إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بعد زيارة "ماكرون" الأخيرة لعدد من دول القارة وإعلانه نهاية عصر فرنسا-إفريقيا | باريس والقارة السمراء: استراتيجيا جديدة أم تكتيك مرحلي للتموقع ضمن التدافع الثاني؟

 
بقلم:علي اللافي (*)
*لا يمكن لباريس تغييب معطى رئيسي وهو أن القوة العاملة الكبيرة في أفريقيا المزودة بالمهارات اللازمة يمكن أن تؤهلها لوظائف القرن الحادي والعشرين وما بعده
أعلن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"وسط الخميس الماضي (02 مارس الجاري) في "ليبرفيل" عن انتهاء عصر فرنسا – أفريقيا، مشدّداً على أنّ باريس صارت "محاورا محايدا" في القارّة السمراء، ويأتي ذلك في وقت يشهد فيه النفوذ الفرنسي تراجعا دراماتيكيا في أفريقيا، مع بروز لاعبين دوليين وإقليميين جدد لاسيما الولايات المتحدة وروسيا والصين في ما سماه بعض المتابعين والباحثين بالتدافع الثاني حول قارة تجمع كل مراكز البحوث والاستشراف انها قارة المستقبل، وهل معنى ذلك الإعلان/التصريح الفرنسي يعني وجود استراتيجيا جديدة مبنية على قراءة التطورات وتقييم التاريخ أم هو تكتيك مرحلي بحثا من ماكرون ومن ورائه الدولة العميقة الفرنسية على التموقع ضمن التدافع الثاني؟
1- أولا،يعي الفرنسيون أن حجم الاهتمام الدولي الذي جرى إيلاؤه لأفريقيا جنوب الصحراء كبير جدا وخاصة منذ بداية التسعينات كما يعون أن التدافع الحاليلم ولن يقتصر هذه المرة على استغلال الموارد الطبيعية للقارة بل وسيشمل الأسواق والقوى العاملة وخطوط الاتصال البحرية بل أن استراتيجياتهم – أي الفرنسيين- تجاه افريقيا هي فعلا قيد التحيين حتى لا يجدون أنفسهم خارج مربع اللاعبين الرئيسيين فيها، ولا خلاف في أن مراكز بحوثهم الرئيسية قد أمددتهم بالأرقام والمعطيات ومن بينها معطى أن ثروات افريقيا قد بدأت في التحول في عام 2000 تقريبا بعد فترةٍ من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والنمو الاقتصادي الضعيف الذي شهدته في سبعينات القرن الماضي كما يعلمون جيدا أن الناتج المحلي منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين قد نما نموا ملحوظاولا سيما الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا جنوب الصحراء والذي تضاعف بمقدار خمسة أضعاف، ومعلوم أن إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا يبلغ الآن 3 تريليونات دولار أمريكي مع وجود احتمالات واعدة بمزيد من النمو الاقتصادي الكبير، وتعرف باريس قبل غيرها من عواصم الغرب أن أفريقيا تستحوذ على قدرٍ كبيرٍ من النفط والغاز وتستحوذ على ما يقارب 30٪ من الموارد المعدنية المهمة في العالم -والتي ولا شك تزوّد عالمنااليوم بالطاقة- وعلاوة على ما سبق ذكرهيعرف "الاليزيه" أن افريقيا ستصبح موطنًا لـ 40 في المائة من سكان العالم بحلول نهاية هذا القرن، وأنه بينما يتقدّم السكان في السن في أماكن أخرى بما في ذلك الصين، فإن سكان البلدان الأفريقية هم في الغالب من الشباب وأن عدد أولئك سيزداد بأكثر من 500 مليون شاب على مدى العقود الثلاثة المقبلةوأن أفريقيا ستكون موطنا لـ 42 في المائة من سكان العالم في سن العمل بل ومن المتوقع أن يزداد سكان المدن فيها بعددِ يصل إلى أكثر من نصف مليار شخص بحلول عام 2040(وهو رقم أعلى بكثير من النمو الذي شهده نمو سكان المدن في الصين في عقدي طفرة الصين في مجالي الاقتصاد والطاقة).
2- ثانيا، لا خلاف في أن تصريحات "ماكرون" تعكس في واقع الأمر اعترافا التراجعالفرنسي في منطقة الساحل وفي وغرب ووسط افريقيا على الرغم من كونه حاول التسويق إلى أن الأمر لا يعُدو كونه رغبة من "الإليزيه" في التخلص من الإرث الاستعماري وفتح صفحة جديدة مع المستعمرات السابقة، وقد قال "ماكرون" أمام الجالية الفرنسية في الغابون "انتهى عصر فرنسا – أفريقيا هذا وأحيانًا يتكون لدي شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا نفسها عندما أقرأ وأسمع وأرى أنّه ما زالت تُنسب إلى فرنسا نوايا ليست لديها، ولم تعد لديها"، وأضاف "يبدو أيضًا أنه ما زال مُتوقعًا منها أن تتخذ مواقف ترفض اتخاذها وأنا أؤيد ذلك تمامًاوفي الغابون كما في أي مكان آخر فرنسا مُحاور مُحايد يَتحدثُ إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في النزاعات السياسية الداخلية..."، ويحمل مصطلح "فرنسا – أفريقيا" دلالات سلبية، إذ يُستعمل لوصف العلاقات التي ربطت فرنسا بمستعمراتها السابقة بعد استقلالها وتدخّل باريس المفرط في شؤونها سياسيا واقتصاديا للحفاظ على نفوذها في القارة، ولا يمكن تغييب أن المعارضة الغابونية قد اتهمت الرئيس الفرنسي بأنه يهدف من خلال زيارته يهدف إلى إظهار التأييد للرئيس "علي بونغو" فيما تستعد الغابون لتنظيم انتخابات، وهو ما يعني حسب تلك المعارضة بل وكثير من المتابعين الافارقة أن باريس لم تتغير بل هي تمارس تكتيك التموقع ضمن التدافع الثاني على القارة السمراء ولكنّ ماكرون سارع رد ضمنا على تلك القراءات والاتهامات بالقولوالاسترسال في تبليغ رسائل فرنسية مدروسة "لم آت لتنصيب أي شخص، لقد جئت فقط لإظهار صداقتي واحترامي لبلد وشعب شقيق..."، وكان "ماكرون" قال في باريس بداية الأسبوع الحالي (تحديدا الاثنين 27 فيفري الماضي) إنّ عصر الحديقة الخلفية لفرنسا في غرب أفريقيا انتهى، ودعا إلى شراكات جديدة في القارة بعيدًا عن العلاقات المبهمة وعن دعم القادة الحاليين، وأسوة بقمة الحفاظ على الغابات الاستوائية التي نظمتها فرنسا والغابون الأربعاء والخميس في ليبرفيل، كرر ماكرون رغبته في "بناء شراكة متوازنة" و"العمل على القضايا المشتركة" مع بلدان القارة، سواء تعلق ذلك بالمناخ والتنوع البيولوجي أو التحديات الاقتصادية والصناعية للقرن الحادي والعشرين، كما أكد أن إعادة تنظيم انتشار القوات الفرنسية في أفريقيا الذي تحدث عنه الاثنين لا تشكل "لا انسحابًا ولا فك ارتباط..."، وقال للجالية الفرنسية "إنها ليست مسألة انسحاب أو فك ارتباط بل هي عملية تكييف" عبر إعادة تحديد "احتياجات" الدول الشريكة وتقديم "مزيد من التعاون والتدريب..."
3- ثالثا، الرئيس الفرنسي شدّد أيضا على أنّه "من الواضح جداً أن الاحتياجات موجودة"، مشيرا إلى حوادث القرصنة البحرية في خليج غينيا والتنقيب غير الشرعي عن الذهب وجرائم "الإتجار بالمخدرات" التي تغذيها "حركة إرهابية تنشط أيضا في منطقة بحيرة تشاد"، في إشارة إلى تنظيمي "بوكو حرام" و"تنظيم داعش في غرب أفريقيا"، وفعليا يتعلق الامر بإعادة التنظيم بالقواعد الفرنسية في "ليبرفيل" و"أبيدجان" و"داكار"، لكنها لا تشمل القاعدة الموجودة في "جيبوتي" التي تتولى مهمّات أكثر ارتباطا بالشراكات في المحيط الهندي، وأوضح الرئيس الفرنسي أن ذلك يعني "وجود المزيد من العسكريين الإقليميين في قواعدنا وبالتالي المساهمة في إدارة تلك القواعد..."، ومن جهته، لفت وزير الدفاع الفرنسي "سيباستيان ليكورنو" إلى أن الجيش الفرنسي سيدرب المزيد من الضباط الأفارقة في فرنسا وكذلك في أفريقيا، مع تقليل عديد القوات الفرنسية العاملة في القارة، وأكدالوزير الفرنسي إن التنظيم الجديد سيبدأ بحلول الرابع عشر يوليو (أي في ذكرى الثورة الفرنسية وهو ما يعني وجود دلالات ومعاني كبرى، ولا شك أن فرنسا الرسمية واعية بما حدث منذ أكثر من سنتين في منطقة الساحل وخاصة بعد الانقلاب في "باماكو" وما انجر عنه من تداعيات تجاه باريس وهي مستوعبة انتقال الحالة المالية للتشاد والنيجر وبوركينافاسو وخاصة بين بداية جويلية ونهاية سبتمبر 2022 من احتجاجات ضدها ومقرونة أيضا بالترحيب بالروس خاصة وان موسكو وظفت تلك الاحداث لمزيد من التمدد والامتداد بل هي في حالة تسابق مع بكين على وراثة باريس هناك، ولكن الاستفهام سيبقى مطروحا:ما مدى عمق استيعاب الفرنسيين لكل ما تم ومن ثم قيامهم بتقييمات ومراجعات أساسية تمكنهم في المستقبل ان يكونوا شركاء للأفارقة وان يكون تعاملاتهم معهم مبنية على التشاور والتواصل؟ وقد يكون ذلك حصل بأقدار خلال الأشهر الماضية تجنبا لتحويل منطقة الساحل الى "افغانستان2" وأيضا للتلاؤم مع الاستدارة الأوروبية للقارة السمراء بحثا عن الامن الطاقي والغاز ومن اجل التموقع في التدافع الثاني حول القارة وهو بالأكيد تدافع قوي ومتنوع ومختلف عن التدافع الأول.
4- رابعا، الخلاصة أن باريس تضع في اعتبارها كل تلك المعطيات والتقديرات السابقة خاصة وأنها تعيأنه من المرتقب أن تصبح أفريقيا مصدرا رئيسيا للعمالة والطاقة وأن تغدو سوقا نامية أيضا، كما لا يمكن لباريس تغييب معطى رئيسي وهو أن القوة العاملة الكبيرة في أفريقيا المزودة بالمهارات اللازمة يمكن أن تؤهلها لوظائف القرن الحادي والعشرين وما بعده بل وأن تكون نعمة ليس للمنطقة فحسب ولكن للاقتصاد العالمي ككل (وطبعا ذك سيعتمد على كيفية قدرة الاقتصادات الرئيسية في العالم، في كل من الغرب والشرق، على إقامة نوع من العلاقات مع أفريقيا والتي تتيح لها الاستفادة من إمكاناتها)، وهو ربما ما التقطه "ماكرون" بالقول أننا سنكون شركاء وطبعا هو يعي ما يقول باعتبار أنه يعرف أنلإفريقيا إمكانات هائلة لتوفير الغذاء في ظلّ وجود أراض شاسعة صالحة للزراعة وغير مستغلة ولا يمكن التقليل من دورها أيضا في إدارة التغير المناخي في ظل وجود 30٪ من الغابات المطيرة في العالم فيها وأنها وبحلول عام 2050، ستكون موطنا لربع سكان العالم وموئلا لموارد طبيعية هائلة وان ما يعزّز أهميتها حقيقة أنها تقع على خطوط الاتصال والتجارة البحرية الرئيسية في المحيطين الأطلسي والهندي.
* كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 بعد زيارة "ماكرون" الأخيرة لعدد من دول القارة وإعلانه نهاية عصر فرنسا-إفريقيا | باريس والقارة السمراء: استراتيجيا جديدة أم تكتيك مرحلي للتموقع ضمن التدافع الثاني؟
 
بقلم:علي اللافي (*)
*لا يمكن لباريس تغييب معطى رئيسي وهو أن القوة العاملة الكبيرة في أفريقيا المزودة بالمهارات اللازمة يمكن أن تؤهلها لوظائف القرن الحادي والعشرين وما بعده
أعلن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"وسط الخميس الماضي (02 مارس الجاري) في "ليبرفيل" عن انتهاء عصر فرنسا – أفريقيا، مشدّداً على أنّ باريس صارت "محاورا محايدا" في القارّة السمراء، ويأتي ذلك في وقت يشهد فيه النفوذ الفرنسي تراجعا دراماتيكيا في أفريقيا، مع بروز لاعبين دوليين وإقليميين جدد لاسيما الولايات المتحدة وروسيا والصين في ما سماه بعض المتابعين والباحثين بالتدافع الثاني حول قارة تجمع كل مراكز البحوث والاستشراف انها قارة المستقبل، وهل معنى ذلك الإعلان/التصريح الفرنسي يعني وجود استراتيجيا جديدة مبنية على قراءة التطورات وتقييم التاريخ أم هو تكتيك مرحلي بحثا من ماكرون ومن ورائه الدولة العميقة الفرنسية على التموقع ضمن التدافع الثاني؟
1- أولا،يعي الفرنسيون أن حجم الاهتمام الدولي الذي جرى إيلاؤه لأفريقيا جنوب الصحراء كبير جدا وخاصة منذ بداية التسعينات كما يعون أن التدافع الحاليلم ولن يقتصر هذه المرة على استغلال الموارد الطبيعية للقارة بل وسيشمل الأسواق والقوى العاملة وخطوط الاتصال البحرية بل أن استراتيجياتهم – أي الفرنسيين- تجاه افريقيا هي فعلا قيد التحيين حتى لا يجدون أنفسهم خارج مربع اللاعبين الرئيسيين فيها، ولا خلاف في أن مراكز بحوثهم الرئيسية قد أمددتهم بالأرقام والمعطيات ومن بينها معطى أن ثروات افريقيا قد بدأت في التحول في عام 2000 تقريبا بعد فترةٍ من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والنمو الاقتصادي الضعيف الذي شهدته في سبعينات القرن الماضي كما يعلمون جيدا أن الناتج المحلي منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين قد نما نموا ملحوظاولا سيما الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا جنوب الصحراء والذي تضاعف بمقدار خمسة أضعاف، ومعلوم أن إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لأفريقيا يبلغ الآن 3 تريليونات دولار أمريكي مع وجود احتمالات واعدة بمزيد من النمو الاقتصادي الكبير، وتعرف باريس قبل غيرها من عواصم الغرب أن أفريقيا تستحوذ على قدرٍ كبيرٍ من النفط والغاز وتستحوذ على ما يقارب 30٪ من الموارد المعدنية المهمة في العالم -والتي ولا شك تزوّد عالمنااليوم بالطاقة- وعلاوة على ما سبق ذكرهيعرف "الاليزيه" أن افريقيا ستصبح موطنًا لـ 40 في المائة من سكان العالم بحلول نهاية هذا القرن، وأنه بينما يتقدّم السكان في السن في أماكن أخرى بما في ذلك الصين، فإن سكان البلدان الأفريقية هم في الغالب من الشباب وأن عدد أولئك سيزداد بأكثر من 500 مليون شاب على مدى العقود الثلاثة المقبلةوأن أفريقيا ستكون موطنا لـ 42 في المائة من سكان العالم في سن العمل بل ومن المتوقع أن يزداد سكان المدن فيها بعددِ يصل إلى أكثر من نصف مليار شخص بحلول عام 2040(وهو رقم أعلى بكثير من النمو الذي شهده نمو سكان المدن في الصين في عقدي طفرة الصين في مجالي الاقتصاد والطاقة).
2- ثانيا، لا خلاف في أن تصريحات "ماكرون" تعكس في واقع الأمر اعترافا التراجعالفرنسي في منطقة الساحل وفي وغرب ووسط افريقيا على الرغم من كونه حاول التسويق إلى أن الأمر لا يعُدو كونه رغبة من "الإليزيه" في التخلص من الإرث الاستعماري وفتح صفحة جديدة مع المستعمرات السابقة، وقد قال "ماكرون" أمام الجالية الفرنسية في الغابون "انتهى عصر فرنسا – أفريقيا هذا وأحيانًا يتكون لدي شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا نفسها عندما أقرأ وأسمع وأرى أنّه ما زالت تُنسب إلى فرنسا نوايا ليست لديها، ولم تعد لديها"، وأضاف "يبدو أيضًا أنه ما زال مُتوقعًا منها أن تتخذ مواقف ترفض اتخاذها وأنا أؤيد ذلك تمامًاوفي الغابون كما في أي مكان آخر فرنسا مُحاور مُحايد يَتحدثُ إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في النزاعات السياسية الداخلية..."، ويحمل مصطلح "فرنسا – أفريقيا" دلالات سلبية، إذ يُستعمل لوصف العلاقات التي ربطت فرنسا بمستعمراتها السابقة بعد استقلالها وتدخّل باريس المفرط في شؤونها سياسيا واقتصاديا للحفاظ على نفوذها في القارة، ولا يمكن تغييب أن المعارضة الغابونية قد اتهمت الرئيس الفرنسي بأنه يهدف من خلال زيارته يهدف إلى إظهار التأييد للرئيس "علي بونغو" فيما تستعد الغابون لتنظيم انتخابات، وهو ما يعني حسب تلك المعارضة بل وكثير من المتابعين الافارقة أن باريس لم تتغير بل هي تمارس تكتيك التموقع ضمن التدافع الثاني على القارة السمراء ولكنّ ماكرون سارع رد ضمنا على تلك القراءات والاتهامات بالقولوالاسترسال في تبليغ رسائل فرنسية مدروسة "لم آت لتنصيب أي شخص، لقد جئت فقط لإظهار صداقتي واحترامي لبلد وشعب شقيق..."، وكان "ماكرون" قال في باريس بداية الأسبوع الحالي (تحديدا الاثنين 27 فيفري الماضي) إنّ عصر الحديقة الخلفية لفرنسا في غرب أفريقيا انتهى، ودعا إلى شراكات جديدة في القارة بعيدًا عن العلاقات المبهمة وعن دعم القادة الحاليين، وأسوة بقمة الحفاظ على الغابات الاستوائية التي نظمتها فرنسا والغابون الأربعاء والخميس في ليبرفيل، كرر ماكرون رغبته في "بناء شراكة متوازنة" و"العمل على القضايا المشتركة" مع بلدان القارة، سواء تعلق ذلك بالمناخ والتنوع البيولوجي أو التحديات الاقتصادية والصناعية للقرن الحادي والعشرين، كما أكد أن إعادة تنظيم انتشار القوات الفرنسية في أفريقيا الذي تحدث عنه الاثنين لا تشكل "لا انسحابًا ولا فك ارتباط..."، وقال للجالية الفرنسية "إنها ليست مسألة انسحاب أو فك ارتباط بل هي عملية تكييف" عبر إعادة تحديد "احتياجات" الدول الشريكة وتقديم "مزيد من التعاون والتدريب..."
3- ثالثا، الرئيس الفرنسي شدّد أيضا على أنّه "من الواضح جداً أن الاحتياجات موجودة"، مشيرا إلى حوادث القرصنة البحرية في خليج غينيا والتنقيب غير الشرعي عن الذهب وجرائم "الإتجار بالمخدرات" التي تغذيها "حركة إرهابية تنشط أيضا في منطقة بحيرة تشاد"، في إشارة إلى تنظيمي "بوكو حرام" و"تنظيم داعش في غرب أفريقيا"، وفعليا يتعلق الامر بإعادة التنظيم بالقواعد الفرنسية في "ليبرفيل" و"أبيدجان" و"داكار"، لكنها لا تشمل القاعدة الموجودة في "جيبوتي" التي تتولى مهمّات أكثر ارتباطا بالشراكات في المحيط الهندي، وأوضح الرئيس الفرنسي أن ذلك يعني "وجود المزيد من العسكريين الإقليميين في قواعدنا وبالتالي المساهمة في إدارة تلك القواعد..."، ومن جهته، لفت وزير الدفاع الفرنسي "سيباستيان ليكورنو" إلى أن الجيش الفرنسي سيدرب المزيد من الضباط الأفارقة في فرنسا وكذلك في أفريقيا، مع تقليل عديد القوات الفرنسية العاملة في القارة، وأكدالوزير الفرنسي إن التنظيم الجديد سيبدأ بحلول الرابع عشر يوليو (أي في ذكرى الثورة الفرنسية وهو ما يعني وجود دلالات ومعاني كبرى، ولا شك أن فرنسا الرسمية واعية بما حدث منذ أكثر من سنتين في منطقة الساحل وخاصة بعد الانقلاب في "باماكو" وما انجر عنه من تداعيات تجاه باريس وهي مستوعبة انتقال الحالة المالية للتشاد والنيجر وبوركينافاسو وخاصة بين بداية جويلية ونهاية سبتمبر 2022 من احتجاجات ضدها ومقرونة أيضا بالترحيب بالروس خاصة وان موسكو وظفت تلك الاحداث لمزيد من التمدد والامتداد بل هي في حالة تسابق مع بكين على وراثة باريس هناك، ولكن الاستفهام سيبقى مطروحا:ما مدى عمق استيعاب الفرنسيين لكل ما تم ومن ثم قيامهم بتقييمات ومراجعات أساسية تمكنهم في المستقبل ان يكونوا شركاء للأفارقة وان يكون تعاملاتهم معهم مبنية على التشاور والتواصل؟ وقد يكون ذلك حصل بأقدار خلال الأشهر الماضية تجنبا لتحويل منطقة الساحل الى "افغانستان2" وأيضا للتلاؤم مع الاستدارة الأوروبية للقارة السمراء بحثا عن الامن الطاقي والغاز ومن اجل التموقع في التدافع الثاني حول القارة وهو بالأكيد تدافع قوي ومتنوع ومختلف عن التدافع الأول.
4- رابعا، الخلاصة أن باريس تضع في اعتبارها كل تلك المعطيات والتقديرات السابقة خاصة وأنها تعيأنه من المرتقب أن تصبح أفريقيا مصدرا رئيسيا للعمالة والطاقة وأن تغدو سوقا نامية أيضا، كما لا يمكن لباريس تغييب معطى رئيسي وهو أن القوة العاملة الكبيرة في أفريقيا المزودة بالمهارات اللازمة يمكن أن تؤهلها لوظائف القرن الحادي والعشرين وما بعده بل وأن تكون نعمة ليس للمنطقة فحسب ولكن للاقتصاد العالمي ككل (وطبعا ذك سيعتمد على كيفية قدرة الاقتصادات الرئيسية في العالم، في كل من الغرب والشرق، على إقامة نوع من العلاقات مع أفريقيا والتي تتيح لها الاستفادة من إمكاناتها)، وهو ربما ما التقطه "ماكرون" بالقول أننا سنكون شركاء وطبعا هو يعي ما يقول باعتبار أنه يعرف أنلإفريقيا إمكانات هائلة لتوفير الغذاء في ظلّ وجود أراض شاسعة صالحة للزراعة وغير مستغلة ولا يمكن التقليل من دورها أيضا في إدارة التغير المناخي في ظل وجود 30٪ من الغابات المطيرة في العالم فيها وأنها وبحلول عام 2050، ستكون موطنا لربع سكان العالم وموئلا لموارد طبيعية هائلة وان ما يعزّز أهميتها حقيقة أنها تقع على خطوط الاتصال والتجارة البحرية الرئيسية في المحيطين الأطلسي والهندي.
* كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية