تونس-الصباح
تمثل الأسرة أهم خلية في المجتمع فإن صلحت صلح وان فسدت فسد فهي النواة واللبنة الأولى في بنائه ففي كنفها يتربى الطفل وينمو ويكبر وينضج فهي الأمان والملجأ والمأوى وهي الحضن الدافئ الذي يأوي اليه ... ولكن ذلك الحضن الدافئ للطفل وملاذه الوحيد من المخاطر التي يمكن أن تعترضه في حياته تحول الى مكان يمثل خطرا عليه، فخلف الأبواب المغلقة أطفال يئنون في صمت، أطفال ضحايا عنف مادي، معنوي، جنسي، أطفال يتم استغلالهم في التسول من قبل العائلة... والعديد من الانتهاكات الأخرى التي ترتكبها بعض الأسر في حق أطفالها؟!
فقد أثبتت الاحصائيات التي كشفها التقرير السنوي 2020 و2021 لمندوبي حماية الطفولة أن الأسرة مثلت مصدر التهديد الاول للطفل إذ تمثل العائلة فضاء التهديد بنسبة 60٪ من عدد الاشعارات التي وردت على مندوبي حماية الطفولة...
"الصباح" سلطت الضوء على الموضوع من خلال الملف التالي:
إعداد صباح الشابي
أرقام صادمة..
أكدت المؤشرات والأرقام التي كشفها التقرير الاحصائيّ لمندوبي حماية الطفولة أنّ العائلة هي المصدر الأول للإشعارات حول حالات التهديد المسلطة على الطفل بنسبة 58 بالمائة، وانّ أغلب التهديدات التي يتعرض لها الطفل ويتم الاشعار حولها تقع في الوسط الأسري بنسبة 60 بالمائة من مجموع الإشعارات.
وبلغت نسبة الإشعارات المتعلّقة بعجز الأبوين وتقصيرهما في الرعاية والتربية 50,9% سنة 2021، فيما قُدّرت نسبة اعتياد سوء معاملة الطفل بـ 22.3% سنة 2021.
وبلغت الإشعارات المتعلقة بالعنف المعنوي سنة 2021 نسبة 42 بالمائة والعنف الجسدي 41 بالمائة والعنف الجنسي 17 بالمائة، وعلى مستوى الجنس فقد كشف التقرير ان الذكور هم أكثر عرضة من الإناث للعنف الجسدي بنسبة 47 بالمائة سنتي 2020 و2021، فيما تتعرض الإناث أكثر من الذكور إلى العنف الجنسي بنسبة 24% خلال نفس الفترة، أمّا العنف المعنوي فقد سجل نسبا متقاربة بين الجنسين بمعدّل 42 بالمائة.
لئن كشفت هذه الاحصائيات حقيقة مفزعة عن مصدر التهديد الأول للطفل فإن أبحاثا أمنية أثبتت ملفات قضائية، هذه الحقيقة المؤلمة، حيث سبق وأن حدثت خلال شهر ماي 2020 واقعة تقشعر لها الأبدان تمثلت في محاولة اب بالمهدية اغتصاب طفلته البالغة من العمر 14سنة وسبق له أيضا ان اقدم على اغتصاب ابنته الكبرى التي كانت تبلغ من العمر17عاما.
حادثة أخرى لا تقل فظاعة عن سابقاتها حدثت أواخر شهر ماي من سنة 2021 تمثلت في تعمد اب بمنطقة قرمبالية من ولاية نابل َاحتجاز ابنته القاصر وتقييدها بسلسلة حديدية وتهديدها بالقتل، بسبب خلافات عائلية بينهما.
هذه الانتهاكات التي ترتكب في حق بعض الأطفال من قبل أسرهم لم يفضحها تقرير مندوب حماية الطفولة فقط ولا القضايا المنشورة أمام المحاكم بل كذلك مواقع التواصل الاجتماعي التي لعبت دورا في كشف جزء من تلك التجاوزات وسوء المعاملة التي يعاني منها بعض الأطفال ففي شهر أوت 2021 كان رواد مواقع التواصل الاجتماعي تداولوا فيديو صادم لامرأة كانت بصدد الإلقاء بطفلتها الصغيرة بكل قوة على أرضية الطريق العام.
أب يغتصب ابنته طيلة 7 سنوات..
أفادت مؤخرا وزارة الأسرة والمرأة والطّفولة وكبار السن، في بلاغ لها أنّ المندوب الجهوي لحماية الطّفولة المختصّ ترابيّا تعهّد بإشعار متعلّق بشبهة تحرّش جنسي لأب، بإحدى ولايات الجمهوريّة، على ابنته القاصر (12 سنة) وذلك منذ أن كان عمرها 5 سنوات.
ونظرا لدرجة خطورة وضعيّة التهديد تمّ في الإبّان بالتنسيق مع قاضي الأسرة، بموجب تدبير عاجل، فصل الطفلة عن والدها وإيوائها صحبة شقيقها القاصر بإحدى المؤسسات الرّعائيّة بالجهة، كما تمّ التعهّد بالتنسيق مع قسم الطبّ النفسي للأطفال بالجهة بمتابعة الوضعية النفسية للضحيّة.
وتولت مصالح المندوبية الجهوية لحماية الطّفولة إعلام النّيابة العموميّة من أجل فتح تحقيق في شبهة التحرش الجنسي على معنى الفصل 25 من مجلة حماية الطّفل والفصلين 3 و226 من القانون الأساسي عدد 58 المتعلق بمناهضة العنف ضد المرأة والطّفل.
هذه الانتهاكات التي ترتكب من قبل بعض الأسر في حق أطفالهم لم تقف حد العنف المادي والجنسي بل كذلك الاستغلال الاقتصادي حيث تعمد بعض الأسر إلى تعليم أطفالهم عادات سيئة كشرب الخمر والتدخين واستغلال أطفالهم في التسول.
وقد سبق أن تعرض طفل يبلغ من العمر 5 سنوات لشرب الخمر من قبل والده، وتمكن أعوان فرقة العنف ضد المرأة والطفل بمنطقة الامن الوطني بتونس المدينة من اماطة اللثام عن الحادثة.
وتقدمت والدة الطفل الى منطقة الامن الوطني بتونس المدينة بشكاية اكدت فيها ان طليقها يسيء معاملة طفلهما البالغ من العمر 5 سنوات ويجبره على شرب الخمر خلال عقده لجلساته الخمرية في منزلها بجهة باب سويقة وتم الكشف عن فيديو بهاتفها يظهر فيه الاب وهو يجبر ابنه على شرب الخمر.
كما سبق وأن كشفت لـ"الصباح" هاجر الشريف رئيسة مركز الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطفل ان تونس شهدت في العشرية الأخيرة انفجارا في الظواهر المتعلقة بالأطفال مثل التسول والاستغلال الاقتصادي لهم مشيرة إلى أنه تم رصد 4149 حالة تسول.
وفي وقت سابق أذنت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بمنوبة لأعوان وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفولة بمنطقة الأمن الوطني بطبربة بالاحتفاظ بأب اثر تورطه في تعذيب ابنه البالغ من العمر 7 أعوام بتقييده بسلسلة حديدية طيلة أيام.
وظل الابن مقيدا من طرف والده بواسطة سلسلة حديدية ربطها بواسطة قفل حديدي الى احدى النوافذ بالمنزل، وذلك على امتداد أسبوعين كاملين الى أن تمكن الطفل من التخلص من القفل والفرار الى الشارع وظلت السلسلة الحديدية مربوطة الى احدى رجليه حسب شهود عيان من الأجوار.
واعترف الأب بما نسب اليه ليتم تتبعه قضائيا.
رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل لـ"الصباح" :هناك استراتيجيات متعددة لدعم الطفولة بقيت برفوف رئاسة الحكومة
معز الشريف رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل وخلال ابداء رأيه في الموضوع قال ان السنوات الأخيرة أثبتت ان العائلة هي المصدر الأساسي لتهديد الطفل من خلال الاهمال والتقصير في الرعاية وحماية الأطفال وصلت حد دفع الطفل إلى التشرد أضف إلى ذلك العنف المعنوي والمادي الذي تمارسه بعض الأسر تجاه أطفالهم مضيفا لـ"الصباح" أن اكثر عنف مسلط على الأطفال هو العنف الأسري وبعض الحالات تصل إلى العنف الجنسي.
وأرجع المتحدث اسباب العنف المسلط على الأطفال داخل أسرهم عدم توفير فضاءات لتقديم بديل للعائلة في كيفية تربية أطفالها لتفادي هذه الظاهرة.
ويرى معز الشريف انه فضلا عن العائلة التي تعتبر مصدر التهديد الأول للطفل نجد المؤسسات التربوية التي تمثل بدورها مصدر تهديد بالنسبة للطفل بسبب المعاملة العنيفة مع الأطفال وهذا النوع من العنف نجده في بعض رياض ومحاضن الأطفال خاصة العنف المسلط على الأطفال حاملي الإعاقة.
وأشار إلى ان اسباب العنف المسلط على الأطفال داخل أسرهم عديدة ومتعددة مشيرا إلى ان من بين الأسباب التفكك الأسرى، وممارسة العنف المادي والمعنوي بين الوالدين، كذلك أن يكون الوالدان غير مؤهلين لتربية أطفالهم فضلا عن تلك الأسباب فالمشاكل الاقتصادية،السياسية والايديولوجية ببلادنا ألقت بظلالها على العديد من الأسر والمؤسسات وجعلت في بلادنا مسألة العناية بالأطفال مسألة مهمشة وليست من الأولويات فتراجع دور المؤسسات التي تقدم خدمات للطفل أو العائلة بسبب النقص في الامكانيات المادية والبشرية الأمر الذي جعل برامج الوقاية ضد العنف لا تنفذ بمعنى تراجع في الجانب الوقائي والعلاجي.
ويعتبر رئيس منظمة الدفاع عن حقوق الطفل ان الحل يكون بوضع آليات وقائية وتفعيل الاستراتيجيات الوطنية متعددة القطاعات لدعم الطفولة المبكرة وهي استراتيجيات لم تفعل بل بقيت برفوف رئاسة الحكومة.
مختص في علم الاجتماع لـ"الصباح" :إفلاس الأسرة وعدم قدرتها على مجاراة نسق الأحداث والقيام بأدوارها التقليدية حولها الى أكثر الأماكن خطورة على الأطفال
من جهته يرى المختص في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد أنه بعد أن كانت الأسرة والمنزل أكثر الفضاءات والأماكن حماية للطفل أصبحتا حسب الأرقام والمعطيات الجديدة أكثر الأماكن خطورة على الأطفال وأصبح فيها الأولياء يمثلون الخطر الأول الذي يهدد السلامة النفسية والجسدية للأطفال.
فالطفل مازال موضوعا وضحية للعنف بمختلف أشكاله فهو مستهدف بطريقة مزدوجة، أولا لأنّه طفل لا يجد الحماية التربوية ولا يقدر في الوقت نفسه على حماية نفسه وثانيا لأنّه يعيش في مجتمع تسلطي يبرر للعنف ويشرعه، عنف مجاله جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالوسط والمحيط العائلي ودور الحضانة ورياض الأطفال ومراكز الإيواء حيث يعد العنف المسلط على الطفل مألوفا وعاديا وجائزا في حين أنه من المفروض أن يكون الأمر عكس ذلك حيث يفترض أن يجد الطفل الرعاية المادية والمعنوية فيشعر فيها بالأمن لتنمية ذاته وقدرته، عنف يتراوح بين العنف المادي والتحرش الجنسي والعنف اللفظي الذي لا يقل خطورة عن باقي الأنواع ويأخذ شكلا لا يقل خطورة كذلك عن بقية أنواع العنف ويجد مكانا له في استعمالات اللغة اليومية التي تستحضر كل قاموس الشتيمة والتشهير والتقزيم والإهانة، تصب على كاهل الطفل دون شفقة أو رحمة وتستمد جذورها ومشروعيتها من ثقافة مجتمعية تعتبرها عنفا مشروعا ومبررا في حين يفترض أن يكون مجرما ومدعاة للعقاب ويأتيها شخص من المفترض أن يعلم الأطفال ثقافة الحياة والجمال ويزودهم بآليات الاندماج الاجتماعي.
يضيف بلحاج محمد انه لا يمكن الجزم بأن هذه الظاهرة قد تفاقمت بعد الثورة، وما يمكن التأكيد عليه فقط أنها أخذت أبعادا جديدة منسجمة مع هذا السياق الاجتماعي والثقافي المستجد والمنفلت والعنيف حيث تحول العنف من الفضاء العام الى الفضاء الخاص وبدا بينا إفلاس الأسرة وعدم قدرتها على مجاراة نسق الإحداث والقيام بأدوارها التقليدية.
وأضاف أننا عادة ما نتناسى أن تعرض الطفل لهذه الضغوط والمعاملات منذ سن مبكرة يؤدي إلى حالة من "التطبيع"مع الجريمة والبذاءة والتجاوز والتسلط، فتغدو مع الوقت عادية ومألوفة وبالتالي فلا نستغرب أن تنتج مؤسساتنا التربوية وعائلاتنا الجريمة والإرهاب ولذلك أصبح من الضروري التعامل معها بأكثر جرأة وأكثر رغبة في النجاعة والفاعلية من أجل التشهير بها وإنصاف ضحاياها.
مختص في علم النفس لـ"الصباح". العقلية الراسخة في الوسط الأسرى عقلية مبنية على العنف المادي والمعنوي..ويجب تغيير تصوراتنا للتربية
يرى عبد الباسط الفقيه المختص في علم النفس في افادته لـ"الصباح" ان مسألة تحول الأسرة الى مصدر تهديد اول للطفل ليست بالجديدة فقد سبق للمنظمة العالمية لحماية الطفولة "اليونيسيف" خلال 2017 ان تحدثت عن ذلك واعتبرت ان الاسرة في تونس هي مصدر التهديد الأول بالنسبة للطفل فضلا عن ذلك فقد بينت تقارير مندوبي حماية الطفولة ان عدد الاشعارات الواردة عليهم اغلبها تتعلق بالإيذاء الذي يقع للأطفال داخل أسرهم وهو متعدد إيذاء نفسي، مادي، معنوي وجنسي. .. في الوقت الذي من المفروض ان الأسرة هي دائرة الحماية الأولى للطفل.
كذلك بعض الدراسات التي أجريت منذ اكثر من خمس سنوات بينت ان 80 بالمائة منهم تعرضوا إلى العنف المعنوي والمادي من قبل أسرهم من أجل إجبارهم على الخضوع للنظام الذي تسير عليه العائلة او لاصلاح سلوك معين له وهذا لا يعني انه لا توجد اعتداءات جنسية ترتكب من العائلة تجاه الطفل ولكن لا يمكن تعميم المسألة حسب رأيه فمقارنة مع بعض الدول الاوروبية على غرار فرنسا نجد الأطفال الذين ولدوا نتيجة زنا المحارم بالآلاف ورغم ذلكَ فالتشريع في فرنسا لا يعطي أهمية للمسالة باعتبار أن الطفل الذي يولد نتيجة تلك للعلاقات ينسب إلى والديه.
ولكن ما يهمنا حسب عبد الباسط الفقيه الاحصائيات الصادرة عن مندوبي حماية الطفولة وما ذكرته كذلك المنظمة العالمية لحماية الطّفولة خلال 2017 من ان الأسرة في تونس تحولت إلى مصدر تهديد بالنسبة للطفل وان انواع التهديد كثيرة نفسية مادية، واجتماعية.
واعتبر عبد الباسط الفقيه ان العقلية الراسخة في الوسط الأسري في تونس عقلية مبنية على العنف المادي والمعنوي فيتصور بعض الأسر ان النتائج الدراسية لطفلهم لا يمكن أن تكون جيدة الا عن طريق ممارسة العنف المادي والمعنوي عليه فتتحول بالتالي الأسرة في نظر الطفل إلى مصدر للايذاء وليس الأمان.
ويرى المختص في علم النفس بأن معالجة هذه الظواهر ثقافية بالأساس عن طريق تغيير تصوراتنا للتربية التي لا يمكن أن تعتمد الضغط النفسي والمادي كوسيلة كذلك ضرورة اعتماد التواصل اللاعنيف وهو علم يجب أن تتعلمه بعض العائلات عن طريق الحوار واستبدال ثقافة العنف السائدة داخل بعض الأوساط الأسرية بثقافة الإبداع وثقافة الحقوق في التعامل مع الطفل حتى لا تؤثر تلك الممارسات العنيفة على نفسية الطفل وتجعل منه طفلا عنيفا داخل المؤسسة التربوية او طفل منحرف سلوكيا لان العنف المسلط عليه داخل أسرته انعكاساته الاجتماعية والنفسية كبيرة، لذلك يؤكد المتحدث مرة أخرى ان حماية الأطفال تكون بالوقاية عن طريق التحاور معهم ومرافقتهم وتشريكهم في الأنشطة الإبداعية التي تساعدهم على تطوير مهاراتهم.