إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

المرض العضال للاقتصاد التونسي: الجريمة الاقتصادية.. مفهومها وأنواعها وأضرارها؟2/2

 
بقلم: د.ريم بالخذيري(*)
 
في الجزء الأول من هذا المقال كنّا تعرّضنا الى المفاهيم الدولية للجريمة الاقتصادية وقلنا أنّه لا يوجد مفهوم جامع لها لأنها متحوّلة ومتطوّرة بتطوّر المعاملات التجارية لكن يُتّفق على أنها "ممارسة سلوك غير سليم يؤدي الى الاخلال بالنظام الاقتصادي للأفراد والشركات"
وهي "كل فعل غير مشروع مضر بالاقتصاد القومي إذا نص على تجريمه في قانون العقوبات او في القوانين الخاصة بخطط التنمية الاقتصادية الصادرة عن السلطة المختصة".
وفي الجزء الثاني من المقال سنتعرّض بالتفصيل الى مظاهر الجريمة الاقتصادية في تونس ومضارّها و سبل مكافحتها.
مظاهر الجريمة الاقتصادية
لا تختلف مظاهر الجريمة الاقتصادية في مفهومها العام و الممارسة في تونس عن غيرها من الدول لكنّ منسوبها كبير وهي موجودة في أغلب الممارسات اليومية ذات العلاقة بالأموال حتّى تحوّلت الى حالة عامّة يمارسها الكلّ بوعي ودون وعي.
و الجريمة الاقتصادية في تونس تنقسم الى قسمين منها ما هو صغير وأخطرها الكبير .فالجرائم الصغرى هي أقرب الى السلوك غير السويّ وهي جرائم فردية غير منظمة ولا تحتاج آليات لارتكابها وفي اليوم الواحد يمكن للفرد أن يرتكب عددا كبيرا منها دون أن يدرك بأنّه ارتكب جرما وهي تنطلق من المنزل الذي لا تدفع اداءاته البلدية أو ما يعرف ب"الزبلة والخروبة" بل انّ أغلب التونسيين يجهلون ما جاءت به مجلة الجباية المحلية التونسية وخاصة في بابها الأول  المتعلّقة بالمعاليم والأداءات الموظفة على العقارات المبنية .  مرورا بعدم التصريح بعقود الكراء. ويواصل الفرد ارتكاب الجرائم الاقتصادية في عمله من خلال وصوله متأخرا و اضاعته للوقت والخروج باكرا فهذه كلها جرائم اقتصادية تستنزف الاقتصاد .
وهو يرتكب أيضا جرائم اقتصادية أخرى  كالاعتداء على الملك العمومي. ولعلّ أكبر تلخيص لمثل هذه الجرائم هي العقلية السادة و التي تعرف ب"رزق البيليك".أما أكبر جرائم الجرائم الاقتصادية في هذا الاجرام الاقتصادي الصغير فهو ظاهرة احتلال الارصفة من طرف التجار وأصحاب المقاهي والمطاعم حيث أن أغلب هؤلاء لا يقومون بخلاص الاداءات البلدية المستوجبة وهي تخضع في أحيان كثيرة الى المحاباة وجلّ البلديات تجد صعوبات جمة في تحصيل هذه الضرائب فضلا عن عدد من الأسباب منها ما يدخل في باب الرشوة والمحسوبية. ويظهر هذا في آلاف قرارات الازالة التي تتخذ ولا تنفذ. حتى تحولت الارصفة الى ملكيات خاصة وأطرد منها المارة.  وتعدّ الجريمة الاقتصادية أخطر عندما تقترف من طرف مسؤولين.
ومن مظاهر الجرائم الاقتصادية الصغيرة هي التهرّب الجبائي وعدم دفع الأقساط المستوجبة للصناديق الاجتماعية. والواقع أن النظام التقديري المعتمد في أغلب الأنشطة التجارية الصغرى يساهم كثيرا في ارتكاب الجرائم الاقتصادية خاصة وهو يشمل عشرات الألاف من الناشطين وفيهم من يحقّق أرباحا كبرى ولا يدفع سوى الفتات كضرائب. وحسنا فعلت الحكومة في ميزانية 2023 حينما استثنت 27 نشاطا جديدا من قائمة المستفيدين من هذا النظام التقديري وحوّلتهم الى النظام الحقيقي المتّسم بأكثر صرامة. رغم أن منطق الأشياء يحتّم الغاء العمل بهذا النظام وأنه لابدّ لكل مواطن أن يدفع جباية بالقدر الذي يجني من أرباح. فالتهرب الضريبي ضمن هذا النظام يجرّ وراءه تهرّبا من دفع الأقساط المستوجبة للصناديق الاجتماعية .
والمحصّلة أن هؤلاء المتهربين في هذا الاجرام الاقتصادي الصغير (تجار. مكاتب الصرف ونقل العملة ومحلات توزيع المحروقات والاقامات العائلية والاستضافات العائلية ووكالات الاشهار وتنظيم الصالون والمعارض والمقاهي بمختلف اصنافها والمشارب والميكانيك العام والمطالة ودهن السيارات وكهرباء السيارات واكرية العقارات المؤثثة....) يمثّل النسبة الأكبر من التهرّب الضريبي العام في البلاد .
أمّا الأضواء فتبقى مسلّطة دوما على الفساد الكبير والذي عادة يلخّص في تبييض الأموال والتهريب وهما عماد الاقتصاد الموازي حيث يمثل أكثر من 47 بالمائة مجمل الاقتصاد الاجمالي ما يعادل 40 مليار دينار يتمّ تداولها خارج المنظومة البنكية وتسمية هذه الأنواع من العمليات بالاقتصاد الموزاي فيه خطأ كبير فهي جرائم اقتصادية كبيرة واضفاء الطابع الاقتصادي عليها وصفه  بالموزاي انما هو تبييض لهذه الأنشطة المجرّمة والتي تمس كل الأنشطة والصناعات الوطنية. فعلى سبيل المثال 73 بالمائة من اطارات المركبات تهرّب من الخارج و80 بالمائة من المكيفات فضلا عن 380 مليون علبة سجائر. ويتم تهريب حوالي 300 ألف لتر من الوقود يوميًا من الخارج  الي تونس اي 110 مليون لتر سنويا.
وتشمل أيضا قطاعات التبغ والملابس والاحذية والاجهزة الكهرومنزلية والغلال والفواكه الجافة. والنتيجة أن هذه الجرائم الاقتصادية تسبّب خسائر سنوية للجباية بقيمة 2 مليار دينار. والمؤسف أن هذه الجرائم ما كان لها لتزدهر لولا مساعدة مسؤولين فاسدين في الدولة حيث تشير التقارير(تقرير المنتدى دراسة عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أنجزت سنة 2017) الى أن 80  بالمائة من تجارة التهريب غير الشرعية تمر عبر الموانئ والمطارات .
وقد تورّط في هذا في السنوات الأخيرة أكثر من50  مسؤولا ساميا في  الديوانة اضافة الى اقالة عدد كبير منهم بسبب شبهات تورطهم في ملفات فساد من هذا النوع .
والخطير أن جلّ العمليات المالية لهذه الأنشطة التجارية تحدث بعيدا عن المنظومة البنكية حيث وصل حجم الأوراق النقدية والمسكوكات المتداولة خارج النظام البنكي مستوى قياسيا في سنة 2022 بواقع 18769 مليون دينار. يتمّ تبييضها أو تهريبها بطرق ملتوية .
وتبقى أمّ الجرائم كما يقال هو التهرّب الضريبي أو التصريح المغلوط  بالمرابيح حيث أن  الإغفال عن التصريح الجبائي يصل إلى 50 و60 في المائة. وقد أكدت وزارة المالية بأن نحو 40 في المائة من المتمتعين بالنظام التقديري يتهربون جبائياً. وهي نسبة مفزعة لا تتجاوز 5 بالمائة في الدول التي تتقلّص فيها الجريمة الاقتصادية .
ووفق أرقام متطابقة فأن التهرب  الضريبي للشركات والمؤسسات الكبرى لا يقل عن 12 مليار دينار وهو يمثّل ما لا يقل عن 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام.
ورغم أن الضغط الجبائي يعد الأعلى بين الدول العربية وهو ما أكده قانون المالية 2023 فان ضعف الأجهزة الرقابية وفوضى السوق الموازية والتهريب تبقى أسباب جوهرية لعجز الدولة عن تحصيل أموال قد تغني عن اللجوء إلى الاقتراض الخارجي .
(سنتعرّض في المقال القادم سبل مكافحة الجرائم الاقتصادية في تونس)
*رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار والوقاية من الجريمة الاقتصادية
 
 
 
  المرض العضال للاقتصاد التونسي: الجريمة الاقتصادية.. مفهومها وأنواعها وأضرارها؟2/2
 
بقلم: د.ريم بالخذيري(*)
 
في الجزء الأول من هذا المقال كنّا تعرّضنا الى المفاهيم الدولية للجريمة الاقتصادية وقلنا أنّه لا يوجد مفهوم جامع لها لأنها متحوّلة ومتطوّرة بتطوّر المعاملات التجارية لكن يُتّفق على أنها "ممارسة سلوك غير سليم يؤدي الى الاخلال بالنظام الاقتصادي للأفراد والشركات"
وهي "كل فعل غير مشروع مضر بالاقتصاد القومي إذا نص على تجريمه في قانون العقوبات او في القوانين الخاصة بخطط التنمية الاقتصادية الصادرة عن السلطة المختصة".
وفي الجزء الثاني من المقال سنتعرّض بالتفصيل الى مظاهر الجريمة الاقتصادية في تونس ومضارّها و سبل مكافحتها.
مظاهر الجريمة الاقتصادية
لا تختلف مظاهر الجريمة الاقتصادية في مفهومها العام و الممارسة في تونس عن غيرها من الدول لكنّ منسوبها كبير وهي موجودة في أغلب الممارسات اليومية ذات العلاقة بالأموال حتّى تحوّلت الى حالة عامّة يمارسها الكلّ بوعي ودون وعي.
و الجريمة الاقتصادية في تونس تنقسم الى قسمين منها ما هو صغير وأخطرها الكبير .فالجرائم الصغرى هي أقرب الى السلوك غير السويّ وهي جرائم فردية غير منظمة ولا تحتاج آليات لارتكابها وفي اليوم الواحد يمكن للفرد أن يرتكب عددا كبيرا منها دون أن يدرك بأنّه ارتكب جرما وهي تنطلق من المنزل الذي لا تدفع اداءاته البلدية أو ما يعرف ب"الزبلة والخروبة" بل انّ أغلب التونسيين يجهلون ما جاءت به مجلة الجباية المحلية التونسية وخاصة في بابها الأول  المتعلّقة بالمعاليم والأداءات الموظفة على العقارات المبنية .  مرورا بعدم التصريح بعقود الكراء. ويواصل الفرد ارتكاب الجرائم الاقتصادية في عمله من خلال وصوله متأخرا و اضاعته للوقت والخروج باكرا فهذه كلها جرائم اقتصادية تستنزف الاقتصاد .
وهو يرتكب أيضا جرائم اقتصادية أخرى  كالاعتداء على الملك العمومي. ولعلّ أكبر تلخيص لمثل هذه الجرائم هي العقلية السادة و التي تعرف ب"رزق البيليك".أما أكبر جرائم الجرائم الاقتصادية في هذا الاجرام الاقتصادي الصغير فهو ظاهرة احتلال الارصفة من طرف التجار وأصحاب المقاهي والمطاعم حيث أن أغلب هؤلاء لا يقومون بخلاص الاداءات البلدية المستوجبة وهي تخضع في أحيان كثيرة الى المحاباة وجلّ البلديات تجد صعوبات جمة في تحصيل هذه الضرائب فضلا عن عدد من الأسباب منها ما يدخل في باب الرشوة والمحسوبية. ويظهر هذا في آلاف قرارات الازالة التي تتخذ ولا تنفذ. حتى تحولت الارصفة الى ملكيات خاصة وأطرد منها المارة.  وتعدّ الجريمة الاقتصادية أخطر عندما تقترف من طرف مسؤولين.
ومن مظاهر الجرائم الاقتصادية الصغيرة هي التهرّب الجبائي وعدم دفع الأقساط المستوجبة للصناديق الاجتماعية. والواقع أن النظام التقديري المعتمد في أغلب الأنشطة التجارية الصغرى يساهم كثيرا في ارتكاب الجرائم الاقتصادية خاصة وهو يشمل عشرات الألاف من الناشطين وفيهم من يحقّق أرباحا كبرى ولا يدفع سوى الفتات كضرائب. وحسنا فعلت الحكومة في ميزانية 2023 حينما استثنت 27 نشاطا جديدا من قائمة المستفيدين من هذا النظام التقديري وحوّلتهم الى النظام الحقيقي المتّسم بأكثر صرامة. رغم أن منطق الأشياء يحتّم الغاء العمل بهذا النظام وأنه لابدّ لكل مواطن أن يدفع جباية بالقدر الذي يجني من أرباح. فالتهرب الضريبي ضمن هذا النظام يجرّ وراءه تهرّبا من دفع الأقساط المستوجبة للصناديق الاجتماعية .
والمحصّلة أن هؤلاء المتهربين في هذا الاجرام الاقتصادي الصغير (تجار. مكاتب الصرف ونقل العملة ومحلات توزيع المحروقات والاقامات العائلية والاستضافات العائلية ووكالات الاشهار وتنظيم الصالون والمعارض والمقاهي بمختلف اصنافها والمشارب والميكانيك العام والمطالة ودهن السيارات وكهرباء السيارات واكرية العقارات المؤثثة....) يمثّل النسبة الأكبر من التهرّب الضريبي العام في البلاد .
أمّا الأضواء فتبقى مسلّطة دوما على الفساد الكبير والذي عادة يلخّص في تبييض الأموال والتهريب وهما عماد الاقتصاد الموازي حيث يمثل أكثر من 47 بالمائة مجمل الاقتصاد الاجمالي ما يعادل 40 مليار دينار يتمّ تداولها خارج المنظومة البنكية وتسمية هذه الأنواع من العمليات بالاقتصاد الموزاي فيه خطأ كبير فهي جرائم اقتصادية كبيرة واضفاء الطابع الاقتصادي عليها وصفه  بالموزاي انما هو تبييض لهذه الأنشطة المجرّمة والتي تمس كل الأنشطة والصناعات الوطنية. فعلى سبيل المثال 73 بالمائة من اطارات المركبات تهرّب من الخارج و80 بالمائة من المكيفات فضلا عن 380 مليون علبة سجائر. ويتم تهريب حوالي 300 ألف لتر من الوقود يوميًا من الخارج  الي تونس اي 110 مليون لتر سنويا.
وتشمل أيضا قطاعات التبغ والملابس والاحذية والاجهزة الكهرومنزلية والغلال والفواكه الجافة. والنتيجة أن هذه الجرائم الاقتصادية تسبّب خسائر سنوية للجباية بقيمة 2 مليار دينار. والمؤسف أن هذه الجرائم ما كان لها لتزدهر لولا مساعدة مسؤولين فاسدين في الدولة حيث تشير التقارير(تقرير المنتدى دراسة عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أنجزت سنة 2017) الى أن 80  بالمائة من تجارة التهريب غير الشرعية تمر عبر الموانئ والمطارات .
وقد تورّط في هذا في السنوات الأخيرة أكثر من50  مسؤولا ساميا في  الديوانة اضافة الى اقالة عدد كبير منهم بسبب شبهات تورطهم في ملفات فساد من هذا النوع .
والخطير أن جلّ العمليات المالية لهذه الأنشطة التجارية تحدث بعيدا عن المنظومة البنكية حيث وصل حجم الأوراق النقدية والمسكوكات المتداولة خارج النظام البنكي مستوى قياسيا في سنة 2022 بواقع 18769 مليون دينار. يتمّ تبييضها أو تهريبها بطرق ملتوية .
وتبقى أمّ الجرائم كما يقال هو التهرّب الضريبي أو التصريح المغلوط  بالمرابيح حيث أن  الإغفال عن التصريح الجبائي يصل إلى 50 و60 في المائة. وقد أكدت وزارة المالية بأن نحو 40 في المائة من المتمتعين بالنظام التقديري يتهربون جبائياً. وهي نسبة مفزعة لا تتجاوز 5 بالمائة في الدول التي تتقلّص فيها الجريمة الاقتصادية .
ووفق أرقام متطابقة فأن التهرب  الضريبي للشركات والمؤسسات الكبرى لا يقل عن 12 مليار دينار وهو يمثّل ما لا يقل عن 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام.
ورغم أن الضغط الجبائي يعد الأعلى بين الدول العربية وهو ما أكده قانون المالية 2023 فان ضعف الأجهزة الرقابية وفوضى السوق الموازية والتهريب تبقى أسباب جوهرية لعجز الدولة عن تحصيل أموال قد تغني عن اللجوء إلى الاقتراض الخارجي .
(سنتعرّض في المقال القادم سبل مكافحة الجرائم الاقتصادية في تونس)
*رئيسة المنتدى التونسي للاستشعار والوقاية من الجريمة الاقتصادية