تعيش المنظومة التربوية في تونس منذ سنوات تراجعا غير مسبوق على جميع المستويات، وهو تراجع انطلق حسب المختصين في الشأن التربوي مع إفشال مشروع الإصلاح، ثمّ تعمّقت آثاره بسبب ما شهدته المدرسة من هزّات متتالية منذ سنة 2011.
ومن وجهة نظر المهتمين بالشأن التربوي فان تعمق أزمة التعليم بدأت خلال طرد أكثر من ألف مدير إعداديّة ومعهد بشكل تعسّفيّ لا مسؤول، وفُتحت الأبواب على مصراعيها لعشرات الآلاف من الانتدابات العشوائيّة وأُقرّت التّرقيات الآليّة غير المستحقّة، دون أن ننسى الإضرابات المفتوحة العبثيّة والنّجاح الآليّ وتعليق الدّروس عديد المرات وصولا إلى الابتزاز عبر حجب الأعداد ومقاطعة الامتحانات. هل بلغت منظومتنا التّربويّة في شكلها الحاليّ نقطة اللاّعودة؟ وهل أصبح الأمل في الإصلاح مستحيلا؟
أكد سليم قاسم الخبير التربوي لدى المنظمات الدولية ورئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم بأن المنظومة التّربويّة قد دخلت منذ ثلاثة عقود مرحلة اللاّجودة، ومن أبرز علامات هذه المرحلة انخرام الحوكمة التي صارت خاضعة للأشخاص والمصالح الشّخصيّة والسّياقات، بدل أن تكون خاضعة لقواعد واضحة ودقيقة تُعلي القانون وتضمن المصلحة العامّة.
واعتبر قاسم "انّه من أبسط أبجديّات الجودة تحديد الأطراف المعنيّة، وبناء علاقات سليمة معها لتقوم على تحديد دور كلّ طرف وبيان ما له من حقوق وما يتوجّب عليه تحمّله من مسؤوليّات، ولكنّ ما حصل منذ بداية التّسعينات وتفاقم بعد أحداث 2011 هو إقصاء تامّ لجميع الأطراف المعنيّة وخاصّة منها منظّمات المجتمع المدنيّ الوطنيّ والأولياء والتّلاميذ، حيث صار الأمر محصورا بين الوزارة والنّقابة، وبشكل أدقّ وأصحّ بين بعض المسؤولين من الوزارة وبعض ممثّلي النّقابات. وقد أدّى هذا الخلل الهيكليّ الخطير، الذي يتحمّل وزره مسؤولون خانوا الأمانة وقدّموا كلّ التّنازلات الممكنة وغير الممكنة طمعا في التّشبّث بالكرسيّ، إلى تغوّل بعض النّاطقين باسم المنظّمة الشّغيلة الذين صارت لهم الكلمة العليا بل والوحيدة، يولّون ويعزلون مركزيّا وجهويّا ومحلّيّا، ويتحكّمون تحكّما فجّا في الانتدابات والنّقل والتّرقيات، وقد كان هؤلاء وراء قرارات كارثيّة ليس أقلّها التّخفيض الأخرق في عدد ساعات عمل المربّين، وفتح الباب على مصراعيه للانتدابات العشوائيّة وما صاحبها من تجاوزات مخزية".
النقابات وإفشال إصلاح التعليم
قال الخبير التربوي لدى المنظمات الدولية "إنّنا نتوجّه اليوم رأسا إلى الأمين العام للاتّحاد العام التّونسيّ للشغل، ونطالبه بإطلاق المراجعات الملحّة والمتأكّدة لمواقف نقابات التّعليم، منذ نجاحها الكارثيّ في إفشال إصلاح عام 2002، وإلى حدّ التّدخّلات غير المتبصّرة في تطوير التّعليم الابتدائيّ عام 2022، والتي تحوّلت من خدمة المنظومة التّربويّة إلى خدمة بعض الأشخاص على قاعدة المصالح لا الواجبات، بعيدا عن أيّة معايير موضوعيّة تتطلّبها جسامة المسؤوليّة ودقّة اللّحظة التّاريخيّة، فإرث حشّاد وعاشور والآلاف غيرهم من المناضلين هو إرث وطنيّ أوّلا وأخيرا، وهو أمانة لا بدّ من صونها والمحافظة عليها، وهو في جوهره إعلاء للمصلحة الوطنيّة وخدمة للمواطنين وأبنائهم، وهو ما يتناقض جذريّا مع تعطيل المرفق العموميّ التّربويّ، وفرض واقع ميدانيّ يقسم المجتمع التّونسيّ إلى منتفعين محظوظين بخدمات التّعليم الخاصّ الذي يحفظ لهم كلّ حقوقهم، ومضطرّين للتّعامل مع منظومة التّعليم العموميّ التي لا يكفيها ما تعانيه من صعوبات، فيزيدها البعض تردّيا وتعطيلا بفعل الإضرابات المفتوحة والإجراءات الشّاذّة التي لا نجد لها مثيلا في العالم كحجب الأعداد".
وفي تقدير محدثنا "فإنّ الرّابح الوحيد ممّا يجري تحت مسمّى النّضال النّقابيّ، من تعطيلٍ للمرفق العموميّ وإضرارٍ بأبناء الطّبقات الشّعبيّة دون غيرهم، لا يمكن أن يكون إلاّ عدوّا لمنظّمة حشّاد ذاتها وعدوّا للمدرسة العموميّة وعدوّا لمستقبل بناتها وأبنائها، ونحن ندعو جميع الحاملين للأمانة النّقابيّة إلى أن يميّزوا بين المهمّ وبين الأهمّ، وإلى أن يتحمّلوا المسؤوليّة كما تحمّلها أسلافهم من المسؤولين الوطنيّين، حتّى لا يسجّل عليهم التّاريخ غدا أنّهم كانوا السّبب في انفراط حبات عقد فريد من النّضال المخلص وتراث لا يقدّر بثمن من المكاسب الاجتماعيّة، وأملنا فيهم كبير وثقتنا في رشادهم أكبر".
تباطؤ الإصلاح..
فيما عبرت من جانبها الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ من خلال متابعتها المتواصلة للشأن التربوي عن استغرابها من عقلية التطبيع مع الأزمات التي تعاني منها المدرسة التونسية منذ سنوات من خلال استعمال التلاميذ كوسيلة ضغط عند التفاوض في ملفات ليس لهم أي علاقة بها قبل الانتهاء إلى حلول مالية في جوهرها لتسوية الإشكاليات مع التجاهل التّام للأضرار المتراكمة للمتعلمين والتي يكون اكبر ضحاياها التلاميذ الذين ينتمون إلى العائلات المحدودة الموارد والجهات المنسية والمحرومة. في حين أنّ حقّ التربية والتعليم هو من ضمن الحقوق الدّستورية والكونية والتي لا يمكن ارتهانها مهما كان السّبب ومهما كانت الغاية.
وتتساءل الجمعية بالمناسبة عن أسباب التباطؤ في أخذ عديد القرارات والإجراءات أو أسباب تجاهلها بالرغم من تأكد قدرتها على تقديم عديد الإجابات للنقائص الحالية وقدرتها على الدّفع بمشروع إعادة بناء المدرسة التونسية على أسس سليمة وفي الاتجاه الصحيح، ومن ضمنها عدم تفعيل المجلس الأعلى للتربية والتّعليم، والذي كان من ضمن تعهدّات رئيس الجمهورية للتكفل بمشروع إعادة الاعتبار إلى المدرسة التونسية خلال حملته الانتخابية في 2019 وغداة إعلان الحالة الاستثنائية في 25 جويلية 2021 وبعد دسترته في أوت 2022، هذه المؤسسة لم تر النور إلى اليوم في حين أنّه كان بالإمكان إصدار مرسوم للغرض في غضون أسبوعين على أكثر تقدير لمّا نستأنس بالنّص القانوني السّابق المنظّم للمجلس الأعلى للتربية والصادر منذ 2000 وبعديد النصوص المماثلة والجاري بها العمل بالدول التي لها أنظمة تربوية ذات أداء جيد.
هذا بالإضافة إلى عدم مراجعة الزمن المدرسي وعدم التقليص في عدد الكتب وفي وزن المحفظة، بالرغم من وجاهة الإجراء والذي طالب به المختصون والأولياء والتلاميذ وبالرغم من الوعود المتعددة لعديد المشرفين على القطاع منذ عديد السنوات وعدم تسوية الإشكال المتعلق بموقع اللغات في المنظومة التربوية، وخاصة توحيد لغة تدريس المواد العلمية في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي بالرغم من الإقرار بما يمثله الواقع الحالي من استنزاف قدرات المتعلم من كل النواحي.
وانتقدت الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ استبعاد الولي من كلّ ما يتعلق بالشأن التربوي وعدم تمكينه من حقوقه وعدم مطالبته بواجباته للغرض، بالرغم من أن دستور أوت 2023 والقوانين الجاري به العمل نص على مسؤولية الولي مع الدولة في كل ما يتعلق بتربية أطفاله وتعليمهم إلى جانب الرعاية والصحة والكرامة وعلى عضويته في مجالس المؤسسات التربوية والحياة المدرسية.
جهاد الكلبوسي
تونس – الصباح
تعيش المنظومة التربوية في تونس منذ سنوات تراجعا غير مسبوق على جميع المستويات، وهو تراجع انطلق حسب المختصين في الشأن التربوي مع إفشال مشروع الإصلاح، ثمّ تعمّقت آثاره بسبب ما شهدته المدرسة من هزّات متتالية منذ سنة 2011.
ومن وجهة نظر المهتمين بالشأن التربوي فان تعمق أزمة التعليم بدأت خلال طرد أكثر من ألف مدير إعداديّة ومعهد بشكل تعسّفيّ لا مسؤول، وفُتحت الأبواب على مصراعيها لعشرات الآلاف من الانتدابات العشوائيّة وأُقرّت التّرقيات الآليّة غير المستحقّة، دون أن ننسى الإضرابات المفتوحة العبثيّة والنّجاح الآليّ وتعليق الدّروس عديد المرات وصولا إلى الابتزاز عبر حجب الأعداد ومقاطعة الامتحانات. هل بلغت منظومتنا التّربويّة في شكلها الحاليّ نقطة اللاّعودة؟ وهل أصبح الأمل في الإصلاح مستحيلا؟
أكد سليم قاسم الخبير التربوي لدى المنظمات الدولية ورئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم بأن المنظومة التّربويّة قد دخلت منذ ثلاثة عقود مرحلة اللاّجودة، ومن أبرز علامات هذه المرحلة انخرام الحوكمة التي صارت خاضعة للأشخاص والمصالح الشّخصيّة والسّياقات، بدل أن تكون خاضعة لقواعد واضحة ودقيقة تُعلي القانون وتضمن المصلحة العامّة.
واعتبر قاسم "انّه من أبسط أبجديّات الجودة تحديد الأطراف المعنيّة، وبناء علاقات سليمة معها لتقوم على تحديد دور كلّ طرف وبيان ما له من حقوق وما يتوجّب عليه تحمّله من مسؤوليّات، ولكنّ ما حصل منذ بداية التّسعينات وتفاقم بعد أحداث 2011 هو إقصاء تامّ لجميع الأطراف المعنيّة وخاصّة منها منظّمات المجتمع المدنيّ الوطنيّ والأولياء والتّلاميذ، حيث صار الأمر محصورا بين الوزارة والنّقابة، وبشكل أدقّ وأصحّ بين بعض المسؤولين من الوزارة وبعض ممثّلي النّقابات. وقد أدّى هذا الخلل الهيكليّ الخطير، الذي يتحمّل وزره مسؤولون خانوا الأمانة وقدّموا كلّ التّنازلات الممكنة وغير الممكنة طمعا في التّشبّث بالكرسيّ، إلى تغوّل بعض النّاطقين باسم المنظّمة الشّغيلة الذين صارت لهم الكلمة العليا بل والوحيدة، يولّون ويعزلون مركزيّا وجهويّا ومحلّيّا، ويتحكّمون تحكّما فجّا في الانتدابات والنّقل والتّرقيات، وقد كان هؤلاء وراء قرارات كارثيّة ليس أقلّها التّخفيض الأخرق في عدد ساعات عمل المربّين، وفتح الباب على مصراعيه للانتدابات العشوائيّة وما صاحبها من تجاوزات مخزية".
النقابات وإفشال إصلاح التعليم
قال الخبير التربوي لدى المنظمات الدولية "إنّنا نتوجّه اليوم رأسا إلى الأمين العام للاتّحاد العام التّونسيّ للشغل، ونطالبه بإطلاق المراجعات الملحّة والمتأكّدة لمواقف نقابات التّعليم، منذ نجاحها الكارثيّ في إفشال إصلاح عام 2002، وإلى حدّ التّدخّلات غير المتبصّرة في تطوير التّعليم الابتدائيّ عام 2022، والتي تحوّلت من خدمة المنظومة التّربويّة إلى خدمة بعض الأشخاص على قاعدة المصالح لا الواجبات، بعيدا عن أيّة معايير موضوعيّة تتطلّبها جسامة المسؤوليّة ودقّة اللّحظة التّاريخيّة، فإرث حشّاد وعاشور والآلاف غيرهم من المناضلين هو إرث وطنيّ أوّلا وأخيرا، وهو أمانة لا بدّ من صونها والمحافظة عليها، وهو في جوهره إعلاء للمصلحة الوطنيّة وخدمة للمواطنين وأبنائهم، وهو ما يتناقض جذريّا مع تعطيل المرفق العموميّ التّربويّ، وفرض واقع ميدانيّ يقسم المجتمع التّونسيّ إلى منتفعين محظوظين بخدمات التّعليم الخاصّ الذي يحفظ لهم كلّ حقوقهم، ومضطرّين للتّعامل مع منظومة التّعليم العموميّ التي لا يكفيها ما تعانيه من صعوبات، فيزيدها البعض تردّيا وتعطيلا بفعل الإضرابات المفتوحة والإجراءات الشّاذّة التي لا نجد لها مثيلا في العالم كحجب الأعداد".
وفي تقدير محدثنا "فإنّ الرّابح الوحيد ممّا يجري تحت مسمّى النّضال النّقابيّ، من تعطيلٍ للمرفق العموميّ وإضرارٍ بأبناء الطّبقات الشّعبيّة دون غيرهم، لا يمكن أن يكون إلاّ عدوّا لمنظّمة حشّاد ذاتها وعدوّا للمدرسة العموميّة وعدوّا لمستقبل بناتها وأبنائها، ونحن ندعو جميع الحاملين للأمانة النّقابيّة إلى أن يميّزوا بين المهمّ وبين الأهمّ، وإلى أن يتحمّلوا المسؤوليّة كما تحمّلها أسلافهم من المسؤولين الوطنيّين، حتّى لا يسجّل عليهم التّاريخ غدا أنّهم كانوا السّبب في انفراط حبات عقد فريد من النّضال المخلص وتراث لا يقدّر بثمن من المكاسب الاجتماعيّة، وأملنا فيهم كبير وثقتنا في رشادهم أكبر".
تباطؤ الإصلاح..
فيما عبرت من جانبها الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ من خلال متابعتها المتواصلة للشأن التربوي عن استغرابها من عقلية التطبيع مع الأزمات التي تعاني منها المدرسة التونسية منذ سنوات من خلال استعمال التلاميذ كوسيلة ضغط عند التفاوض في ملفات ليس لهم أي علاقة بها قبل الانتهاء إلى حلول مالية في جوهرها لتسوية الإشكاليات مع التجاهل التّام للأضرار المتراكمة للمتعلمين والتي يكون اكبر ضحاياها التلاميذ الذين ينتمون إلى العائلات المحدودة الموارد والجهات المنسية والمحرومة. في حين أنّ حقّ التربية والتعليم هو من ضمن الحقوق الدّستورية والكونية والتي لا يمكن ارتهانها مهما كان السّبب ومهما كانت الغاية.
وتتساءل الجمعية بالمناسبة عن أسباب التباطؤ في أخذ عديد القرارات والإجراءات أو أسباب تجاهلها بالرغم من تأكد قدرتها على تقديم عديد الإجابات للنقائص الحالية وقدرتها على الدّفع بمشروع إعادة بناء المدرسة التونسية على أسس سليمة وفي الاتجاه الصحيح، ومن ضمنها عدم تفعيل المجلس الأعلى للتربية والتّعليم، والذي كان من ضمن تعهدّات رئيس الجمهورية للتكفل بمشروع إعادة الاعتبار إلى المدرسة التونسية خلال حملته الانتخابية في 2019 وغداة إعلان الحالة الاستثنائية في 25 جويلية 2021 وبعد دسترته في أوت 2022، هذه المؤسسة لم تر النور إلى اليوم في حين أنّه كان بالإمكان إصدار مرسوم للغرض في غضون أسبوعين على أكثر تقدير لمّا نستأنس بالنّص القانوني السّابق المنظّم للمجلس الأعلى للتربية والصادر منذ 2000 وبعديد النصوص المماثلة والجاري بها العمل بالدول التي لها أنظمة تربوية ذات أداء جيد.
هذا بالإضافة إلى عدم مراجعة الزمن المدرسي وعدم التقليص في عدد الكتب وفي وزن المحفظة، بالرغم من وجاهة الإجراء والذي طالب به المختصون والأولياء والتلاميذ وبالرغم من الوعود المتعددة لعديد المشرفين على القطاع منذ عديد السنوات وعدم تسوية الإشكال المتعلق بموقع اللغات في المنظومة التربوية، وخاصة توحيد لغة تدريس المواد العلمية في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي بالرغم من الإقرار بما يمثله الواقع الحالي من استنزاف قدرات المتعلم من كل النواحي.
وانتقدت الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ استبعاد الولي من كلّ ما يتعلق بالشأن التربوي وعدم تمكينه من حقوقه وعدم مطالبته بواجباته للغرض، بالرغم من أن دستور أوت 2023 والقوانين الجاري به العمل نص على مسؤولية الولي مع الدولة في كل ما يتعلق بتربية أطفاله وتعليمهم إلى جانب الرعاية والصحة والكرامة وعلى عضويته في مجالس المؤسسات التربوية والحياة المدرسية.