صدرت طبعة ثانية منقّحة وموسّعة لكتاب ألّفه الشاذلي بن عمّار بعنوان: الطاهر بن عمّار (1889- 1985): كفاح رجل ومصير أمّة سنة 2021. والكتاب من الحجم الضخم إذ يتجاوز عدد صفحاته الثمانمائة، قضّى المؤلف أكثر من ثلاثين سنة في تجميع مادّته وتأليفه، ولذلك احتوى الكتاب على الكثير من الوثائق تتكوّن من صور عائليّة ورسميّة، ورسائل، ومعاهدات ولوائح وشهادات... حمل الكثير منها عنوان: مجموعة الشاذلي بن عمّار Collection Chedly Ben Ammar. يتّضح من خلال قراءة هذا الكتاب أنّ المؤلّف أراد من وراء تأليفه إعادة الاعتبار لوالده الذي انخرط في النّضال الوطني منذ 1912، وقاد أهمّ محطّات السّير بتونس نحو الاستقلال، غير أنّ الحبيب بورقيبة وأعوانه شوّهوا هذه الصّورة النّاصعة بسجن الطاهر بن عمار وزوجته، وإحالتهما على محاكمة ظالمة أنهت حياة هذا الأخير السّياسيّة، وطمست ذكره في ملحمة مقاومة الاستعمار والسّير بالبلاد إلى الاستقلال، ولعلّ هذا الطّمس المفتعل هو الذي جعل مؤلّف الكتاب يسعى إلى الرّدّ على "مغالطة كبيرة مفادها أنّ الاستقلال هو إنجاز الحزب الدّستوري الجديد وحده، أو أنّه إنجاز أبناء جهة دون غيرها، أو أنّه كسب جاء بفضل نضالات طبقة اجتماعيّة دون سواها. فالاستقلال كسب تحقّق نتيجة تضحيّات كلّ الطّبقات الاجتماعيّة ومساهمة سائر الجهات وكلّ الوطنيّين وإن اختلفت انتماءاتهم الطّبقيّة أو السّياسيّة" (ص. 27). ويعتقد الشّاذلي بن عمّار مؤلّف هذا الكتاب أنّ "ما نُشر من كتب عن تاريخ تونس الحديث وخاصّة الفترة الممتدّة من انتصاب الحماية إلى 1958، لا يوجد فيه ما أنصف الطّاهر بن عمّار ولا غيره من رجال الحركة الوطنيّة بما يليق بحجمهم ويحيط بدورهم رغم وفرة الوثائق المتاحة لهؤلاء المؤرّخين والكفيلة بتدقيق الدّقائق وكشف الحقائق. وقد نستثني من هذا الحكم بعض الأعمال الحديثة منها كتاب الأستاذ خليفة شاطر: الطاهر بن عمّار أو أطروحة الدّكتوراه المرقونة للباحث فوزي السّباعي على الرّغم من اختلافنا في الرّؤية والتّحليل والمواقف حول بعض المواقف مع هذين الكاتبين حول بعض القضايا والوقائع التّاريخيّة..." (ص. 11)، وهو هنا يقدّم قراءة جديدة لتاريخ الحركة الوطنيّة من خلال المسيرة النّضاليّة الطويلة للطاهر بن عمّار من أجل إنصاف كلّ من طمست نضالاته السّرديّة التي صنعها بورقيبة انطلاقا من توليه رئاسة الجمهوريّة في 25 جويلية 1957.
ونظرا لضخامة حجم الكتاب وإتيانه على جوانب مختلفة من حياة الطاهر بن عمّار ومختلف السّياقات التي نشط خلالها والتي تمتدّ على ما يُقارب الخمسين سنة، اخترنا التّركيز على ما قام به هذا الرّجل بمعيّة مناضلين آخرين للسّير بالبلاد نحو الاستقلال، خاصّة ونحن نحتفل بالذّكرى 67 للاستقلال.
من خلال ما ورد في كتاب الشاذلي بن عمّار، يمكن القول أنّ مسار الاستقلال انطلق منذ 1950، وقد راوح بين النّضال السّلمي عبر النّقاشات، والمفاوضات الرّسميّة والضّغط عبر حركة المقاومين المسلّحة (الفلاّقة). انطلقت المسيرة نحو الاستقلال منذ تكوّنت حكومة امحمد شنيق الثانية في أوت 1950، التي رفض الطاهر بن عمّار الانضمام إليها اعتقادا منه "أنّ الظّروف غير ملائمة ذلك أنّ فرنسا قد خرجت للتوّ من حرب وهي بصدد إعادة بناء الدّولة وليست المفاوضات مع المستعمرات مثل تونس من أولويّتها" (ص. 157). ومع ذلك تبنّت هذه الحكومة بيان الجبهة الوطنيّة الصّادر يوم 30 أكتوبر 1944، برئاسة الطاهر بن عمار المطالب "بمنح البلاد التّونسيّة الحكم الذّاتي حسب الصّبغة الدّيمقراطيّة التي سيحدّدها مجلس وطني منتخب بحريّة" (ص. 159)، والذي بعثه رئيس الحكومة شنيق إلى الحكومة الفرنسيّة يوم 31 أكتوبر 1951، غير أنّ ردّ وزير الخارجيّة الفرنسي روبار شومان يوم 15 ديسمبر 1951 كان مخيّبا للآمال. وبعد أن رفض شومان الاستجابة إلى المطالب التّونسيّة، طرح الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحرّ الدّستوري مسألة اللّجوء إلى منظّمة الأمم المتّحدة التي أثارت انشقاقا في صلب الحكومة بين معترض مثل محمّد صالح مزالي ومساند مثل صالح بن يوسف ومحمّد بدرة. فضلا على الانشقاق في صلب حكومة شنيق ارتأى "الشاذلي باي - مدير ديوان محمّد الأمين باي- أنّه لا سبيل لإقحام السّرايا في مثل هذه المسألة لأنّها من مشمولات الحكومة وحدها" (ص. 162). وأمام كل هذه الاختلافات في المواقف، استشار امحمد شنيق صديقه الطاهر بن عمّار رئيس الجبهة الوطنيّة، نصحه بضرورة التّوجّه إلى المنتظم الأممي بتقديم شكوى ضدّ الدّولة الفرنسيّة، على أن يسبق ذلك الرّدّ على رسالة شومان الرّافضة للمطالب التّونسيّة.
وكان للطّاهر بن عمّار أيضا دور كبير في تعريف الرّأي العامّ الفرنسي والدّولي، بالمجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي القمعي في الوطن القبلي بين 28 جانفي و2 فيفري 1952، وما تلا ذلك من تحرّكات في الوسط الطلابي والحركة الوطنيّة كادت أن تُؤدّي إلى إيقاف الطاهر بن عمّار وابنه خالد (انظر ص. 167- 171). غير أنّ هذا التّصعيد من قبل المقيم العامّ جان دي هوتكلوك J. de Hauteclocque لم يُثن الطّاهر بن عمّار ورفاقه من استغلال فرصة محاولة تهدئة الأجواء لاستئناف الحوار التي أبدتها حكومة إدغار فور Edgar Faure لمواصلة النّضال السّلمي عن طريق صياغة برنامج لتحقيق الاستقلال الدّاخلي، ثمّ اتصل ببورقيبة الذي كان في المنفى بطبرقة لإعلامه بفحوى البرنامج قبل تقديمه إلى الحكومة الفرنسيّة. أزعجت تحرّكات الطاهر بن عمّار على أكثر من جبهة المقيم العامّ دي هوتكلوك، فاستغلّ سقوط حكومة إدغار فور، ليحاول إفساد علاقاته بالباي وببورقيبة وامحمد شنيق، غير أنّ محاولاته مُنيت بالفشل، وهذا ما جعله يُسقط حكومة شنيق الذي تمّ نفيه صحبة ثلاثة من وزراء حكومته في قبلّي (انظر ص. 187- 189). واصل دي هوتكلوك سياسته القمعيّة تجاه التّونسيّين لفرض برنامجه الإصلاحي الذي أحاله الباي إلى مجلس الأربعين برئاسة الطاهر بن عمار الذي تمّ رفضه بعد النّقاش حوله يوم 7 سبتمبر 1952، وهو الأمر الذي بلّغه محمد الأمين باي يوم 9 سبتمبر 1952 إلى رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة.
واصلت الجبهة الوطنيّة التي يرأسها الطّاهر بن عمّار بمشاركة الصّادق المقدّم مدير الحزب الدّستوري وفرحات حشاد الكاتب العامّ للاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل في تكثيف اجتماعاتها الرّافضة لسياسة دي هوتكلوك والرّامية إلى فرض حقّ التّونسيّين في المفاوضات من أجل تحقيق الاستقلال الدّاخلي، إلى أن وصل الأمر إلى ردّ فعل منظّمة "اليد الحمراء" الإرهابيّة التي اغتالت الزّعيم النّقابي فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952، بعد أن حاولت اغتيال الطاهر بن عمّار يوم 4 ديسمبر 1952، وتصاعدت المقاومة الوطنيّة المسلّحة. وفي ظلّ هذا التّصعيد للسّياسة القمعيّة الاستعماريّة من جهة، والمقاومة السّلميّة والمسلّحة من قبل الحركة الوطنيّة من جهة ثانية، استطاع المقيم العام الجديد بيار فوازار Pierre Voizard من إقناع الباي بإقالة حكومة صلاح الدّين البكّوش وتكليف محمّد صالح مزالي بتشكيل حكومة جديدة من أجل تنفيذ برنامج فوازار- مزالي لفرض ازدواجيّة السيادة La co-souveraineté، فما كان من الطّاهر بن عمّار إلاّ التّصدّي لهذا البرنامج بتكثيف "نشاطه داخل الإيالة وفي باريس، (انظر اللائحة التي صدرت يوم 15 أفريل 1954 و المقال الذي نشرته صحيفة Le petit matin يوم 27 أفريل 1954). لم تستطع حكومة محمد صالح مزالي الصّمود أمام اشتداد مقاومتها بسبب تواطؤها مع المقيم العام والسّياسة الاستعماريّة، فسقطت يوم 29 ماي 1954.
وأمّا في الجانب الفرنسي فقد كُلّف بيار منداس فرانس Pierre Mendès-France بعد هزيمة فرنسا في ديان بيان فو، بتشكيل الحكومة الفرنسيّة التي مثّلت بداية مرحلة جديدة في العلاقات التّونسيّة - الفرنسيّة، في سياق اتّسم بتصاعد المقاومة المسلّحة في تونس من جهة، وإنشاء بيار- منداس فرانس لوزارة الشّؤون التّونسيّة والمغربيّة بفرنسا من جهة ثانية، فضلا عن تحرّكات متتالية واتّصالات داخليّة وخارجيّة لافتة للطاهر بن عمّار من أجل الدّفاع عن حقّ التّونسيّين في الاستقلال الدّاخلي يسانده في ذلك النّقابيون والدّستوريّون والمقاومة المسلّحة. أدّى هذا الإجماع على شخص الطاهر بن عمّار إلى الضغط على الباي لتعيينه رئيسا لحكومة التّفاوض الأولى (8 أوت 1954- 13 سبتمبر 1955)، أجمعت على تدعيمها كلّ القوى المقاومة للاستعمار الفرنسي بمن فيهم: الشّيوعيّون التّونسيّون (انظر ص. 297- 302). خاضت حكومة الطاهر بن عمّار الأولى بقيادته مفاوضات عسيرة مع فرنسا على ثلاث مراحل تخلّلتها الكثير من الصّعوبات. تعلّق أوّلها باشتراط الطّرف المفاوض الفرنسي نزول المقاومين من الجبال وتسليم أسلحتهم لمواصلة التّفاوض، خاصّة بعد تصاعد ضرباتهم المتلاحقة التي استهدفت المعمّرين والعسكريّين الفرنسيّين. وفي هذا الصّدد يذكر المؤلّف الشاذلي بن عمّار أنّ تنظيم عمليّة تسليم "الفلاقة" لأسلحتهم تمّ بإعداد الطاهر بن عمّار وإشرافه كما تدلّ على ذلك الوثائق والمقالات الصّحفيّة المنشورة آنذاك وتصريحات بورقيبة نفسه لجريدة لوموند Le Monde الصادرة يوم 3 أوت 1954 التي اعتبر من خلالها أنّ مهمّة "الفلاّقة" قد انتهت، وعلى هذا الأساس كلّف من مقرّ إقامته الجبريّة بمنترجيس بعض الشّخصيّات من أهل ثقته من أجل الاتّصال بهم وإبلاغهم تعليماته لتسليم أسلحتهم والنّزول من الجبال والالتحاق بذويهم. غير أنّ المقاومين لم يتقبلوا هذه التعليمات وطلب البعض منهم الاتّصال بالطّاهر بن عمّار رئيس الحكومة. أسفر اللّقاء بين الطاهر بن عمار ووفد من "الفلاقة" على عدم تسليم أسلحتهم وتكثيف عمليّات المقاومة باستهداف مخازن الذّخيرة ومهاجمة العسكريّين الفرنسيّين مع الالتزام بعدم التّعرّض للمدنيّين للضّغط على الطّرف الفرنسي حتّى يتحصّل المفاوضون التّونسيّون على تقدّم ملموس ومرضي في المفاوضات (انظر ص. 335 و336). أمّا المرحلة الثّانية من المفاوضات فقد تخلّلتها المناورات التي حاكتها السرايا بإيعاز من "روجي سيدو الذي التقى بالشاذلي باي في قصر قرطاج يوم 30 جانفي 1955، ليُعلمه أنّ الحكومة الفرنسيّة قد عرضت الاستقلال الدّاخلي دون استشارة الباي، وأنّ المفاوضات قد انطلقت مع حكومة الطّاهر بن عمّار لا مع الباي وهو ما يعني أنّ هذا الأخير لن يكون مسؤولا عن النّظام الذي سيُفرض على بلاده وشعبه، وهذا ما جعل الشّاذلي باي يقترح على روجي سيدو إقصاء الطاهر بن عمّار والحبيب بورقيبة واستبدالهما بصالح بن يوسف" (ص. 364).
• أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة تونس
بقلم: حياة عمامو(*)
صدرت طبعة ثانية منقّحة وموسّعة لكتاب ألّفه الشاذلي بن عمّار بعنوان: الطاهر بن عمّار (1889- 1985): كفاح رجل ومصير أمّة سنة 2021. والكتاب من الحجم الضخم إذ يتجاوز عدد صفحاته الثمانمائة، قضّى المؤلف أكثر من ثلاثين سنة في تجميع مادّته وتأليفه، ولذلك احتوى الكتاب على الكثير من الوثائق تتكوّن من صور عائليّة ورسميّة، ورسائل، ومعاهدات ولوائح وشهادات... حمل الكثير منها عنوان: مجموعة الشاذلي بن عمّار Collection Chedly Ben Ammar. يتّضح من خلال قراءة هذا الكتاب أنّ المؤلّف أراد من وراء تأليفه إعادة الاعتبار لوالده الذي انخرط في النّضال الوطني منذ 1912، وقاد أهمّ محطّات السّير بتونس نحو الاستقلال، غير أنّ الحبيب بورقيبة وأعوانه شوّهوا هذه الصّورة النّاصعة بسجن الطاهر بن عمار وزوجته، وإحالتهما على محاكمة ظالمة أنهت حياة هذا الأخير السّياسيّة، وطمست ذكره في ملحمة مقاومة الاستعمار والسّير بالبلاد إلى الاستقلال، ولعلّ هذا الطّمس المفتعل هو الذي جعل مؤلّف الكتاب يسعى إلى الرّدّ على "مغالطة كبيرة مفادها أنّ الاستقلال هو إنجاز الحزب الدّستوري الجديد وحده، أو أنّه إنجاز أبناء جهة دون غيرها، أو أنّه كسب جاء بفضل نضالات طبقة اجتماعيّة دون سواها. فالاستقلال كسب تحقّق نتيجة تضحيّات كلّ الطّبقات الاجتماعيّة ومساهمة سائر الجهات وكلّ الوطنيّين وإن اختلفت انتماءاتهم الطّبقيّة أو السّياسيّة" (ص. 27). ويعتقد الشّاذلي بن عمّار مؤلّف هذا الكتاب أنّ "ما نُشر من كتب عن تاريخ تونس الحديث وخاصّة الفترة الممتدّة من انتصاب الحماية إلى 1958، لا يوجد فيه ما أنصف الطّاهر بن عمّار ولا غيره من رجال الحركة الوطنيّة بما يليق بحجمهم ويحيط بدورهم رغم وفرة الوثائق المتاحة لهؤلاء المؤرّخين والكفيلة بتدقيق الدّقائق وكشف الحقائق. وقد نستثني من هذا الحكم بعض الأعمال الحديثة منها كتاب الأستاذ خليفة شاطر: الطاهر بن عمّار أو أطروحة الدّكتوراه المرقونة للباحث فوزي السّباعي على الرّغم من اختلافنا في الرّؤية والتّحليل والمواقف حول بعض المواقف مع هذين الكاتبين حول بعض القضايا والوقائع التّاريخيّة..." (ص. 11)، وهو هنا يقدّم قراءة جديدة لتاريخ الحركة الوطنيّة من خلال المسيرة النّضاليّة الطويلة للطاهر بن عمّار من أجل إنصاف كلّ من طمست نضالاته السّرديّة التي صنعها بورقيبة انطلاقا من توليه رئاسة الجمهوريّة في 25 جويلية 1957.
ونظرا لضخامة حجم الكتاب وإتيانه على جوانب مختلفة من حياة الطاهر بن عمّار ومختلف السّياقات التي نشط خلالها والتي تمتدّ على ما يُقارب الخمسين سنة، اخترنا التّركيز على ما قام به هذا الرّجل بمعيّة مناضلين آخرين للسّير بالبلاد نحو الاستقلال، خاصّة ونحن نحتفل بالذّكرى 67 للاستقلال.
من خلال ما ورد في كتاب الشاذلي بن عمّار، يمكن القول أنّ مسار الاستقلال انطلق منذ 1950، وقد راوح بين النّضال السّلمي عبر النّقاشات، والمفاوضات الرّسميّة والضّغط عبر حركة المقاومين المسلّحة (الفلاّقة). انطلقت المسيرة نحو الاستقلال منذ تكوّنت حكومة امحمد شنيق الثانية في أوت 1950، التي رفض الطاهر بن عمّار الانضمام إليها اعتقادا منه "أنّ الظّروف غير ملائمة ذلك أنّ فرنسا قد خرجت للتوّ من حرب وهي بصدد إعادة بناء الدّولة وليست المفاوضات مع المستعمرات مثل تونس من أولويّتها" (ص. 157). ومع ذلك تبنّت هذه الحكومة بيان الجبهة الوطنيّة الصّادر يوم 30 أكتوبر 1944، برئاسة الطاهر بن عمار المطالب "بمنح البلاد التّونسيّة الحكم الذّاتي حسب الصّبغة الدّيمقراطيّة التي سيحدّدها مجلس وطني منتخب بحريّة" (ص. 159)، والذي بعثه رئيس الحكومة شنيق إلى الحكومة الفرنسيّة يوم 31 أكتوبر 1951، غير أنّ ردّ وزير الخارجيّة الفرنسي روبار شومان يوم 15 ديسمبر 1951 كان مخيّبا للآمال. وبعد أن رفض شومان الاستجابة إلى المطالب التّونسيّة، طرح الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحرّ الدّستوري مسألة اللّجوء إلى منظّمة الأمم المتّحدة التي أثارت انشقاقا في صلب الحكومة بين معترض مثل محمّد صالح مزالي ومساند مثل صالح بن يوسف ومحمّد بدرة. فضلا على الانشقاق في صلب حكومة شنيق ارتأى "الشاذلي باي - مدير ديوان محمّد الأمين باي- أنّه لا سبيل لإقحام السّرايا في مثل هذه المسألة لأنّها من مشمولات الحكومة وحدها" (ص. 162). وأمام كل هذه الاختلافات في المواقف، استشار امحمد شنيق صديقه الطاهر بن عمّار رئيس الجبهة الوطنيّة، نصحه بضرورة التّوجّه إلى المنتظم الأممي بتقديم شكوى ضدّ الدّولة الفرنسيّة، على أن يسبق ذلك الرّدّ على رسالة شومان الرّافضة للمطالب التّونسيّة.
وكان للطّاهر بن عمّار أيضا دور كبير في تعريف الرّأي العامّ الفرنسي والدّولي، بالمجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي القمعي في الوطن القبلي بين 28 جانفي و2 فيفري 1952، وما تلا ذلك من تحرّكات في الوسط الطلابي والحركة الوطنيّة كادت أن تُؤدّي إلى إيقاف الطاهر بن عمّار وابنه خالد (انظر ص. 167- 171). غير أنّ هذا التّصعيد من قبل المقيم العامّ جان دي هوتكلوك J. de Hauteclocque لم يُثن الطّاهر بن عمّار ورفاقه من استغلال فرصة محاولة تهدئة الأجواء لاستئناف الحوار التي أبدتها حكومة إدغار فور Edgar Faure لمواصلة النّضال السّلمي عن طريق صياغة برنامج لتحقيق الاستقلال الدّاخلي، ثمّ اتصل ببورقيبة الذي كان في المنفى بطبرقة لإعلامه بفحوى البرنامج قبل تقديمه إلى الحكومة الفرنسيّة. أزعجت تحرّكات الطاهر بن عمّار على أكثر من جبهة المقيم العامّ دي هوتكلوك، فاستغلّ سقوط حكومة إدغار فور، ليحاول إفساد علاقاته بالباي وببورقيبة وامحمد شنيق، غير أنّ محاولاته مُنيت بالفشل، وهذا ما جعله يُسقط حكومة شنيق الذي تمّ نفيه صحبة ثلاثة من وزراء حكومته في قبلّي (انظر ص. 187- 189). واصل دي هوتكلوك سياسته القمعيّة تجاه التّونسيّين لفرض برنامجه الإصلاحي الذي أحاله الباي إلى مجلس الأربعين برئاسة الطاهر بن عمار الذي تمّ رفضه بعد النّقاش حوله يوم 7 سبتمبر 1952، وهو الأمر الذي بلّغه محمد الأمين باي يوم 9 سبتمبر 1952 إلى رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة.
واصلت الجبهة الوطنيّة التي يرأسها الطّاهر بن عمّار بمشاركة الصّادق المقدّم مدير الحزب الدّستوري وفرحات حشاد الكاتب العامّ للاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل في تكثيف اجتماعاتها الرّافضة لسياسة دي هوتكلوك والرّامية إلى فرض حقّ التّونسيّين في المفاوضات من أجل تحقيق الاستقلال الدّاخلي، إلى أن وصل الأمر إلى ردّ فعل منظّمة "اليد الحمراء" الإرهابيّة التي اغتالت الزّعيم النّقابي فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952، بعد أن حاولت اغتيال الطاهر بن عمّار يوم 4 ديسمبر 1952، وتصاعدت المقاومة الوطنيّة المسلّحة. وفي ظلّ هذا التّصعيد للسّياسة القمعيّة الاستعماريّة من جهة، والمقاومة السّلميّة والمسلّحة من قبل الحركة الوطنيّة من جهة ثانية، استطاع المقيم العام الجديد بيار فوازار Pierre Voizard من إقناع الباي بإقالة حكومة صلاح الدّين البكّوش وتكليف محمّد صالح مزالي بتشكيل حكومة جديدة من أجل تنفيذ برنامج فوازار- مزالي لفرض ازدواجيّة السيادة La co-souveraineté، فما كان من الطّاهر بن عمّار إلاّ التّصدّي لهذا البرنامج بتكثيف "نشاطه داخل الإيالة وفي باريس، (انظر اللائحة التي صدرت يوم 15 أفريل 1954 و المقال الذي نشرته صحيفة Le petit matin يوم 27 أفريل 1954). لم تستطع حكومة محمد صالح مزالي الصّمود أمام اشتداد مقاومتها بسبب تواطؤها مع المقيم العام والسّياسة الاستعماريّة، فسقطت يوم 29 ماي 1954.
وأمّا في الجانب الفرنسي فقد كُلّف بيار منداس فرانس Pierre Mendès-France بعد هزيمة فرنسا في ديان بيان فو، بتشكيل الحكومة الفرنسيّة التي مثّلت بداية مرحلة جديدة في العلاقات التّونسيّة - الفرنسيّة، في سياق اتّسم بتصاعد المقاومة المسلّحة في تونس من جهة، وإنشاء بيار- منداس فرانس لوزارة الشّؤون التّونسيّة والمغربيّة بفرنسا من جهة ثانية، فضلا عن تحرّكات متتالية واتّصالات داخليّة وخارجيّة لافتة للطاهر بن عمّار من أجل الدّفاع عن حقّ التّونسيّين في الاستقلال الدّاخلي يسانده في ذلك النّقابيون والدّستوريّون والمقاومة المسلّحة. أدّى هذا الإجماع على شخص الطاهر بن عمّار إلى الضغط على الباي لتعيينه رئيسا لحكومة التّفاوض الأولى (8 أوت 1954- 13 سبتمبر 1955)، أجمعت على تدعيمها كلّ القوى المقاومة للاستعمار الفرنسي بمن فيهم: الشّيوعيّون التّونسيّون (انظر ص. 297- 302). خاضت حكومة الطاهر بن عمّار الأولى بقيادته مفاوضات عسيرة مع فرنسا على ثلاث مراحل تخلّلتها الكثير من الصّعوبات. تعلّق أوّلها باشتراط الطّرف المفاوض الفرنسي نزول المقاومين من الجبال وتسليم أسلحتهم لمواصلة التّفاوض، خاصّة بعد تصاعد ضرباتهم المتلاحقة التي استهدفت المعمّرين والعسكريّين الفرنسيّين. وفي هذا الصّدد يذكر المؤلّف الشاذلي بن عمّار أنّ تنظيم عمليّة تسليم "الفلاقة" لأسلحتهم تمّ بإعداد الطاهر بن عمّار وإشرافه كما تدلّ على ذلك الوثائق والمقالات الصّحفيّة المنشورة آنذاك وتصريحات بورقيبة نفسه لجريدة لوموند Le Monde الصادرة يوم 3 أوت 1954 التي اعتبر من خلالها أنّ مهمّة "الفلاّقة" قد انتهت، وعلى هذا الأساس كلّف من مقرّ إقامته الجبريّة بمنترجيس بعض الشّخصيّات من أهل ثقته من أجل الاتّصال بهم وإبلاغهم تعليماته لتسليم أسلحتهم والنّزول من الجبال والالتحاق بذويهم. غير أنّ المقاومين لم يتقبلوا هذه التعليمات وطلب البعض منهم الاتّصال بالطّاهر بن عمّار رئيس الحكومة. أسفر اللّقاء بين الطاهر بن عمار ووفد من "الفلاقة" على عدم تسليم أسلحتهم وتكثيف عمليّات المقاومة باستهداف مخازن الذّخيرة ومهاجمة العسكريّين الفرنسيّين مع الالتزام بعدم التّعرّض للمدنيّين للضّغط على الطّرف الفرنسي حتّى يتحصّل المفاوضون التّونسيّون على تقدّم ملموس ومرضي في المفاوضات (انظر ص. 335 و336). أمّا المرحلة الثّانية من المفاوضات فقد تخلّلتها المناورات التي حاكتها السرايا بإيعاز من "روجي سيدو الذي التقى بالشاذلي باي في قصر قرطاج يوم 30 جانفي 1955، ليُعلمه أنّ الحكومة الفرنسيّة قد عرضت الاستقلال الدّاخلي دون استشارة الباي، وأنّ المفاوضات قد انطلقت مع حكومة الطّاهر بن عمّار لا مع الباي وهو ما يعني أنّ هذا الأخير لن يكون مسؤولا عن النّظام الذي سيُفرض على بلاده وشعبه، وهذا ما جعل الشّاذلي باي يقترح على روجي سيدو إقصاء الطاهر بن عمّار والحبيب بورقيبة واستبدالهما بصالح بن يوسف" (ص. 364).