وسط ضجيج هطول المطر وضوء البرق المتواصل نشأت حوارات درامية ثنائية وجماعية تارة تتعالى وتحتد وتارة بالكاد تفقه الكلام.. كلام خافت وهمسات جسدت خليطا من المشاعر والأفكار الباطنة والصراعات النفسية.. كل ذلك وُظف على خشبة المسرح بقاعة الفن الرابع بالعاصمة امس في عرض "كاليغولا2" لفاضل الجزيري إنتاج المسرح الوطني التونسي والفيلم الجديد..
وليس من الغريب أو من باب المغامرة أن يعتمد الجزيري صاحب "ثورة صاحب الحمار" وغيرها من الأعمال المرجعية نصا معمقا للكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبار كامو مثل "كاليغولا" الذي وإن تبناه الكثير من المبدعين في مجال الفن الرابع في أعمالهم لتكون قريبة من النص الاصلي حد الاقتباس الكلي، فإن فاضل الجزيري تخلص من أبجديات المسرح الارسطي من حيث الديكور واقتران الحوار بالنص الأول على عكس ما فعله الكثيرون على غرار علي بن عياد في الستينات في دور "كاليغولا" الإمبراطور الروماني الطاغية.
في "كاليغولا2" تحرر الجزيري من كل القيود وطوع النص الأصلي وفق فلسفته ورؤيته الخاصة للقضايا الوجودية والمصيرية والتي غالبا ما تخامر-بدورها- ذهن "التونسي" كما الإنسان عامة.. إشارات الجزيري في "كاليغولا2" كانت ذكية ومعمقة من حيث الطرح خاصة فيما يتعلق بالمجتمع التونسي اليوم والجدل القائم -من حين إلى آخر- حول موضوع الحريات الفردية والمساواة في الإرث أو القضية الفلسطينية.. هناك أيضا تطرق الى مسألة الإرادة الفردية والجماعية غايتها الوحيدة الانعتاق من كل ظواهر الاستبداد والتضييقات مهما كانت درجة فرضها.
"كما تناولت كاليغولا2" -بلا قيود- ماهية الحب من خلال الحوارات الثنائية لتطرح الكثير من التساؤلات غير المباشرة مثل: كيف لنا أن نرسم حدود الحب؟ هل من ضوابط تحكمه؟ ثم ماذا عن الأخلاقيات التي تمثل عقبة أمام انجراف عواطفنا اللامحدودة؟ كل تلك المفاهيم والرؤى الإبداعية المعقدة جسدها على الخشبة كل من خديجة بكوش وزينب الهنشيري ومريم بن يوسف وأديب حمدي وعبد الحميد نوارة ومحمد بركاتي وسليم الذيب.. فريق شاب كان متجانسا رغم صعوبة التعامل مع المسرح التجريبي وعدم تقيد صاحب العمل بسرد واضح المعالم على مستوى النص.
ودون شك كان لحضور الممثل والمخرج المسرحي محمد كوكة صاحب تجربة نصف قرن في المسرح إضافة كبيرة على مستوى تماسك الفريق وانسجامه لدرجة أنك لا تستطيع تخيل "كاليغولا2" دون حضوره وتقمص ذلك الرجل الحكيم... وإن كان بالإمكان أحسن مما كان من حيث الأداء باعتبار قيمة التجربة المسرحية في مثل هكذا أدوار، فقد انساب الممثلون على الخشبة متماهين مع ديكور بسيط ومع أجساد شبه عارية بفضاء "حمام" غلب عليه اللون الأبيض رمز الطهر والذي سرعان ما تحول الى ساحة قتل نتيجة الغطرسة وحب التملك.. وكأن الجزيري اراد ان يؤكد أن النصوص المسرحية-وهو من باب توجهاته- يجب أن تحمل معاني فلسفية تتعلق في "كاليغولا2" بمفهوم الحرية والصراع مع السلطة..السلطة ليس باقترانها بمفهوم السلطة فحسب ولكن من حيث علاقتها بالتدافع الاجتماعي ورجال الدين والرأسماليين.. رسائل ربما جعلت الجزيري لا يتقيد بشخصيات واضحة في المسرحية كأنه يشير إلى مرحلة العبث واللامعنى.. علما وان "كاليغولا2" لم تكن مختلفة عن سابقي أعماله نذكر منها على سبيل المثال "ثلاثون" والتي بدت في الكثير من المشاهد كأنها فيلم سينمائي، لا سيما أن الجزيري يعتبر الصورة وتوظيفها ركنا أساسيا في العمل المسرحي..
هكذا إذن يؤكد مرة أخرى الفاضل الجزيري رغم غيابه من حين إلى آخر أن المسرح يجب أن يتقد نبضه بالصور الإبداعية والخلق والفلسفة وإما فلا..
وليد عبداللاوي
تونس-الصباح
وسط ضجيج هطول المطر وضوء البرق المتواصل نشأت حوارات درامية ثنائية وجماعية تارة تتعالى وتحتد وتارة بالكاد تفقه الكلام.. كلام خافت وهمسات جسدت خليطا من المشاعر والأفكار الباطنة والصراعات النفسية.. كل ذلك وُظف على خشبة المسرح بقاعة الفن الرابع بالعاصمة امس في عرض "كاليغولا2" لفاضل الجزيري إنتاج المسرح الوطني التونسي والفيلم الجديد..
وليس من الغريب أو من باب المغامرة أن يعتمد الجزيري صاحب "ثورة صاحب الحمار" وغيرها من الأعمال المرجعية نصا معمقا للكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبار كامو مثل "كاليغولا" الذي وإن تبناه الكثير من المبدعين في مجال الفن الرابع في أعمالهم لتكون قريبة من النص الاصلي حد الاقتباس الكلي، فإن فاضل الجزيري تخلص من أبجديات المسرح الارسطي من حيث الديكور واقتران الحوار بالنص الأول على عكس ما فعله الكثيرون على غرار علي بن عياد في الستينات في دور "كاليغولا" الإمبراطور الروماني الطاغية.
في "كاليغولا2" تحرر الجزيري من كل القيود وطوع النص الأصلي وفق فلسفته ورؤيته الخاصة للقضايا الوجودية والمصيرية والتي غالبا ما تخامر-بدورها- ذهن "التونسي" كما الإنسان عامة.. إشارات الجزيري في "كاليغولا2" كانت ذكية ومعمقة من حيث الطرح خاصة فيما يتعلق بالمجتمع التونسي اليوم والجدل القائم -من حين إلى آخر- حول موضوع الحريات الفردية والمساواة في الإرث أو القضية الفلسطينية.. هناك أيضا تطرق الى مسألة الإرادة الفردية والجماعية غايتها الوحيدة الانعتاق من كل ظواهر الاستبداد والتضييقات مهما كانت درجة فرضها.
"كما تناولت كاليغولا2" -بلا قيود- ماهية الحب من خلال الحوارات الثنائية لتطرح الكثير من التساؤلات غير المباشرة مثل: كيف لنا أن نرسم حدود الحب؟ هل من ضوابط تحكمه؟ ثم ماذا عن الأخلاقيات التي تمثل عقبة أمام انجراف عواطفنا اللامحدودة؟ كل تلك المفاهيم والرؤى الإبداعية المعقدة جسدها على الخشبة كل من خديجة بكوش وزينب الهنشيري ومريم بن يوسف وأديب حمدي وعبد الحميد نوارة ومحمد بركاتي وسليم الذيب.. فريق شاب كان متجانسا رغم صعوبة التعامل مع المسرح التجريبي وعدم تقيد صاحب العمل بسرد واضح المعالم على مستوى النص.
ودون شك كان لحضور الممثل والمخرج المسرحي محمد كوكة صاحب تجربة نصف قرن في المسرح إضافة كبيرة على مستوى تماسك الفريق وانسجامه لدرجة أنك لا تستطيع تخيل "كاليغولا2" دون حضوره وتقمص ذلك الرجل الحكيم... وإن كان بالإمكان أحسن مما كان من حيث الأداء باعتبار قيمة التجربة المسرحية في مثل هكذا أدوار، فقد انساب الممثلون على الخشبة متماهين مع ديكور بسيط ومع أجساد شبه عارية بفضاء "حمام" غلب عليه اللون الأبيض رمز الطهر والذي سرعان ما تحول الى ساحة قتل نتيجة الغطرسة وحب التملك.. وكأن الجزيري اراد ان يؤكد أن النصوص المسرحية-وهو من باب توجهاته- يجب أن تحمل معاني فلسفية تتعلق في "كاليغولا2" بمفهوم الحرية والصراع مع السلطة..السلطة ليس باقترانها بمفهوم السلطة فحسب ولكن من حيث علاقتها بالتدافع الاجتماعي ورجال الدين والرأسماليين.. رسائل ربما جعلت الجزيري لا يتقيد بشخصيات واضحة في المسرحية كأنه يشير إلى مرحلة العبث واللامعنى.. علما وان "كاليغولا2" لم تكن مختلفة عن سابقي أعماله نذكر منها على سبيل المثال "ثلاثون" والتي بدت في الكثير من المشاهد كأنها فيلم سينمائي، لا سيما أن الجزيري يعتبر الصورة وتوظيفها ركنا أساسيا في العمل المسرحي..
هكذا إذن يؤكد مرة أخرى الفاضل الجزيري رغم غيابه من حين إلى آخر أن المسرح يجب أن يتقد نبضه بالصور الإبداعية والخلق والفلسفة وإما فلا..