إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الاحتكار والتخزين والمخزون الاستراتيجي | مفاهيمها وواقعها في تونس وتأثيراتها على المواطن (1/2)

 
بقلم:د.ريم بالخذيري(*)
* المفزع هو نفاد المخزون الاستراتيجي في عدد من المواد خاصة الغذائية
من المتعارف عليه أن السوّق تعدّ أقدم تجمّع بشري سبقت التجمعات السكّانية حيث كان يمثّل مكان التقاء للمقايضة بالسلع ثم فضاء للبيع والشراء بعد استحداث العملة، ليتطوّر مفهوم السوق عبر الزمن لكنه بقي محافظا على أركانه الثلاثة التي تحرّكه وهي التخزين والاحتكار والمخزون الاستراتيجي والتي تخضع جميعها عادة لقاعدة وأحكام العرض و الطلب .
ولئن أباحت التشريعات الإنسانية المختلفة للدول اعتماد سياسة المخزون الاستراتيجي وأباحت التخزين للمنتجين فإنها جرّمت الاحتكار .وعن الاحتكار والتخزين والمخزون الاستراتيجي في المفهوم العام وعن حضور المفاهيم في السوق التونسية ومدى تأثّره بها سنتحدّث.
المخزون الاستراتيجي
ويعرف بالفرنسية بـstocks stratégique وهو نوع من أنواع التخزين الطويل الأمد (لمدة عام وأكثر) ويكون لحفظ قدر أو كميات من السلع بغرض التحسب لتقلبات الأوضاع البيئية أو السياسية أو الطبيعية أو لطبيعة تقلبات السوق. وهذا المخزون تحتكره الدولة وتراقبه وهو يهمّ القطاعات الحيوية للمواطنين كالغذاء والأدوية والطاقة والعملة الصعبة .
ويحسب المخزون الاستراتيجي الطبيعي والمطمئن حينما يبلغ ثلث الاستهلاك المحلي السنوي، والغاية من ذلك إيجاد الوقت الكافي والأموال الضرورية للتعاقد على استيراد تلك السلع وضمان تغطية الاستهلاك المحلي لحين وصول القدر المتعاقد على استيراده.
وكذلك من المهمّ أنه لكل قطاع من القطاعات المعنية بهذا المخزون لها قوانينها التي تحكمها وتحدّد مستواها وتعمل على ضمانة ما يعني أنّ المخزون الاستراتيجي للدولة هو في الواقع مخازن تشمل كل ما يستهلكه المستهلك من كل السّلع سواء المستوردة أو المنتجة محلّيا .
في تونس المخزون الاستراتيجي تشرف عليه أكثر من وزارة فكل ما اتصل بالغذاء هو من اختصاص وزارة التجارة، وما يشمل الصحة موكول لوزارة الصحة أمّا المخزون الاستراتيجي من الطاقة فبيد وزارة الصناعة .
ولسنوات غير بعيدة كان المخزون الاستراتيجي للدولة التونسية مطمئنا ومتوافقا مع المعايير الدولية حيث أنه يغطّي ثلث احتياجات المواطنين سنويا حيث كان الاكتفاء الذاتي موجودا في سلع مثل الحليب والبيض واللحوم الحمراء والبيضاء.كما كان المخزون الاستراتيجي من السلع المستوردة كالشاي والقهوة والسكر والزيت النباتي والقمح يفي لفترة تتراوح بين 3و6 أشهر .
أمّا المخزون الاستراتيجي من الطاقة فكان متوازنا إلى حدّ ما وغير متأثر بأسعار النفط العالمية فهو عبارة عن عقود بمفعول رجعي فضلا على لعب الشركة التونسية للأنشطة البترولية دورا محوريا في ضمان هذا المخزون.
كما أن مخزون البنك المركزي من العملة الصعبة كان لا يقل عن 150يوم توريد ليتأرجح بعدها بين 45و84 يوما. لكنّه عاد الى الارتفاع مجددا منذ 2020 حيث بلغ 150يوما ليعاود الانحدار في سنة 2022 فكان في حدود 132 يوما. لكنّه يبقى رقما مهمّا مقارنة بشهر فيفري هذه السنة الذي سجل 96يوما فقط.
غير أنّ هذا المخزون الاستراتيجي بدأ في التراجع بشكل ملفت منذ سنة 2011 وبعد أن كان يغطيّ ثلث الاستهلاك السنوي أو أكثر لم يعد يغطّي سوى بضعة أيام وهو ما نتج عنه أزمات تزوّد حادة من المواد الأساسية والطاقة وحتى الأدوية ويرجع السبب في ذلك للأزمة العالمية حيث تراجع هذا المخزون عند عدد كبير من الدول بما فيها تلك التي نستورد منها. وكذلك يرجع السبب لشحّ العملة الصعبة وغلاء الأسعار في الأسواق العالمية.
لكن المفزع نفاد المخزون الاستراتيجي في عدد من المواد خاصة الغذائية منها وهي التي كانت تحقّق لنا الاكتفاء الذاتي. فالمخزون الاستراتيجي من الحليب صفر حيث يبلغ إنتاج الحليب اليوم مليون و300 ألف لتر يوميا، في حين أن الاستهلاك يصل إلى مليون و800 ألف لتر يوميا، أي بنقص بحوالي 500 ألف لتر.
وقبل 3 أسابيع من حلول شهر رمضان الذي يتضاعف فيه الاستهلاك ويقع فيه اللجوء عادة إلى المخزون الاستراتيجي، يشهد قطاع الدواجن أيضا إفلاسا حيث لم يقع تخزين سوى 3 ملايين بيضة، رغم أن معدل استهلاك البيض خلال شهر رمضان يناهز 150 مليون بيضة والحد الأدنى هو تخزين ما بين 25 و30 مليون بيضة .
كما أن عديد المواد الأساسية الفلاحية على غرار البطاطا والبصل، تلامس الصفر في مخزونها الاستراتيجي وذلك راجع أساسا للتغيرات المناخية وانحباس الأمطار.
كما أنّ الأزمة المالية التي تعيشها بلادنا منذ جائحة كورونا جعل المورّدين التابعين للدولة، في عديد الأحيان، عاجزين عن خلاص المزودين الأجانب، مما خلق أزمة نقص في بعض المواد الأساسية في الأسواق التونسية في فترات متواترة على غرار الزيت النباتي، الحليب، السكر، الفارينة، الدقيق، المحروقات، وغيرها من المواد التي تُفقد من الأسواق من فترة إلى أخرى. وهذا امتصّ ما تبقّى من المخزون الاستراتيجي للدولة، وهذه عوامل تغذّي الاحتكار وتساهم في غلاء الأسعار.
*رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار والتوقّي من الجريمة الاقتصادية
 
 
  الاحتكار والتخزين والمخزون الاستراتيجي  | مفاهيمها وواقعها في تونس وتأثيراتها على المواطن (1/2)
 
بقلم:د.ريم بالخذيري(*)
* المفزع هو نفاد المخزون الاستراتيجي في عدد من المواد خاصة الغذائية
من المتعارف عليه أن السوّق تعدّ أقدم تجمّع بشري سبقت التجمعات السكّانية حيث كان يمثّل مكان التقاء للمقايضة بالسلع ثم فضاء للبيع والشراء بعد استحداث العملة، ليتطوّر مفهوم السوق عبر الزمن لكنه بقي محافظا على أركانه الثلاثة التي تحرّكه وهي التخزين والاحتكار والمخزون الاستراتيجي والتي تخضع جميعها عادة لقاعدة وأحكام العرض و الطلب .
ولئن أباحت التشريعات الإنسانية المختلفة للدول اعتماد سياسة المخزون الاستراتيجي وأباحت التخزين للمنتجين فإنها جرّمت الاحتكار .وعن الاحتكار والتخزين والمخزون الاستراتيجي في المفهوم العام وعن حضور المفاهيم في السوق التونسية ومدى تأثّره بها سنتحدّث.
المخزون الاستراتيجي
ويعرف بالفرنسية بـstocks stratégique وهو نوع من أنواع التخزين الطويل الأمد (لمدة عام وأكثر) ويكون لحفظ قدر أو كميات من السلع بغرض التحسب لتقلبات الأوضاع البيئية أو السياسية أو الطبيعية أو لطبيعة تقلبات السوق. وهذا المخزون تحتكره الدولة وتراقبه وهو يهمّ القطاعات الحيوية للمواطنين كالغذاء والأدوية والطاقة والعملة الصعبة .
ويحسب المخزون الاستراتيجي الطبيعي والمطمئن حينما يبلغ ثلث الاستهلاك المحلي السنوي، والغاية من ذلك إيجاد الوقت الكافي والأموال الضرورية للتعاقد على استيراد تلك السلع وضمان تغطية الاستهلاك المحلي لحين وصول القدر المتعاقد على استيراده.
وكذلك من المهمّ أنه لكل قطاع من القطاعات المعنية بهذا المخزون لها قوانينها التي تحكمها وتحدّد مستواها وتعمل على ضمانة ما يعني أنّ المخزون الاستراتيجي للدولة هو في الواقع مخازن تشمل كل ما يستهلكه المستهلك من كل السّلع سواء المستوردة أو المنتجة محلّيا .
في تونس المخزون الاستراتيجي تشرف عليه أكثر من وزارة فكل ما اتصل بالغذاء هو من اختصاص وزارة التجارة، وما يشمل الصحة موكول لوزارة الصحة أمّا المخزون الاستراتيجي من الطاقة فبيد وزارة الصناعة .
ولسنوات غير بعيدة كان المخزون الاستراتيجي للدولة التونسية مطمئنا ومتوافقا مع المعايير الدولية حيث أنه يغطّي ثلث احتياجات المواطنين سنويا حيث كان الاكتفاء الذاتي موجودا في سلع مثل الحليب والبيض واللحوم الحمراء والبيضاء.كما كان المخزون الاستراتيجي من السلع المستوردة كالشاي والقهوة والسكر والزيت النباتي والقمح يفي لفترة تتراوح بين 3و6 أشهر .
أمّا المخزون الاستراتيجي من الطاقة فكان متوازنا إلى حدّ ما وغير متأثر بأسعار النفط العالمية فهو عبارة عن عقود بمفعول رجعي فضلا على لعب الشركة التونسية للأنشطة البترولية دورا محوريا في ضمان هذا المخزون.
كما أن مخزون البنك المركزي من العملة الصعبة كان لا يقل عن 150يوم توريد ليتأرجح بعدها بين 45و84 يوما. لكنّه عاد الى الارتفاع مجددا منذ 2020 حيث بلغ 150يوما ليعاود الانحدار في سنة 2022 فكان في حدود 132 يوما. لكنّه يبقى رقما مهمّا مقارنة بشهر فيفري هذه السنة الذي سجل 96يوما فقط.
غير أنّ هذا المخزون الاستراتيجي بدأ في التراجع بشكل ملفت منذ سنة 2011 وبعد أن كان يغطيّ ثلث الاستهلاك السنوي أو أكثر لم يعد يغطّي سوى بضعة أيام وهو ما نتج عنه أزمات تزوّد حادة من المواد الأساسية والطاقة وحتى الأدوية ويرجع السبب في ذلك للأزمة العالمية حيث تراجع هذا المخزون عند عدد كبير من الدول بما فيها تلك التي نستورد منها. وكذلك يرجع السبب لشحّ العملة الصعبة وغلاء الأسعار في الأسواق العالمية.
لكن المفزع نفاد المخزون الاستراتيجي في عدد من المواد خاصة الغذائية منها وهي التي كانت تحقّق لنا الاكتفاء الذاتي. فالمخزون الاستراتيجي من الحليب صفر حيث يبلغ إنتاج الحليب اليوم مليون و300 ألف لتر يوميا، في حين أن الاستهلاك يصل إلى مليون و800 ألف لتر يوميا، أي بنقص بحوالي 500 ألف لتر.
وقبل 3 أسابيع من حلول شهر رمضان الذي يتضاعف فيه الاستهلاك ويقع فيه اللجوء عادة إلى المخزون الاستراتيجي، يشهد قطاع الدواجن أيضا إفلاسا حيث لم يقع تخزين سوى 3 ملايين بيضة، رغم أن معدل استهلاك البيض خلال شهر رمضان يناهز 150 مليون بيضة والحد الأدنى هو تخزين ما بين 25 و30 مليون بيضة .
كما أن عديد المواد الأساسية الفلاحية على غرار البطاطا والبصل، تلامس الصفر في مخزونها الاستراتيجي وذلك راجع أساسا للتغيرات المناخية وانحباس الأمطار.
كما أنّ الأزمة المالية التي تعيشها بلادنا منذ جائحة كورونا جعل المورّدين التابعين للدولة، في عديد الأحيان، عاجزين عن خلاص المزودين الأجانب، مما خلق أزمة نقص في بعض المواد الأساسية في الأسواق التونسية في فترات متواترة على غرار الزيت النباتي، الحليب، السكر، الفارينة، الدقيق، المحروقات، وغيرها من المواد التي تُفقد من الأسواق من فترة إلى أخرى. وهذا امتصّ ما تبقّى من المخزون الاستراتيجي للدولة، وهذه عوامل تغذّي الاحتكار وتساهم في غلاء الأسعار.
*رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار والتوقّي من الجريمة الاقتصادية