حينما نفحص بدم باردو بخلفية استشرافية سلوك القادة المغاربيين في هذا السياق التاريخي شديد الخطورة على مستقبل أجيالنا، يجلب انتباهنا انغماسهم في النظر إلى تفاصيل الداخل، ويرعبنا توجسهم من الجار القريب الذي صنعوا بايديهم تَنَفٌره، ويدهشنا تعمدهم التعمية على ما يحيط بالمنطقة من مخاطر، وسعيهم إلى حجب احتمالات المستقبل عن المواطنين، وتفادي إشراكهم في مناقشتها.ويخجلنا سكوتنا عن الإصداع بالحقيقة وهي أن ما نحن فيه من تمزق وفقدان للثقة، إنما هو نتيجة عمائهم الجيوستراتيجي المتعمد أو غيرالكفء، العماء الذي جلب إلينا في الماضي، مقابل الاحتفاظ بالسلطة ومنافعها الخاصة، الهيمنة الاسبانية ثم التركية ثم الفرنسية والإيطالية، وقطع صلاتنا بإفريقيا، وبعثر أحلام حركات تحريرنا ضد الهيمنة الاستعمارية، فقزم طموحاتنا المشروعة، وعطل الاستفادة من عائدات مواردنا الحالية الكثيرة، وأفرغ ميزاننا السياسي من حمولته في جنوب المتوسط.
لا يخفى على كل المتابعين أن ما يجري الآن بين أكرانيا وروسيا، وما وراءهما من اصطفافات مرتبكة ولا يقينية، قد كشف عموما عن ملامح عصر جديد هو في طور التشكل والظهور، وعن تجاعيد وجه عالم آخر في مفترق طرق، عن تجاعيد وجه قديم نعرفه صنعته الطموحات والمصالح والجغرافيا، وأخفته لفترة طويلة مساحيق سياسية وإيديولوجية شتى، طال أمدها بفعل طول أمد هيمنة لغة القوة السياسة والاقتصادية الناعمة.
لكن المساحيق تفقد اليوم وظيفتها لتظهر نتوءات الوجه ولغة المصالح الحيوية وخفايا رغبة العقلانية الأداتية. لقد عبر جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوربي عن هذه الحقيقة وهي تمثُل أوربا لذاتها، عندما صرح بفلتة اللسان التي لا يُبطل مغزاها اعتذار، بأن "أوربا حديقة ومعظم العالم غابة"، وقد زاد بعدها فتحسر-في فترة الأزمة المستجدة للطاقة - على أن أوربا تخلت عن رسالتها العظيمة في نشر الحضارة التي أمنت بفضلها مواردها الخارجية.
بالنسبة لأوربا هذا هو الدرس العظيم الذي خرجت به من الحرب الروسية-الأوكرانية حتى قبل نهايتها: ما استطاعت دولها فرادى جمعه وضمان انسيابه من موارد بوسيلة الاستعمار،عجزت هي اليوم متحدة على ضمان تدفقه؛ والمصير المتوسط وبعيد المدى هو: إما البقاء بلا نهاية تحت الهيمنة السياسية الأمريكية، وإما التراجع الحضاري والانكماش وحتى التفكك، وإما استعادة القدرة الخاصة على ضمان المصالح الحوية و"الاحتطاب" من جديد -بالقوة إذا لزم الأمر- من الغابات المحيطة!
ليس هذا تهويلا ولا مزحة، بل هذه هي موضوعيا بشائر خارطة علاقات أوربا بالعالم في المستقبل إذا قدرت على ذلك، وهي تعمل اليوم ليلا نهارا، بكل طاقة خبرائها في المجال، في الجامعات ومراكز البحث، وفي مكاتب "الثينك-تنك"، على كيفية بناء قوتها العسكرية التدخلية، وعلى تصميم خططها السياسية الجيوستراتيجية المستقبلية، وعلى تحديث معارفها بتضاريس "الغابات المحيطة" واستغلال مخزون معارفها القديمة في استعادة السيطرة عليها بما يوافق العصر من أدوات.
من بين التحضيرات لكل هذه المشاريع الانتقالية، المادية والذهنية،الضخمة التي تعمل عليها أوربا حاليا وغيرها من الدول القوية في العالم، وتلك التي تحاول في الفترة الأخيرة دخول المنافسة في المتوسط (تركيا)، هناك مشروع التتبع الدقيق واللصيق للتحولات الاجتماعية الجارية في "الغابات المجاورة"، وتحويل قسم من العقول والأذهان والموارد البشرية في مراكز اتخاذ القرار فيها إلى وسائط لاستراتيجيات "التحطيب" النوعية والجديدة المقبلة.
وحدود الغابة الأقرب والأطول، وربما الأخطر في العلاقات الأوربية الخارجية المستقبلية، هي حدود البلاد المغاربية، مقارنة بالمشرق العربي حيث الساحة مفتوحة للصراع بين كل القوى الدولية. ذلك أنه مثلما تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أمريكا الجنوبية حديقتها الخلفية، تعتبر أوربا، وفي مقدمتها فرنسا، البلاد المغاربية من ضمن فضائها الجيوستراتيجي الذي من حقها احتكار اللعب فيه بحرية. وبسبب السياق العالمي الجديد المتحكم اليوم في العلاقات الدولية والإقليمية،والذي دشنته أحداث "الربيع العربي" وأعطته الحرب الروسية-الأكرانية لونه القاني،حزمت أوروبا أمرها بالتأكيد على أن قضايا الطاقة المتحكمة في الاقتصاد،والأمن الضامن للمواقع السياسية المكتسبة في "الغابات المجاورة"، وأهمها البلاد المغاربية، هي أهم مفاتيح عبور المرحلة.
وهكذا فإن من ردود الفعل الواعية على هذه المستجدات: المتابعة الحثيثة لثورات الربيع العربي عن طريق مساندة الخيول المناسبة وإزاحة الخيول الجامحة بطرق شتى، والاستثمار الضخم، عبر مخابر وجمعيات البحوث في المركز والشراكة الأكاديمية وأنشطة مؤسسات المجتمع المدني في الأطراف، في مشاريع بحثية ترصد التحولات السكانية (الخصوبة والعائلة والنمو الديمغرافي) والثقافية (القيم الصاعدة والإيديولوجيات والنماذج المجتمعية والميديا) والاجتماعية ( القوى الفاعلة -حتى على المستوى المحلي الضيق- والهجرة وتكوين الأدمغة) والاقتصادية-السياسية (الدولة والسلطة والموارد الطاقية). وهي الآن تعيد تقييم الخيارات المستقبلية السياسية-الثقافية المحتملة في المنطقة وتفحص أسسها لتكون على أهبة الاستعداد للتعامل معها وتحييد غير المناسب منها.
إن هذا ليس جديدا، وهو حقها من منظور داخلي، و هو يمكن أن يكون مقبولا حتى من طرف المستهدفين بهذه السلطة المعرفية بشرط الوعي بها والقدرة على الاستفادة بشكل نقدي من مخرجاتها. لكن هذه المشاريع وبشائرها بدأت تظهرهنا وهناك، ونخبنا شبه نائمة، وأخطرها صنع وسائل الفهم والادراك، الذي يصنع الوعي ويبني الهويات ويصنع تمثلات المصالح الجيوستراتيجية . وحتى ندرك ذلك بدقة نقدم المثال التالي: عندما تدخلت الدول الأوربية في ليبيا جاء خبراؤها ومعهم بعض الخبراء المغاربيين الذين تتلمذوا على يديهم، بعدتهم التي خبروها في تحليل الظواهر السياسية. وكم كانت خيبتهم عندما لم يجدوا مجتمعا مدنيا يوافق تعريفهم للمفهوم، ولم يجدوا صراعا طبقيا جليا يفسرون به الأحداث، ولم يجدوا طبقة وسطى ينسبون إليها فكرة الثورة وقيادتها، ولم يجدوا أحزابا ولا نقابات لها من الحضور الشعبي ما يسمح بالاستفادة منها بوسيلة شراء الذمم؛ فلم يروا بدا أمام ذلك من فتح صندوق معرفتهم الانثروبولوجية الكولونيالية، وذلك بإعادة اختراع القبائل وتحديث خرائط حدودها الوهمية ونشرها، وإعطاء الشرعية لقادة لها زودوهم بالموارد كي يستطيعوا الادعاء بتمثيلهم لكيانات قرابية-سياسية ثابتة، ليصبحوا بعد ذلك لعبة بين أيديهم. وليبيا ترزح اليوم تحت كل هذه السياسة المعرفية-العملية التي تستهدف الأذهان وتمثل العلاقات والأشياء. وهناك اليوم نشاط حثيث ومحموم، تقوم به مراكز بحث وتجسس منتشرة في كل مكان في أوربا، هدفها الترويج عبر وسائط التواصل الاجتماعي والتعاون البحثي، في طول البلاد المغاربية وعرضها، لمقولات الأصل الاثني والقرابي والجهوي والجيني للأفراد والجماعات، بهدف إعادة تشكيل الهويات والانتماءات وقد فعلت فرنسا ذلك سابقا سنة 1930 عندما سنت الظهير البربري الذي فجر حركة التحرير الوطنية المغربية. وتنشر مجلات غربية اليوم خرائط قديمة لكل بلد مغاربي تظهر فيها حدوده داخل حدود البلد المجاور، وتتسرب هذه الخرائط بطرق مدهشة إلى وسائط التواصل الاجتماعي ليجري شحن النقاش بشأنها والتعليق عليها أحيانا بخلفية سوء توزيع الثروات في المنطقة...ومثل هذه المخاتلات الذهنية كثيرة جدا...بينما النخب السياسية بعضها نائم، وبعضها شريك واع وبعضها أحمق.
إن هذه من سياسة الأقوياء، وقد استخدمتها أمريكا في العراق والنتيجة أمامنا (ندد بها الانثروبولوجيون الأمريكيون بحد ذاتهم)، وتركيا في سوريا، ودول الخليج في اليمن ولكن بخبرة وموارد بشرية تقليدية، وتُستخدم الآن في السودان، وتفادتها الجزائر لنضج القوى الحية فيها خلال مظاهرات 2019، ولأن السلطة الجزائرية ارتعبت من الحالات الشاخصة أمامها، بينما كانت مصلحة أوربا، التي لا تهمها الديمقراطية بقدر ما يهمها ضمان الاستقرار والأمن في المنطقة، أن يستقر الوضع ولا يفلت عن السيطرة؛ وهي تتحسر اليوم على نظام بن علي.
من الناحية النظرية يشكل سياق الربيع العربي، وتحديات وباء كورونا، والحرب الروسية-الأكرانية ومشاكل أوربا، فرصة يصعب تكرارها لخلق دينامية وحدة مغاربية اقتصادية وثقافية تحررية، منفلتة من الإرث الكولونيالي، تسندها رغبة شعوب المغرب الكبير التي تشترك في المرجعيات والذاكرة التاريخية العامة، وفي وعيهم الحي بمصيرهم المشترك، وتوحدهم الجغرافيا ويسندهم في حلمهم توفر الموارد. لكن القادة المغاربين يحجبون عن اكل هذه الرهانات، وينغمسون في إدارة الشؤون الداخلية بما يخدم بقاءهم في السلطة، بل أن بعض هذه النخب جزء من المخزون الكولونيالي وامتدادته البعدية المُستخدَمة في تحقيق رهاناته القديمة-الجديدة.
كيف يمكن لهؤلاء أن يحجبوا عنا حقيقة أن دخول إسرائيل الإستعمارية الكولونيالية إلى الملعب الاستخباراتي والسياسي المغاربي ليست إلا من إنتاج القادة الجزائريين والمغاربة الفاشلين في حل مشكلة الصحراء دون تدخل خارجي، وربما تتحمل الجزائر في ذلك القسط الأكبر، إذ أنه لا أحد مقتنع، أمام كفاية موارد البلاد وامتداد حدودها، أن ضم الصحراء الغربية أو بعضها للمغرب يشكل خسارة استراتيجية للجزائر؟ دعك من فكرة حرية تقرير مصير الشعب الصحراوي مادامت فكرة الوحدة المغاربية لا تمثل رهانا حقيقيا عند هذه النخب ولا أفقا ينظرون من خلاله إلى هذه القضية! إن القادة الجزائريين لا يمكنهم الدفاع عن موقفهم إلا إذا انطلقوا من قناعات الإرث الكولونيالي وضغائن السلطة والهيمنة، أو فكروا من خارج الأفق المغاربي ومستقبل الأجيال القادمة، فأظهروا أنهم لا يؤمنون على الإطلاق بالوحدة الاقتصادية والتعليمية والثقافية المغاربية التي تبني الوحدة على التنوع.
ولا يبدو اليوم أن هذا الأفق مفتوحا، وهو ما يخدم طموحات الطامعين فينا، المُنشطين لهوياتنا وصراعاتنا المحلية إعدادا للعقول بقبول ومساعدة التدخل الخارجي عندما تأتي الحاجة، أي عندما تصبح إعادة اختراع مروحة باشا الجزائر خيارا ممكنا!. ومن مؤشرات ذلك أن الجزائر، الدولة التي ترى في نفسها أنه بإمكانها أن تكون قاطرة البلاد المغاربية نحو التنمية والتحرر الاقتصادي-السياسي، لا تستغل الأزمة التونسية في اتجاه الدفع نحو الوحدة المغاربية بل تستفيد منها في فرض منطق الانحياز على الدبلوماسية التونسية وموقف الريبة في طرابلس الغارقة في غياب الاستراتيجيا المغاربية المُوحدة. ومن جانبه فشل المغرب في تقديم قضية الصحراء من منظور الوحدة المغاربية الشرعية والضرورية، واختار أمنه من خارج البلاد المغاربية، مستقويا على الجزائر بالعدو الاسرائيلي. وفي الأثناء لا تجد الطاقة سبيلا نحو تحفيز وتغذية شرايين الاقتصاد المغاربي،لا شرقا ولا غربا ولا جنوبا، وتجد كل العناية التي توجهها نحو الشمال بسلاسة!!!
أيها القادة المغاربيون لقد أظهرتم عدم اكتراثكم بمصالح الأجيال القادمة طيلة أزيد من نصف قرن، ولا مبالاتكم بفكرة الوحدة المغاربية، وعدم استعدادكم الذهني والمؤسساتي لانتهاز فرصة السياق العالمي الحالي للتقدم على درب بناء الوحدة الاقتصادية لبلدانكم، وتحاولون كل يوم دفن هذا الأمل المشروع الشبابي الواعد تنمويا، وها أنتم تجعلوننا نكاد نكون في بداية القرن 16 ميلادي، ومن المحتمل أن تعيدوا بسجونكم الذهنية والمصلحية الموروثة ما فعله أجدادكم من طرابلس إلى طنجة، حينما حرموا أنفسهم والأجيال الموالية، نتيجة ضعفهم وخلافاتهم، من الاستمرار في التاريخ، فتقدم على حسابهم الاسبان ومن جاء من بعدهم. إما أن تكونوا مؤهلين لإهداء أبنائنا الأسس المغاربية التي سيبنون عليها مستقبلهم، مغرب كبير منفتح ندا لند على مجتمعات البحر الأبيض المتوسط، وشريك فاعل وموثوق مع شعوب جنوب الصحراء، وقوة حرة في توثيق علاقاتها المثمرة مع القوى الجديدة الصاعدة في العالم، وإما أن تواصلوا التفكير بمنطق الإرث الكولونيالي، فتهيئوا شروط إعادة واقعة مروحة الباشا....بوسائل وبتفاصيل جديدة، وتكونون كأجدادكم مسؤولين على هزيمتنا التاريخية...وإن غدا لناظره قريب.
بقلم:مولدي الأحمر
حينما نفحص بدم باردو بخلفية استشرافية سلوك القادة المغاربيين في هذا السياق التاريخي شديد الخطورة على مستقبل أجيالنا، يجلب انتباهنا انغماسهم في النظر إلى تفاصيل الداخل، ويرعبنا توجسهم من الجار القريب الذي صنعوا بايديهم تَنَفٌره، ويدهشنا تعمدهم التعمية على ما يحيط بالمنطقة من مخاطر، وسعيهم إلى حجب احتمالات المستقبل عن المواطنين، وتفادي إشراكهم في مناقشتها.ويخجلنا سكوتنا عن الإصداع بالحقيقة وهي أن ما نحن فيه من تمزق وفقدان للثقة، إنما هو نتيجة عمائهم الجيوستراتيجي المتعمد أو غيرالكفء، العماء الذي جلب إلينا في الماضي، مقابل الاحتفاظ بالسلطة ومنافعها الخاصة، الهيمنة الاسبانية ثم التركية ثم الفرنسية والإيطالية، وقطع صلاتنا بإفريقيا، وبعثر أحلام حركات تحريرنا ضد الهيمنة الاستعمارية، فقزم طموحاتنا المشروعة، وعطل الاستفادة من عائدات مواردنا الحالية الكثيرة، وأفرغ ميزاننا السياسي من حمولته في جنوب المتوسط.
لا يخفى على كل المتابعين أن ما يجري الآن بين أكرانيا وروسيا، وما وراءهما من اصطفافات مرتبكة ولا يقينية، قد كشف عموما عن ملامح عصر جديد هو في طور التشكل والظهور، وعن تجاعيد وجه عالم آخر في مفترق طرق، عن تجاعيد وجه قديم نعرفه صنعته الطموحات والمصالح والجغرافيا، وأخفته لفترة طويلة مساحيق سياسية وإيديولوجية شتى، طال أمدها بفعل طول أمد هيمنة لغة القوة السياسة والاقتصادية الناعمة.
لكن المساحيق تفقد اليوم وظيفتها لتظهر نتوءات الوجه ولغة المصالح الحيوية وخفايا رغبة العقلانية الأداتية. لقد عبر جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوربي عن هذه الحقيقة وهي تمثُل أوربا لذاتها، عندما صرح بفلتة اللسان التي لا يُبطل مغزاها اعتذار، بأن "أوربا حديقة ومعظم العالم غابة"، وقد زاد بعدها فتحسر-في فترة الأزمة المستجدة للطاقة - على أن أوربا تخلت عن رسالتها العظيمة في نشر الحضارة التي أمنت بفضلها مواردها الخارجية.
بالنسبة لأوربا هذا هو الدرس العظيم الذي خرجت به من الحرب الروسية-الأوكرانية حتى قبل نهايتها: ما استطاعت دولها فرادى جمعه وضمان انسيابه من موارد بوسيلة الاستعمار،عجزت هي اليوم متحدة على ضمان تدفقه؛ والمصير المتوسط وبعيد المدى هو: إما البقاء بلا نهاية تحت الهيمنة السياسية الأمريكية، وإما التراجع الحضاري والانكماش وحتى التفكك، وإما استعادة القدرة الخاصة على ضمان المصالح الحوية و"الاحتطاب" من جديد -بالقوة إذا لزم الأمر- من الغابات المحيطة!
ليس هذا تهويلا ولا مزحة، بل هذه هي موضوعيا بشائر خارطة علاقات أوربا بالعالم في المستقبل إذا قدرت على ذلك، وهي تعمل اليوم ليلا نهارا، بكل طاقة خبرائها في المجال، في الجامعات ومراكز البحث، وفي مكاتب "الثينك-تنك"، على كيفية بناء قوتها العسكرية التدخلية، وعلى تصميم خططها السياسية الجيوستراتيجية المستقبلية، وعلى تحديث معارفها بتضاريس "الغابات المحيطة" واستغلال مخزون معارفها القديمة في استعادة السيطرة عليها بما يوافق العصر من أدوات.
من بين التحضيرات لكل هذه المشاريع الانتقالية، المادية والذهنية،الضخمة التي تعمل عليها أوربا حاليا وغيرها من الدول القوية في العالم، وتلك التي تحاول في الفترة الأخيرة دخول المنافسة في المتوسط (تركيا)، هناك مشروع التتبع الدقيق واللصيق للتحولات الاجتماعية الجارية في "الغابات المجاورة"، وتحويل قسم من العقول والأذهان والموارد البشرية في مراكز اتخاذ القرار فيها إلى وسائط لاستراتيجيات "التحطيب" النوعية والجديدة المقبلة.
وحدود الغابة الأقرب والأطول، وربما الأخطر في العلاقات الأوربية الخارجية المستقبلية، هي حدود البلاد المغاربية، مقارنة بالمشرق العربي حيث الساحة مفتوحة للصراع بين كل القوى الدولية. ذلك أنه مثلما تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أمريكا الجنوبية حديقتها الخلفية، تعتبر أوربا، وفي مقدمتها فرنسا، البلاد المغاربية من ضمن فضائها الجيوستراتيجي الذي من حقها احتكار اللعب فيه بحرية. وبسبب السياق العالمي الجديد المتحكم اليوم في العلاقات الدولية والإقليمية،والذي دشنته أحداث "الربيع العربي" وأعطته الحرب الروسية-الأكرانية لونه القاني،حزمت أوروبا أمرها بالتأكيد على أن قضايا الطاقة المتحكمة في الاقتصاد،والأمن الضامن للمواقع السياسية المكتسبة في "الغابات المجاورة"، وأهمها البلاد المغاربية، هي أهم مفاتيح عبور المرحلة.
وهكذا فإن من ردود الفعل الواعية على هذه المستجدات: المتابعة الحثيثة لثورات الربيع العربي عن طريق مساندة الخيول المناسبة وإزاحة الخيول الجامحة بطرق شتى، والاستثمار الضخم، عبر مخابر وجمعيات البحوث في المركز والشراكة الأكاديمية وأنشطة مؤسسات المجتمع المدني في الأطراف، في مشاريع بحثية ترصد التحولات السكانية (الخصوبة والعائلة والنمو الديمغرافي) والثقافية (القيم الصاعدة والإيديولوجيات والنماذج المجتمعية والميديا) والاجتماعية ( القوى الفاعلة -حتى على المستوى المحلي الضيق- والهجرة وتكوين الأدمغة) والاقتصادية-السياسية (الدولة والسلطة والموارد الطاقية). وهي الآن تعيد تقييم الخيارات المستقبلية السياسية-الثقافية المحتملة في المنطقة وتفحص أسسها لتكون على أهبة الاستعداد للتعامل معها وتحييد غير المناسب منها.
إن هذا ليس جديدا، وهو حقها من منظور داخلي، و هو يمكن أن يكون مقبولا حتى من طرف المستهدفين بهذه السلطة المعرفية بشرط الوعي بها والقدرة على الاستفادة بشكل نقدي من مخرجاتها. لكن هذه المشاريع وبشائرها بدأت تظهرهنا وهناك، ونخبنا شبه نائمة، وأخطرها صنع وسائل الفهم والادراك، الذي يصنع الوعي ويبني الهويات ويصنع تمثلات المصالح الجيوستراتيجية . وحتى ندرك ذلك بدقة نقدم المثال التالي: عندما تدخلت الدول الأوربية في ليبيا جاء خبراؤها ومعهم بعض الخبراء المغاربيين الذين تتلمذوا على يديهم، بعدتهم التي خبروها في تحليل الظواهر السياسية. وكم كانت خيبتهم عندما لم يجدوا مجتمعا مدنيا يوافق تعريفهم للمفهوم، ولم يجدوا صراعا طبقيا جليا يفسرون به الأحداث، ولم يجدوا طبقة وسطى ينسبون إليها فكرة الثورة وقيادتها، ولم يجدوا أحزابا ولا نقابات لها من الحضور الشعبي ما يسمح بالاستفادة منها بوسيلة شراء الذمم؛ فلم يروا بدا أمام ذلك من فتح صندوق معرفتهم الانثروبولوجية الكولونيالية، وذلك بإعادة اختراع القبائل وتحديث خرائط حدودها الوهمية ونشرها، وإعطاء الشرعية لقادة لها زودوهم بالموارد كي يستطيعوا الادعاء بتمثيلهم لكيانات قرابية-سياسية ثابتة، ليصبحوا بعد ذلك لعبة بين أيديهم. وليبيا ترزح اليوم تحت كل هذه السياسة المعرفية-العملية التي تستهدف الأذهان وتمثل العلاقات والأشياء. وهناك اليوم نشاط حثيث ومحموم، تقوم به مراكز بحث وتجسس منتشرة في كل مكان في أوربا، هدفها الترويج عبر وسائط التواصل الاجتماعي والتعاون البحثي، في طول البلاد المغاربية وعرضها، لمقولات الأصل الاثني والقرابي والجهوي والجيني للأفراد والجماعات، بهدف إعادة تشكيل الهويات والانتماءات وقد فعلت فرنسا ذلك سابقا سنة 1930 عندما سنت الظهير البربري الذي فجر حركة التحرير الوطنية المغربية. وتنشر مجلات غربية اليوم خرائط قديمة لكل بلد مغاربي تظهر فيها حدوده داخل حدود البلد المجاور، وتتسرب هذه الخرائط بطرق مدهشة إلى وسائط التواصل الاجتماعي ليجري شحن النقاش بشأنها والتعليق عليها أحيانا بخلفية سوء توزيع الثروات في المنطقة...ومثل هذه المخاتلات الذهنية كثيرة جدا...بينما النخب السياسية بعضها نائم، وبعضها شريك واع وبعضها أحمق.
إن هذه من سياسة الأقوياء، وقد استخدمتها أمريكا في العراق والنتيجة أمامنا (ندد بها الانثروبولوجيون الأمريكيون بحد ذاتهم)، وتركيا في سوريا، ودول الخليج في اليمن ولكن بخبرة وموارد بشرية تقليدية، وتُستخدم الآن في السودان، وتفادتها الجزائر لنضج القوى الحية فيها خلال مظاهرات 2019، ولأن السلطة الجزائرية ارتعبت من الحالات الشاخصة أمامها، بينما كانت مصلحة أوربا، التي لا تهمها الديمقراطية بقدر ما يهمها ضمان الاستقرار والأمن في المنطقة، أن يستقر الوضع ولا يفلت عن السيطرة؛ وهي تتحسر اليوم على نظام بن علي.
من الناحية النظرية يشكل سياق الربيع العربي، وتحديات وباء كورونا، والحرب الروسية-الأكرانية ومشاكل أوربا، فرصة يصعب تكرارها لخلق دينامية وحدة مغاربية اقتصادية وثقافية تحررية، منفلتة من الإرث الكولونيالي، تسندها رغبة شعوب المغرب الكبير التي تشترك في المرجعيات والذاكرة التاريخية العامة، وفي وعيهم الحي بمصيرهم المشترك، وتوحدهم الجغرافيا ويسندهم في حلمهم توفر الموارد. لكن القادة المغاربين يحجبون عن اكل هذه الرهانات، وينغمسون في إدارة الشؤون الداخلية بما يخدم بقاءهم في السلطة، بل أن بعض هذه النخب جزء من المخزون الكولونيالي وامتدادته البعدية المُستخدَمة في تحقيق رهاناته القديمة-الجديدة.
كيف يمكن لهؤلاء أن يحجبوا عنا حقيقة أن دخول إسرائيل الإستعمارية الكولونيالية إلى الملعب الاستخباراتي والسياسي المغاربي ليست إلا من إنتاج القادة الجزائريين والمغاربة الفاشلين في حل مشكلة الصحراء دون تدخل خارجي، وربما تتحمل الجزائر في ذلك القسط الأكبر، إذ أنه لا أحد مقتنع، أمام كفاية موارد البلاد وامتداد حدودها، أن ضم الصحراء الغربية أو بعضها للمغرب يشكل خسارة استراتيجية للجزائر؟ دعك من فكرة حرية تقرير مصير الشعب الصحراوي مادامت فكرة الوحدة المغاربية لا تمثل رهانا حقيقيا عند هذه النخب ولا أفقا ينظرون من خلاله إلى هذه القضية! إن القادة الجزائريين لا يمكنهم الدفاع عن موقفهم إلا إذا انطلقوا من قناعات الإرث الكولونيالي وضغائن السلطة والهيمنة، أو فكروا من خارج الأفق المغاربي ومستقبل الأجيال القادمة، فأظهروا أنهم لا يؤمنون على الإطلاق بالوحدة الاقتصادية والتعليمية والثقافية المغاربية التي تبني الوحدة على التنوع.
ولا يبدو اليوم أن هذا الأفق مفتوحا، وهو ما يخدم طموحات الطامعين فينا، المُنشطين لهوياتنا وصراعاتنا المحلية إعدادا للعقول بقبول ومساعدة التدخل الخارجي عندما تأتي الحاجة، أي عندما تصبح إعادة اختراع مروحة باشا الجزائر خيارا ممكنا!. ومن مؤشرات ذلك أن الجزائر، الدولة التي ترى في نفسها أنه بإمكانها أن تكون قاطرة البلاد المغاربية نحو التنمية والتحرر الاقتصادي-السياسي، لا تستغل الأزمة التونسية في اتجاه الدفع نحو الوحدة المغاربية بل تستفيد منها في فرض منطق الانحياز على الدبلوماسية التونسية وموقف الريبة في طرابلس الغارقة في غياب الاستراتيجيا المغاربية المُوحدة. ومن جانبه فشل المغرب في تقديم قضية الصحراء من منظور الوحدة المغاربية الشرعية والضرورية، واختار أمنه من خارج البلاد المغاربية، مستقويا على الجزائر بالعدو الاسرائيلي. وفي الأثناء لا تجد الطاقة سبيلا نحو تحفيز وتغذية شرايين الاقتصاد المغاربي،لا شرقا ولا غربا ولا جنوبا، وتجد كل العناية التي توجهها نحو الشمال بسلاسة!!!
أيها القادة المغاربيون لقد أظهرتم عدم اكتراثكم بمصالح الأجيال القادمة طيلة أزيد من نصف قرن، ولا مبالاتكم بفكرة الوحدة المغاربية، وعدم استعدادكم الذهني والمؤسساتي لانتهاز فرصة السياق العالمي الحالي للتقدم على درب بناء الوحدة الاقتصادية لبلدانكم، وتحاولون كل يوم دفن هذا الأمل المشروع الشبابي الواعد تنمويا، وها أنتم تجعلوننا نكاد نكون في بداية القرن 16 ميلادي، ومن المحتمل أن تعيدوا بسجونكم الذهنية والمصلحية الموروثة ما فعله أجدادكم من طرابلس إلى طنجة، حينما حرموا أنفسهم والأجيال الموالية، نتيجة ضعفهم وخلافاتهم، من الاستمرار في التاريخ، فتقدم على حسابهم الاسبان ومن جاء من بعدهم. إما أن تكونوا مؤهلين لإهداء أبنائنا الأسس المغاربية التي سيبنون عليها مستقبلهم، مغرب كبير منفتح ندا لند على مجتمعات البحر الأبيض المتوسط، وشريك فاعل وموثوق مع شعوب جنوب الصحراء، وقوة حرة في توثيق علاقاتها المثمرة مع القوى الجديدة الصاعدة في العالم، وإما أن تواصلوا التفكير بمنطق الإرث الكولونيالي، فتهيئوا شروط إعادة واقعة مروحة الباشا....بوسائل وبتفاصيل جديدة، وتكونون كأجدادكم مسؤولين على هزيمتنا التاريخية...وإن غدا لناظره قريب.