إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

هل من حاجة اليوم إلى الأحزاب السياسية؟

*الأحزاب هي العمود الفقري لكل حكم ديمقراطي في العالم وهي ضرورية لحسن إدارة الشأن العام من دون احتراب ولا فوضى

 بقلم : نوفل سلامة(*)

الحقيقة البينة اليوم أن الانتقال الديمقراطي الذي بشرت به الثورة وراهن عليه الكثير من أفراد الشعب لتغيير حال وواقع البلاد نحو الأفضل يشهد تعثرا كبيرا في تونس إن لم نقل قد توقف مساره بعد حدث 25 جويلية 2021 والمنعرج السياسي الذي أحدثه الحراك الاجتماعي الذي مكن الرئيس قيس سعيد من صلاحيات واسعة لتغيير المشهد السياسي برمته ومكنه من حل البرلمان وإنهاء عمل الحكومة وإنهاء العمل بالدستور والإعلان عن المرور إلى مرحلة التدابير الاستثنائية المبررة بوجود خطر داهم يهدد البلاد وخاصة الإعلان عن موت المنظومة الحزبية التي تشكلت بعد الثورة ونظرية الديمقراطية التمثيلية القائمة عليها وهي القناعة التي يؤمن بها الرئيس قيس سعيد ويروج لها في كل تصريح أو خروج إعلامي له حيث نقل عنه إثر توليه السلطة فور فوزه في الانتخابات الرئاسية قوله "إن الأحزاب السياسية قد انتهى دورها في كل دول العالم وهي اليوم تعيش حالة احتضار قد يطول أو يقصر ولكن من المؤكد أنها ستنقرض وتختفي بعد سنوات قليلة وأن رياح العصر متجهة نحو تنظم سياسي جديد ونحو ممارسة سياسية مختلفة سوف تقطع مع نظرية الديمقراطية التمثيلية وكل الأجسام الوسيطة المرتبطة بها من إعلام وجمعيات مجتمع مدني ونقابات وأحزاب سياسية ليحل محلها فكر جديد ونظرية سياسية جديدة ومشروع بديل يقوم على فكرة أن السيادة للشعب وأن الإرادة الحقيقة تعود إلى الشعب وحده وليست للأحزاب السياسية ويقدم تصورا لهذا الانتظام السياسي الجديد يقوم على فكرة البناء القاعدي وما يسمى بالديمقراطية القاعدية التي تقوم على الانتخاب على الأفراد لا على القائمات الحزبية وعلى نظرية الهرم المقلوب الذي ينطلق من المحليات والجهات نحو المركز وفكرة محاسبة الناخب وإمكانية سحب الوكالة منه إذا ما أخل بواجباته ولم يقدم أداء جيدا يعكس الوعود التي قطعها على نفسه تجاه ناخبيه.

ماذا يعني هذا التصور السياسي الجديد الذي يبشر به الرئيس قيس سعيد؟ وهل فعلا أن رياح العصر متجهة اليوم نحو التخلي عن منظومة الأحزاب السياسية وفكرة الديمقراطية التمثيلية التي تعتبر في الأدبيات الديمقراطية أرقى شكل وصل إليه الفكر البشري لحل الخلافات داخل المجتمعات ووإدارة الشأن العام بطرق سلمية؟ وهل نحن اليوم سائرون نحو مشهد سياسي من دون تمثيلية الأحزاب السياسية ونحو نظام حكم لا يعترف بالتنظيمات الحزبية آلية للديمقراطية ووسيلة للتعبئة الجماهرية وأداة للتعبير عن مطالب الناس والمطالبة بها وطريقا إلى السلطة والتداول السلمي عن الحكم؟

في تصريح له منذ أيام قليلة قال غازي الشواشي الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي والعضو القيادي فيه معللا سبب استقالته من الحزب وامتناعه عن ممارسة السياسة ضمن الأطر الحزبية بأن قناعة قد حصلت لديه اليوم وبعد مدة زمنية في ظل الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد بعد منعرج 25 جويلية 2021 أن الإطار الحزبي لم يعد قادرا على تحقيق المطلوب الذي ينتظره الشعب وأن الأحزاب اليوم لم تعد فاعلة على أرض الواقع وفقدت التأثير في الرأي العام وفقدت حتى ثقته فيها.

اليوم وأمام ما يحصل على يد المنظومة التي تشكلت عشية حدث 25 جويلية من انحراف بالسلطة واغتصاب للحكم وما يرافقه من إنخرام كبير في الوضع الاجتماعي والمالي فضلا عن الاقتصادي والسياسي ورغم أن الجميع يقر بضعف هذه المنظومة التي يقودها الرئيس وقد عجزت عن تغيير الأحوال وجلب ما كان ينتظره الجميع ورغم ضعف الأداء السياسي للحكومة التي شكلها الرئيس ورغم المصاعب اليومية التي يعاني منها الشعب رغم إقرار الجميع وحصول اجماع وطني من أنه لا بد من حل لهذه الأزمات المتراكمة فإن الأحزاب السياسية المعارضة لمسار الرئيس غير قادرة على فعل أي شيء من أجل التغيير وهي عاجزة عن قلب الأوضاع لصالحها وإرغام منظومة الحكم الحالية عن التنحي أو الإصلاح من حالها أو دفع الحكومة لتقديم استقالتها ولم تقدر على تعبئة الشارع لصالحها أو اقناع الرأي العام بالتعبير الفعلي عن غضبه وعدم رضاه عن المسار.. فرغم كل هذه الانزلاقات الحاصلة والتي ترتكبها منظومة الحكم الحالية فإن الأحزاب السياسية قد عجزت عن التصدي لما اعتبر عبثا بالدولة وبمصالح الشعب في علاقة بتدهور الوضع الاقتصادي وخاصة الوضع المالي الذي جعل البلاد في حالة إفلاس غير معلن.

ويضيف غازي الشواشي القول: إن الآلة الحزبية بالطريقة التي هي عليها اليوم من حيث الأفراد والإمكانيات المادية ومنظومة الأفكار هي غير قادرة على انتاج الحلول وتقديم المبادرات واقتراح البدائل ومشاريع الإنقاذ.. في تقديري وبعد تأمل أرى أن تونس ليست في حاجة إلى عدد كبير من الأحزاب بقدر حاجتها الملحة إلى أحزاب فاعلة وقادرة على تغيير الواقع وقادرة على تقديم البدائل التي تنفع التونسيين في مقابل مشروع الرئيس الذي نقدر أنه لا يصلح للبلاد ولا يعبر عن تطلعات الشعب..

فهل هذا يعني أن دور الأحزاب قد انتهى؟ وأن الشعوب لم تعد في حاجة إلى وجود أحزاب لإدارة الشأن العام؟ يجيب الشواشي عن هذا السؤال بقوله: في الحقيقة لا يمكن الحديث عن نظام ديمقراطي من دون أحزاب سياسية ولا يمكن أن توجد مجتمعات تدار من دون احزاب فالأحزاب هي العمود الفقري لكل حكم ديمقراطي في العالم وهي ضرورية لحسن إدارة الشأن العام من دون احتراب ولا فوضى ومن يروج لمقولة موت الأحزاب السياسية هو شخص لا يؤمن بالديمقراطية وما تعيشه الأحزاب اليوم من ضعف وفقدان التأثير في الرأي العام سببه في جانب ما حصل لها من ترذيل وتشويه من قبل منظومة 25 جويلية حيث كان إضعاف الأحزاب أحد الأوراق التي لعبت عليها منظومة 25 جويلية للوصول إلى الحكم وفي جانب آخر الواقع الحالي للأحزاب بسبب هذا الوضع الاستثنائي الذي يكسوه ظاهرة التناحر والفرقة والانقسام حيث لم تفهم هذه الأحزاب أن مواصلتها في نفس هذا النهج من التفكير نتيجته المزيد من الضعف ومزيد من تسجيل الرئيس قيس سعيد للنقاط على حسابها .

اليوم الأحزاب السياسية لم تعد قادرة على تغيير الواقع وخاصة عدم قدرتها على اقناع الناس وعلى انتاج أفكار بديلة ومشاريع جاذبة للناس ويجدون فيها رغائبهم.. اليوم العمل الحزبي مكبل بصورته السيئة التي علقت في أذهان الناس جراء الممارسة والتجربة التي دامت عشر سنوات بعد الثورة حصلت فيها أخطاء كثيرة وخيارات غير صائبة وإتباع مسارات جعلت الشعب يكفر بالأحزاب ويكره السياسيين والأخطر من ذلك جعلت الشعب يلفظ كل الأجسام الوسيطة وتحصل القطيعة وأزمة الثقة مع الشعب.

ما هو مطروح اليوم لإنقاذ البلاد هو الذهاب نحو أفق أرحب وأوسع من الأطر الحزبية التي تفرض الانضباط والالتزام وتجعلك تبرر السياسات الخاطئة أحيانا للحزب.. اليوم من الممكن ممارسة السياسة من خارج الأحزاب وتقديم الإفادة ضمن مشاريع وبدائل غير تلك النابعة من الأحزاب.

هذا الطرح الذي يقدمه غازي الشواشي وموقفه من تجربة حزبية خاضها لسنوات انتهت به إلى اتخاذ قرار المغادرة والاستقالة ليس بالجديد ولا بالمفاجئ وهو توجه عالمي عبر عنه الكثير من الفاعلين السياسيين عبر العالم وهو تحليل نجده في الكثير من الأدبيات التي تتحدث عن عصر ما بعد الأحزاب وفكر ما بعد الديمقراطية ورؤية كنا قد تعرضنا إليها في بعض مقالاتنا التي تناولت ظاهرة " جيل جديد " التي تتحدث عن ظاهرة ترك الشباب الماركسي الانتظام الحزبي والانتماء إلى أحزاب منغلقة والذهاب نحو خيار الانتظام ضمن حركات احتجاجية شارعية منظمة في إطار حملات تتولى تعبئة الشارع حول قضايا معينة بغاية الضغط على السلطة والتعبير عن الرفض والاحتجاج.

والسؤال المطروح بخصوص الحالة التونسية وواقع الأحزاب فيها هو: هل أن ما تعيشه الأحزاب من ضعف وغياب التأثير في الناس هي حالة ظرفية تعبر عن أزمة عامة تمر بها البلاد جعلت الناس تفقد الثقة في كل شيء؟ أم أن ذلك راجع إلى وجود خلل في البناء الحزبي يحتاج إلى تغيير ومراجعة ونحن نعيش عصر التحولات الكبرى التي يشهدها العالم والتي فرضت على الإنسان المعاصر التفكير في أشكال نضالية أخرى للتعبير عن الغضب والمقاومة والاحتجاج؟ وهل أن مقاطعة الكثير من التونسيين للعملية الانتخابية الأخيرة وانسحابهم من المشاركة في الشأن العام هو موقف من الآليات والطرق القديمة للممارسة السياسية والتطلع نحو البحث عن بدائل جديدة للمساهمة في الشأن العام تكون من خارج الأطر الحزبية والتفكير السياسي التقليدي؟ فهل تحتاج الأحزاب السياسية لتبقى وتدوم إلى تجديد على مستوى الخطاب والمضمون وآليات العمل السياسي وتجديد آخر في القيادات القادرة على التعبير على رهانات المرحلة وتكون بعيدة عن معارك الجامعة في زمن الثمانينات  القرن الماضي؟ وفي الأخير ومع الإقرار بأن هناك مزاج عام ناكر وكاره للأحزاب السياسية والسياسيين فهل كان لإنخرام الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية دور مؤثر في ابتعاد الناس عن الأحزاب بما يعني أنه بتحسن الأحوال يعود للأحزاب إشعاعها؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك وأعمق وهو يشير إلى تحول كبير يشهده العالم بأسره في التفكير والرؤية والتصور لكيفية إدارة الشأن العام.

*صحفي باحث  في علوم الإعلام والصحافة

هل من حاجة اليوم إلى الأحزاب السياسية؟

*الأحزاب هي العمود الفقري لكل حكم ديمقراطي في العالم وهي ضرورية لحسن إدارة الشأن العام من دون احتراب ولا فوضى

 بقلم : نوفل سلامة(*)

الحقيقة البينة اليوم أن الانتقال الديمقراطي الذي بشرت به الثورة وراهن عليه الكثير من أفراد الشعب لتغيير حال وواقع البلاد نحو الأفضل يشهد تعثرا كبيرا في تونس إن لم نقل قد توقف مساره بعد حدث 25 جويلية 2021 والمنعرج السياسي الذي أحدثه الحراك الاجتماعي الذي مكن الرئيس قيس سعيد من صلاحيات واسعة لتغيير المشهد السياسي برمته ومكنه من حل البرلمان وإنهاء عمل الحكومة وإنهاء العمل بالدستور والإعلان عن المرور إلى مرحلة التدابير الاستثنائية المبررة بوجود خطر داهم يهدد البلاد وخاصة الإعلان عن موت المنظومة الحزبية التي تشكلت بعد الثورة ونظرية الديمقراطية التمثيلية القائمة عليها وهي القناعة التي يؤمن بها الرئيس قيس سعيد ويروج لها في كل تصريح أو خروج إعلامي له حيث نقل عنه إثر توليه السلطة فور فوزه في الانتخابات الرئاسية قوله "إن الأحزاب السياسية قد انتهى دورها في كل دول العالم وهي اليوم تعيش حالة احتضار قد يطول أو يقصر ولكن من المؤكد أنها ستنقرض وتختفي بعد سنوات قليلة وأن رياح العصر متجهة نحو تنظم سياسي جديد ونحو ممارسة سياسية مختلفة سوف تقطع مع نظرية الديمقراطية التمثيلية وكل الأجسام الوسيطة المرتبطة بها من إعلام وجمعيات مجتمع مدني ونقابات وأحزاب سياسية ليحل محلها فكر جديد ونظرية سياسية جديدة ومشروع بديل يقوم على فكرة أن السيادة للشعب وأن الإرادة الحقيقة تعود إلى الشعب وحده وليست للأحزاب السياسية ويقدم تصورا لهذا الانتظام السياسي الجديد يقوم على فكرة البناء القاعدي وما يسمى بالديمقراطية القاعدية التي تقوم على الانتخاب على الأفراد لا على القائمات الحزبية وعلى نظرية الهرم المقلوب الذي ينطلق من المحليات والجهات نحو المركز وفكرة محاسبة الناخب وإمكانية سحب الوكالة منه إذا ما أخل بواجباته ولم يقدم أداء جيدا يعكس الوعود التي قطعها على نفسه تجاه ناخبيه.

ماذا يعني هذا التصور السياسي الجديد الذي يبشر به الرئيس قيس سعيد؟ وهل فعلا أن رياح العصر متجهة اليوم نحو التخلي عن منظومة الأحزاب السياسية وفكرة الديمقراطية التمثيلية التي تعتبر في الأدبيات الديمقراطية أرقى شكل وصل إليه الفكر البشري لحل الخلافات داخل المجتمعات ووإدارة الشأن العام بطرق سلمية؟ وهل نحن اليوم سائرون نحو مشهد سياسي من دون تمثيلية الأحزاب السياسية ونحو نظام حكم لا يعترف بالتنظيمات الحزبية آلية للديمقراطية ووسيلة للتعبئة الجماهرية وأداة للتعبير عن مطالب الناس والمطالبة بها وطريقا إلى السلطة والتداول السلمي عن الحكم؟

في تصريح له منذ أيام قليلة قال غازي الشواشي الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي والعضو القيادي فيه معللا سبب استقالته من الحزب وامتناعه عن ممارسة السياسة ضمن الأطر الحزبية بأن قناعة قد حصلت لديه اليوم وبعد مدة زمنية في ظل الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد بعد منعرج 25 جويلية 2021 أن الإطار الحزبي لم يعد قادرا على تحقيق المطلوب الذي ينتظره الشعب وأن الأحزاب اليوم لم تعد فاعلة على أرض الواقع وفقدت التأثير في الرأي العام وفقدت حتى ثقته فيها.

اليوم وأمام ما يحصل على يد المنظومة التي تشكلت عشية حدث 25 جويلية من انحراف بالسلطة واغتصاب للحكم وما يرافقه من إنخرام كبير في الوضع الاجتماعي والمالي فضلا عن الاقتصادي والسياسي ورغم أن الجميع يقر بضعف هذه المنظومة التي يقودها الرئيس وقد عجزت عن تغيير الأحوال وجلب ما كان ينتظره الجميع ورغم ضعف الأداء السياسي للحكومة التي شكلها الرئيس ورغم المصاعب اليومية التي يعاني منها الشعب رغم إقرار الجميع وحصول اجماع وطني من أنه لا بد من حل لهذه الأزمات المتراكمة فإن الأحزاب السياسية المعارضة لمسار الرئيس غير قادرة على فعل أي شيء من أجل التغيير وهي عاجزة عن قلب الأوضاع لصالحها وإرغام منظومة الحكم الحالية عن التنحي أو الإصلاح من حالها أو دفع الحكومة لتقديم استقالتها ولم تقدر على تعبئة الشارع لصالحها أو اقناع الرأي العام بالتعبير الفعلي عن غضبه وعدم رضاه عن المسار.. فرغم كل هذه الانزلاقات الحاصلة والتي ترتكبها منظومة الحكم الحالية فإن الأحزاب السياسية قد عجزت عن التصدي لما اعتبر عبثا بالدولة وبمصالح الشعب في علاقة بتدهور الوضع الاقتصادي وخاصة الوضع المالي الذي جعل البلاد في حالة إفلاس غير معلن.

ويضيف غازي الشواشي القول: إن الآلة الحزبية بالطريقة التي هي عليها اليوم من حيث الأفراد والإمكانيات المادية ومنظومة الأفكار هي غير قادرة على انتاج الحلول وتقديم المبادرات واقتراح البدائل ومشاريع الإنقاذ.. في تقديري وبعد تأمل أرى أن تونس ليست في حاجة إلى عدد كبير من الأحزاب بقدر حاجتها الملحة إلى أحزاب فاعلة وقادرة على تغيير الواقع وقادرة على تقديم البدائل التي تنفع التونسيين في مقابل مشروع الرئيس الذي نقدر أنه لا يصلح للبلاد ولا يعبر عن تطلعات الشعب..

فهل هذا يعني أن دور الأحزاب قد انتهى؟ وأن الشعوب لم تعد في حاجة إلى وجود أحزاب لإدارة الشأن العام؟ يجيب الشواشي عن هذا السؤال بقوله: في الحقيقة لا يمكن الحديث عن نظام ديمقراطي من دون أحزاب سياسية ولا يمكن أن توجد مجتمعات تدار من دون احزاب فالأحزاب هي العمود الفقري لكل حكم ديمقراطي في العالم وهي ضرورية لحسن إدارة الشأن العام من دون احتراب ولا فوضى ومن يروج لمقولة موت الأحزاب السياسية هو شخص لا يؤمن بالديمقراطية وما تعيشه الأحزاب اليوم من ضعف وفقدان التأثير في الرأي العام سببه في جانب ما حصل لها من ترذيل وتشويه من قبل منظومة 25 جويلية حيث كان إضعاف الأحزاب أحد الأوراق التي لعبت عليها منظومة 25 جويلية للوصول إلى الحكم وفي جانب آخر الواقع الحالي للأحزاب بسبب هذا الوضع الاستثنائي الذي يكسوه ظاهرة التناحر والفرقة والانقسام حيث لم تفهم هذه الأحزاب أن مواصلتها في نفس هذا النهج من التفكير نتيجته المزيد من الضعف ومزيد من تسجيل الرئيس قيس سعيد للنقاط على حسابها .

اليوم الأحزاب السياسية لم تعد قادرة على تغيير الواقع وخاصة عدم قدرتها على اقناع الناس وعلى انتاج أفكار بديلة ومشاريع جاذبة للناس ويجدون فيها رغائبهم.. اليوم العمل الحزبي مكبل بصورته السيئة التي علقت في أذهان الناس جراء الممارسة والتجربة التي دامت عشر سنوات بعد الثورة حصلت فيها أخطاء كثيرة وخيارات غير صائبة وإتباع مسارات جعلت الشعب يكفر بالأحزاب ويكره السياسيين والأخطر من ذلك جعلت الشعب يلفظ كل الأجسام الوسيطة وتحصل القطيعة وأزمة الثقة مع الشعب.

ما هو مطروح اليوم لإنقاذ البلاد هو الذهاب نحو أفق أرحب وأوسع من الأطر الحزبية التي تفرض الانضباط والالتزام وتجعلك تبرر السياسات الخاطئة أحيانا للحزب.. اليوم من الممكن ممارسة السياسة من خارج الأحزاب وتقديم الإفادة ضمن مشاريع وبدائل غير تلك النابعة من الأحزاب.

هذا الطرح الذي يقدمه غازي الشواشي وموقفه من تجربة حزبية خاضها لسنوات انتهت به إلى اتخاذ قرار المغادرة والاستقالة ليس بالجديد ولا بالمفاجئ وهو توجه عالمي عبر عنه الكثير من الفاعلين السياسيين عبر العالم وهو تحليل نجده في الكثير من الأدبيات التي تتحدث عن عصر ما بعد الأحزاب وفكر ما بعد الديمقراطية ورؤية كنا قد تعرضنا إليها في بعض مقالاتنا التي تناولت ظاهرة " جيل جديد " التي تتحدث عن ظاهرة ترك الشباب الماركسي الانتظام الحزبي والانتماء إلى أحزاب منغلقة والذهاب نحو خيار الانتظام ضمن حركات احتجاجية شارعية منظمة في إطار حملات تتولى تعبئة الشارع حول قضايا معينة بغاية الضغط على السلطة والتعبير عن الرفض والاحتجاج.

والسؤال المطروح بخصوص الحالة التونسية وواقع الأحزاب فيها هو: هل أن ما تعيشه الأحزاب من ضعف وغياب التأثير في الناس هي حالة ظرفية تعبر عن أزمة عامة تمر بها البلاد جعلت الناس تفقد الثقة في كل شيء؟ أم أن ذلك راجع إلى وجود خلل في البناء الحزبي يحتاج إلى تغيير ومراجعة ونحن نعيش عصر التحولات الكبرى التي يشهدها العالم والتي فرضت على الإنسان المعاصر التفكير في أشكال نضالية أخرى للتعبير عن الغضب والمقاومة والاحتجاج؟ وهل أن مقاطعة الكثير من التونسيين للعملية الانتخابية الأخيرة وانسحابهم من المشاركة في الشأن العام هو موقف من الآليات والطرق القديمة للممارسة السياسية والتطلع نحو البحث عن بدائل جديدة للمساهمة في الشأن العام تكون من خارج الأطر الحزبية والتفكير السياسي التقليدي؟ فهل تحتاج الأحزاب السياسية لتبقى وتدوم إلى تجديد على مستوى الخطاب والمضمون وآليات العمل السياسي وتجديد آخر في القيادات القادرة على التعبير على رهانات المرحلة وتكون بعيدة عن معارك الجامعة في زمن الثمانينات  القرن الماضي؟ وفي الأخير ومع الإقرار بأن هناك مزاج عام ناكر وكاره للأحزاب السياسية والسياسيين فهل كان لإنخرام الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية دور مؤثر في ابتعاد الناس عن الأحزاب بما يعني أنه بتحسن الأحوال يعود للأحزاب إشعاعها؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك وأعمق وهو يشير إلى تحول كبير يشهده العالم بأسره في التفكير والرؤية والتصور لكيفية إدارة الشأن العام.

*صحفي باحث  في علوم الإعلام والصحافة