بقلم:منير الشرفي
أذكر أنه في عهد المرحوم زين العابدين بن علي، كانت الفترة التي تسبق الانتخابات مليئة بالأحداث التي تُسعد الرأي العام بغية حث المواطنين، لا على الإقبال على التصويت فحسب، وإنما أيضا للتصويت لفائدة الرئيس ولفائدة الحزب الحاكم. حتى ان نتائج الامتحانات، وخاصّة منها امتحان الباكالوريا، كانت تُعطى الأوامر لإنجاح أكبر عدد ممكن من التلاميذ فيها، ولو بمعدلات ضعيفة.
عشرون يوما تفصلنا عن موعد 17 ديسمبر، ذكرى انتحار المرحوم محمد البوعزيزي، والذي سيشهد انتخابات تشريعية قرّرها رئيس الجمهورية.
والملاحظ أن هذه الانتخابات يتمّ التحضير لها في ظروف صعبة على أكثر من صعيد.
في البداية، يجدر بنا أن نُذكّر بأن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري والهيئة العليا المستقلة للانتخابات دأبتا، طيلة السنوات الأخيرة، على إصدار قرار مشترك يُنظّم استعمال المُترشّحين لوسائل الإعلام. إلا أننا فوجئنا هذه السنة بقيام هيئة الانتخابات بهذه العملية بمفردها متجاوزة الهايكا، ممّا أدخل الارتباك على الحملة الانتخابية، خاصّة وأن الإيزي غير مُؤهّلة لمراقبة المرور الإعلامي للمترشحين، خلافا للهايكا، المختصّة في هذا المجال،والتي تملك التجهيزات المُخصّصة لذلك والموظفين المُتمرّنين على مثل هذا العمل.
يرى بعض الملاحظين أن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد خلاف بين هيئتين. لكن الواقع يبدو لي أعمق من ذلك بكثير. فالواضح هو أنه توجد رغبة، إن لم أقل قرار، بالاستغناء نهائيا عن الهايكا، بل أنه شُرع بعد في إبعادها وتجاهل وجودها.
وقد يدخل ذلك ضمن برنامج أشمل، يتمّ فيه إبعاد مؤسسات غير مرغوب في وجودها أصلا وغير معترف بضرورتها وأهمية دورها في الحياة السياسية. ولا ننسى أن هناك بعض المؤسسات قد تمّ بعد التخلي عنها مثل وظيفة مفتي الجمهورية التي ليس لها أي ذكر في دستور 2022، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي تمّ غلقها دون الإعلان عمّا إذا سيتمّ فتحها من جديد، أو المحكمة الدستورية التي لا يعرف أحد إن كانت هناك نيّة لتنصيبها ومتى؟ ... كل ذلك دون اعتبار أهميّة الأحزاب السياسية التي تُعتبر مبدئيّا أساس الدولة الديمقراطية والتي تمّ تجاهلها بالكامل في القانون الانتخابي الجديد وفي الانتخابات التشريعية القادمة. ويبدو أن ذلك يعود إلى أن الأحزاب أصبحت تُعتبر من "الأجسام الوسيطة" التي لم نعد بحاجة إلى وجودها ولا فائدة منها.
أضف إلى ذلك الظاهرة الجديدة والغريبة التي تتمثّل في مقاضاة أصحاب الرأي المخالف من طرف الحكومة، على غرار مقاضاة الفاضل عبد الكافي والأزهر العكرمي وسامي بن سلامة ونزار البهلول... وهي ظاهرة لا تُبشّر بانتهاج المسار الديمقراطي الذي ينتظره الشعب.
إلى جانب هذا الجو السياسي العام، نجد أن هذه الانتخابات ستدور في جوّ اجتماعي مشحون. فالغضب أصبح ساطعا في بعض الجهات، مثل صفاقس الغارقة في الفضلات وفي الروائح الكريهة وحيث ينتظر السكان الإصابة بأمراض خبيثة من شدّة التلوّث، ومثل جرجيس حيث الأهالي لم يُشفوا بعد من حرقة أبنائهم الذين فقدوا حتى جثثهم... زد على ذلك النقص الفادح في المواد الأساسية، إذ لم نعد نتكلّم عن الكماليات، ولا حتى عن الحليب الذي أصبح الحصول على المخدّرات أيسر من الحصول عليه، بل أن النقص أصاب مئات أنواع الأدوية، ممّا يُنذر بأزمات صحيّة قد يزداد عدد المصابين بها يوما بعد يوم في الفترة القليلة القادمة. كل ذلك بالإضافة إلى انهيار منظومة التعليم ومنظومة النقل وما إلى ذلك.
وفي هذا الخضمّ، يُعاني المواطن بشكل غير مسبوق من الزيادات المُشطّة في الأسعار، حتى أن مرتب الموظف الذي كان يفي بحاجياته لمدة شهر أصبح لا يكفيه لقوت عائلته لمدّة أسبوع. والنتيجة هي التحاق الطبقة الوسطى التي كانت تُمثّل العمود الفقري للمجتمع التونسي بالطبقة الفقيرة، فكثرت الهجرة إلى الخارج من طرف العاطلين على العمل ومن طرف إطارات البلاد على حد السواء. وفي الأثناء عمّ التسوّل وعمّت معه البراكاجات، وقلّ في المقابل الأمان لدى المواطنين.
في هذا الجو العام تنتظم بعد حوالي ثلاثة أسابيع انتخابات، تدل عديد المُؤشرات على أنها لن تكون حدثا وطنيا هامّا لأسباب عديدة، منها الدعوة إلى المقاطعة من طرف العديد من الأحزاب ومن الجهات الوازنة بالبلاد، ومنها أن الأغلبية الساحقة من المُترشحين غير معروفين لدى عامّة الناس ولا نعلم عنهم ما يدعو إلى التصويت لفائدتهم أو ضدّهم.
لكل هذه الأسباب أتفهّم جيدا، لا العزوف عن التصويت فقط، وإنما بالخصوص العزوف عن الاهتمام بانتخابات 17 ديسمبر وبما يُقال بشأنها.