إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رواية "ظلام منحوت" للشاعر الشاذلي القرواشي .. عوالم روائية منحوتة بحس فني مرهف لتسليط تجربة الظلام على المبصرين

تونس – الصباح

الظلام.. ماذا نعرف عنه وماذا نعرف عن أهله ؟ نسعى دوما للتعرف على عوالم المحيطين بنا ولكننا نكتفي بالنسبة لعالم فاقدي البصر بالتنويه برغبتهم وتفانيهم وقدرتهم على اتقان الكثير من الكفاءات التي قد نعجز عن الالمام بها رغم ما نتمتع به من ضوء البصر.. ننبهر بقدرتهم على القراءة وعلى البحث والدراسة وإنتاج المعرفة والإبداع ونشجعهم على محاولات الانصهار في عالمنا والاستفادة منه بالقدر الذي تسمح به امكانياتهم دون ان نفكر كثيرا في المجهود الذي يقومون به والعناء الذي يتكبدونه في سبيل اقناعنا بأنهم كمّل ولا يشعرون بالنقص الذي نراه فيهم به ونتعامل معهم على اساسه . هل صحيح ان فاقدي البصر لا يرون الاشياء ؟ وهل يرون ما يحيط بهم مثلما نراه نحن ؟ ام انهم يرونه بطريقة مختلفة؟ كيف ينظرون لنا وهل نعرف انهم يرون فينا عجزا لا ترقى عقولنا لاكتشافه في انفسنا مهما نظرنا و امعنا النظر ودققنا في مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه الاشياء والأمور والأحداث التي تجدّ في ايامنا وليالينا وتصبغ علاقاتنا بمحيطنا وتؤثر عليه؟ ومن هو الاعمى ؟ هل هو الذي ولد دون هذه الحاسة التي نرى ان حياة الانسان ترتكز عليها ولا يمكن العيشدونها ويؤكد لنا الكاتب والشاعر الشاذلي القرواشي فداحة خطئنا في علاقة بهذا الامر بالذات ؟ هل ان الاعمى هو الذي يفقد بصره صغيرا بعد ان يكون قد جمع فكرة على الالوان و اخفاها في عمق مخيلته ليعود اليها متى احتاج مساعدة المبصرين على فهم فكرته وموقفه . ام ان الاعمى هو الذي تمنعه نعمة الابصار من النظر الى العالم والمحيط والناس بطريقة عقلانية مختلفة وتدعوه لاستسهال النظر الى العالم وعدم التفكير فيه إلا بقدرته على الابصار والتواصل على اساسه.

وهل ان ما نراه بالعين المجردة هو حقيقة كما نراه وما مدى تطابق ما نراه مع ما يراه الآخرون شكلا ومضمونا وهيئة ام ان الشكل والهيئة والمضمون واللون فكرة في مخيلة تعودنا عليها منذ ولدنا وبدأنا نتلمس الأشياء ونضع لها صورا واسماء وإمكانيات استعمال .

هل اننا من المبصرين فعلا وماذا نرى من هذا العالم؟

اسئلة كثيرة دفعت للتفكير فيها منذ بدأت قراءة رواية "ظلام منحوت" للروائي الشاعر الشاذلي القرواشي وقد صدرت عن دار افريقية للنشر وأهداها كاتبها لكل المكفوفين في العالم والى " تلك الشمعة التي هجمت على الليل وأضاءت بضحكتها السديم .." هكذا بهذا الايقاع الجميل تكلم الكاتب شعرا وهو شاعر بالأساس ويعيش الشعر ويحياه ولا ينظمه لذا فهو يتكلمه ويكتبه دون عناء وينام ملء جفونه عن شواردها في حين يسهر الخلق جرّاها ويختصم على حد تعبير ابي الطيب المتنبي حين قال : " أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا. وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ. "

وردت الرواية في 238 من الحجم المتوسط لا تحتاج إلا لقراءة وحيدة لتكوين فكرة عن مضمونها بصفة عامة واتباع الخيط الرابط بين احداثها وخاصة قصة الحب التي تمت معالجتها بشاعرية وجمال وحياء مما يؤهلها للبرمجة في حصص المطالعة بالنسبة لتلاميذ الاعدادي او الباكالوريا. اما للكتابة والحديث عنها مع الناس و ليكتشف قارئها المزيد من الابداع والشعور بلذة الاكتشاف فلا بد من قراءات عديدة لأنه مع كل قراءة جديدة تتراءى افكار ورؤى ومواقف اخرى تعمق الشعور بضرورة وضع المسلمات وما نعتقده بديهيات موضع السؤال. والحقيقة ان المكان في " ظلام منحوت " تعدد مثل تعدد الاحداث وقد عامله الكاتب بحميمية وشوق الحالم بضمه وإطفاء الظمأ واشفاء الغليل منه وبحنين دفين الى طبيعة نعشقها ونرغب في ان نراها في عيون الآخرين وقد مكننا القرواشي من ان نبصرها بعيون المبصرين والمكفوفين .. طبيعة نحبها ونجلها ونقبلها مثلما تطرح علينا نفسها ولكننا لا نحافظ عليها. والمكان في اغلبه جميل ورائق وهادئ وصفه لنا القرواشي بعيني بصير اي اعمى وبعيني مبصر في نفس الوقت لنحس ونحن نقرا وصفه اننا حيال طبيعة لا نعرفها جيدا ولم نفكر فيها جديا وبقينا نراها من البديهيات ومن قبيل التحصيل الحاصل ونستغلها ونمتص رحيقها بعنف دون هوادة في حين انها تستحق منا التفكير وإعادة النظر لنحافظ عليها بما تيسر لنا من امكانيات . والمكان في الرواية وفي نظر البطل الاوروبي صديق سارة هو ذلك : " الافق الغامض ،الذي ساعد اوروبا في حروبها منذ القديم وأعانها على رسم ملامحها ... فهو خزان من السواعد والعواطف والافكار."ص 226 . وقد اعطى القرواشي اهمية قصوى للمكان طيلة صفحات روايته وهو ما يتناسب تماما مع اهمية المكان في حياة البطلة الكفيفة اذ يقول في الصفحة 148 :" لم يكن الزمان مهما جدا في حياتها.. لأنه محكوم بالدورة المتعاقبة للنور والظلام ...لذلك كان متبخرا في المكان ، ولعله مجرد اطيان تيبست منذ نشأة الأرض.. فما يكون غروبا لدى الناس يكون شروقا في ذهن رتاج ، اما المكان فله الاهمية القصوى، بما انه مرتبط دائما بالمعادلات الرياضية في وعيها... الشرق والغرب والجنوب والشمال ، كلها جهات يحددها موقع العصا والنقطة التي توجد هي فيها .. وحتى ان ابتعدت عنها قليلا ، فإنها تصبح تجلس على رصيف الهامش..."

ازمان متداخلة متماهية مع الانتقال من العالم الحسي المادي الى العالم المجرد المعنوي

زمن الرواية ازمنة متداخلة اختارها القرواشي بدقة وأدرجها بعناية وعبّر بها عن تطور شخصيات ابطاله وانتقالها من العالم الحسي المادي الى العالم المجرد المعنوي ونقل بها قارئه من عالم النور والأضواء التي نشاهدها بالعين المجردة ولا نتوقف عند معانيها ومقاصدها الى عالم شاسع من الظلام المنحوت بدقة .. عالم نابض بالحركة والحياة والتفكير لا يفقد اهله الأمل في عيش الحياة بكمالها و بهائها .. عالم نراه مظلما ونخافه ويعيشه فاقدو البصر نورا و أضواءا ساطعة يتخيلونها وفي هذا يقول الشاذلي القرواشي على لسان بطلة الرواية " رتاج " في الصفحة 141 :" المكفوفون هم القريبون من المشهد النوراني العظيم ، لأنهم اكثر الخلق ابتعادا عن محارق الاجساد ، حيث ان الابصار جمرة الشهوة الاولى ... وإذا كان البصر هو مصدر استنفار المشاعر لدى عموم الناس ، فان الصوت هو العمود الذي ترتكز عليه خيمة الاحاسيس لدى المكفوفين..

  فقدان البصر عند الشاذلي القرواشي يعني الظلام .. ولكنه ظلام شاسع لا يمكن احتواؤه.. تدفقت من شساعته انوار المعرفة فغطت على ظلمات الانوار لدى المبصرين ..هذه الانوار المتيسرة دون اي عناء والتي تبث الكسل و التبلد الذهني المقعد عن العمل والتفكير الجدي في الانسان ومحيط عيشه وفي الكرة الارضية المهددة بالانفجار والاندثار بسبب الانتهاكات والحروب والتصرف الاناني وغير المدروس في ثرواتها .

مغامرات مضمونية وأسلوبية مثيرة وأسئلة فلسفية وأخرى صوفية

  رواية "ظلام منحوت " تعمق السؤال الفلسفي عن سبب الوجود وعن قدرة الانسان او قصوره على المحافظة عليه، وتدعو لتعميق التفكير في هذا العالم المخيف الذي يأكل بعضه مثلما يأكل الاخطبوط اصابعه. وتطرح سؤال الكيفية المثلى لإنقاذ الارض والإنسان وإخراجهما من الوضع الذي ترديا فيه ؟ ومن سيكون وراء هذه النجاة؟ الطبيعة التي ستدافع عن نفسها بنفسها او القوى الالاهية العظمى التي سخّرت للإنسان كل ما جعله يدمّر الارض ويغير طبيعتها ومناخها ويهدد وجود كل من عليها، ام الانسان الذي لا بد من ان يستعيد بصيرته وينقذ نفسه والأرض.

ان القراءة المتأنية للرواية هي مرافقة للشاذلي القرواشي في مغامرة الكتابة عن عالم نتعامل معه بشفقة وخوف دون ان نتجشم عناء التعرف عن قرب على مشاعر وأحاسيس وطريقة تعامل اهله من المكفوفين مع بقية حواسهم ومع الغير والمحيط والطبيعة ليقول لنا ان عالمهم منظم ودقيق في تنظيمه . وهي كذلك مغامرة اعتماده لأسلوب كتابة لا يخلو من الفلسفة وتوظيف المعلومات العلمية لخدمة السرد الذي نسّبه ونجح في ان يؤمن المنحى التثقيفي والتوعوي للرواية وفي نفس الوقت الجانب الترفيهي باعتماد قصة الحب وتنمية احداثها واتخاذها كمطية وكتبرير للكثير من المواقف والآراء .

ومغامرة الدعوة للابتعاد عن المسلمات وإعادة التفكير في البديهيات باختيار الحديث عن تجربة العمى التي اعتمدتها البطلة سارة ليمرر الكثير من الحقائق العلمية والمعلومات الطبية عن المكفوفين وعن عالمهم الذي ليس بالقسوة والظلام الذي نراه وليقول لنا ان الكفيف ليس معاقا او ناقصا وإنما هو انسان كامل تغطي بقية حواسه حاسة البصر التي فقدها ولم يحرمه فقدانها من التفاعل مع العالم والمحيط وفهم الاشياء وتفسيرها على طريقته وبالوسائل المتاحة له .

علياء بن نحيلة

 

رواية "ظلام منحوت" للشاعر الشاذلي القرواشي .. عوالم روائية منحوتة بحس فني مرهف  لتسليط  تجربة الظلام على المبصرين

تونس – الصباح

الظلام.. ماذا نعرف عنه وماذا نعرف عن أهله ؟ نسعى دوما للتعرف على عوالم المحيطين بنا ولكننا نكتفي بالنسبة لعالم فاقدي البصر بالتنويه برغبتهم وتفانيهم وقدرتهم على اتقان الكثير من الكفاءات التي قد نعجز عن الالمام بها رغم ما نتمتع به من ضوء البصر.. ننبهر بقدرتهم على القراءة وعلى البحث والدراسة وإنتاج المعرفة والإبداع ونشجعهم على محاولات الانصهار في عالمنا والاستفادة منه بالقدر الذي تسمح به امكانياتهم دون ان نفكر كثيرا في المجهود الذي يقومون به والعناء الذي يتكبدونه في سبيل اقناعنا بأنهم كمّل ولا يشعرون بالنقص الذي نراه فيهم به ونتعامل معهم على اساسه . هل صحيح ان فاقدي البصر لا يرون الاشياء ؟ وهل يرون ما يحيط بهم مثلما نراه نحن ؟ ام انهم يرونه بطريقة مختلفة؟ كيف ينظرون لنا وهل نعرف انهم يرون فينا عجزا لا ترقى عقولنا لاكتشافه في انفسنا مهما نظرنا و امعنا النظر ودققنا في مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه الاشياء والأمور والأحداث التي تجدّ في ايامنا وليالينا وتصبغ علاقاتنا بمحيطنا وتؤثر عليه؟ ومن هو الاعمى ؟ هل هو الذي ولد دون هذه الحاسة التي نرى ان حياة الانسان ترتكز عليها ولا يمكن العيشدونها ويؤكد لنا الكاتب والشاعر الشاذلي القرواشي فداحة خطئنا في علاقة بهذا الامر بالذات ؟ هل ان الاعمى هو الذي يفقد بصره صغيرا بعد ان يكون قد جمع فكرة على الالوان و اخفاها في عمق مخيلته ليعود اليها متى احتاج مساعدة المبصرين على فهم فكرته وموقفه . ام ان الاعمى هو الذي تمنعه نعمة الابصار من النظر الى العالم والمحيط والناس بطريقة عقلانية مختلفة وتدعوه لاستسهال النظر الى العالم وعدم التفكير فيه إلا بقدرته على الابصار والتواصل على اساسه.

وهل ان ما نراه بالعين المجردة هو حقيقة كما نراه وما مدى تطابق ما نراه مع ما يراه الآخرون شكلا ومضمونا وهيئة ام ان الشكل والهيئة والمضمون واللون فكرة في مخيلة تعودنا عليها منذ ولدنا وبدأنا نتلمس الأشياء ونضع لها صورا واسماء وإمكانيات استعمال .

هل اننا من المبصرين فعلا وماذا نرى من هذا العالم؟

اسئلة كثيرة دفعت للتفكير فيها منذ بدأت قراءة رواية "ظلام منحوت" للروائي الشاعر الشاذلي القرواشي وقد صدرت عن دار افريقية للنشر وأهداها كاتبها لكل المكفوفين في العالم والى " تلك الشمعة التي هجمت على الليل وأضاءت بضحكتها السديم .." هكذا بهذا الايقاع الجميل تكلم الكاتب شعرا وهو شاعر بالأساس ويعيش الشعر ويحياه ولا ينظمه لذا فهو يتكلمه ويكتبه دون عناء وينام ملء جفونه عن شواردها في حين يسهر الخلق جرّاها ويختصم على حد تعبير ابي الطيب المتنبي حين قال : " أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا. وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ. "

وردت الرواية في 238 من الحجم المتوسط لا تحتاج إلا لقراءة وحيدة لتكوين فكرة عن مضمونها بصفة عامة واتباع الخيط الرابط بين احداثها وخاصة قصة الحب التي تمت معالجتها بشاعرية وجمال وحياء مما يؤهلها للبرمجة في حصص المطالعة بالنسبة لتلاميذ الاعدادي او الباكالوريا. اما للكتابة والحديث عنها مع الناس و ليكتشف قارئها المزيد من الابداع والشعور بلذة الاكتشاف فلا بد من قراءات عديدة لأنه مع كل قراءة جديدة تتراءى افكار ورؤى ومواقف اخرى تعمق الشعور بضرورة وضع المسلمات وما نعتقده بديهيات موضع السؤال. والحقيقة ان المكان في " ظلام منحوت " تعدد مثل تعدد الاحداث وقد عامله الكاتب بحميمية وشوق الحالم بضمه وإطفاء الظمأ واشفاء الغليل منه وبحنين دفين الى طبيعة نعشقها ونرغب في ان نراها في عيون الآخرين وقد مكننا القرواشي من ان نبصرها بعيون المبصرين والمكفوفين .. طبيعة نحبها ونجلها ونقبلها مثلما تطرح علينا نفسها ولكننا لا نحافظ عليها. والمكان في اغلبه جميل ورائق وهادئ وصفه لنا القرواشي بعيني بصير اي اعمى وبعيني مبصر في نفس الوقت لنحس ونحن نقرا وصفه اننا حيال طبيعة لا نعرفها جيدا ولم نفكر فيها جديا وبقينا نراها من البديهيات ومن قبيل التحصيل الحاصل ونستغلها ونمتص رحيقها بعنف دون هوادة في حين انها تستحق منا التفكير وإعادة النظر لنحافظ عليها بما تيسر لنا من امكانيات . والمكان في الرواية وفي نظر البطل الاوروبي صديق سارة هو ذلك : " الافق الغامض ،الذي ساعد اوروبا في حروبها منذ القديم وأعانها على رسم ملامحها ... فهو خزان من السواعد والعواطف والافكار."ص 226 . وقد اعطى القرواشي اهمية قصوى للمكان طيلة صفحات روايته وهو ما يتناسب تماما مع اهمية المكان في حياة البطلة الكفيفة اذ يقول في الصفحة 148 :" لم يكن الزمان مهما جدا في حياتها.. لأنه محكوم بالدورة المتعاقبة للنور والظلام ...لذلك كان متبخرا في المكان ، ولعله مجرد اطيان تيبست منذ نشأة الأرض.. فما يكون غروبا لدى الناس يكون شروقا في ذهن رتاج ، اما المكان فله الاهمية القصوى، بما انه مرتبط دائما بالمعادلات الرياضية في وعيها... الشرق والغرب والجنوب والشمال ، كلها جهات يحددها موقع العصا والنقطة التي توجد هي فيها .. وحتى ان ابتعدت عنها قليلا ، فإنها تصبح تجلس على رصيف الهامش..."

ازمان متداخلة متماهية مع الانتقال من العالم الحسي المادي الى العالم المجرد المعنوي

زمن الرواية ازمنة متداخلة اختارها القرواشي بدقة وأدرجها بعناية وعبّر بها عن تطور شخصيات ابطاله وانتقالها من العالم الحسي المادي الى العالم المجرد المعنوي ونقل بها قارئه من عالم النور والأضواء التي نشاهدها بالعين المجردة ولا نتوقف عند معانيها ومقاصدها الى عالم شاسع من الظلام المنحوت بدقة .. عالم نابض بالحركة والحياة والتفكير لا يفقد اهله الأمل في عيش الحياة بكمالها و بهائها .. عالم نراه مظلما ونخافه ويعيشه فاقدو البصر نورا و أضواءا ساطعة يتخيلونها وفي هذا يقول الشاذلي القرواشي على لسان بطلة الرواية " رتاج " في الصفحة 141 :" المكفوفون هم القريبون من المشهد النوراني العظيم ، لأنهم اكثر الخلق ابتعادا عن محارق الاجساد ، حيث ان الابصار جمرة الشهوة الاولى ... وإذا كان البصر هو مصدر استنفار المشاعر لدى عموم الناس ، فان الصوت هو العمود الذي ترتكز عليه خيمة الاحاسيس لدى المكفوفين..

  فقدان البصر عند الشاذلي القرواشي يعني الظلام .. ولكنه ظلام شاسع لا يمكن احتواؤه.. تدفقت من شساعته انوار المعرفة فغطت على ظلمات الانوار لدى المبصرين ..هذه الانوار المتيسرة دون اي عناء والتي تبث الكسل و التبلد الذهني المقعد عن العمل والتفكير الجدي في الانسان ومحيط عيشه وفي الكرة الارضية المهددة بالانفجار والاندثار بسبب الانتهاكات والحروب والتصرف الاناني وغير المدروس في ثرواتها .

مغامرات مضمونية وأسلوبية مثيرة وأسئلة فلسفية وأخرى صوفية

  رواية "ظلام منحوت " تعمق السؤال الفلسفي عن سبب الوجود وعن قدرة الانسان او قصوره على المحافظة عليه، وتدعو لتعميق التفكير في هذا العالم المخيف الذي يأكل بعضه مثلما يأكل الاخطبوط اصابعه. وتطرح سؤال الكيفية المثلى لإنقاذ الارض والإنسان وإخراجهما من الوضع الذي ترديا فيه ؟ ومن سيكون وراء هذه النجاة؟ الطبيعة التي ستدافع عن نفسها بنفسها او القوى الالاهية العظمى التي سخّرت للإنسان كل ما جعله يدمّر الارض ويغير طبيعتها ومناخها ويهدد وجود كل من عليها، ام الانسان الذي لا بد من ان يستعيد بصيرته وينقذ نفسه والأرض.

ان القراءة المتأنية للرواية هي مرافقة للشاذلي القرواشي في مغامرة الكتابة عن عالم نتعامل معه بشفقة وخوف دون ان نتجشم عناء التعرف عن قرب على مشاعر وأحاسيس وطريقة تعامل اهله من المكفوفين مع بقية حواسهم ومع الغير والمحيط والطبيعة ليقول لنا ان عالمهم منظم ودقيق في تنظيمه . وهي كذلك مغامرة اعتماده لأسلوب كتابة لا يخلو من الفلسفة وتوظيف المعلومات العلمية لخدمة السرد الذي نسّبه ونجح في ان يؤمن المنحى التثقيفي والتوعوي للرواية وفي نفس الوقت الجانب الترفيهي باعتماد قصة الحب وتنمية احداثها واتخاذها كمطية وكتبرير للكثير من المواقف والآراء .

ومغامرة الدعوة للابتعاد عن المسلمات وإعادة التفكير في البديهيات باختيار الحديث عن تجربة العمى التي اعتمدتها البطلة سارة ليمرر الكثير من الحقائق العلمية والمعلومات الطبية عن المكفوفين وعن عالمهم الذي ليس بالقسوة والظلام الذي نراه وليقول لنا ان الكفيف ليس معاقا او ناقصا وإنما هو انسان كامل تغطي بقية حواسه حاسة البصر التي فقدها ولم يحرمه فقدانها من التفاعل مع العالم والمحيط وفهم الاشياء وتفسيرها على طريقته وبالوسائل المتاحة له .

علياء بن نحيلة