بقلم: نزار مقني
لا يمكن فهم قول رئيس الجمهورية قيس سعيد حول "نهاية العولمة" وأن "العولمة قد بلغت مداها وانقلبت على ذاتها''.. بعيدا عن الوضع العالمي الراهن وبعيدا كذلك عن مفهوم العالم الواحد أو ما أطلق عليه اصطلاحا بعد الثورة الرقمية الثانية بمفهوم "القرية الكونية" خصوصا إذا ما تحدثنا عن عولمة الأفكار التي تعتبر العنصر الأساسي في فترة ما بعد الحرب الباردة وقد تكون مرتبطة بمفهوم "السلم العالمي" paxa mondial أو ما تم احتكاره من قبل الولايات المتحدة بمفهوم paxa amaricana.. وهي نفس فكرة السلم الروماني التي رافقت أقصى اتساع للإمبراطورية الرومانية في القرون الأولى من القرن الماضي (Paxa romana).
إذن فكرة العولمة بمقاربة جيوسياسية مرتبطة أشد الارتباط بمعنى السلم المفروض من قبل أكثر العناصر قوة العسكرية في الخارطة الجيوسياسية والدولية في أي زمان من التاريخ.. وهي مرتبطة كذلك بمعنى الهيمنة الثقافية لهذه القوة على باقي العناصر الأقل قوة والتي تسعى للحفاظ على قيمها الثقافية أمام هيمنة أفكار العنصر القوي الذي يسعى لتعزيز الهيمنة الجغرافية عن طريق الامتداد الثقافي والفكري وهو ما يرفق عادة بتبعية سياسية.. في تبني نفس المنظور في البناء السياسي للدول الموجودة على هامش جغرافيا العنصر القوي في المعادلة الدولية.
كثيرة هي الأمثلة في التاريخ التي تؤكد أن صعود القوى الإمبراطورية يؤدي لتصادم كبير يفرز منتصرا يفرض على الآخر سرديته الثقافية والسياسية.. وبعيدا عن التصادم بين روما وقرطاج.. يمكن أن نذكر التصادم بين أثينا الديمقراطية ونظام لوكورغوس في اسبرطة ضمن حرب البيليبوناز. وان كانت هذه الأمثلة من التاريخ.. إلا أن واقع الحال في الواقع الدولي الراهن ليس ببعيد عن هذا المضمار.. يمكن أن نلاحظ ذلك في إطار الحرب الروسية على أوكرانيا وهي تمثل حالة من صدام بين الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ومركزيتها ضمن الغرب منذ الحرب العالمية الثانية.. وروسيا التي قفزت منذ بداية الألفية الجديدة من فكرة "الرجل المريض" والسكير الذي كان يمثلها الرئيس الروسي السابق بوريس يالتسين الى فكرة قديمة متجددة وهي "روسيا القوية" الإمبراطورية الباردة التي قبرت أكبر الغزاة وأنهت "أساطيرهم" كنابليون بونابارت وأدولف هتلر وخرجت للعالم بعناصر فلسفية جديدة قوامها "العالم الأوراسي" بقيمه الثقافية أمام العالم الغربي بقيمه الفلسفية وكذلك العالم الكونفشيوسي (الصيني) بقيمه التاريخية.
هذه المعادلة يبدو أنها مثلت المقولة الأساسية للصدام روسيا مع الغرب في أوكرانيا.. وهي المقولة التي عمل عليها الفيلسوف الروسي الكسندر دوغين -المعروف بعقل بوتين- والذي له نقده لفكرة العولمة على أنها أداة للغرب في تعميم ثقافته على "الآخر" وهو ما عرف فلسفيا بمعنى "الغربنة".. وأطلق مجموعة جديدة من "الأفكار الحمائية" لحماية روسيا من "تدميرية" هذه الأفكار على الواقع الروسي وقوتها الجيوسياسية بطرح فكرة العالم الأوراسي والقوة الآسيوية كفكرة ثانية في الامتداد الجيوسياسي الروسي ومن ثم امتداد روسيا على بقية العالم.
إن هذه أفكار طرحت لحماية وحدة روسيا الجيوسياسية كهدف أول من "الهجمة التفتيتية" الغربية التي تسعى للسيطرة على قلب العالم الذي يوجد في سيبيريا وهي عماد القوة الروسية سواء الاقتصادية الطاقية وحتى العسكرية (في مرتين في التاريخ قامت روسيا بالتراجع الى ما بعد موسكو وبعد جبال الاورال حيث لعب المناخ دوره في انتصارها على أعدائها نابليون وهتلر).
إذن مقولة نقد العولمة هي فكرة قائمة على أساس أنها فكرة غربية بحتة وهي تعني في معناها الفلسفي الغربنة (l’ Occidentalisation) وهو ما لا يمكن أن يستقيم فلسفيا.. خاصة وأن العولمة تظل لصيقة لمفهوم امتداد الحضارة ومجال الفعل الإنساني اجتماعيا وانثروبولوجيا.
من هنا نحن نتحدث عن مجال فكري جديد ينتمي الى فلسفة ما بعد العولمة في مقاربتها الغربية.. الى مجال جديد وهو إطار ما بعد العولمة لكن في مفهومها الشمولي المرتبط بعالم متعدد الأقطاب.. خاصة وأن العولمة مرتبطة أشد الارتباط بمفهوم امتداد الأفكار وتحرك الإنسان ضمن الفضاء الجغرافي العالمي.
إذن اليوم نحن قد نكون على شفا أن نعيش عالم "العولمة" المختلطة عالم ما بعد العولمة الغربية.. حيث أن لكل قطب عالمي جيوسياسي مفهومه وتفسيره للعولمة.. والذي يسعى لبث ثقافته ضمن الفضاء الدولي ويسعى من خلاله أن يؤسس شبكته في عولمة رأس المال (مثل ما تسعى إليه الصين من خلال إستراتيجية طريق وحزام الحرير وكذلك من خلال مقولة العالم الأوراسي الروسية والمقولة اللاتينية في أمريكا الجنوبية ومقولة عربية وإسلامية ضمن الفضاء العربي والإسلامي التي تسعى إليها الإمارات والسعودية).
من هنا يمكن فهم مقولة الرئيس قيس سعيد بشأن "نهاية العولمة".. وهو فلسفيا خاطئ إذ أن العولمة أصبحت واقعا ولكن الصحيح أن مفهوم الغربنة أصبح محددا مع اتساع الصراع الجيوسياسي وانتقاله من الغرب نحو الشرق من "الشمال الأطلسي" نحو "جنوب الهادئ" و"شرق المحيط الهندي".. وهو انتقال له انعكاسات كبيرة على رقعة الجغرافيا بدأ بحرب أوكرانيا ويبدو أنه لن يقف عندها فقط.
"نهاية العولمة" مقولة خاطئة خاصة مع التطور التكنولوجي في نقل المعلومات.. ونهاية الغربنة مفهوم كذلك خاطئ.. لأن الغربنة ستظل متواجدة مع تواصل الحلف بين ضفتي شمال الأطلسي ومع أستراليا في المحيط الهادئ..
لكن نحن اليوم في مرحلة ما بعد الحداثة.. وعلى أبواب عالم متعدد الأقطاب قد يجرنا لصراع جديد قائم على تجاذب بين الشرق والغرب وجوهره ثقافي فكري.
نحن اليوم على أبواب العولمة متعددة الأقطاب..