أحدثت المستجدات الأخيرة في تونس، التي شدت الرأيين العام والخاص على مستويين وطني وخارجي، "رجة" في عديد الأوساط، خاصة أن حملة الإيقافات بالجملة التي شملت أسماء سياسية وحزبية ونقابية ورجال أعمال وقضاة وغيرهم، كانت في نسق متصاعد بشكل غير مسبوق بعد أكثر من عام ونصف دخول بلادنا في مرحلة التدابير الاستثنائية وبعد انتهاء الروزنامة المحددة لهذه المرحلة والتي كان آخر مواعيدها تنظيم الانتخابات التشريعية في نسختها الجديدة على مرحلتين، وقبل أسابيع قليلة من مباشرة البرلمان الجديد لمهامه واستئناف مؤسسات الدولة لمهامها والعبور عمليا إلى الجمهورية الجديدة.
ولئن خلفت العملية حالة من الاستنفار في بعض الأوساط، باعتبار أن رئيس الجمهورية لطالما شدد على المحاسبة ونبه وهدد وتوعّد في عديد المناسبات بتطبيق القانون على من وصفهم بالفاسدين والمتلاعبين بقوت المواطنين والمتآمرين على الدولة، لكن لم يأخذ البعض كل ذلك مأخذ الجد خاصة أن الأنظار اتجهت إلى الإسراع بمحاسبة الأطراف المسؤولة على تردي الوضع في تونس على جميع المستويات لاسيما الفاعلين في منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 وخلال العشرية الماضية. إلا أن تعطل آلية المحاسبة لمدة أكثر من سنة ونصف من العوامل التي جعلت البعض "يستصغر" الدولة ويتمادوا في تجاوز القانون. إلا أن الوضع اليوم يبدو مختلفا بعد أن بينت المعطيات المتوفرة إلى حد الآن أن الجهات الرسمية عادة العزم على المضي في تطبيق سياسة المحاسبة.
لكن غياب الشفافية والغموض في التعاطي مع مثل هذه العمليات من العوامل التي من شأنها أن "تجهض" المحاسبة خاصة أن البعض يعتبر مسألة الإيقافات الأخيرة لها خلفيات سياسية بالأساس وتشمل المعارضين للمسار الذي يقود رئيس الجمهورية قيس سعيد أو من يساندونهم لا غير. الأمر الذي فتح المجال للقراءات والتأويلات للعملية وتنزيلها في سياقات التشفي والتجني والظلم والمس من مكاسب حرية الرأي والتعبير والإنذار بعودة الممارسات القمعية والديكتاتورية.
لتعود مسألة المحاسبة مرة أخرى إلى الواجهة بعد موجة الإيقافات والإقالات من المهام الإدارية والمهنية التي عرفتها بلادنا في فترة ما بعد ثورة 2011 وبعضهم لا يزال قابعا إلى اليوم في السجون وبعضهم توفي هناك وبعضهم الآخر لا يزال مشردا دون عمل أو مورد رزق أو فارا خارج حدود الوطن، هروبا من المحاسبة والأحكام بالسجن التي تلاحقه. وقد استنكرت عديد الجهات بعض الممارسات المسجلة خلال تلك الفترة على اعتبار أنها كانت للتشفي لا غير وليس لها علاقة بالفساد. وقد نددت عديد المنظمات والهياكل الحقوقية الوطنية والعالمية ببعض الممارسات تجاه بعض من تم إيقافهم أو إصدار أحكام سجنية في حقهم أو تعرض بعضهم الآخر إلى الابتزاز على اعتبار أن ذلك لا يعدو أن يكون سوى "مظلمة" ولأسباب سياسية بحتة، فيما لم تشمل آلية المحاسبة من أجرموا في حق الدولة والمواطن لعدة أسباب.
فأصوات عديدة كانت تطالب بالمحاسبة وتطبيق القانون وتدعو إلى تكريس دولة القانون والمؤسسات وضرورة وضع حد لحالة "الفوضى" التي تفشت في مختلف الأوساط والقطاعات. الأمر الذي فسح المجال للفساد لينخر مؤسسات الدولة ويهدد السيادة الوطنية. وقد كانت المنصات والمنابر الإعلامية بجميع محاملها وشبكات التواصل الاجتماعي شاهدة على مطالب عديد الجهات بضرورة وضع حد لحالة الفوضى والانفلات التي تعيشها بلادنا والتي طالت تداعياتها السلبية المقدرات الوطنية و"صورة" تونس والشخصية التونسية بشكل عام ليس خلال عشرية ما قبل 25 جويلية 2021 بل بتواصل التلاعب بالأسعار بشكل غير قانوني وبما يتنافى والمنظومة القانونية المحددة للمسالة والأعراف المعمول بها إضافة إلى الاستهتار بقوت المواطن بعد تلك الفترة أيضا دون مبالاة بصيحات الفزع التي ما انفكت تطلقها منظمات وهياكل مختصة أو مختصين في مجالات اجتماعية واقتصادية منبهين إلى خطورة الوضع.
ولعل ما يشد في مثل هذه التطورات المسجلة هو أنها تأتي قبل أسابيع قليلة من مباشرة مجلس نواب الشعب لمهامه بشكل عملي وقانوني. خاصة أن عددا كبيرا من النواب الجدد والأحزاب والتنظيمات المعنية بالمشاركة في هذه المرحلة السياسية أكدت انطلاقها عمليا في العمل والتحضير لمشاريع قوانين وذلك بالتركيز على الملفات والمسائل الحارقة التي تعتبرها من أولويات مهام المؤسسة التشريعية النظر فيها. الأمر الذي يجعل هذه الفترة بمثابة مرحلة انتقالية تمهد الطريق للعبور إلى الجمهورية الجديدة، باعتبار أن مهمة البرلمان الجديد ستكون مراجعة التشريعات القديمة ووضع تشريعات جديدة بما يتماشى وروح دستور 2022.
ولئن اتسمت أغلب المواقف بالتحفظ وعدم التسرع في إصدار الأحكام، إلا أن قراءات تنتصر لدولة القانون والمؤسسات وهبة الدولة والقطع مع ظاهرة "الإفلات من العقاب" التي ميزت المرحلة السابقة ودفعت البعض للتمادي في التعدي على حقوق الأفراد والمؤسسات لكن دون أن يشكل ذلك خطرا على الحريات أو يمهد الطريق لعودة الديكتاتورية تحت غطاء مقاومة الفساد والمحاسبة. ولعل ما يعزز المخاوف من ذلك هو أن الإيقافات المسجلة في المدة الأخيرة تتزامن مع تواصل مرحلة تسيير الدولة وفق التدابير الاستثنائية التي يتفرد فيها رئيس الدولة بالحكم.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
أحدثت المستجدات الأخيرة في تونس، التي شدت الرأيين العام والخاص على مستويين وطني وخارجي، "رجة" في عديد الأوساط، خاصة أن حملة الإيقافات بالجملة التي شملت أسماء سياسية وحزبية ونقابية ورجال أعمال وقضاة وغيرهم، كانت في نسق متصاعد بشكل غير مسبوق بعد أكثر من عام ونصف دخول بلادنا في مرحلة التدابير الاستثنائية وبعد انتهاء الروزنامة المحددة لهذه المرحلة والتي كان آخر مواعيدها تنظيم الانتخابات التشريعية في نسختها الجديدة على مرحلتين، وقبل أسابيع قليلة من مباشرة البرلمان الجديد لمهامه واستئناف مؤسسات الدولة لمهامها والعبور عمليا إلى الجمهورية الجديدة.
ولئن خلفت العملية حالة من الاستنفار في بعض الأوساط، باعتبار أن رئيس الجمهورية لطالما شدد على المحاسبة ونبه وهدد وتوعّد في عديد المناسبات بتطبيق القانون على من وصفهم بالفاسدين والمتلاعبين بقوت المواطنين والمتآمرين على الدولة، لكن لم يأخذ البعض كل ذلك مأخذ الجد خاصة أن الأنظار اتجهت إلى الإسراع بمحاسبة الأطراف المسؤولة على تردي الوضع في تونس على جميع المستويات لاسيما الفاعلين في منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 وخلال العشرية الماضية. إلا أن تعطل آلية المحاسبة لمدة أكثر من سنة ونصف من العوامل التي جعلت البعض "يستصغر" الدولة ويتمادوا في تجاوز القانون. إلا أن الوضع اليوم يبدو مختلفا بعد أن بينت المعطيات المتوفرة إلى حد الآن أن الجهات الرسمية عادة العزم على المضي في تطبيق سياسة المحاسبة.
لكن غياب الشفافية والغموض في التعاطي مع مثل هذه العمليات من العوامل التي من شأنها أن "تجهض" المحاسبة خاصة أن البعض يعتبر مسألة الإيقافات الأخيرة لها خلفيات سياسية بالأساس وتشمل المعارضين للمسار الذي يقود رئيس الجمهورية قيس سعيد أو من يساندونهم لا غير. الأمر الذي فتح المجال للقراءات والتأويلات للعملية وتنزيلها في سياقات التشفي والتجني والظلم والمس من مكاسب حرية الرأي والتعبير والإنذار بعودة الممارسات القمعية والديكتاتورية.
لتعود مسألة المحاسبة مرة أخرى إلى الواجهة بعد موجة الإيقافات والإقالات من المهام الإدارية والمهنية التي عرفتها بلادنا في فترة ما بعد ثورة 2011 وبعضهم لا يزال قابعا إلى اليوم في السجون وبعضهم توفي هناك وبعضهم الآخر لا يزال مشردا دون عمل أو مورد رزق أو فارا خارج حدود الوطن، هروبا من المحاسبة والأحكام بالسجن التي تلاحقه. وقد استنكرت عديد الجهات بعض الممارسات المسجلة خلال تلك الفترة على اعتبار أنها كانت للتشفي لا غير وليس لها علاقة بالفساد. وقد نددت عديد المنظمات والهياكل الحقوقية الوطنية والعالمية ببعض الممارسات تجاه بعض من تم إيقافهم أو إصدار أحكام سجنية في حقهم أو تعرض بعضهم الآخر إلى الابتزاز على اعتبار أن ذلك لا يعدو أن يكون سوى "مظلمة" ولأسباب سياسية بحتة، فيما لم تشمل آلية المحاسبة من أجرموا في حق الدولة والمواطن لعدة أسباب.
فأصوات عديدة كانت تطالب بالمحاسبة وتطبيق القانون وتدعو إلى تكريس دولة القانون والمؤسسات وضرورة وضع حد لحالة "الفوضى" التي تفشت في مختلف الأوساط والقطاعات. الأمر الذي فسح المجال للفساد لينخر مؤسسات الدولة ويهدد السيادة الوطنية. وقد كانت المنصات والمنابر الإعلامية بجميع محاملها وشبكات التواصل الاجتماعي شاهدة على مطالب عديد الجهات بضرورة وضع حد لحالة الفوضى والانفلات التي تعيشها بلادنا والتي طالت تداعياتها السلبية المقدرات الوطنية و"صورة" تونس والشخصية التونسية بشكل عام ليس خلال عشرية ما قبل 25 جويلية 2021 بل بتواصل التلاعب بالأسعار بشكل غير قانوني وبما يتنافى والمنظومة القانونية المحددة للمسالة والأعراف المعمول بها إضافة إلى الاستهتار بقوت المواطن بعد تلك الفترة أيضا دون مبالاة بصيحات الفزع التي ما انفكت تطلقها منظمات وهياكل مختصة أو مختصين في مجالات اجتماعية واقتصادية منبهين إلى خطورة الوضع.
ولعل ما يشد في مثل هذه التطورات المسجلة هو أنها تأتي قبل أسابيع قليلة من مباشرة مجلس نواب الشعب لمهامه بشكل عملي وقانوني. خاصة أن عددا كبيرا من النواب الجدد والأحزاب والتنظيمات المعنية بالمشاركة في هذه المرحلة السياسية أكدت انطلاقها عمليا في العمل والتحضير لمشاريع قوانين وذلك بالتركيز على الملفات والمسائل الحارقة التي تعتبرها من أولويات مهام المؤسسة التشريعية النظر فيها. الأمر الذي يجعل هذه الفترة بمثابة مرحلة انتقالية تمهد الطريق للعبور إلى الجمهورية الجديدة، باعتبار أن مهمة البرلمان الجديد ستكون مراجعة التشريعات القديمة ووضع تشريعات جديدة بما يتماشى وروح دستور 2022.
ولئن اتسمت أغلب المواقف بالتحفظ وعدم التسرع في إصدار الأحكام، إلا أن قراءات تنتصر لدولة القانون والمؤسسات وهبة الدولة والقطع مع ظاهرة "الإفلات من العقاب" التي ميزت المرحلة السابقة ودفعت البعض للتمادي في التعدي على حقوق الأفراد والمؤسسات لكن دون أن يشكل ذلك خطرا على الحريات أو يمهد الطريق لعودة الديكتاتورية تحت غطاء مقاومة الفساد والمحاسبة. ولعل ما يعزز المخاوف من ذلك هو أن الإيقافات المسجلة في المدة الأخيرة تتزامن مع تواصل مرحلة تسيير الدولة وفق التدابير الاستثنائية التي يتفرد فيها رئيس الدولة بالحكم.