدام حسين وإقامة نظام ديمقراطي، قرر الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، منذ عشرين سنة بالضبط، شن حرب على العراق بالتعاون مع بعض جيوش من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقد تم تسمية هذه الحرب "عملية تحرير العراق".

تمكنت الجيوش الغازية من اجتياح العراق والسيطرة على العاصمة بغداد وخلع الرئيس صدام حسين في ظرف أسابيع قليلة، كما تمكنت الولايات المتحدة من إقامة نظام "ديمقراطي" بديل عن نظام الرئيس المخلوع صدام حسين، الذي تم القبض عليه و "محاكمته" وإعدامه.

ومع أن الولايات المتحدة أقرت لاحقا أن لا وجود لأسلحة دمار شامل في العراق وأن العراق لم يكن له أي علاقة بأحداث 11 سبتمبر، إلا أن الجيش الأميركي بقي في العراق سنوات طويلة ولم ينسحب منها حتى العام 2011 ليعود مجددا في العام 2014.

إن الوجود الأميركي في العراق بين عامي 2003 و 2011 لم يتمكن من تحقيق الأمن والاستقرار بالرغم من محاولات خلق أجواء ديمقراطية، إذ لم تنجح السلطة الأميركية المؤقتة بإدارة بول برمر في تأمين وسائل حياة عادية للشعب العراقي بسبب سوء الإدارة التي قررت حل القوات العسكرية العراقية بالكامل وإخراج عناصر حزب البعث من الإدارة، ما أدى الى ظهور مقاومة عسكرية جدية للاحتلال، وقد نتج عن الوجود العسكري الأميركي في العراق لمدة ثماني سنوات مقتل حوالى 4،500 جندي أميركي وربما مئات آلاف المدنيين العراقيين.

في تلك الأثناء، برزت الى الوجود منظمة "القاعدة في العراق" التي قامت بعمليات تفجير انتحارية ضد أماكن عبادة شيعية وضد الجيش الأميركي المحتل، وقد وصلت البلاد إلى حالة انقسام طائفي واضح، خاصة بعد أن أدى النظام السياسي الذي فرضه الاحتلال إلى انكماش واضمحلال سلطة الطائفة السنية على حساب الطائفة الشيعية التي توسعت سلطتها في معظم أجهزة الدولة، كما أدت انتخابات عام 2005 الى إعطاء الشيعة أكثرية واضحة في المجلس النيابي، وما تبع ذلك من تعيين السيد نوري المالكي، المعروف بعلاقاته القوية مع إيران، رئيسا للوزراء.

بعد انتخاب باراك أوباما في أواخر عام 2008 رئيسا للولايات المتحدة، الذي قد كان التزم في حملته الانتخابية  سحب الجيش الأميركي من العراق، حصل اتفاق بين بغداد وواشنطن تم بنتيجته الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية على أن يتم الانسحاب الكامل في العام 2011، وهذا ما حصل بالفعل في أواخر ذلك العام حيث حل الوجود الدبلوماسي الأميركي الموسع والقوي محل الوجود العسكري في العراق.

بعد انسحاب القوات العسكرية الأميركية من العراق، عززت "الدولة الإسلامية" (داعش) التي نشأت - بعد اضمحلال قوات القاعدة - وجودها وعملياتها الإرهابية مسيطرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا في ظل ضعف الدولة العراقية وقواتها العسكرية، وهذا ما حمل الرئيس أوباما على إعادة إرسال قوات أميركية الى العراق لمحاربة داعش، وذلك بعد أن سيطرت تلك المنظمة على الموصل وفلوجة وتكريت والرمادي بسهولة كبرى.

بعد تدخل القوات الأميركية الخاصة وتنفيذ حملة قصف جوي قوية، ومع تدخل المليشيات العراقية الشيعية المتحالفة مع إيران، تم القضاء على معظم مراكز قوات داعش في شمال العراق وفي سوريا، ولم يبق من الوجود الداعشي سوى بعض البؤر التي تقوم بعمليات إرهابية متفرقة بين الحين والآخر.

بعد انقضاء عشرين سنة على هذه الحرب، ماذا يمكن استنتاجه من ملاحظات على ما أدى إليه قرار الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن؟

أولا في الولايات المتحدة:

بعد خسارة أكثر من 4،500 جندي أميركي وما يزيد عن 2 تريليون دولار، وبعد أن كان التأييد لقرار الحرب مرتفعا بنسبة عالية لدى الشعب الأميركي، هبطت كثيرا نسبة التأييد للحرب بعد سنتين من انطلاقها وخاصة بعد الإقرار بعدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق.

والآن يعتقد معظم الأميركيين أن نشر خبر وجود أسلحة الدمار الشامل لدى صدام حسين كان خبرا مفبركا من قبل أجهزة المخابرات لتبرير الحرب، كما أن هنالك انطباعا شبه عام بأن قرار الحرب الذي اتخذه الرئيس بوش كان قرارا خاطئا ويصفه البعض بالكارثي، لدرجة أن السيد ريتشارد آرميتاج، الذي كان نائبا لوزير الخارجية أيام الرئيس جورج بوش الأب عام 2001، اعتبر أن اجتياح العراق شكل خطأ شبيها بخطأ اجتياح هتلر للإتحاد السوفياتي عام 1941 والذي أدى الى خسارة ألمانيا الحرب.

من نتائج هذه الحرب أيضا خسارة الولايات المتحدة لقبول دور لها في الشرق الأوسط لدى عدد من دول المنطقة، والانطباع السائد حاليا هو أن الولايات المتحدة لم تربح حربا واحدة من الحروب التي خاضتها منذ الحرب العالمية الثانية، لا في فيتنام، ولا في أفغانستان، ولا في العراق، لدرجة أنه في الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2020، كان كل من المرشحين دونالد ترامب وجو بايدن يحاول أن يسوق لنفسه على انه في حال انتخابه، سيكون الرئيس الذي يستطيع إخراج الولايات المتحدة مما أصبح يعرف بالحروب الأميركية الدائمة.

إن قرار إرسال جنود أميركيين الى الحرب يعود للكونغرس وليس للرئيس، ومن هذا المنطلق كان الكونغرس الأميركي وافق عام 1991 للرئيس بوش الأب على القيام بحرب الخليج الأولى، كما وافق في العام 2002 للرئيس بوش الإبن على شن الحرب على العراق، والآن، يحاول الكونغرس إلغاء هذين القرارين، وقد وافق مجلس الشيوخ منذ أيام قليلة على هذا الإلغاء الذي ينتظر موافقة مجلس النواب عليه، وفي حال موافقة هذا الأخير ينبغي توقيع الرئيس بايدن عليه ليصبح نافذا، وقد أعلن بايدن موافقته المسبقة على هذا القرار، إلا أن القرار قد لا يبصر النور بسبب معارضة عدد غير قليل من النواب الجمهوريين الذين يملكون الأكثرية في مجلس النواب.

جدير بالتوضيح  هنا ان الرئيس السابق ترامب، عندما قرر إرسال فرقة عسكرية جوية لاغتيال قاسم سليماني في العراق في مطلع العام 2020، إعتمد على القانون الصادر عام 2002، ومن هذا المنطلق، في حال وافق الكونغرس على إلغاء هذا القانون، فإن أي حرب قد يعتزم الرئيس بايدن شنها مستقبلا على إيران بضغط من إسرائيل وتنفيذا لوعده بعدم السماح لإيران بتملك سلاح نووي، فإن شن مثل هذه الحرب سيتطلب قرارا جديدا من الكونغرس قد لا يحصل عليه بايدن لأن خصومه الجمهوريين يسيطرون على مجلس النواب في الكونغرس الحالي.

ثانيا في العراق:

لقد أوجدت هذه الحرب تغيرات كبرى داخل العراق، بدءا بتغيير نظام الحكم تغييرا جذريا، إذ إصبح نظاما برلمانيا، وقد حصلت خمس عمليات انتخابية منذ الإطاحة بالنظام السابق وتغيرت حكومات  عديدة.

ومرت مرحلة شهدت تقلص النفوذ السني وتعاظم النفوذ الشيعي مع وجود نفوذ قوي لإيران داخل الحكم العراقي وفي الحياة الاجتماعية، كما أن المحتل الأميركي فرض توزيعا طائفيا للمراكز الحكومية بحيث يكون لكل طائفة مراكز تناسب عدد المواطنين المنتمين لها، وهذا ما أدى إلى كثير من التعقيد في الحياة السياسية العراقية، خاصة عند تشكيل الحكومات الذي أصبح يتطلب أشهرا طويلة. كما أن الدستور الجديد الذي وضع عام 2005 ثبت الحكم الذاتي في منطقة كردستان في شمال العراق التي أصبحت في حالة شبه استقلال.

لقد مر العراق، منذ الغزو الأميركي، بحروب أهلية طائفية وبظروف قاسية جدا وبصعوبات سياسية جمة، خاصة عند تشكيل الحكومة بعد كل انتخابات، ورئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني يحاول أن يتبع قدر الإمكان سياسة توازن بين إيران والولايات المتحدة، وقد عبر مؤخرا لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي كان يزور بغداد بأن حكومته تود "تعزيز وتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة"، مشددا في الوقت نفسه  على "التزام بغداد بالحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية"، وواضح هنا أن المقصود هو إيران.

ومن أهم تجليات سياسة التوازن التي يحاول العراق اتباعها هو انفتاحه على المملكة العربية السعودية واستضافته لجولات من المفاوضات السعودية-الإيرانية في بغداد، والتي تم البناء عليها لتحقيق الوساطة الصينية التي ستؤدي الى إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين الدولتين منذ سبع سنوات.

ولا بد من التذكير أن الولايات المتحدة ما زالت لديها قوة عسكرية من حوالى 2،500 جندي لمتابعة محاربة داعش وتدريب القوات العراقية، والعراق أعرب رسميا عن رغبته ببقاء هذه القوة في العراق. وقد كان ملفتا ما عبر عنه أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي أثناء مناقشة مسألة إلغاء قرار الإذن بالحرب على العراق الصادر عام 2002، إذ قالوا أن الولايات المتحدة لها الآن "شراكة ديمقراطية مع العراق" وإن إلغاء هذا القرار يدل على الإلتزام الأميركي بسيادة العراق على أراضيه، كما أن أحد الشيوخ وصف العراق بأنه "شريك استراتيجي" للولايات المتحدة.

والآن، وبعد عشرين سنة على الاجتياح الأميركي، السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ان العراق بحالة أفضل مما كان عليه قبل الاجتياح؟ من الطبيعي أن من يستطيع الإجابة عن هذه السؤال هو الشعب العراقي وحده، ومن هذا المنطلق، قامت مؤسسة الأبحاث والدراسات "البارومتر العربي" بإجراء استقصاء لمعرفة درجة التأييد للديمقراطية في العراق، وقد تبين لهذه المؤسسة أن العراقيين كانوا مؤيدين بقوة للديمقراطية في السنوات الأولى من التغيير، ولكن بدأت تظهر شكوك واضحة لديهم تجاه هذا النظام في السنوات ما بعد عام 2013، والآن، ومع أن أغلب العراقيين ما زالوا مؤيدين للديمقراطية، إلا أنهم من أكثر شعوب المنطقة الذين لديهم شكوك بجدوى طريقة الحكم هذه.

وفي بعض تفاصيل هذا الاستقصاء الذي أجراه "البارومتر العربي"، يتبين أن حوالى 90% من العراقيين يرون أن الفساد في أجهزة الدولة قائم بشكل كبير أو متوسط، وأن هنالك أيضا نسبة تبلغ 90% من الشعب التي ترى وجود حاجة للإصلاح، نصف هؤلاء يريدون إدخال الإصلاح بصورة فورية بينما النصف الآخر يفضل أن يتم ذلك بصورة تدريجية.

في الخلاصة يمكن القول أن العراقيين إجمالا، بعد عشرين سنة على الاجتياح الأميركي والتغيير الجذري الذي فرضه الأميركيون، يفضلون الحياة في ظل النظام الديمقراطي القائم، على أن تحصل بعض الإصلاحات، خاصة لجهة محاربة الفساد وتأمين ظروف اقتصادية أفضل.

معن بشور:العراق.. من رباعية الخراب الاميركي الى رباعية الخلاص الوطني

 

معن بشور كاتب سياسي قومي عربي لبناني، وعضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي ونائب أمينه العام (2000-2003) وأمينه العام (2003-2006. وعضو قيادي في العديد من المؤسسات السياسية والإعلامية الفلسطينية، وكان أول عضو غير فلسطيني ينتخب في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في مؤتمره الثاني في تونس عام 1977.وعضو مؤسس للمؤتمر الوطني لدعم جنوب لبنان عام 1968.

يقول معن بشور مع مرور الذكرى العشرين للاجتياح الامريكي للعراق أن " مسيرات حاشدة نددت بالغزو الاميركي للعراق، ودعت لوقف الجرائم الصهيونية في فلسطين وطالبت بإنهاء الحصار الجائر على سوريا، فيما تشهد الاوضاع المالية والمصرفية زلزالاً غير  مسبوق يرافقه استنزاف متسارع للقدرات الاميركية والاوروبية في الحرب الاوكرانية التي ارادت واشنطن لها ان تكون حرب استنزاف لروسيا، تطورات تحمل في طياتها دلالات هامة، أبرزها ان الادارات الاميركية المتعاقبة التي ارادت من غزوها للعراق، وقبله لأفغانستان، ان يكون اعلاناً لهيمنتها الاحادية على العالم، تواجه تقهقراً متسارعاَ في هذا النفوذ لصالح قوى ودول كبرى لم تكن تمتلك الجرأة  على الاعتراض الفعّال على تلك الحرب العدوانية ضد العراق وأفغانستان.

 بالطبع لم يكن ممكناً لمسيرة الهيمنة الاميركية على العالم ان تتعثر  لولا أن احرار العراق امتشقوا السلاح من اليوم الاول لاحتلال بلدهم واطلقوا مقاومة بطولية اكدت لجورج بوش الابن ان "المهمة" لم تنته كما ادعى مبتهجاً من على ظهر سفينة في الاول من ماي عام 2003، بل انه كما قلت يومها في مهرجان كبير اقامته الحملة الاهلية في 17-4-2003 في قاعة الاونيسكو في بيروت اذا ظنّ بوش ان حرب الاميركيين على العراق قد انتهت باحتلاله، فان حرب العراقيين على قوات الاحتلال الاميركية قد بدأت”، بل كما قال يومها سماحة السيد حسن نصرالله في 25 أفريل من العام نفسه وفي افتتاح المؤتمر العربي العام  في بيروت “اذا ظن الاميركيون ان العراقيين سيستقبلونهم بالزهور  والرياحين فنحن نقول لهم انهم سيستقبلونهم بالقنابل والرصاص"

وهكذا تكاملت المقاومة العراقية، التي كان جيش العراق (الذي حلّه الحاكم الاميركي مع حلّ حزب البعث في اول قرارات له بعد احتلال بغداد في 9-4-2003)، الركيزة الاساسية لها، مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية ومع صمود سوريا التي يرى الكثيرون ان أحد أسباب الحرب الكونية عليها كان قراراً اميركياً  للانتقام من رئيسها وقيادتها وشعبها بسبب موقفهم الرافض للحرب على العراق ومساندتهم لمقاومته واحتضانهم لمئات الآلاف من العراقيين الذين اضطروا لمغادرة بلادهم بعد تلك الحرب.

 لقد كانت الحرب الاميركية على العراق  ضلعاً رئيسياً من “رباعية الخراب” المعتمدة اميركياً واطلسياً تجاه وطننا العربي، وهي رباعية الحصار والاحتلال والحرب والفتن الداخلية، والتي شهدنا امثلة عليها في لبنان وسورية واليمن وليبيا وقبلهم في الجزائر.

في مواجهة هذه الرباعية دعوْنا في المؤتمر القومي العربي المنعقد في صنعاء بعد أشهر على احتلال العراق الى اعتماد “رباعية الخلاص” التي تقوم على المقاومة والمراجعة والمصالحة والمشاركة، ورأينا في اعتمادها طريقاً لمجابهة كل التحديات الخارجية والداخلية التي تحيط بأمتنا.

ملفات "الصباح" |  20 عاما على اجتياح العراق:  جريمة دون مجرم ..مأساة شعب وحطام أمة ...

 

بقلم: آسيا العتروس

 

تونس-الصباح

كيف يمكن احتساب عشرين عاما من الاحتلال من عمر الشعوب، هل يكون بعدد الصواريخ والقنابل التي انهالت عليه أم بعدد ضحاياه من المدنيين ومن النساء والشيوخ والاطفال أم بعدد ما هدم من مدارس وجامعات ومنازل وما تفجر من مساجد ومن دورالعبادة أم بعدد ما نهب من ثرواته ومتاحفه أم يكون بما تسبب فيه الاحتلال من دمار وخراب ومن تراجع وإفلاس للعراق ولشعوب المنطقة التي تحولت إلى حطام ؟

الأكيد أنّ من انتهك حرمة العراق الذي كان بقرار أمريكي ودعم بريطاني واخترق سيادته غير معني بهذا الطرح ولا يبدو ان الادارات الامريكية المتعاقبة من الجمهوريين الى الديموقراطيين تتجه الى الاعتراف بالمسؤولية عما حدث ويحدث في العراق او الاقرار بأن خطر أسلحة الدمار الشامل كان كذبة ستتضح لاحقا بهدف تدمير العراق والدفع إلى تقسيمه وإخضاعه للطائفية البغيضة بعد أن وجدت إيران الأرضية مهيأة للانتقام من العراق والدفع بملايين الإيرانيين الشيعة بعبور الحدود العراقية والهيمنة على المشهد ..

قبل يومين أصدرت الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعوى ارتكاب جرائم حرب في حق اطفال اوكرانيا ...وكان يمكن ان يكون لهذه الدعوى معنى ويكون للجنائية الدولية مصداقية لو انها لاحقت من تسبب في مقتل وتشريد وضياع ملايين الاطفال العراقيين والسوريين والافغان واليمنيين والسودانيين والفلسطينيين الذين لم يعرفوا غير الاحتلال والهوان والتصفية العرقية والقتل البطيء..

-هكذا بدأ الدمار 

في العشرين من مارس 2003 وعند الساعة 5:35 فجراً، بدأت الحرب، وأطلق عليها الأميركيون اسم «عملية حرية العراق" وفي التاسع من افريل 2003 انتهت العملية..تم نشر نحو 150 ألف جندي أميركي و40 ألف جندي بريطاني في العراق للشروع في عملية عسكرية واسعة رافقتها مئات المظاهرات الاحتجاجية في العالم ضد الحرب..ثلاثة اسابيع كانت كافية لإنهاء الحرب وحسم مصير العراق وحسم  مصير النظام العراقي والسيطرة على بغداد، ومنذ ذلك التاريخ لم يتم العثورعلى أي اثر لأسلحة الدمار الشامل التي تحدث عنها توني بلير ورامسفيلد وغونداليزا رايس وجورج بوش الابن عندما حذروا من على منبر الأمم المتحدة أنها أسلحة ستدمر العالم خلال ثلاثين دقيقة..كانت حربا جوية بامتياز نقلت تطوراتها شبكة "سي ان ان" لحظة بلحظة، وبعد 24 ساعة وصلت  الغارات إلى القصر الرئاسي..

في 25 مارس، عَبَر 4 آلاف جندي من «المارينز» مدينة الناصرية، النقطة الأساسية في الطريق نحو بغداد، التي لا تزال تبعد 370 كلم، عابرين نهر الفرات، وسط قتال عنيف.

بعد 6 أيام، دخل العسكريون الأميركيون في معركة برية مع وحدات من «الحرس الجمهوري العراقي»، قرب مدينة كربلاء.استولى الأميركيون على «مطار بغداد»، في الرابع من أفريل، بينما تحدى صدام الغزاة بنزوله في حي سكني، وإلقائه التحية على السكان.في 7 أفريل، استولى التحالف الدولي على 3 قصور رئاسية في بغداد.

في التاسع من أفريل، انهار النظام. وبقيت  صورة إسقاط تمثال ضخم لصدام في وسط بغداد عالقة في الذاكرة.

انتُزِع التمثال بدبابات أميركية من قاعدته، ثم داس عليه العشرات من العراقيين الفرحين أمام الكاميرات وأنظار العالم كله. ..

شبَّه وزير الدفاع الأميركي في ذلك الوقت، دونالد رمسفيلد، الحدثَ بـسقوط جدار برلين. ..غرقت بغداد في الفوضى، على وقع عمليات السلب والنهب للوزارات والمتاحف والمؤسسات والقصور الرئاسية لم يكن المتحف الوطني في العاصمة الذي يضم 7 آلاف عام من التاريخ، بمنأى عن عمليات النهب...

سقطت كركوك والموصل، أكبر مدن الشمال، دون مقاومة، بيد الأكراد الذين انسحبوا بعد ذلك لصالح الأمركيين. ثم استسلمت تكريت ، معقل صدام.

في الأول من ماي أعلن الرئيس الأميركي  من على متن حاملة الطائرات في كاليفورنيا نهاية المعارك، ..اختفى  الرئيس العراقي صدام حسين عن الأنظار لأشهر، رغم أن واشنطن أعلنت، في جويلية تخصيص 25 مليون دولار جائزةً لمن يعثر عليه.

بعد مطاردة استمرت 9 أشهر  تم اعتقاله يوم 13 ديسمبر 2003، بعد العثور عليه مختبئاً في حفرة بقبو مزرعة قرب تكريت...ظهر الزعيم الذي حكم العراق بقبضة من حديد في مظهر يرثى له ...تعددت الروايات وذهب البعض الى ان حارسه من وشى به ...أعدم صدام بعد محاكمة صورية فجر عيد الاضحى في 30 ديسمبر 2006 ...وغرق العراق في الفوضى والتفجيرات الإرهابية والصراعات الطائفية  ..

-عندما تبخرت أسلحة الدمار الشامل 

مطلع أكتوبر2003، أكد تقرير لمفتشين دوليين عدم العثور على أسلحة دمار شامل.. لم يعرف أبدا عدد الضحايا العراقيين وعديد التقارير تتحدث عن مليون ضحية جراء الحرب .حين أنهت القوات الأميركية انسحابها من العراق، في ديسمبر 2011، بعد 8 سنوات و9 أشهر، كانت حصيلة النزاع هائلة، من حرب الشوارع في الفلوجة، وصولاً إلى الاقتتال الطائفي والانتهاكات في سجن أبو غريب، تواترت الصدمات على الشعب العراقي وتواترت الخروقات والتهديدات للمنطقة التي ستتحول الى حطام على مدى السنوات.. بين 2003 و2011، قُتِل أكثر من مائة ألف مدني، بحسب منظمة «ضحايا حرب العراق»، بينما أعلنت الولايات المتحدة عن 4500 قتيل في صفوف قواتها وطواقمها، ولكن تبقى الحصيلة النهائية غير معلومة وكأن ضحايا الحرب الأمريكية في العراق لا يستحقون كشف الحقائق المنسية ...

في ماي 2022، خلال فعالية في تكساس، أثار الرئيس الأسبق، جورج بوش، ضحك الحضور بزلة لسان وقع فيها أثناء حديثه عن أوكرانيا، مندداً بـ«الغزو غير المبرر إطلاقاً والوحشي للعراق"...زلة لسان ولكنها تعكس ما يخالج نفس صاحبها واطلق الحرب المدمرة في العراق ...منحت أمريكا جنودها الحصانة من الملاحقة ومنعت المتورطين في الحرب المدمرة على العراق المساءلة أو المحاسبة.. سقطت كل دروس العراق وكأن ما حدث لا يفترض اعادة قراءة ظروف وملابسات تلك الحرب التي تكاد نتائجها تقرأ على شوارع العراق التي غرقت في صراعاتها الطائفية والاقتتال بين السنة والشيعة والتي سيفاقمها ظهور الجماعات المسلحة ودواعش العصر ...

-من العراق إلى القوة الغاشمة

في الفترة الأخيرة نشرت صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية تقريرا أمس بعنوان "حرب العراق تركت المجتمعات الغربية دون تغيير"، يذكر التقرير  إنه بعد 20 عاما من حرب الولايات المتحدة وحلفائها على العراق عام 2003 لم تتغير المجتمعات والسياسات الغربية أيضا، والدليل أنه بعد حرب العراق بثماني سنوات تقريبا كانت هناك حرب أخرى في ليبيا عام 2011... كما أن الدول الغربية مازالت تستخدم القوة الغاشمة في العالم، على الرغم من النتائج المدمرة للحرب التي مازال العراق يدفع ثمنها وعلى الرغم من أن المنطقة كلها تدفع الثمن، الذي من جوانبه صعود تنظيم "داعش "الإرهابي وإطلاق يد إيران في المنطقة.

وذكر التقرير الذي كتبه جانان جانيش أنه على الرغم من أن الخسائر الأمريكية كانت أعلى بكثير في فيتنام من حرب العراق فإن حرب العراق كانت أكثر الحروب إثارة للجدل خاضتها دولة غربية في نصف القرن الماضي؛ ففي فيتنام لم يشارك أي مواطن أوروبي في الحرب، لكن في العراق شاركت دول أوروبية وكانت هناك مواجهات بين المواطنين الأوروبيين حول هذه الحرب، فكان هناك مؤيد وآخر معارض مثلما كان الحال في الولايات المتحدة نفسها، لذلك فقد توقع من عاصروا تلك المرحلة أنها شكلت الثقافة الغربية لأجيال.

ويشير التقرير إلى أن ما يجعل الذكرى العشرين للحرب على العراق أمرا غريبا للغاية، على الأقل داخل العالم الغربي، أنها لم تترك تحولا يذكر في العلاقات الدولية ...

فالحرب لم يكن لها تأثير على السياسة في أوروبا ولم يكن هناك تغيير منهجي، فبعدها أعيد انتخاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي شن الحرب، وكذلك أعيد انتخاب رئيس وزراء بريطانيا توني بلير الذي شارك فيها. حتى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن كان من المؤيدين لهذه الحرب، وجميع رؤساء وزراء بريطانيا منذ 2003 كانوا مؤيدين لها وطالبوا بالمشاركة فيها .

والسؤال الذي طرحه الكاتب هو هل أدت الحرب على الأقل إلى تغيير دائم في السياسة الخارجية، طالما لم يحدث التغيير في الأفراد؟ ، ولم تتأثر المجتمعات والسياسات الغربية أيضا، والدليل أنه بعد حرب العراق بثماني سنوات تقريبا كانت هناك حرب أخرى في ليبيا عام 2011.

ما يعني أن الغرب مازال لا يتردد في استخدام القوة الغاشمة أو التهديد بها؛ حتى إن فرنسا التي لم تشارك في حرب العراق دفعت بقواتها إلى منطقة الساحل والصحراء في إفريقيا وظلت فيها تسع سنوات...

-20 عاماً على الغزو الأميركي..وتبقى الديموقراطية مؤجلة

في العام 2023، لا يزال العراق  بعيداً عن الديموقراطية التي تطلع اليها وراودته  قبل 20 عاماً، فالنزاعات الدامية والفساد وعدم الاستقرار هيمنت على البلد الذي بات تحت تاثير ايران ..

كان الهدف المعلن للإدارة الأميركية واضحاً، فالأوامر الموجهة الى القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي التي أرسلت إلى الصحراء العراقية في 20  مارس 2003 كانت مصادرة أسلحة الدمار الشامل التي يملكها نظام صدام حسين. لكن قوات مشاة البحرية الأميركية لم تعثر على أي أسلحة دمار شامل.

وبدل البحث عن اسلحة الدمار الشامل أصبحت المهمة في العراق مرتبطة بنشر الديموقراطية.. لكن "الولايات المتحدة كانت تجهل كلّ شيء عن العراق". والجيش الأمريكي لم يفهم لا طبيعة المجتمع العراقي ولا طبيعة النظام الذي أطاح به.

في الواقع، فتح الغزو الباب أمام سلسلة من الأحداث  والهجمات الدامية التي ستشكل الشرارة في اندلاع حرب طائفية ووقوع أعمال عنف غير مسبوقة استمرّت حتى العام 2008...لكن الخطر الاكبر الذي  تعرّض له العراق، كان سيطرة تنظيم  "داعش" على مناطق واسعة من البلاد في صيف العام 2014 شملت نحو ثلث مساحة العراق، وانتهت أواخر العام 2017 عندما أعلنت بغداد "الانتصار" العسكري على التنظيم المتطرّف بعد معارك ضارية.

بالمحصلة انهارت مؤسسات الدولة وتم حل الجيش وحزب البعث وأصبح العراق يعيش حالة فوضى هدامة ولم تكن خلاقة كما روجت لذالك وزيرة الخارجية غونداليزا رايس ...وتحول النفط الى لعنة بعد ان كانت مصدر ثراء ونعمة على العراق، وتوترت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي ويسعى للمزيد من الصلاحيات، خصوصاً بشأن ملف صادرات النفط التي تخرج من الإقليم...

يحتل العراق اليوم المرتبة 157 من بين 180 دولة من أكثر الدول فسادا في العالم، وفق منظمة الشفافية الدولية...والعراقيون يعانون من انقطاع في التيار الكهربائي لساعات طويلة كل يوم وغياب شبكات توزيع المياه الصالحة للشرب، وانتشار الفقر الذي يضرب ثلث سكان العراق البالغ عددهم 42 مليوناً ، يعاني البلد على الرغم من احتياطاته النفطية الهائلة من بنى تحتية متهالكة...

يبدو المشهد العراقي  على درجة من القتامة في ظل منطقة ملتهبة أو بالأحرى حطام امة ما انفكت تفرط في مقومات سيادتها وتتحول الى ساحة مفتوحة لكل التدخلات والخروقات التي لن يكتب لها أن تزول قبل عودة الوعي المفقود وإنهاء نزيف الشعوب المستمر والاقتتال الدموي والإنهاك للعقول  المجمدة والافكار المصادرة ...الحديث عن ملاحقة الجناة ومن اجرموا في حق العراق وفي حق شعبه وكل شعوب المنطقة مسألة غير مطروحة اليوم  في عالم تقوده العولمة المتوحشة ولكنه متروك للأجيال القادمة التي يتعين أن تقرر ما سيكون عليه عراق كل العراقيين ...

 

د. عبد الحميد صيام يروي لـ"الصباح" شهادته عن ايام الحرب في العراق:تجربة مريرة عشتها في عراق ما بعد الاحتلال..

 

 بمرورعشرين عاما على الاجتياح الأمريكي للعراق يقدم الدكتور عبد الحميد صيام وهو محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي الأمريكية الى جانب عمله كمسؤول اعلامي في الامم المتحدة بنيويورك وكان في مهمة ببغداد بعد الحرب ويقدم لنا من خلال هذه الورقة شهادته الميدانية التاريخية عما ال اليه الوضع وعن ظروف وملابسات مقتل الفريق الاممي في احد التفجيرات الارهابية.

 يقول محدثنا أن العراقيين كانوا يشتكون الأمم المتحدة مما يحدث في بلدهم وأن بعضهم قالوا "كنا تحت دكتاتورية رهيبة استبدلت باحتلالين أمريكي وإيراني..كنا نعتقد أن الأمريكيين سيسقطون النظام ويسلمون البلاد لأبنائها وينسحبون. ولكن الأمور الآن كشفت عن أطماع وخطط أعمق مما تصورنا"، (عن مرجعية شيعية في مدينة الحلة)....

يقول عبد الحميد صيام في استعراضه لما حدث في بلاد الرافدين مع حلول الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق  في شهادته  للصباح "تعود إلي ذكريات ثقيلة ومؤلمة عن تلك التجربة المريرة التي عشتها في عراق ما بعد الاحتلال حيث كنت واحدا من أول مجموعة دولية تصل البلاد بعد الاحتلال مباشرة، وبعد اعتماد مجلس الأمن في 22 ماي القرار 1483 (2003 ) لإنشاء بعثة سياسية في بغداد لإنجاز مهمات ثلاثة – تقديم المساعدات الإنسانية، والمساعدة في إعادة الإعمار، والعمل مع سلطات الأمر الواقع  لمساعدة الشعب العراقي في استرداد سيادته ووحدته الترابية وإعادة بناء مؤسساته السياسية والتمثيلية. وقد طلب الأمين العام الأسبق كوفي عنان، من البرازيلي الطيب سيرجيو فييرا دي ميلو، أن يرأس البعثة.

 تردد سيرجيو كثيرا ولكن الأمريكيين أصروا عليه دون سواه بسبب سمعته الطيبة ونجاحه في أكثر من مهمة وخاصة في تيمور الشرقية.

-دخان الحرب

وصلنا بغداد ودخان الحرائق من المباني العامة والوزارت ما زال يرى بالعين. كان الجيش الأمريكي منتشرا في الشوارع وعلى الجسور. ترك الوزارات والمؤسسات العامة بدون حماية لتنهب وتدمر إلا وزارة البترول والبنك المركزي. حتى المتحف العراقي الشهير الذي يضم بين دفتيه سبعة آلاف سنة من حضارة وادي الرافدين تركه الأمريكيون للنهب والسرقة.  بدأ سيرجيو فييرا دي ميلو مهمته بالاتصال بكافة أطياف الشعب العراقي.  ترك الباب مفتوحا للعراقيين ليصلوا إلينا- يحدثونا عن مآسيهم.  أصبح مقر الأمم المتحدة في ما كان يسمى "فندق القنال" أشبه بخلية نحل.  كان سيرجيو يقول جئت أتعلم من العراق باني الحضارات. من أنا حتى أقول لهم ما يجب عليهم أن يفعلوا؟

كنا نعقد ورشات عمل للقانونيين والمرأة والشباب والجمعيات الأهلية والصحافيين. وكانت مهمتي أن أعمل مع الصحافيين العراقيين لإنشاء مركز الإعلام العراقي لرفع مستوى الصحافة وعقد دورات ترفع من كفاءة الصحافي المهنية.  إنتشرت الصحف بشكل غير معقول حتى فاق عددها المئة وبسرعة عجيبة.  بعضها أنشأ بمباركة الاحتلال وبعضها كان مناوئا للاحتلال وقد تم إغلاق بعض الصحف المنددة بالاحتلال.  كنت حريصا على زيارة كافة الصحف والقنوات الفضائية ودعوتها لحضور أنشطتنا في المقر.  وقد ذهبت لمعاينة المكان الذي استشهد فيه طارق أيوب على سطح فندق فلسطين ثم زرت قناة "أبو ظبي" التي كادت تتفوق على الجزيرة في تغطيتها الإخبارية لاحتلال العراق حيث انهالت الصواريخ على مقرها كذلك وقد شرح لي الصحفي التونسي أنس بن صالح أين سقطت الصواريخ وكيف نجت المجموعة من موت محقق.  كنت في أغلب الأحيان آخذ سيارة أجرة لأتجول في بغداد وأمر على مقرات الصحف فمن الصعب أن يعتقد أحد أنني لست عراقيا وبالتالي كان تحركي أكثر أمنا من لو تحركت في سيارات الأمم المتحدة.

كنت أعقد لقاء أسبوعيا مع الصحافيين والصحافيات كل يوم ثلاثاء. كان الرجل الطيب والأكبر سنا شهاب التميمي، رئيس نقابة الصحافيين، يبدأ الحديث بكل رقة وموضوعية. ولم أكن أعلم أن يدا مجرمة ستضغط على الزناد لترديه قتيلا لأسباب طائفية بتاريخ 19 فيفري 2008..استأجرنا بناية في منطقة الوزيرية وأنشأنا المركز ووضعنا حارسين عليه واخترنا ثلاثة موظفين من بين الصحافيين للإشراف عليه وكنا ننوي إفتتاحه في أول سبتمبر لكن تدمير المقر في 19 أوت 2003 ألغى كل خططنا في العراق.

الفندق الذي كان يحتضننا لرجل لبناني سماه "جبل لبنان"،  ممنوع علينا أن نخرج إلا في عمل رسمي وبشكل جماعي.  من الفندق إلى مقر الأمم المتحدة وبالعكس.  أصبحنا أشبه بأسرة واحدة نأكل معا ونتسامر معا ويأتي الحلاق يوم الجمعة ليقص شعورنا في نفس اليوم  ويقيم بعض الفنانين العراقيين معارض داخل الفندق.

لم يمض على رحيلنا شهور حتى سمعنا أن الفندق تعرض للتفجير بحجة إيواء الأجانب.

أخبار عمليات المقاومة كانت تصلنا يوميا فقد كان الأمريكيون يشاركون الأمم المتحدة في الأخبار الأمنية من أجل السلامة. بدأت عمليات المقاومة بمعدل عمليتين في اليوم وبدأت ترتفع  مع زيادة التبرم من الوجود الأمريكي الثقيل.  كثير من الأمريكيين الذين كنا نشاهدهم لا يعرفون ما يجري في العراق ولا يعرفون لماذا هم هنا. الخوف كان يملأ عيونهم.  تقارير متواصلة كانت تصل المقر عن عمليات التعذيب في سجن أبو غريب.  ولم يوافق الأمريكيون على زيارة رسمية للبعثة لتفقد السجن.

-القيادات العراقية

كان سيرجيو حريصا على لقاء جميع قيادات الشعب العراقي السياسية والمدنية والدينية.  وضع جدولا زمنيا للقاء أساتذة الجامعات ورؤساء نقابات العمال والمرأة والمحامين.  من بين القيادات التي تركت أثرا في سيرجيو وجميع أعضاء الفريق المرافق المرحوم محمد باقر الحكيم، مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.  جلسنا معه نحو ساعتين في بيته في النجف.  جمع القيادتين السياسية والدينية وكان متواضعا وفي منتهى الوعي والقدرة على التحليل السليم واستشراق المستقبل.  خصص معظم حديثة شاكيا من التصرفات الأمريكية وخاصة في اقتحام البيوت في الليل. وقال كيف للشعب العراقي أن يصدق وعود الأمريكيين بالديمقراطية والرخاء وقد فقد الكهرباء والماء.  "قد يقال الكثير في صدام حسين لكن الخدمات الأساسية لم تنقطع يوما عن البيوت العراقية". في يوم 29 أوت بعد عشرة أيام من تفجير مقر الأمم المتحدة، جيء بسيارة تشبه سيارته تماما ووضعت أمام باب مسجد الإمام علي في الكوفة وعندما خرج من باب المسجد بعد صلاة الجمعة تم تفجير السيارة لتقتل السيد الحكيم ومائة شخص معه من المصلين. وسنظل نتعجب كيف لسيارة محملة بالمتفجرات يمكن أن تخترق كل الحواجز الأمنية وتوضع بالضبط أمام مدخل المسجد الكبير.

أحد القادة الدينيين في لقاء معه في مكتبه بالحلة خصص حديثه شاكيا على اندفاع الإيرانيين إلى العراق بمئات الألوف.  "لماذا لا تحاول الأمم المتحدة حماية حدود العراق من إيران"؟ سألنا.  قلنا له إن حدودا تزيد عن 1400 كلم تحتاج إلى آلاف الجنود المدججين فكيف لبعثة لا تزيد عن سبعين شخصا أن تقوم بهذه المهمة. الإيرانيون، بحجة شوقهم للعتبات المقدسة، تدافعوا بالآلاف عبر الحدود المفتوحة.  وبالتأكيد دخلت الأجهزة الأمنية الإيرانية ودفعت بآلاف العراقيين الهاربين إلى إيران للعودة إلى العراق للتحكم في مسار البلاد. القادة العراقيون الوطنيون كانوا يشكون مرّ الشكوى من الأوضاع الجديدة. 

بريمر وعنجهية المحتل

كان حاكم العراق المطلق، بول بريمر يصدر يوميا الفرمانات على طريقة الملوك.  ولا يمكن أن تكون قراراته الخطيرة قد جاءت صدفة خاصة قراره الأول: اجتثاث البعث وقراره الثاني بحل الجيش العراقي في 23 ماي ثم قراره الخطير بإنشاء مجلس الحكم العراقي المركب بمحاصصة طائفية يوم 13 جويليه 2003.  دعينا إلى قصر الرحاب ودخلنا المسرح ليتم الإعلان عن إنشاء مجلس الحكم العراقي. وقف يومها أكبر الأعضاء سنا وقال قرارنا الأول هو إعلان يوم 9 أبريل (يوم سقوط بغداد) اليوم الوطني للعراق. لحسن الحظ لم يعره أحد أي انتباه. 

أثناء عودتنا من الحلة وبعد زيارة مقام النبي "ذو الكفل" توقفنا في بابل. شيء مذهل.  كان سيرجو منبهرا بحضارة العراق ويسأل عن كل شيء. تجولنا في آثار بابل بصحبة ضابط أمريكي كان يشرح بأدق التفاصيل.  وأمام المسرح البابلي قال الضابط "لو أحسن صدام حسين قراءة ما كتبه البابليون على هذا الجدار لما كنا هنا".  فسأل سيرجيو وماذا كتبوا؟  قال: حكمة بابلية تقول ما معناه "لو دام الحكم لغيرك لما وصل إليك".

النهاية

كان موعدي أن آخذ إجازة قصيرة لمدة أسبوع، حسب نظام العمل في البعثات الأكثر خطورة.  قال لي سيرجيو يجب أن يأتي بديل لك كمتحدث رسمي يتقن العربية. وصلت زميلتي رهام الفرا من نيويورك مساء الثامن عشر من أوت 2003.  وفي الصباح ذهبنا سوية إلى المقر.  قدمتها للزملاء وشرحت لها كل تفاصيل المهمة.  وتناولنا طعام الغداء معا الساعة الواحدة والنصف.  ودعتها واتجهت إلى المطار ثم طرت إلى عمان.  وعندما وصلت الفندق الساعة الخامسة تقريبا أدرت التلفاز على محطة الجزيرة وإذا بها في بث مباشر من مقر الأمم المتحدة ببغداد الذي تم تفجيره عن طريق إنتحاري. كانت أعداد الضحايا ترتفع من خمسة إلى عشرة واستقرت على 22  و150 جريحا كان من بينهم سيرجيو ورهام وزملاء عرب ومسلمون في غالبيتهم الساحقة.

كانت تلك أول عملية إنتحارية في العراق.  بعد عشرين سنة ما زال القتل متواصلا والشرخ الطائفي يتسع والتفجيرات تحصد الأبرياء من العراقيين من كل الأطياف.  فهل كان الهدف الأمريكي البحث عن أسلحة الدمار الشامل أم تصدير الديمقراطية؟

  

 المفكر والباحث  د.علي محمد فخرو :مسرحية استخباراتية ...ستصبح كارثة عربية، وليست عراقية فقط

 

 يعد الدكتور علي محمد الفخرو من المفكرين والباحثين الذين تركوا بصماتهم في المشهد السياسي والمعرفي، فالدكتور علي فخروهو اول طبيب في البحرين وهو أيضا أديب وسياسي ، تولى سابقاً منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971- 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982- 1995.

 كما عمل سفير لمملكة البحرين في كل من فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدى اليونسكو.

شغل عدة مناصب في مسيرته المهنية فكان رئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضوا سابقا المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضوا سابقا للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية...

حديثه عن العراق لا يخل من المرارة والألم وهو يعتبر أن ما تعرض له العراق قبل عشرين عاما مسرحية استخباراتية اشترك في صياغتها عملاء في الخارج بالتواطؤ مع اخرين في الداخل وهو يدعو الى "إنهاء عقلية شخصنة وشبه تأليه قيادة الحكم العربي والانتقال إلى أنظمة حكم ديموقراطية حقيقية غير مزيفة ومظهرية. بناء توازن ديموقراطي فيما بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع أصبح مسألة وجودية لنا نحن العرب لإنهاء تاريخ طويل من الحكم وفي قراءته للمشهد العراقي بعد عقدين على احتلال العراق يقول :

قبل عشرين سنة انفجرت في وجه أمة العرب مسرحية استخباراتية، حاكها الاستعمار الأميركي – البريطاني – الصهيوني، وجند لها عملاء في الداخل وجواسيس استخباراتيه في كل مكان، وأقنع سياسيين انتهازيين، هما الرئيس الجاهل الامريكي بوش الإبن ورئيس وزراء بريطانيا السياسي المتقلب الشهير توني بلير، لإقناع الرأي العام في بلديهما وكثير من دول العامل بصدق تلك الكذبة الملفقة المحبوكة.

كان المسرح هو القطر العربي العراقي، وكانت التمثيلية تدور حول أكذوبة امتلاك نظام الحكم العراقي القومي العروبي المتمرد في وجه الرأسمالية الأميركية والداعم بقوة وثبات لحركات المقاومات العربية في وجه الكيان الصهيوني الجاثم على صدر فلسطين العربية وشعبها المكافح الرافض لجرائمه النازية والمخازي لحكمه الاستئصالي العرقي الناهب المجنون.

ومن أجل اكتمال كل عناصر التمثيلية شاركت مجموعات عراقية انتهازية حاقدة متعاونة ومتناغمة مع استخبارات الجهات الثلاث، من خلال وعود بالسماح لهم بسرقة مليارات العراق، وتقاسم نفود مؤسسات الحكم فيه، وتدمير هويته العروبية العالية الصوت والتأثير في الوطن العربي كله، وإعلاء شأن الهويات الفرعية المذهبية الطائفية – العرقية.

لكن، ما إن مر وقت قصير على البدء بتلك المسرحية وألاعيبها وحقاراتها، وواجهت مقاومة شعبية بطولية من قبل شعب العراق الرائع العظيم، حتى انفجرت في وجه من حاكوها، وعلى الأخص بوش الإبن وتوني بلير، فاضطرا للاعتراف أمام العالم كله بأنهما قادا مؤامرة حقيرة كاذبة في كل تفاصيل ادعاءاتها واتهاماتها، وبالتالي اعترفا ضمنياً بأنهما مجرمين مرتكبين لجرائم ضد الإنسانية.

وكان أحرى بالعالم أن يقدمهما للمحاكمة، تماماً كما فعل من قبل بالمجرمين النازيين المماثلين لهما، لكن الدولة العميقة في الغرب الاستعماري والضعف المشين في أنظمة الحكم العربية المتناحرة، وقوى المجتمعات المدنية العربية السياسية التي تخصصت في إضاعة الفرص التاريخية، ساهموا جميعاً في عدم إجراء المحاكمة وفي نسيان الموضوع شيئاً فشيئاً. وها أن المجرمين يعيشان في بحبوحة من العيش الرغيد، بينما تواجه الضحية، شعب العراق ومجتمع العراق، أهوال دخول العراق في جحيم المنافسات والصراعات الطائفية والقبلية والعرقية، وإمكانيات التقسيم السكاني والتجزئة الجغرافية، وعربدة داعش وأخواتها من التكفيريين الإرهابيين المجانين ، ومن استباحة سيادة العراق من قبل القريب والبعيد، ومن الأوضاع المعيشية والخدمات الاجتماعية المتردية التي قلبت العراقيين إلى جياع وعراة وجهلة ومرضى وهائمين على وجوههم في كل أصقاع الأرض، بينما يسرق الخونة والفاسدون وخدم الاستعمار والصهيونية ثرواته النفطية الهائلة ويستثمروها في البلدان التي ربتهم ورعتهم وجاءت بهم كفاتحين على دبابات جيوش بوش وبلير والقادة الصهاينة.

ذاك المشهد التراجيدي الحزين سيصبح كارثة عربية، وليست عراقية فقط، تاريخية، إن لم نتعلم منها دروساً وحكما وفلسفات وقيم.

إنها، جميعها، تُحمل باختصار شديد في الآتي:

 1.أنه لا منجي لأي قطر عربي كان من الاحتلال والتدمير من قبل هذه القوة الإقليمية أو تلك القوة الاستعمارية إن لم ننتقل من وضع الجامعة العربية الحالي، المليء بنقاط السيادات العابثة والضعف والخلافات، إلى وضع نوع ما من الوحدة، تضامنية مماثلة للوحدة الأوروبية أو كنفذرالية أو فدرالية، تؤمن السلام والاستقلال لكل الوطن العربي في وجه كل طامع.

      2.إنهاء عقلية شخصنة وشبه تأليه قيادة الحكم العربي والإنتقال إلى أنظمة حكم ديموقراطية حقيقية غير مزيفة ومظهرية. بناء توازن ديموقراطي فيما بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع أصبح مسألة وجودية لنا نحن العرب لإنهاء تاريخ طويل من الحكم الفردي.

3. بناء كتلة تاريخية نضالية تضامنية شعبية عابرة للحدود القطرية، مكونة من أحزاب ونقابات وجمعيات مهنية وأهلية وأفراد مثقفين ملتزمين مناضلين، تضع لها حدوداً دنيا من الأهداف، وتمارس نضالاً جماهيرياً سلمياً تصاعدياً جامعاً، وذلك من أجل حمل عبء العمل في سبيل تحقق المشروع النهضوي العربي بمكوناته الستة: الوحدة العربية، الإستقلال القومي والوطني، الديموقراطية، التنمية الإنسانية الشاملة، العدالة الإجتماعية، والتجديد الثقافي والحضاري الشامل.

4. انخراط الشباب والشابات، كمناضلين وقادة ثوريين، في تحقق تلك الخطوات التاريخية. وحدهم هم الأمل الممكن بعد أن ارتكبت أجيال من قبلهم الكثير من الأخطاء والخطايا التي قادت إلى أمثال خزي وعار احتلال واستباحة العراق الشقيق.

 

د.عبدالله تركماني:الغزو الأمريكي للعراق مرآة لتقاعس النظام الإقليمي العربي...

 

 الدكتور عبد الله  التركماني  أكاديمي وباحث سوري تونسي في الشؤون الإستراتيجية حاصل على ديبلوم دراسات معمّقة في التاريخ العربي المعاصر من جامعة الجزائر وعلى درجة الدكتوراه في التاريخ المعاصر من جامعة تونس

وهو باحث واستشاري في الشؤون الاستراتيجية منذ عام 1991، ويعمل حالياً كباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، له العديد من المؤلفات المستقلة والمشتركة يستذكر دكتور عبد الله التركماني ما حدث في العراق قبل عشرين بما حدث من قصف وصواريخ تهاطلت على بغداد ويقول في قراءته لاجتياح العراق قبل عقدين من الزمن " أن ما حدث في العراق ليس مجرد سقوط نظام ديكتاتوري، إنه انقلاب على الصعيد الإقليمي لا يقلُّ في خطورته عن زرع دولة إسرائيل في أرض فلسطين ويقول "في استعادته للأحداث قبل عشرين عاما وقراءته لحاضر ومستقبل العراق أنه "مع تهاطل صواريخ كروز وتوماهوك الأميركية على بغداد فجر 20 مارس 2003 عاودتني مشاعر الألم والقلق، التي انتابتني أثناء زيارتي ملجأ العامرية في سنة 2000، حيث كانت قنبلة " ذكية " قد اخترقت فجر 13 فيفري 1991 سقف الملجأ وقُتل على الفور 400 طفل وامرأة وعجوز، اعتقدوا أنهم بدخوله قد أمّنوا على حياتهم من الغارات الكثيفة التي كانت تستهدف بغداد آنذاك. كما داهمتني تلك الأيام التي تركت فيها عراقَيين: عراق الناس الطيبين الخائفين على مستقبلهم، وعراق النظام الذي لم يكن يملُّ الخطابات والشعارات البعيدة كل البعد عن واقع التحوّلات العميقة في السياسات الإقليمية والدولية.

وفي الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، فإذا كان هذا الغزو قد نجح في إسقاط وتغيير النظام السياسي، بيد أن الطائفية السياسية التي جاء بها سعت إلى إسقاط العراق كبلد بكامله.

إنّ ما حصل في العراق ليس مجرد سقوط نظام ديكتاتوري، إنه انقلاب على الصعيد الإقليمي لا يقلُّ في خطورته عن زرع دولة إسرائيل في أرض فلسطين، بل هو إخلال بتركيبة المنطقة تمهيداً لإعادة النظر فيها، وهو بمستوى أهمية ما جرى في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية.

إنّ العراق بهذا المعنى أضحى ساحة الصراع الرئيسي والاستراتيجي والحاسم بين الآليتين الدافعتين لوقائع السياسة والتناقض في العالم العربي: آلية الانقسام والتقسيم وتفكيك الكيانات والأوطان، وآلية الدفاع عما تبقى من محصلة تلك الكيانات والدول من وحدات وعلامات تماسك على ما قد يكون فيها من هشاشة.

لا يحتاج المرء إلى أكثر من نظرة سريعة ليكتشف أنّ العراق الجديد أضحى فيديرالية طوائف ومذاهب وأعراق وعشائر. فعندما تتحرك قوى سياسية بدوافع التقسيم المذهبي والطائفي، وتقويض انتماء العراق العربي، بينما يطالب عراقيون آخرون بالحفاظ على هوية العراق العربية، ويطالبون بالحفاظ على وحدة العراق كوطن ودولة، وبأن يستمر العراق في ممارسة دوره الإقليمي التقليدي، فهناك حالة انقسام عميقة تحتاج إلى تعاطٍ عقلاني معها.

وهنا تبدو مشكلة ميليشيات الحشد الشعبي مستعصية في ظل غياب الدولة ومرجعيتها وهيبتها وقوتها العسكرية، وفي ظل سياسات التخبّط والتشظي والتفتت، وكذلك في ظل تصاعد الاحتقان الطائفي والمذهبي.

وفي الواقع لم تكن الحرب على العراق واحتلاله، ولم يكن إخفاق العالم العربي في التنمية والتقدم بداية لأزماتنا ولا نهاية لمصائبنا إنما هو مرآة مكبرة لتقاعسنا عن إصلاح أنفسنا، ولعجزنا عن تشكيل أفضل لمجتمعاتنا، ولتكاسلنا في عملية الذود عن موقعنا في العالم. إنها مرآة لواقعنا، وصورة عن اللامبالاة بضرورة التغيير، وعن غياب التضامن العربي الفعلي والمجدي، وعن التلكؤ في دخول العصر.

وهكذا، يبدو أنّ البدائل والخيارات المطروحة على العالم العربي، منذ الغزو الأميركي للعراق في سنة 2003، تتمثل في ثلاثة بدائل مستقبلية: أولها، استمرار حالة التشتت والفوضى والبعثرة العربية، بما ينطوي عليه من هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي. وثانيهما، إعادة تنظيم المنطقة في شكل شراكات إقليمية ضمن إطار الشرق الأوسط الموسّع. وثالثها، العودة إلى النظام الإقليمي العربي بعد إنعاشه وتطويره وتغيير سلوكيات أطرافه وتحديثه.

وفي هذا السياق، من مصلحة العرب الاستثمار في العراق، ليس فقط لصد الهيمنة الإيرانية عليه واستعادته إلى البيت العربي، وإنما أيضاً لاستعادة ثقة شعبه بالعرب شعوباً وحكومات. كما هو الحال مع التلكؤ العربي إزاء الكارثة في سوريا، التي تخضع لقوى الأمر الواقع الروسي والإيراني والأميركي والتركي.

إنّ القوى والأحزاب الطائفية، التي لها امتدادات وولاءات إيرانية، لن تستسلم بسهولة لأي تطور قد يهدد مكتسباتها ومصالحها في الهيمنة، بعد أن وفّر لها الاحتلال والمرجعيات الدينية الأطر التشريعية في الانتخابات والدستور. وقد تلجأ تلك القوى للدفاع عن مصالحها إلى تصعيد استخدام القوة ضد خصومها تحت شعارات وتبريرات مختلفة.

وفي الواقع، قبل الغزو الأميركي كان هناك صدّام واحد مستبدٌّ، اليوم هناك أكثر من صدّام، كلهم ينظرون إلى البلاد وأهلها على أنها غنيمة حرب لا مفرّ من استغلالها والتحكّم فيها والاستفادة منها. هذا ما يؤمن به الكثير من العراقيين الذين احتفلوا بسقوط نظام عزلهم عن العالم وأدخلهم في حروب وأزمات ليجدوا أنفسهم بعده مسجونين في دوامة من العنف والفوضى.

وإذا كان من المؤكد أنه ليس هناك سيادة وطنية يمكنها أن تضفي شرعية على الاستبداد، ففي المقابل ما من حرب أميركية من أجل الديمقراطية. بل لعلّنا ندق أبواب المستقبل وننهض لإطلاق خطاب عربي عصري، عناوينه في توجهاته ومضامينه وفي تجديدنا له، يحتمل دائماً التأويل والتعديل لصالح شعوبنا العربية. إنها إعادة قراءة واجبة، ليس فقط في تجديد هذا الخطاب وإنما في تجديد العقل العربي المدعو إلى خوض مغامرة المستقبل بأدوات جديدة وأفق مفتوح وحوار دائم على المصالح والأهداف والممكن والمستحيل.

 

السفير مسعود معلوف:الشعب العراقي وحده يملك الاجابة هل ان العراق بحالة أفضل مما كان عليه قبل الاجتياح..

 

 مسعود معلوف ديبلوماسي لبناني سابق التحق بالسلك الدبلوماسي اللبناني عام 1972 وشغل مناصب دبلوماسية عديدة ومنها، قنصل لبنان في لاغوس نيجيريا ، ونائب رئيس بعثة لبنان لدى جامعة الدول العربية في تونس، وبعد أن تقاعد، انتقل الى واشنطن حيث أسس مكتبا استشاريا في العلاقات الدولية يقول محدثنا في استعراضه للواقع العراقي بعد عشرين عاما على الاجتياح، يقول الدكتور مسعود معلوف أن "معظم الأميركيين يعتقدون اليوم أن نشر خبر وجود أسلحة الدمار الشامل لدى صدام حسين كان خبرا مفبركا من قبل أجهزة المخابرات لتبرير الحرب، كما أن هنالك انطباعا شبه عام بأن قرار الحرب الذي اتخذه الرئيس بوش كان قرارا خاطئا ويصفه البعض بالكارثي، لدرجة أن السيد ريتشارد آرميتاج، الذي كان نائبا لوزير الخارجية أيام الرئيس جورج بوش الأب عام 2001، اعتبر أن اجتياح العراق شكل خطأ شبيها بخطأ اجتياح هتلر للإتحاد السوفياتي عام 1941 والذي أدى الى خسارة ألمانيا الحرب." و في قراءته للواقع السياسي العراقي بعد عقدين من سقوط النظام السابق يقول معلوف ما يلي :

"تحت ذرائع البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ومعاقبة النظام العراقي لمسؤوليته في أحداث 11 سبتمبر 2001، وتحرير الشعب العراقي من استبداد حكم صدام حسين وإقامة نظام ديمقراطي، قرر الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، منذ عشرين سنة بالضبط، شن حرب على العراق بالتعاون مع بعض جيوش من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقد تم تسمية هذه الحرب "عملية تحرير العراق".

تمكنت الجيوش الغازية من اجتياح العراق والسيطرة على العاصمة بغداد وخلع الرئيس صدام حسين في ظرف أسابيع قليلة، كما تمكنت الولايات المتحدة من إقامة نظام "ديمقراطي" بديل عن نظام الرئيس المخلوع صدام حسين، الذي تم القبض عليه و "محاكمته" وإعدامه.

ومع أن الولايات المتحدة أقرت لاحقا أن لا وجود لأسلحة دمار شامل في العراق وأن العراق لم يكن له أي علاقة بأحداث 11 سبتمبر، إلا أن الجيش الأميركي بقي في العراق سنوات طويلة ولم ينسحب منها حتى العام 2011 ليعود مجددا في العام 2014.

إن الوجود الأميركي في العراق بين عامي 2003 و 2011 لم يتمكن من تحقيق الأمن والاستقرار بالرغم من محاولات خلق أجواء ديمقراطية، إذ لم تنجح السلطة الأميركية المؤقتة بإدارة بول برمر في تأمين وسائل حياة عادية للشعب العراقي بسبب سوء الإدارة التي قررت حل القوات العسكرية العراقية بالكامل وإخراج عناصر حزب البعث من الإدارة، ما أدى الى ظهور مقاومة عسكرية جدية للاحتلال، وقد نتج عن الوجود العسكري الأميركي في العراق لمدة ثماني سنوات مقتل حوالى 4،500 جندي أميركي وربما مئات آلاف المدنيين العراقيين.

في تلك الأثناء، برزت الى الوجود منظمة "القاعدة في العراق" التي قامت بعمليات تفجير انتحارية ضد أماكن عبادة شيعية وضد الجيش الأميركي المحتل، وقد وصلت البلاد إلى حالة انقسام طائفي واضح، خاصة بعد أن أدى النظام السياسي الذي فرضه الاحتلال إلى انكماش واضمحلال سلطة الطائفة السنية على حساب الطائفة الشيعية التي توسعت سلطتها في معظم أجهزة الدولة، كما أدت انتخابات عام 2005 الى إعطاء الشيعة أكثرية واضحة في المجلس النيابي، وما تبع ذلك من تعيين السيد نوري المالكي، المعروف بعلاقاته القوية مع إيران، رئيسا للوزراء.

بعد انتخاب باراك أوباما في أواخر عام 2008 رئيسا للولايات المتحدة، الذي قد كان التزم في حملته الانتخابية  سحب الجيش الأميركي من العراق، حصل اتفاق بين بغداد وواشنطن تم بنتيجته الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية على أن يتم الانسحاب الكامل في العام 2011، وهذا ما حصل بالفعل في أواخر ذلك العام حيث حل الوجود الدبلوماسي الأميركي الموسع والقوي محل الوجود العسكري في العراق.

بعد انسحاب القوات العسكرية الأميركية من العراق، عززت "الدولة الإسلامية" (داعش) التي نشأت - بعد اضمحلال قوات القاعدة - وجودها وعملياتها الإرهابية مسيطرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا في ظل ضعف الدولة العراقية وقواتها العسكرية، وهذا ما حمل الرئيس أوباما على إعادة إرسال قوات أميركية الى العراق لمحاربة داعش، وذلك بعد أن سيطرت تلك المنظمة على الموصل وفلوجة وتكريت والرمادي بسهولة كبرى.

بعد تدخل القوات الأميركية الخاصة وتنفيذ حملة قصف جوي قوية، ومع تدخل المليشيات العراقية الشيعية المتحالفة مع إيران، تم القضاء على معظم مراكز قوات داعش في شمال العراق وفي سوريا، ولم يبق من الوجود الداعشي سوى بعض البؤر التي تقوم بعمليات إرهابية متفرقة بين الحين والآخر.

بعد انقضاء عشرين سنة على هذه الحرب، ماذا يمكن استنتاجه من ملاحظات على ما أدى إليه قرار الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن؟

أولا في الولايات المتحدة:

بعد خسارة أكثر من 4،500 جندي أميركي وما يزيد عن 2 تريليون دولار، وبعد أن كان التأييد لقرار الحرب مرتفعا بنسبة عالية لدى الشعب الأميركي، هبطت كثيرا نسبة التأييد للحرب بعد سنتين من انطلاقها وخاصة بعد الإقرار بعدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق.

والآن يعتقد معظم الأميركيين أن نشر خبر وجود أسلحة الدمار الشامل لدى صدام حسين كان خبرا مفبركا من قبل أجهزة المخابرات لتبرير الحرب، كما أن هنالك انطباعا شبه عام بأن قرار الحرب الذي اتخذه الرئيس بوش كان قرارا خاطئا ويصفه البعض بالكارثي، لدرجة أن السيد ريتشارد آرميتاج، الذي كان نائبا لوزير الخارجية أيام الرئيس جورج بوش الأب عام 2001، اعتبر أن اجتياح العراق شكل خطأ شبيها بخطأ اجتياح هتلر للإتحاد السوفياتي عام 1941 والذي أدى الى خسارة ألمانيا الحرب.

من نتائج هذه الحرب أيضا خسارة الولايات المتحدة لقبول دور لها في الشرق الأوسط لدى عدد من دول المنطقة، والانطباع السائد حاليا هو أن الولايات المتحدة لم تربح حربا واحدة من الحروب التي خاضتها منذ الحرب العالمية الثانية، لا في فيتنام، ولا في أفغانستان، ولا في العراق، لدرجة أنه في الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2020، كان كل من المرشحين دونالد ترامب وجو بايدن يحاول أن يسوق لنفسه على انه في حال انتخابه، سيكون الرئيس الذي يستطيع إخراج الولايات المتحدة مما أصبح يعرف بالحروب الأميركية الدائمة.

إن قرار إرسال جنود أميركيين الى الحرب يعود للكونغرس وليس للرئيس، ومن هذا المنطلق كان الكونغرس الأميركي وافق عام 1991 للرئيس بوش الأب على القيام بحرب الخليج الأولى، كما وافق في العام 2002 للرئيس بوش الإبن على شن الحرب على العراق، والآن، يحاول الكونغرس إلغاء هذين القرارين، وقد وافق مجلس الشيوخ منذ أيام قليلة على هذا الإلغاء الذي ينتظر موافقة مجلس النواب عليه، وفي حال موافقة هذا الأخير ينبغي توقيع الرئيس بايدن عليه ليصبح نافذا، وقد أعلن بايدن موافقته المسبقة على هذا القرار، إلا أن القرار قد لا يبصر النور بسبب معارضة عدد غير قليل من النواب الجمهوريين الذين يملكون الأكثرية في مجلس النواب.

جدير بالتوضيح  هنا ان الرئيس السابق ترامب، عندما قرر إرسال فرقة عسكرية جوية لاغتيال قاسم سليماني في العراق في مطلع العام 2020، إعتمد على القانون الصادر عام 2002، ومن هذا المنطلق، في حال وافق الكونغرس على إلغاء هذا القانون، فإن أي حرب قد يعتزم الرئيس بايدن شنها مستقبلا على إيران بضغط من إسرائيل وتنفيذا لوعده بعدم السماح لإيران بتملك سلاح نووي، فإن شن مثل هذه الحرب سيتطلب قرارا جديدا من الكونغرس قد لا يحصل عليه بايدن لأن خصومه الجمهوريين يسيطرون على مجلس النواب في الكونغرس الحالي.

ثانيا في العراق:

لقد أوجدت هذه الحرب تغيرات كبرى داخل العراق، بدءا بتغيير نظام الحكم تغييرا جذريا، إذ إصبح نظاما برلمانيا، وقد حصلت خمس عمليات انتخابية منذ الإطاحة بالنظام السابق وتغيرت حكومات  عديدة.

ومرت مرحلة شهدت تقلص النفوذ السني وتعاظم النفوذ الشيعي مع وجود نفوذ قوي لإيران داخل الحكم العراقي وفي الحياة الاجتماعية، كما أن المحتل الأميركي فرض توزيعا طائفيا للمراكز الحكومية بحيث يكون لكل طائفة مراكز تناسب عدد المواطنين المنتمين لها، وهذا ما أدى إلى كثير من التعقيد في الحياة السياسية العراقية، خاصة عند تشكيل الحكومات الذي أصبح يتطلب أشهرا طويلة. كما أن الدستور الجديد الذي وضع عام 2005 ثبت الحكم الذاتي في منطقة كردستان في شمال العراق التي أصبحت في حالة شبه استقلال.

لقد مر العراق، منذ الغزو الأميركي، بحروب أهلية طائفية وبظروف قاسية جدا وبصعوبات سياسية جمة، خاصة عند تشكيل الحكومة بعد كل انتخابات، ورئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني يحاول أن يتبع قدر الإمكان سياسة توازن بين إيران والولايات المتحدة، وقد عبر مؤخرا لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي كان يزور بغداد بأن حكومته تود "تعزيز وتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة"، مشددا في الوقت نفسه  على "التزام بغداد بالحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية"، وواضح هنا أن المقصود هو إيران.

ومن أهم تجليات سياسة التوازن التي يحاول العراق اتباعها هو انفتاحه على المملكة العربية السعودية واستضافته لجولات من المفاوضات السعودية-الإيرانية في بغداد، والتي تم البناء عليها لتحقيق الوساطة الصينية التي ستؤدي الى إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين الدولتين منذ سبع سنوات.

ولا بد من التذكير أن الولايات المتحدة ما زالت لديها قوة عسكرية من حوالى 2،500 جندي لمتابعة محاربة داعش وتدريب القوات العراقية، والعراق أعرب رسميا عن رغبته ببقاء هذه القوة في العراق. وقد كان ملفتا ما عبر عنه أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي أثناء مناقشة مسألة إلغاء قرار الإذن بالحرب على العراق الصادر عام 2002، إذ قالوا أن الولايات المتحدة لها الآن "شراكة ديمقراطية مع العراق" وإن إلغاء هذا القرار يدل على الإلتزام الأميركي بسيادة العراق على أراضيه، كما أن أحد الشيوخ وصف العراق بأنه "شريك استراتيجي" للولايات المتحدة.

والآن، وبعد عشرين سنة على الاجتياح الأميركي، السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ان العراق بحالة أفضل مما كان عليه قبل الاجتياح؟ من الطبيعي أن من يستطيع الإجابة عن هذه السؤال هو الشعب العراقي وحده، ومن هذا المنطلق، قامت مؤسسة الأبحاث والدراسات "البارومتر العربي" بإجراء استقصاء لمعرفة درجة التأييد للديمقراطية في العراق، وقد تبين لهذه المؤسسة أن العراقيين كانوا مؤيدين بقوة للديمقراطية في السنوات الأولى من التغيير، ولكن بدأت تظهر شكوك واضحة لديهم تجاه هذا النظام في السنوات ما بعد عام 2013، والآن، ومع أن أغلب العراقيين ما زالوا مؤيدين للديمقراطية، إلا أنهم من أكثر شعوب المنطقة الذين لديهم شكوك بجدوى طريقة الحكم هذه.

وفي بعض تفاصيل هذا الاستقصاء الذي أجراه "البارومتر العربي"، يتبين أن حوالى 90% من العراقيين يرون أن الفساد في أجهزة الدولة قائم بشكل كبير أو متوسط، وأن هنالك أيضا نسبة تبلغ 90% من الشعب التي ترى وجود حاجة للإصلاح، نصف هؤلاء يريدون إدخال الإصلاح بصورة فورية بينما النصف الآخر يفضل أن يتم ذلك بصورة تدريجية.

في الخلاصة يمكن القول أن العراقيين إجمالا، بعد عشرين سنة على الاجتياح الأميركي والتغيير الجذري الذي فرضه الأميركيون، يفضلون الحياة في ظل النظام الديمقراطي القائم، على أن تحصل بعض الإصلاحات، خاصة لجهة محاربة الفساد وتأمين ظروف اقتصادية أفضل.

معن بشور:العراق.. من رباعية الخراب الاميركي الى رباعية الخلاص الوطني

 

معن بشور كاتب سياسي قومي عربي لبناني، وعضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي ونائب أمينه العام (2000-2003) وأمينه العام (2003-2006. وعضو قيادي في العديد من المؤسسات السياسية والإعلامية الفلسطينية، وكان أول عضو غير فلسطيني ينتخب في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في مؤتمره الثاني في تونس عام 1977.وعضو مؤسس للمؤتمر الوطني لدعم جنوب لبنان عام 1968.

يقول معن بشور مع مرور الذكرى العشرين للاجتياح الامريكي للعراق أن " مسيرات حاشدة نددت بالغزو الاميركي للعراق، ودعت لوقف الجرائم الصهيونية في فلسطين وطالبت بإنهاء الحصار الجائر على سوريا، فيما تشهد الاوضاع المالية والمصرفية زلزالاً غير  مسبوق يرافقه استنزاف متسارع للقدرات الاميركية والاوروبية في الحرب الاوكرانية التي ارادت واشنطن لها ان تكون حرب استنزاف لروسيا، تطورات تحمل في طياتها دلالات هامة، أبرزها ان الادارات الاميركية المتعاقبة التي ارادت من غزوها للعراق، وقبله لأفغانستان، ان يكون اعلاناً لهيمنتها الاحادية على العالم، تواجه تقهقراً متسارعاَ في هذا النفوذ لصالح قوى ودول كبرى لم تكن تمتلك الجرأة  على الاعتراض الفعّال على تلك الحرب العدوانية ضد العراق وأفغانستان.

 بالطبع لم يكن ممكناً لمسيرة الهيمنة الاميركية على العالم ان تتعثر  لولا أن احرار العراق امتشقوا السلاح من اليوم الاول لاحتلال بلدهم واطلقوا مقاومة بطولية اكدت لجورج بوش الابن ان "المهمة" لم تنته كما ادعى مبتهجاً من على ظهر سفينة في الاول من ماي عام 2003، بل انه كما قلت يومها في مهرجان كبير اقامته الحملة الاهلية في 17-4-2003 في قاعة الاونيسكو في بيروت اذا ظنّ بوش ان حرب الاميركيين على العراق قد انتهت باحتلاله، فان حرب العراقيين على قوات الاحتلال الاميركية قد بدأت”، بل كما قال يومها سماحة السيد حسن نصرالله في 25 أفريل من العام نفسه وفي افتتاح المؤتمر العربي العام  في بيروت “اذا ظن الاميركيون ان العراقيين سيستقبلونهم بالزهور  والرياحين فنحن نقول لهم انهم سيستقبلونهم بالقنابل والرصاص"

وهكذا تكاملت المقاومة العراقية، التي كان جيش العراق (الذي حلّه الحاكم الاميركي مع حلّ حزب البعث في اول قرارات له بعد احتلال بغداد في 9-4-2003)، الركيزة الاساسية لها، مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية ومع صمود سوريا التي يرى الكثيرون ان أحد أسباب الحرب الكونية عليها كان قراراً اميركياً  للانتقام من رئيسها وقيادتها وشعبها بسبب موقفهم الرافض للحرب على العراق ومساندتهم لمقاومته واحتضانهم لمئات الآلاف من العراقيين الذين اضطروا لمغادرة بلادهم بعد تلك الحرب.

 لقد كانت الحرب الاميركية على العراق  ضلعاً رئيسياً من “رباعية الخراب” المعتمدة اميركياً واطلسياً تجاه وطننا العربي، وهي رباعية الحصار والاحتلال والحرب والفتن الداخلية، والتي شهدنا امثلة عليها في لبنان وسورية واليمن وليبيا وقبلهم في الجزائر.

في مواجهة هذه الرباعية دعوْنا في المؤتمر القومي العربي المنعقد في صنعاء بعد أشهر على احتلال العراق الى اعتماد “رباعية الخلاص” التي تقوم على المقاومة والمراجعة والمصالحة والمشاركة، ورأينا في اعتمادها طريقاً لمجابهة كل التحديات الخارجية والداخلية التي تحيط بأمتنا.