سنة 1998 تم تكليفي بتغطية مهرجان دوز للصحراء وقد كنت حينها في بداية عملي في الصحافة المكتوبة، كنت متحمسا لخوض تجربة التغطية الميدانية الإعلامية لمدة خمسة أيام خارج محيط العاصمة التونسية، فكان المهرجان بالنسبة لي فرصة فريدة للاطلاع على المخزون الثقافي للجنوب الغربي التونسي وخاصة ما تعلق منه بالشعر باللغة العامية. فقد اكتشفت حينها شعراء مميزين في هذا المجال لم أكن أعرفهم من قبل.
بعد انتهاء المهرجان عدنا في حافلة من دوز إلى تونس كان أغلب ركابها من الصحفيين والشعراء، فكانت الأجواء يسودها الكثير من الفكاهة الممزوجة بشيء من الثقافة، وكان من ضمن الركاب شاعر من منطقة طينة في صفاقس ردد على مسامعنا عددا كبيرا من الملزومات في وصف عشقه وهيامه بمن يحب، وباعتباري لا أجيد كثيرا فنون العشق الممزوجة بقول الشعر سألته بكل تلقائية:هل تزوجت هذه الحبيبة التي قلت فيها كل ما قلت؟ فكان جوابه صادما لي فقال: هي حرة ميعطهوليش . جواب صدمني وحيرني،هل ما نزال إلى اليوم في خانة الحرّ والعبد؟
قد يكون ما أقول صادما للبعض اليوم، لكن تلك حقيقة ثقافية لا ينكرها كل متصالح مع ذاته، فنحن ما نزال نعيش إرثا ثقافيا عنصريا علينا العمل على تغييره بالفعل الثقافي لا بالفعل القانوني مثلما حصل مع المشير أحمد باشا باي الذي أصدر سنة 1846 قانونا يمنع الرق بل بالتخلص من كل شوائب تاريخنا العنصري في كل المجالات، ومن هذه المجالات الهامة الأدبيات التراثية التي تتحدث عن حقب تاريخية سادت فيها العبودية والعمل على تفسير سياقاتها التاريخية للأجيال الجديدة حتى لا تتأثر بما ورد فيها. والثقافة العنصرية لا توجد في المتون الورقية التي تعود إلى مئات السينين بل أيضا في أعمال إذاعية وتلفزيونية تعتبر جديدة إلى حدّ ما، وهنا أذكر مثلا حكايات الراحل عبد العزيز العروي التي استمتعت إلى كثير منها وكان يرد فيها ذكر سكان الأرياف التونسية بـ"العرب" وكأن سكان المدن من اثنيه أخرى ربما من الأتراك أو الموريسكيين أو الصقليين أو غيرهم من الجنسيات التي سكنت هذه الأرض، كما أن أعمالا أخرى مثل سلسلة "شناب" الشهيرة تركز على ذكر "الشوشان" و"الشوشانه" وغيرها من الألفاظ التي تحمل شحنة عنصرية خطيرة، وحتى مسرحية "الماريشال" الشهيرة ضمت في بعض مقاطعها نفسا عنصريا.
ولا أريد من البعض أن يذهب إلى محاججتي بأن الفعل الفني مثلما قال أرسطو في كتاب "الشعرية" هو فعل تطهير(Catharsis) من الشوائب التي تعلق بالنفس، لكن أعتقد أن أرسطو يقصد بذلك التراجيديا في سياق تاريخي آخر، بل الفعل الفني اليوم يتطلب تشكيل وعي جديد بقيم ثقافية إنسانية بعيدة عن التحيز العرقي أو الجغرافي.
اليوم الآن وهنا ما تزال في مجتمعنا بعض الاستعمالات اللغوية تعكس شحنة عنصرية خطيرة من قبيل القول على الملونين "باغندا" أو "وصيف" حتى وإن استعملت في سياق الفذلكة فهي غير مقبولة إنسانيا، وعبارات من قبيل "من وراء البلايك" ومن "الجبل" وغيرها من الاستعمالات اللغوية القميئة التي تعكس نفسية مرضية لا تؤمن بالقيم الإنسانية وبأن الناس يولدون متساوين في الحقوق والواجبات دون نظر إلى لون بشرتهم أو إلى مسقط رأسهم، فهم لم يختاروا أن يكونوا كذلك، بل يقاس المرء بفعله واختياراته ويحاسب عليها ويُقيّم من خلالها لا من خلال ما لم يختر. نحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للحفر عن الإنساني فينا وجعله نبراسنا في أفعالنا وأقوالنا.
يكتبها: محمد معمري
سنة 1998 تم تكليفي بتغطية مهرجان دوز للصحراء وقد كنت حينها في بداية عملي في الصحافة المكتوبة، كنت متحمسا لخوض تجربة التغطية الميدانية الإعلامية لمدة خمسة أيام خارج محيط العاصمة التونسية، فكان المهرجان بالنسبة لي فرصة فريدة للاطلاع على المخزون الثقافي للجنوب الغربي التونسي وخاصة ما تعلق منه بالشعر باللغة العامية. فقد اكتشفت حينها شعراء مميزين في هذا المجال لم أكن أعرفهم من قبل.
بعد انتهاء المهرجان عدنا في حافلة من دوز إلى تونس كان أغلب ركابها من الصحفيين والشعراء، فكانت الأجواء يسودها الكثير من الفكاهة الممزوجة بشيء من الثقافة، وكان من ضمن الركاب شاعر من منطقة طينة في صفاقس ردد على مسامعنا عددا كبيرا من الملزومات في وصف عشقه وهيامه بمن يحب، وباعتباري لا أجيد كثيرا فنون العشق الممزوجة بقول الشعر سألته بكل تلقائية:هل تزوجت هذه الحبيبة التي قلت فيها كل ما قلت؟ فكان جوابه صادما لي فقال: هي حرة ميعطهوليش . جواب صدمني وحيرني،هل ما نزال إلى اليوم في خانة الحرّ والعبد؟
قد يكون ما أقول صادما للبعض اليوم، لكن تلك حقيقة ثقافية لا ينكرها كل متصالح مع ذاته، فنحن ما نزال نعيش إرثا ثقافيا عنصريا علينا العمل على تغييره بالفعل الثقافي لا بالفعل القانوني مثلما حصل مع المشير أحمد باشا باي الذي أصدر سنة 1846 قانونا يمنع الرق بل بالتخلص من كل شوائب تاريخنا العنصري في كل المجالات، ومن هذه المجالات الهامة الأدبيات التراثية التي تتحدث عن حقب تاريخية سادت فيها العبودية والعمل على تفسير سياقاتها التاريخية للأجيال الجديدة حتى لا تتأثر بما ورد فيها. والثقافة العنصرية لا توجد في المتون الورقية التي تعود إلى مئات السينين بل أيضا في أعمال إذاعية وتلفزيونية تعتبر جديدة إلى حدّ ما، وهنا أذكر مثلا حكايات الراحل عبد العزيز العروي التي استمتعت إلى كثير منها وكان يرد فيها ذكر سكان الأرياف التونسية بـ"العرب" وكأن سكان المدن من اثنيه أخرى ربما من الأتراك أو الموريسكيين أو الصقليين أو غيرهم من الجنسيات التي سكنت هذه الأرض، كما أن أعمالا أخرى مثل سلسلة "شناب" الشهيرة تركز على ذكر "الشوشان" و"الشوشانه" وغيرها من الألفاظ التي تحمل شحنة عنصرية خطيرة، وحتى مسرحية "الماريشال" الشهيرة ضمت في بعض مقاطعها نفسا عنصريا.
ولا أريد من البعض أن يذهب إلى محاججتي بأن الفعل الفني مثلما قال أرسطو في كتاب "الشعرية" هو فعل تطهير(Catharsis) من الشوائب التي تعلق بالنفس، لكن أعتقد أن أرسطو يقصد بذلك التراجيديا في سياق تاريخي آخر، بل الفعل الفني اليوم يتطلب تشكيل وعي جديد بقيم ثقافية إنسانية بعيدة عن التحيز العرقي أو الجغرافي.
اليوم الآن وهنا ما تزال في مجتمعنا بعض الاستعمالات اللغوية تعكس شحنة عنصرية خطيرة من قبيل القول على الملونين "باغندا" أو "وصيف" حتى وإن استعملت في سياق الفذلكة فهي غير مقبولة إنسانيا، وعبارات من قبيل "من وراء البلايك" ومن "الجبل" وغيرها من الاستعمالات اللغوية القميئة التي تعكس نفسية مرضية لا تؤمن بالقيم الإنسانية وبأن الناس يولدون متساوين في الحقوق والواجبات دون نظر إلى لون بشرتهم أو إلى مسقط رأسهم، فهم لم يختاروا أن يكونوا كذلك، بل يقاس المرء بفعله واختياراته ويحاسب عليها ويُقيّم من خلالها لا من خلال ما لم يختر. نحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للحفر عن الإنساني فينا وجعله نبراسنا في أفعالنا وأقوالنا.