إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

السينما التونسية تفقد احد ابرز اعلامها.. رحيل صاحب"عزيزة "و"سجنان"و"النخيل الجريح".. المخرج عبد اللطيف بن عمار

 

تونس– الصباح

أن كان هناك من سمة بارزة لسينما لعبد اللطيف بن عمار فهي تلك القدرة على الانصات  جيدا لنبض المجتمع التونسي ورصد  التغييرات التي يعيشها في مراحل مفصلية من تاريخه المعاصر  بلغة بصرية منتقاة بذكاء.

 ولاجل ذلك  تعتبر كل افلامه ذات قيمة عالية لا سيما من خلال  دعم المكتبة السينمائية بافلام تونسية ترسم ملامح المجتمع التونسي بواقعية بعيدا عن التجنيح بعيدا في الخيال وبعيدا عن الاسقاطات المفروضة والمجانية التي طبعت العديد من الافلام التونسية. وبرحيله تفقد الساحة التونسية اسما كبيرا  وشخصية فاعلة مكنت السينما التونسية من فرض وجودها بالمحافل الدولية. فقد مثل عبد اللطيف بن عمار تونس لأول مرة في مهرجان"كان" الدولي وهو في بداياته بفيلم  يحمل عنوان"حكاية بسيطة كهذه" سنة 1970. وقد نال الفيلم التانيت البرونزي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية لدورة نفس العام.

لكن عبد اللطيف بن عمار اشتهر بالخصوص من خلال فيلمين وهما "سجنان" و"عزيزة". وقد كرس الفيلمان وجود المخرج كأحد الاسماء الفاعلة في السينما العربية وانتبه النقاد لمحاولاته تقديم سينما جديدة مختلفة  متأثرة بالمناخ التونسي وقريبة من بيئة المخرج وخاصة قريبة  من نبض المجتمع.

سينما  ترصد نبض المجتمع

في " سجنان" (1974)  الفيلم الذي تدور أحداثه في بداية  الخمسينات من القرن الماضي ، رصد عبد اللطيف بن عمار الوعي السياسي  الجديد في تونس  ولحظة تكوين جيل من المناضلين بلغوا من النضج السياسي ومن الوعي بأهمية المرحلة وخطورتها ما جعلهم يعتقدون أنه  قد حان الوقت للمرور من المناوشات إلى المواجهة الحقيقية مع المحتل الفرنسي. مع العلم أن بداية الخمسينات في تونس شهدت منعرجا هاما في الحركة الوطنية ضد المستعمر واشتد فيها قمع السلطات الفرنسية  وارتفع فيها نشاط الحركات الارهابية ضد الوطنيين من بينها " اليد الحمراء" التي اغتالت الزعيم فرحات حشاد كما تعرض العديد من المناضلين إلى الايقاف والابعاد لكن حركة المقاومة لم تخفت بل على العكس تواصلت باكثر صلابة وانتهت باجبار قوات الاحتلال على الاعتراف بالاستقلال الداخلي في 1955 ثم الاستقلال التام في 1956.

هذه الفترة صورها عبد اللطيف بن عمار بواقعية جديدة مرتبطة بنبض المجتمع وبلغة بصرية واضحة وسلسة وبمفردات سينمائية مستساغة وفيها نوع من الشاعرية التي يمكن ملاحظته في اغلب افلامه القادمة وهي"عزيزة " التي اعتبرت تحفة سينمائية لدى العديد من النقاد ونغم الناعورة والنخيل الجريح.

وفي فيلم "عزيزة" (1980) التي توج عنه بجائزة التانيت الذهبي بأيام قرطاج السينمائية في نفس العام ( فيلم سجنان نال التاتيت الفضي ) اهتم عبد اللطيف بن عمار بقضية المرأة في تونس من خلال شخصية عزيزة. وكان فيلمه عبارة عن وثيقة بصرية حول انعتاق المرأة وافتكاكها لحريتها وقام بذلك بواقعية مدهشة. فهو لم يصور لنا قصة امرأة خارقة وإنما امرأة عادية كانت تعيش في بيئة تقليدية اضطرتها الظروف لتنتقل مع عمها واسرته من المدينة العتيقة إلى احواز  العاصمة إلى اكتشاف عالم العمل والتعويل على الذات لاعالة نفسها. 

آلاف القصص المشابهة يمكن أن نعثر عليها في المجتمع حيث لم تكن عملية التحرر والانعتاق سهلة وكثيرا ما يكون الرجل – الزوج أو الأخ  أو حتى  ابن العم -على غرار ما حدث في فيلم عزيزة عقبة أمام تحرر المرأة. وتكمن عبقرية عبد اللطيف بن عمار في رصد هذا التحول المشهود في المجتمع التونسي بسلاسة بعيدا عن التضخيم والتهليل وبعيدا أيضا عن المحاكمة. قدمه كما هو قريبا جدا من الحقيقة، حيث خرجت المرأة إلى سوق الشغل وتولد لديها وعي جديد يقوم على  فكرة الاستقلالية والاعتماد على الذات. قدم ذلك  بمفردات فنية أنيقة وبتركيز الكاميرا على تفاصيل امرأة تبدو من بعيد عاجزة وبائسة ولكن عندما تقترب الكاميرا منها أكثر ويرتسم الضوء على وجهها نكتشف أنها امرأة مختلفة.  أنها تحمل بين جنباتها قوة استثنائية تجعلها متوثبة للمواجهة وهي-وهذه لمسة شاعرية من المخرج الراحل- امرأة جميلة وفاتنة كذلك.

افلام مؤثرة في المشهد السينمائي   

لم ينجز عبد اللطيف بن عمار افلاما كثيرة في مسيرته الطويلة التي انطلقت منذ الستينات وهو الذي بدأ منذ الشباب المبكر لكنه تمكن من تقديم سينما مختلفة ومؤثرة. ففي فيلمه نغم الناعورة( 2002) واذ واصل تقديمه المرأة في تونس بواقعية تثير الاعجاب( من خلال شخصية زينب المطلقة والممزقة بين التوق  للحرية وصعوبات الحياة دون وجهة معينة أو مشروع أو مال) فإنه قدم رؤية جديدة للسينما دعا فيها المشاهد إلى رحلة إلى الجنوب التونسي، إذ تجوب  سيارة فارهة لتونسي عائد من امريكا، صحبة زينب وشخص ثالث هو أيضا تائه بين الماضي والحاضر، الطريق لتكشف عن مشاهد طبيعية مذهلة وتحتل الموسيقي مكانة بارزة في الفيلم  حيث تفتح أفاقا في زحمة التيه والتمزقات التي  يعيشها الابطال، وهو ما يمنح الفيلم  قيمة عالية في مدونة السينما في تونس وكشف فيها عبد اللطيف بن عمار عن هاجس واضح يتمثل في  السعي لتقديم شيء مختلف مع مواكبة لتطورات السينما في العالم وتطور الذائقة في تونس.

وقد عاد مع فيلم النخيل الجريح إلى فترة من تاريخ تونس المرتبط بالاستعمار وتحدث هذه المرة عن معركة بنزرت التي حققت بها تونس الاستقلال الكامل والجلاء التام عن اراضيها. احداث النخيل الجريح تدور  سنة 1961 في بنزرت التي شهدت معركة الجلاء.  الفيلم مضمخ بالذكريات وفيه شجن كبير يعكس أو يترجم عن مشاعر التونسيين المزدوجة من معركة الجلاء. فهي بقدر ما تثير فيهم الاعتزاز بقدر ما تذكّرهم  بأن المعركة  مع العدو كانت غير متكافئة وربما كان من الممكن تجنب المجزرة. فإلى اليوم لم تنبلج الحقيقة كاملة حول المعركة التي سقط فيها الكثير من الابرياء التونسيين وهو من الاعمال التي تذكر بالتاريخ النضالي المشترك بين التونسيين والجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي.

واضافة إلى عمله  بالسينما اخرج عبد اللطيف بن عمار عددا من الاشرطة الوثائقية التلفزيونية اهتمت بالخصوص بتاريخ تونس المعاصر، وكانت منتجا وله شركة انتاج" لطيف للانتاج".

وقد كان لعبد اللطيف بن عمار  الفضل في تسليط الأضواء على عدد من  وجوه التمثيل المعروفة اليوم في بلادنا ومن بينهم بالخصوص رؤوف  بن عمر ومنى  نور الدين وتوفيق الجبالي والراحلان احمد السنوسي وهشام رستم، وغيرهم.

مع العلم أن عبد اللطيف كان دائما حاضرا في النقاشات التي تخوضها الساحة السينمائية حول مشاكل القطاع  وحول مشاكل الانتاج والتمويل. وعبد اللطيف بن عمار من مواليد 1943  ودرس التصوير السينمائي في فرنسا  بعد تخليه عن دراسة الرياضيات وفق ما تؤكده سيرته الذاتية وقد حصل على ديبلوم في الغرض. بدأت رحلته  بتصوير افلام قصيرة قبل أن يخرج اول فيلم له بعنوان حكاية بسيطة كهذه ( ذكرناه بالأعلى) سنة 1970 واهتم فيه بإشكالية الهجرة، الاحلام والواقع المعقد.

حياة السايب

السينما التونسية تفقد احد ابرز اعلامها..  رحيل صاحب"عزيزة "و"سجنان"و"النخيل الجريح".. المخرج عبد اللطيف بن عمار

 

تونس– الصباح

أن كان هناك من سمة بارزة لسينما لعبد اللطيف بن عمار فهي تلك القدرة على الانصات  جيدا لنبض المجتمع التونسي ورصد  التغييرات التي يعيشها في مراحل مفصلية من تاريخه المعاصر  بلغة بصرية منتقاة بذكاء.

 ولاجل ذلك  تعتبر كل افلامه ذات قيمة عالية لا سيما من خلال  دعم المكتبة السينمائية بافلام تونسية ترسم ملامح المجتمع التونسي بواقعية بعيدا عن التجنيح بعيدا في الخيال وبعيدا عن الاسقاطات المفروضة والمجانية التي طبعت العديد من الافلام التونسية. وبرحيله تفقد الساحة التونسية اسما كبيرا  وشخصية فاعلة مكنت السينما التونسية من فرض وجودها بالمحافل الدولية. فقد مثل عبد اللطيف بن عمار تونس لأول مرة في مهرجان"كان" الدولي وهو في بداياته بفيلم  يحمل عنوان"حكاية بسيطة كهذه" سنة 1970. وقد نال الفيلم التانيت البرونزي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية لدورة نفس العام.

لكن عبد اللطيف بن عمار اشتهر بالخصوص من خلال فيلمين وهما "سجنان" و"عزيزة". وقد كرس الفيلمان وجود المخرج كأحد الاسماء الفاعلة في السينما العربية وانتبه النقاد لمحاولاته تقديم سينما جديدة مختلفة  متأثرة بالمناخ التونسي وقريبة من بيئة المخرج وخاصة قريبة  من نبض المجتمع.

سينما  ترصد نبض المجتمع

في " سجنان" (1974)  الفيلم الذي تدور أحداثه في بداية  الخمسينات من القرن الماضي ، رصد عبد اللطيف بن عمار الوعي السياسي  الجديد في تونس  ولحظة تكوين جيل من المناضلين بلغوا من النضج السياسي ومن الوعي بأهمية المرحلة وخطورتها ما جعلهم يعتقدون أنه  قد حان الوقت للمرور من المناوشات إلى المواجهة الحقيقية مع المحتل الفرنسي. مع العلم أن بداية الخمسينات في تونس شهدت منعرجا هاما في الحركة الوطنية ضد المستعمر واشتد فيها قمع السلطات الفرنسية  وارتفع فيها نشاط الحركات الارهابية ضد الوطنيين من بينها " اليد الحمراء" التي اغتالت الزعيم فرحات حشاد كما تعرض العديد من المناضلين إلى الايقاف والابعاد لكن حركة المقاومة لم تخفت بل على العكس تواصلت باكثر صلابة وانتهت باجبار قوات الاحتلال على الاعتراف بالاستقلال الداخلي في 1955 ثم الاستقلال التام في 1956.

هذه الفترة صورها عبد اللطيف بن عمار بواقعية جديدة مرتبطة بنبض المجتمع وبلغة بصرية واضحة وسلسة وبمفردات سينمائية مستساغة وفيها نوع من الشاعرية التي يمكن ملاحظته في اغلب افلامه القادمة وهي"عزيزة " التي اعتبرت تحفة سينمائية لدى العديد من النقاد ونغم الناعورة والنخيل الجريح.

وفي فيلم "عزيزة" (1980) التي توج عنه بجائزة التانيت الذهبي بأيام قرطاج السينمائية في نفس العام ( فيلم سجنان نال التاتيت الفضي ) اهتم عبد اللطيف بن عمار بقضية المرأة في تونس من خلال شخصية عزيزة. وكان فيلمه عبارة عن وثيقة بصرية حول انعتاق المرأة وافتكاكها لحريتها وقام بذلك بواقعية مدهشة. فهو لم يصور لنا قصة امرأة خارقة وإنما امرأة عادية كانت تعيش في بيئة تقليدية اضطرتها الظروف لتنتقل مع عمها واسرته من المدينة العتيقة إلى احواز  العاصمة إلى اكتشاف عالم العمل والتعويل على الذات لاعالة نفسها. 

آلاف القصص المشابهة يمكن أن نعثر عليها في المجتمع حيث لم تكن عملية التحرر والانعتاق سهلة وكثيرا ما يكون الرجل – الزوج أو الأخ  أو حتى  ابن العم -على غرار ما حدث في فيلم عزيزة عقبة أمام تحرر المرأة. وتكمن عبقرية عبد اللطيف بن عمار في رصد هذا التحول المشهود في المجتمع التونسي بسلاسة بعيدا عن التضخيم والتهليل وبعيدا أيضا عن المحاكمة. قدمه كما هو قريبا جدا من الحقيقة، حيث خرجت المرأة إلى سوق الشغل وتولد لديها وعي جديد يقوم على  فكرة الاستقلالية والاعتماد على الذات. قدم ذلك  بمفردات فنية أنيقة وبتركيز الكاميرا على تفاصيل امرأة تبدو من بعيد عاجزة وبائسة ولكن عندما تقترب الكاميرا منها أكثر ويرتسم الضوء على وجهها نكتشف أنها امرأة مختلفة.  أنها تحمل بين جنباتها قوة استثنائية تجعلها متوثبة للمواجهة وهي-وهذه لمسة شاعرية من المخرج الراحل- امرأة جميلة وفاتنة كذلك.

افلام مؤثرة في المشهد السينمائي   

لم ينجز عبد اللطيف بن عمار افلاما كثيرة في مسيرته الطويلة التي انطلقت منذ الستينات وهو الذي بدأ منذ الشباب المبكر لكنه تمكن من تقديم سينما مختلفة ومؤثرة. ففي فيلمه نغم الناعورة( 2002) واذ واصل تقديمه المرأة في تونس بواقعية تثير الاعجاب( من خلال شخصية زينب المطلقة والممزقة بين التوق  للحرية وصعوبات الحياة دون وجهة معينة أو مشروع أو مال) فإنه قدم رؤية جديدة للسينما دعا فيها المشاهد إلى رحلة إلى الجنوب التونسي، إذ تجوب  سيارة فارهة لتونسي عائد من امريكا، صحبة زينب وشخص ثالث هو أيضا تائه بين الماضي والحاضر، الطريق لتكشف عن مشاهد طبيعية مذهلة وتحتل الموسيقي مكانة بارزة في الفيلم  حيث تفتح أفاقا في زحمة التيه والتمزقات التي  يعيشها الابطال، وهو ما يمنح الفيلم  قيمة عالية في مدونة السينما في تونس وكشف فيها عبد اللطيف بن عمار عن هاجس واضح يتمثل في  السعي لتقديم شيء مختلف مع مواكبة لتطورات السينما في العالم وتطور الذائقة في تونس.

وقد عاد مع فيلم النخيل الجريح إلى فترة من تاريخ تونس المرتبط بالاستعمار وتحدث هذه المرة عن معركة بنزرت التي حققت بها تونس الاستقلال الكامل والجلاء التام عن اراضيها. احداث النخيل الجريح تدور  سنة 1961 في بنزرت التي شهدت معركة الجلاء.  الفيلم مضمخ بالذكريات وفيه شجن كبير يعكس أو يترجم عن مشاعر التونسيين المزدوجة من معركة الجلاء. فهي بقدر ما تثير فيهم الاعتزاز بقدر ما تذكّرهم  بأن المعركة  مع العدو كانت غير متكافئة وربما كان من الممكن تجنب المجزرة. فإلى اليوم لم تنبلج الحقيقة كاملة حول المعركة التي سقط فيها الكثير من الابرياء التونسيين وهو من الاعمال التي تذكر بالتاريخ النضالي المشترك بين التونسيين والجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي.

واضافة إلى عمله  بالسينما اخرج عبد اللطيف بن عمار عددا من الاشرطة الوثائقية التلفزيونية اهتمت بالخصوص بتاريخ تونس المعاصر، وكانت منتجا وله شركة انتاج" لطيف للانتاج".

وقد كان لعبد اللطيف بن عمار  الفضل في تسليط الأضواء على عدد من  وجوه التمثيل المعروفة اليوم في بلادنا ومن بينهم بالخصوص رؤوف  بن عمر ومنى  نور الدين وتوفيق الجبالي والراحلان احمد السنوسي وهشام رستم، وغيرهم.

مع العلم أن عبد اللطيف كان دائما حاضرا في النقاشات التي تخوضها الساحة السينمائية حول مشاكل القطاع  وحول مشاكل الانتاج والتمويل. وعبد اللطيف بن عمار من مواليد 1943  ودرس التصوير السينمائي في فرنسا  بعد تخليه عن دراسة الرياضيات وفق ما تؤكده سيرته الذاتية وقد حصل على ديبلوم في الغرض. بدأت رحلته  بتصوير افلام قصيرة قبل أن يخرج اول فيلم له بعنوان حكاية بسيطة كهذه ( ذكرناه بالأعلى) سنة 1970 واهتم فيه بإشكالية الهجرة، الاحلام والواقع المعقد.

حياة السايب