إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

إجراءاته ستفعّل قريبا: إصلاحات موجعة في ملف الدعم.. فهل يتقبّلها الشارع؟

 

* حكومات سابقة أرجأت معالجته وحكومة بودن تتجرأ على فتح الملف

خبراء اقتصاد لـ"الصباح":

*  لا يمكن الاقتراب من ملف الدعم إلا بعد تعافي الاقتصاد

* إجراءات وزيرة المالية حول تعويض 8 ملايين تونسي مكلفة أكثر من الاعتمادات المرصودة للدعم!

*  أكثر من 7 مليار دينار نفقات الدعم خلال 2022 والمحروقات تستنزف موارد الدولة المالية

*  نظام الدعم في تونس قائم منذ أربعينات القرن الماضي ورفعه يهدد السلم الاجتماعية

*  ضرورة تطوير دخل التونسيين قبل الإقدام على أي خطوة تتعلق بتوجيه الدعم

* الأجور في تونس زهيدة وغياب الدعم يهدد برحيل الشركات الأجنبية وفقدان مواطن الشغل

* 86 %من التونسيين يرفضون المساس بمنظومة الدعم وفق أحدث دراسة

إعداد: سفيان المهداوي

تونس- الصباح

أصبح ملف الدعم في تونس مصدر قلق وتوجس من قبل المواطنين والمسؤولين على حد سواء، خاصة في ظل ما يتردد عن وجود ضغوطات من صندوق النقد الدولي بضرورة إصلاح منظومة الدعم، التي كلفت الدولة التونسية إلى حد الآن قرابة 7 مليار دينار خلال سنة 2022، وتسعى الحكومة الحالية إلى حشد الدعم لبرنامجها الاقتصادي من خلال جلسات واجتماعات مع ممثلي نقابات اتحاد الشغل، الذي يرفض أي خطوة في اتجاه رفع الدعم، ويخير تقاسم الأعباء بين القطاع العام والخاص، مجددا تحذيره بعدم المساس بمنظومة الدعم، في ظل انهيار متواصل للقدرة الشرائية للتونسيين.

"الصباح" تواصلت مع عدد من الخبراء الاقتصاديين والمسؤولين في الدولة بخصوص ملف الدعم، وكان الإجماع بضرورة إرجاء خطوة إصلاح الدعم أو توجيهه إلى مستحقيه، وذلك نظرا لحساسية الظرف الاقتصادي العالمي، وأيضا بسبب الأوضاع الاجتماعية والأمنية بالبلاد، والتي من الممكن أن تتطور لتصبح خارجة عن السيطرة، خصوصا وأن الأمر يتعلق بمنظومة وضعت منذ الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، وتعود إلى الأربعينات من القرن الماضي، حيث تم إحداث الصندوق العام للتعويض بمقتضى أمر مؤرخ في 28 جوان 1945، ضمن حزمة من الإجراءات الاجتماعية بعد الأزمة التي شهدتها تونس مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وتبعاتها على التونسيين الذين انهارت قدرتهم الشرائية آنذاك، أمام ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وفقدانها من الأسواق العالمية.

ومؤخرا، خرجت وزيرة المالية سهام نمصية البوغديري، لتعلن في لقاء إعلامي، أنه سيتم رفع الدعم على المحروقات بصفة نهائية بحلول سنة 2026 لتبلغ أسعارها الحقيقية، وذلك تطبيقا للإصلاحات التي انطلقت فيها تونس بخصوص التعديل الآلي لأسعار المحروقات، مشدّدة على أن الحكومة ملتزمة بالانطلاق في إعداد منصة خاصة بتوجيه الدعم المتعلق بالمواد الاستهلاكية نهاية هذه السنة.

وقدمت وزيرة المالية عرضا تضمن محاور الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء، حول برنامج مدته 48 شهرا في إطار "تسهيل الصندوق الممدد" بقيمة بحوالي 1,9 مليار دولار أمريكي لدعم السياسات الاقتصادية في تونس. وتضمّن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، 8 نقاط أبرزها تعزيز العدالة الضريبية باتخاذ خطوات لدمج القطاع غير الرسمي تحت مظلة الشبكة الضريبية وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام ووضع إستراتيجية لمقاومة التغيرات المناخية وتبني سياسة مالية مناسبة للمحافظة على استقرار الأسعار وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي من خلال زيادة التحويلات النقدية، وتوسيع نطاق تغطية شبكات الأمان الاجتماعي لتعويض الأسر الضعيفة عن تداعيات ارتفاع الأسعار والعمل على تنفيذ خطة شاملة لإصلاح المؤسسات العمومية من خلال دعم الحوكمة والشفافية في القطاع العام، بما في ذلك من خلال إجراء تشخيص شامل لأوضاع الحوكمة بهدف وضع خطة لتنفيذ الإصلاحات اللازمة، بالإضافة إلى تعزيز الإصلاحات الهيكلية لدعم المنافسة، وضمان الشفافية وتكافؤ الفرص للمستثمرين من خلال ترشيد الحوافز الاستثمارية.

وأعلنت الوزيرة، موفى الأسبوع الماضي، خلال لقاء إعلامي انه لن يتم رفع الدعم بل سيتم توجيهه لمستحقيه، وبيّنت الوزيرة، في لقاء تلفزي، أن تحويلات مالية سيتم صرفها قبل الشروع في إصلاح منظومة الدعم. وأضافت أنه وخلال شهر نوفمبر الجاري، سيتم فتح منصة للتسجيل أمام الجميع، من أجل التمتع بهذه التحويلات.

وشددت الوزيرة أن الطبقة المتوسطة ستكون مشمولة بتحويلات الدعم، إلى جانب الفئات المتمتعة بمساعدات اجتماعية من الدولة، مشيرة إلى أن أكثر من 70 بالمائة من العائلات التونسية ستتمتع بالدعم، أي بما يعادل 8 مليون تونسي.

إرجاء ملف الدعم إلى حين تعافي الاقتصاد

وحول هذه الإجراءات وما رافقها من غموض، قال الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان، في تصريح لـ"الصباح"، أمس أن ما كشفت عنه وزيرة المالية هو مجرد الإعلان عن منصة الكترونية، ولم تتحدث عن رفع الدعم وإنما إصلاح المنظومة، والحديث هنا عن إعادة توجيه الدعم لمستحقيه، إلا أن مجرد الحديث عن ملف الدعم في بلد يشهد في الوقت الحالي أزمة اقتصادية خانقة لا يستقيم، وفق تعبيره، حيث أن هذا الملف شائك ولا يمكن معالجته الآن، مشددا على أن المعالجة تستقيم حينما يكون الاقتصاد التونسي في وضع جيد.

وأضاف الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان بالقول:"إننا نعيش أزمة اقتصادية خانقة تستدعي اتخاذ إجراءات تتعلق بإصلاح المؤسسات العمومية وإعادة هيكلتها ودفع الاستثمار ووضع منوال تنموي جديد، والمساس بملف الدعم، أو حتى الخوض في خباياه، هو إجراء في غير محله في الوقت الراهن، خصوصا وأن العالم بأسره يمر بأزمة اقتصادية حادة وتداعياتها على تونس مستمرة، علما وأن هذا الملف هو أخطر الملفات في تونس نظرا لحساسيته على الأوضاع المعيشية الصعبة للمواطن التونسي الذي انهارت قدرته الشرائية خلال العقد الأخير بنسبة 40٪."

وتابع سعيدان بالقول: "رغم أن ملف الدعم في تونس شائك ويسوده فساد رهيب، لا يمكن معالجته بين ليلة وضحاها، إلا أن الحديث عن رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية أو حتى إعادة توجيه الدعم لمستحقيه عبر آليات مهما كانت، هو أمر يهدد السلم الاجتماعية في الوقت الراهن، علما وأن العديد من المواد المدعمة في تونس تشكل عبئا كبيرا على الدولة، وهناك بعض المواد التي تدعمها الدولة مفقودة في الأسواق ومنها الزيت النباتي، والذي من المفروض توفره في الأسواق التونسية، إلا أنه مفقود رغم أنه يحظى بدعم مباشر من الدولة".

وحسب سعيدان لا يقتصر الأمر فقط على الزيت النباتي، فهناك مواد من المفروض أنها خاضعة للدعم من قبل الدولة، لم تعد تلبي طموحات الفلاحين، وعلى سبيل المثال القمح اللين والذي تسبب في فقدان "الفرينة" من الأسواق بسبب سوء التسيير، وعدم قدرة الفلاحين على مجاراة الأسعار، مشددا على أن المنظومة الفلاحية في حاجة ماسة للدعم حتى نتمكن من تحقيق أمننا الغذائي.

وقال الخبير في الشأن الاقتصادي، أن تونس مرتهنة اليوم للخارج حيث أن 60٪ من الحبوب نستوردها من الخارج، كما أن 50٪ من حاجياتنا الطاقية، أيضا نؤمنها من الخارج، وهذا كله ناجم عن غياب الإصلاحات في منظومة شائكة تتسم بالفساد، ومن الضروري أن نسعى في الفترة القليلة القادمة إلى تأمين أمننا الغذائي والطاقي، عبر توجيه الدعم لمستحقيه، وخاصة في القطاع الفلاحي، الذي يعد احد القطاعات الحيوية والهامة، لافتا إلى أن إصلاح منظومة الدعم يقوم عبر التدرج في الإصلاحات، وفي وقت يكون فيه الاقتصاد التونسي قد تعافى، أما في الوقت الراهن، فمن الضروري عدم الحديث عن رفع الدعم، في ظل وضع اقتصادي حرج تمر به البلاد، أثر بشكل فادح على توازناتها المالية، وفق قوله.

تحذيرات من مواجهة الشارع

الخبير الاقتصادي لدى الاتحاد العام التونسي للشغل عبد الرحمان اللاحقة، أشار إلى أن الاتحاد يساند إصلاح منظومة الدعم لكن دون رفعه، لافتا إلى أن إصلاح الدعم يجب أن يكون جديا ويأخذ بعين الاعتبار السياق السياسي لتونس.

وتابع اللاحقة خلال لقاء حواري نظمه المرصد التونسي للاقتصاد لمناقشة الإصلاح الهيكلي لمنظومة دعم المحروقات، مؤخرا، إن إصلاح هذه المنظومة يحتاج إلى حوار مجتمعي وأن الحكومة يجب أن تقوم بدورها الاتصالي في هذا الملف، مشيرا إلى أن الاتحاد لا يمكنه الحكم نهائيا على البرنامج الإصلاحي للحكومة، إلا بعد أن تخرج رئيسة الحكومة للشعب التونسي وتقدم تفسيرا للمقاربة التي ستعتمدها الحكومة في إصلاح منظومة الدعم.

وأعرب اللاحقة عن تخوفات الاتحاد من المقاربة الغامضة للحكومة في إصلاح منظومة الدعم، مشيرا إلى أن الاتحاد يملك مقاربة عقلانية تأخذ بعين الاعتبار السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.

وشدّد على أن الاتحاد العام التونسي للشغل طلب مراجعة المصاريف العمومية وأن إصلاح منظومة دعم المحروقات في تونس لا يمكن أن يكون من خلال الرفع بل من خلال مراجعة جباية المحروقات والتي ستؤدي إلى تخفيض الأسعار.

ولفت اللاحقة إلى أن منظومة المحروقات في تونس تعاني من مشاكل هيكلية ترتبط بدفع الدولة الشركات إلى الاقتراض لتسديد ثمن شراء المواد البترولية وأن الشركة التونسية للكهرباء والغاز دفعت 800 مليون دينار على شكل فوائض على القروض.

وعبر اللاحقة عن مخاوفه من أن الحكومة ستواجه الشارع، في حال أقدمت على رفع الدعم عن قطاع المحروقات دون دراسة مسبقة وتقييم للآثار الجانبية لعملية الرفع الشامل للدعم الحكومي.

وأكد الأستاذ الجامعي المختص في الاقتصاد والخبير بقسم الدراسات بالاتحاد العام التونسي للشغل، عبد الرحمان اللاحقة، أن رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، الذي اقترحته الحكومة في برنامجها الإصلاحي الموجه إلى صندوق النقد الدولي، سيتسبب في زيادة معدل الفقر في تونس بـ 4 نقاط مائوية، وسقوط ما يزيد عن 450 ألف شخص في دائرة الفقر، إضافة إلى مزيد تفقير الفئات التي ترزح تحت خط الفقر.

وكشف اللاحقة، في قراءة نقدية تحت عنوان "برنامج الإصلاحات الحكومية للخروج من الأزمة: الملاحظات والخيارات البديلة للإصلاح"، أن "نصف نفقات الدعم التي وصلت قيمتها إلى 7 مليار دينار بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، لا توجه إلى العائلات وتستفيد منها المؤسسات والمهن الصغرى وغيرها".

واقترح الخبير الاقتصادي في خطة إصلاح منظومة الدعم، الإسراع بوضع المعرف الاجتماعي الذي من المفروض أن يشمل عموم التونسيين، مشيرا إلى أن مثل هذا التمشي سيمكن من التقليص من نفقات الدعم بنسبة تصل إلى 50 بالمائة دون المساس بالقدرة الشرائية للعائلات وخاصة الأجراء، لافتا إلى أن نفقات الدعم الموجهة إلى المؤسسات الاقتصادية والمقدرة بحوالي 5000 مليون دينار لا تقل أهمية عن نفقات دعم المواد الأساسية والمحروقات.

بدوره، حذر أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، رضا الشكندالي، في تصريح لـ"الصباح"، من المساس بمنظومة الدعم، مشددا على أن هذه الخطوة تهدد السلم الاجتماعية في البلاد، ومن الضروري الحديث عن إصلاحات في شتى القطاعات، لافتا إلى أن ملف الدعم هو خط احمر في تونس، وأي إصلاحات تتعلق برفع الدعم، لا يقبلها أي مواطن تونسي، خصوصا مع ارتفاع أسعار أغلب المواد، وتراجع المقدرة الشرائية للتونسيين إلى مستويات خلفت موجة احتقان واحتجاجات.

غموض حول نجاعة المنصة الالكترونية

ويلف الغموض طبيعة الإجراءات المعلنة عن وزير المالية سهام نمصية حول معالجتها لملف الدعم، حيث يرى أغلب الخبراء، أن ما اقترحته الوزيرة في لقاء متلفز، حول إطلاق منصة الكترونية، لإعادة توجيه الدعم، هي مسالة مكلفة أكثر من الاعتمادات المرصودة للدعم، خصوصا وأن الوزيرة تحدثت عن استفادة قرابة 8 ملايين تونسي بالإجراءات الجديدة، التي تسعى وزارة المالية إلى تنفيذها خلال الفترة القليلة القادمة.

وما يزال البرنامج الذي أعلنت عنه وزيرة المالية في إطار خطة تهدف لتوقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، غير دقيق للعديد من الخبراء، حيث أن الغموض رافق قيمة الاعتمادات المرصودة التي ستصرف لقرابة 8 ملايين تونسي، وهل هي كافية فعلا، في الحفاظ على القدرة الشرائية للتونسيين، كما أن هناك حديثا عن أن هذه الاعتمادات قد تكون أكثر كلفة من الاعتمادات المرصودة للدعم والتي بلغت خلال سنة 2022 قرابة 7 مليار دينار.

المتحدث باسم الحكومة نصر الدين النصيبي، كان قد أعلن في تصريح لـ"الصباح"، أن المنصة الخاصة بتسجيل المواطنين للانتفاع بالدعم سيتم تفعيلها قريبا ليتمكن كل التونسيين من الانتفاع بالدعم في مرحلة أولى.

وبين المتحدث باسم الحكومة أن الدراسات أثبتت وجود حوالي 18 مليونا ينتفعون حاليا من الدعم، رغم أن عدد التونسيين المقيمين بصفة دائمة في تونس يبلغ حوالي 10 مليون تونسي، وان المرحلة الأولى من برنامج توجيه الدعم لمستحقيه سيشمل80% من الشعب التونسي أي كل المواطنين الذين سيقومون بالتسجيل في المنصة، لافتا إلى أن هذا القرار سيحد من تهريب المواد المدعمة إلى أسواق أخرى خارج تونس، بما يكلف خسائر فادحة للدولة التونسية.

خطة الحكومة لإعادة توجيه الدعم

وزير التجارة، فضيلة الرابحي، كانت قد كشفت، مؤخرا، في تصريح لـ"الصباح"، عن برنامج وخطة الحكومة لرفع الدعم، وقالت خلال ندوة حضرها 15 وزيرا في حكومة نجلاء بودن، أنه لن يتم التخلي عن الدعم بل سيتم توجيهه إلى مستحقيه من العائلات المعوزة ومحدودة الدخل.

ولفتت الوزيرة إلى أن الإجراءات ستنطلق بداية من سنة 2023 لتمتد على مدى 4 سنوات، ليتم بذلك تدريجيا الانتقال من دعم الأسعار إلى نظام دعم المداخيل (تحويلات نقدية مباشرة عوضا عن دعم الأسعار). وأوضحت الرابحي أن الهدف هو إرساء منظومة عادلة للدعم وإحداث منصة رقمية لتسجيل المستفيدين تستوعب كل المنتفعين ببرنامج الأمان الاجتماعي وتفتح باب التسجيل للطبقات الاجتماعية الأخرى.

وأشارت الوزيرة إلى أنه سيتم بداية من نهاية السنة الحالية الانطلاق في تنفيذ نظام التحويلات النقدية للمستفيدين قبل التعديل التدريجي للأسعار. وتابعت الوزيرة بالقول:"بلغنا مراحل متقدمة في إنشاء منصة رقمية للتسجيل وتركيز وحدة تصرف حسب الأهداف بوزارة الشؤون الاجتماعية ستُعنى بعملية التسجيل والتحويلات، بالإضافة إلى وضع خطة اتصالية متكاملة للتأكيد على التمسك بسياسة الدعم كمكسب اجتماعي للحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلك وضرورة مراجعتها للقضاء على التلاعب بالمواد المدعمة ومكافحة تهريبها وتوجيهها لمستحقيها".

وتوقعت وزيرة التجارة، أن تصل كلفة الدعم نهاية السنة الحالية إلى 4200 مليون دينار، مقابل 3200 مليون دينار سنة 2021 و730 مليون دينار لسنة 2010. وكشفت الوزيرة أن كلفة الدعم لسنة 2022 تمثل 3.3 من الناتج الداخلي الخام، وهي أيضا أكثر من نصف الاعتمادات المخصصة للاستثمار، وتضاهي ميزانية وزارتي الصحة والتشغيل معا".

وأشارت الوزيرة إلى أن عوامل عديدة أدت إلى ارتفاع كلفة الدعم، أبرزها تنامي حدة الأزمة الأوكرانية الروسية وانعكاسها على ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار القمح التي ارتفعت من 30 إلى 50 بالمائة والزيت النباتي أكثر من 50 بالمائة، إضافة إلى تضاعف كلفة الشحن إلى 6 مرات وكذلك تراجع سعر الدينار، علما وأن 87 بالمائة من كلفة الدعم، موجهة بالأساس للحبوب ومشتقاتها، بالإضافة إلى الزيت النباتي.

وأشارت وزيرة التجارة في سياق حديثها، إلى أن ظاهرة تهريب المواد المدعمة، زادت في تعميق الأزمة، مشيرة إلى أن العديد من المواد الغذائية المدعمة تباع في أسواق دول أخرى، ومن الضروري الحد من هذه المعضلة عبر توجيه الدعم إلى مستحقيه، وذلك يضمن توفير اعتمادات مالية يمكن تخصيصها للعمل التنموي في البلاد.

تكاليف دعم المحروقات تضاعفت

بدورها، حذرت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي، في تصريح لـ"الصباح"، من تواصل ارتفاع تكاليف دعم المحروقات، وذلك بعد تضاعف حاجيات الدعم 3 مرات، لتبلغ حوالي 8000 مليون دينار، في حين ارتفعت حاجيات التمويل إلى 10.000 مليون دينار. وشددت الوزيرة خلال ورشة حوارية وإعلامية بمقر الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة بالعاصمة مؤخرا، على ضرورة مواصلة برنامج التعديل الآلي لأسعار الطاقة، مشيرة إلى أنّ تونس تعيش عجزا هيكليا في الميزان الطاقي، مثل باقي دول العالم بسبب ارتفاع أسعار النفط.

وأضافت نائلة نويرة القنجي بالقول أنّ حاجيات الدعم تضاعفت 3 مرات، أي من 2900 مليون دينار إلى 8000 مليون دينار، مشيرة إلى أنّ استئناف العمل بالتعديل الآلي لأسعار المحروقات سيوفر حوالي 16% من حاجيات التمويل. وأكدت الوزيرة، من جهة أخرى، إلى أنّ الحرب الروسية الأوكرانية، كانت لها انعكاسات كبيرة على الأسعار العالمية في سوق النفط، داعية إلى ضرورة الاقتصاد في الطاقة، سواء من قبل المستهلك المنزلي أو من قبل المؤسسات الخاصة أو العمومية.

وكشفت الوزيرة، من جهة أخرى، إلى أن الوزارة وضعت برنامجا طموحا ومتكاملا، لتحقيق نسبة إنتاج تبلغ 35٪ من الطاقات المتجددة في أفق 2030، و50٪ في أفق 2050، مشددة على أنه لا مجال اليوم غير الدفع بالاستثمارات في الطاقات المتجددة، لتأمين احتياجات بلادنا من الطاقة، خصوصا في ظل تقلب أسعار النفط عالميا، وانعكاساتها على ميزانية الدعم.

وترنو الحكومة الحالية إلى إرساء منظومة جديدة لتوجيه الدعم نحو مستحقيه واعتماد منوال يعتمد التدرج في الضغط على الأسعار على مدى أربع سنوات، انطلاقاً من سنة 2023، مع إقرار المراجعة التدريجية لأسعار قوارير الغاز المسال المعدة للاستهلاك المنزلي بداية 2023. وكشفت الحكومة عن هذا التوجه، في إطار برنامج وطني رسمت خلاله الخطوط العريضة لإصلاح منظومة دعم المواد الأساسية، حيث سيتم اعتماد مبدأ التسجيل التلقائي لتمكين كل العائلات من التمتع بالتحويلات المالية، إلى جانب توعية المواطن بضرورة ومزايا الانتقال إلى المنظومة الجديدة، بما يمكن من التصدي لممارسات الاحتكار والمضاربة والتهريب.

وأعلنت الحكومة، مؤخرا، عن عزمها صرف منح مالية مباشرة لفائدة المستفيدين قبل الانطلاق في تنفيذ برنامج التعديل التدريجي للأسعار وضبط مبلغ التحويلات المالية، بما يعادل قيمة الزيادة في الأسعار، لدعم القدرة الشرائية للمواطن، وهي تعد أول حكومة بقيادة امرأة تسعى إلى إصلاح منظومة الدعم، إلا انه على الرغم من تطمينات الحكومة للعائلات المعوزة والفقيرة وتأكيدها الحفاظ على سياسة الدعم وتوجيهه إلى مستحقيه، إلاّ أن هذا القرار ما يزال يثير الجدل في تونس يوما بعد يوم، في ظل مخاوف من التضحية بالفئات الهشة، من أجل تنفيذ برنامج إصلاحات طالب به المانحون الدوليون. ويعد الاتحاد العام التونسي للشغل أوّل الرافضين لتمشي الحكومة الرامي لرفع الدعم الكلي، وتوجيهه فقط إلى العائلات المعوزة، واعتبر أن أغلب العائلات التونسية تستحق الدعم، داعيا إياها إلى مراجعة سياستها في ملف حيوي يمس عموم التونسيين.

نفقات الدعم في أرقام

سجلت نفقات الدعم في تونس عام 2022 ارتفاعا بنحو 7.26 مليار دينار، أي ما يعادل 15.4٪ من جملة نفقات ميزانية الدولة وقرابة 5.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما كشفت عنه ميزانية سنة 2022، وقدرت حاجيات منظومة الدعم للمحروقات والكهرباء والغاز في عام 2022 نحو 5.13 مليار دينار، أعدت بناء على فرضيات معدل سعر النفط 75 دولاراً للبرميل "برنت"، علما وأن أي زيادة بدولار واحد في أسعار النفط تكلف ميزانية الدولة اليوم قرابة 140 مليون دينار، وهو ما يزيد في استنزاف الميزانية ويحرم الدولة من تحقيق التوازنات المالية المطلوبة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي.

وارتفعت الاعتمادات المرصودة لدعم المواد الأساسية والغذائية لسنة 2022 إلى نحو 3.7 مليار دينار، مقابل 2.2 مليار دينار خلال سنة 2021، بالإضافة إلى 600 مليون دينار لدعم النقل العمومي، علما وأن هذه الاعتمادات تضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالسنوات العشر الماضية، وتجاوزت 6 مليارات دينار في عام 2010، لتبلغ 22 مليار دينار إجمالا خلال 2022، وتعد من أحد الأسباب الرئيسية في اختلال التوازنات المالية في تونس.

وانطلقت الحكومة في اعتماد عملية التدرج التي ستكون من خلال تعديل الأسعار مرة كل ستة أشهر على امتداد 4 سداسيات أي على امتداد عامين ليقع بداية من 2023 اعتماد الأسعار الحقيقية لعدد من المواد المدعمة، وقبل الشروع في تنفيذ هذه الخطة سيتم توزيع موارد مالية على العائلات المعوزة ومحدودة الدخل.

وأثارت الخطوات التي اعتزمت الحكومات السابقة اتخاذها في إطار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتي تشمل رفع الدعم نهائيا، غضب التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة وان إعادة توجيه الدعم يتزامن مع تدني مستوى العيش للتونسي وارتفاع أسعار العديد من المواد، ما دفع بالعديد إلى التحذير من موجة احتجاجات عارمة في البلاد، في حال تنفيذ برنامج الحكومة لتوجيه الدعم إلى مستحقيه في ما يتعلق بالمواد الأساسية.

تطوير مداخيل المواطنين

ويشدد الخبراء، على ضرورة تطوير مداخيل المواطنين قبل الإقدام على هذه الخطوة التي ستلحق ضررا كبيرا في ميزانية الأسر، وتعمق من الأزمة الاجتماعية الخانقة التي خلفتها جائحة كورونا منذ نحو عامين، محذرين في الوقت ذاته خطر انهيار القدرة الشرائية للتونسيين في الفترة القادمة.

في المقابل، يؤكد مسؤولون بالحكومة، أن حجم الميزانية الموجهة لدعم المنتجات الأساسية وعدد من القطاعات الإستراتيجية، لا يقل عن 2.5 في المائة من الناتج الداخلي الخام التونسي، مشددين على أن نسبة الدعم في تونس تعد نسبة معقولة مقارنة بالمعدل العام للدعم المسجل في الدول العربية، والذي يتراوح بين 5 و6 في المائة مقابل نسبة لا تتعدى 1.3 في المائة في البلدان النامية.

وخصصت ميزانية تونس لسنة 2020 نسبة 9 في المائة من الميزانية العامة للدولة لدعم عدد من المنتجات الأساسية والمحروقات والكهرباء والنقل، وأشارت التقديرات الحكومية إلى أن مقدار الدعم ناهز خلال سنة 2020 حدود 4.18 مليار دينار تونسي، وهو يتوزع بين 1.8 مليار دينار موجهة نحو دعم المواد الأساسية (الخبز والعجين بأنواعه)، ونفس المبلغ لدعم المحروقات والكهرباء، و0.5 مليار دينار لقطاع النقل العمومي. وبلغت نفقات دعم المواد الأساسية لسنة 2021 تحديدا 2400 مليون دينار، مقابل 1800 مليون دينار تم برمجتها في قانون المالية لسنة 2020، وشملت الزيادة تغير أسعار الحبوب والزيت النباتي التي شهدت مع موفى سنة 2020 ارتفاعا بفعل تبعات جائحة كوفيد-19 .

وتتوزع ميزانية الدعم وفقا لبيانات وزارة التجارة على الحبوب بـ1804 مليون دينار يليها الزيت النباتي بـ290 مليون دينار والحليب 205 مليون دينار، و86 مليون دينار لدعم العجين الغذائي و10 مليون دينار لدعم السكر الذي شهد مع بداية سنة 2021 ارتفاعا في أسعاره، نتيجة العجز المسجل لدى الشركة المنتجة.

رفع الدعم يجبر شركات على الرحيل

وأمام موجة الزيادات الأخيرة، خرج العديد من الخبراء إلى المنابر الإعلامية للتحذير من موجة الزيادات الأخيرة التي طالت مختلف القطاعات الإنتاجية، داعين الحكومة إلى الضغط على حركة الأسعار التي قفزت إلى مستويات تهدد السلم الاجتماعية.

واعتبر بعض الخبراء أن سياسة رفع الدعم التي تنتهجها الحكومة ستزيد من عمق الأزمة، مشددين على ضرورة أن تعمل مستقبلا على القضاء على التجارة الموازية والحد من ظاهرة التلاعب بالأسعار والاحتكار والقضاء على التهريب، مقرين في ذات الوقت أن منظومة الدعم المفروضة في بلادنا منذ سنوات طويلة، كانت تهدف إلى الحفاظ على مستوى الأجور متدنية في إطار التشجيع على جلب الاستثمار الأجنبي وخلق مواطن شغل جديدة، وفي حال المطالبة برفع الأجور فإن ذلك سيدفع آلاف الشركات الكبرى إلى مغادرة البلاد بسبب عدم قدرتها على مجاراة الارتفاع في الأجور.

وتتخوف الأطراف الاقتصادية اليوم من مسألة رفع الدعم الذي قد تنتهجه الدولة التونسية مستقبلا إذعانا لشروط صندوق النقد الدولي، حيث أن إبقاء الدعم على حاله، يبقي التوازنات المالية للشركات الكبرى الأجنبية الناشطة في بلادنا والتي تعتمد بالأساس على استقطاب اليد العاملة بأجور زهيدة، وفي حال رفع الدعم فإن هذه الشركات مضطرة لرفع الأجور إلى مستويات لن تقدر على مجاراتها الأمر الذي يدفعها إلى الرحيل.

ونبّه اتحاد الصناعة والتجارة مؤخرا إلى أن الوضع المالي والاقتصادي الراهن ينذر بالأسوإ ويفرض الانطلاق في الإصلاحات العاجلة والهيكلية، مؤكدا أن لا حل لتونس سوى إقرار خطة طوارئ للإنقاذ الاقتصادي تقوم على تحسين المناخ العام للأعمال ودفع الاستثمار، وتشجيع التصدير وتنشيط الديبلوماسية الاقتصادية بما يساعد على اقتحام الأسواق الخارجية ويدعم جاذبية الوجهة التونسية لاستقطاب المستثمرين، ومراجعة منوال التصرف في موارد البلاد، بالإضافة إلى مراجعة سياسة الدعم وتوجيهه نحو مستحقيه دون الإضرار بمصلحة الفئات الهشة.

كما دعت منظمة الأعراف الحكومة إلى التركيز على القطاعات الواعدة وخاصة الطاقات المتجددة، وحل مشكلة تمويل المشاريع التي أصبحت تعاني منها المؤسسات بسبب الشح في السيولة، ودفع المستحقات المالية للقطاعات المتخلدة لدى الدولة ومؤسساتها، والتصدي للتجارة الموازية والإسراع بإدماجها في الاقتصاد المنظم..

86% من التونسيين يرفضون رفع الدعم

وتؤكد الأرقام المسجلة للاقتصاد الوطني خلال السنتين الأخيرتين، إن الوضع الاقتصادي الصعب يستوجب مراجعة فعلية لمنوال التنمية، والتضحيات لا يجب أن تقدمها الطبقات الفقيرة والمتوسطة وحدها، لكن أيضا الطبقة الميسورة .

ويطالب بعض خبراء الاقتصاد الحكومة بضرورة "محاربة الاقتصاد الريعي، والتصدي للتهرّب الضريبي، وإصلاح المنظومة الجبائية، وتكثيف الرّقابة على الصفقات العمومية، ومراقبة مسالك الإنتاج والتوزيع لتعديل الأسعار، ووضع حدّ لتغول لوبيات الاحتكار والفساد".

وكشفت إحصائيات أجراها مركز "وان تو وان" للبحوث والاستطلاعات في إطار الموجة الخامسة من الافروباروميتر حول نظرة التونسيين للوضع الاقتصادي، أن 86 بالمائة يرفضون رفع الدعم ويطالبون بالحفاظ على دعم المواد الأساسية فيما اعتبر 72 بالمائة من التونسيين أن تونس تسير في الاتجاه الخاطئ، ويرى 84 بالمائة أن الوضع الاقتصادي سيء جدا. ويرى 47٪ من التونسيين أن ظروفهم المعيشية "سيئة جدا"، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي، في حين أظهرت بيانات الافروباروميتر، أن قرابة 86٪ من التونسيين رفضوا المساس بمنظومة الدعم، واعتبروا أنه من الضروري أن تستمر الدولة في نظام الدعم، خصوصا وأن البلاد تعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية أرهقت كافة التونسيين.

  إجراءاته ستفعّل قريبا: إصلاحات موجعة في ملف الدعم.. فهل يتقبّلها الشارع؟

 

* حكومات سابقة أرجأت معالجته وحكومة بودن تتجرأ على فتح الملف

خبراء اقتصاد لـ"الصباح":

*  لا يمكن الاقتراب من ملف الدعم إلا بعد تعافي الاقتصاد

* إجراءات وزيرة المالية حول تعويض 8 ملايين تونسي مكلفة أكثر من الاعتمادات المرصودة للدعم!

*  أكثر من 7 مليار دينار نفقات الدعم خلال 2022 والمحروقات تستنزف موارد الدولة المالية

*  نظام الدعم في تونس قائم منذ أربعينات القرن الماضي ورفعه يهدد السلم الاجتماعية

*  ضرورة تطوير دخل التونسيين قبل الإقدام على أي خطوة تتعلق بتوجيه الدعم

* الأجور في تونس زهيدة وغياب الدعم يهدد برحيل الشركات الأجنبية وفقدان مواطن الشغل

* 86 %من التونسيين يرفضون المساس بمنظومة الدعم وفق أحدث دراسة

إعداد: سفيان المهداوي

تونس- الصباح

أصبح ملف الدعم في تونس مصدر قلق وتوجس من قبل المواطنين والمسؤولين على حد سواء، خاصة في ظل ما يتردد عن وجود ضغوطات من صندوق النقد الدولي بضرورة إصلاح منظومة الدعم، التي كلفت الدولة التونسية إلى حد الآن قرابة 7 مليار دينار خلال سنة 2022، وتسعى الحكومة الحالية إلى حشد الدعم لبرنامجها الاقتصادي من خلال جلسات واجتماعات مع ممثلي نقابات اتحاد الشغل، الذي يرفض أي خطوة في اتجاه رفع الدعم، ويخير تقاسم الأعباء بين القطاع العام والخاص، مجددا تحذيره بعدم المساس بمنظومة الدعم، في ظل انهيار متواصل للقدرة الشرائية للتونسيين.

"الصباح" تواصلت مع عدد من الخبراء الاقتصاديين والمسؤولين في الدولة بخصوص ملف الدعم، وكان الإجماع بضرورة إرجاء خطوة إصلاح الدعم أو توجيهه إلى مستحقيه، وذلك نظرا لحساسية الظرف الاقتصادي العالمي، وأيضا بسبب الأوضاع الاجتماعية والأمنية بالبلاد، والتي من الممكن أن تتطور لتصبح خارجة عن السيطرة، خصوصا وأن الأمر يتعلق بمنظومة وضعت منذ الاستقلال وبناء الدولة الحديثة، وتعود إلى الأربعينات من القرن الماضي، حيث تم إحداث الصندوق العام للتعويض بمقتضى أمر مؤرخ في 28 جوان 1945، ضمن حزمة من الإجراءات الاجتماعية بعد الأزمة التي شهدتها تونس مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وتبعاتها على التونسيين الذين انهارت قدرتهم الشرائية آنذاك، أمام ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وفقدانها من الأسواق العالمية.

ومؤخرا، خرجت وزيرة المالية سهام نمصية البوغديري، لتعلن في لقاء إعلامي، أنه سيتم رفع الدعم على المحروقات بصفة نهائية بحلول سنة 2026 لتبلغ أسعارها الحقيقية، وذلك تطبيقا للإصلاحات التي انطلقت فيها تونس بخصوص التعديل الآلي لأسعار المحروقات، مشدّدة على أن الحكومة ملتزمة بالانطلاق في إعداد منصة خاصة بتوجيه الدعم المتعلق بالمواد الاستهلاكية نهاية هذه السنة.

وقدمت وزيرة المالية عرضا تضمن محاور الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء، حول برنامج مدته 48 شهرا في إطار "تسهيل الصندوق الممدد" بقيمة بحوالي 1,9 مليار دولار أمريكي لدعم السياسات الاقتصادية في تونس. وتضمّن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، 8 نقاط أبرزها تعزيز العدالة الضريبية باتخاذ خطوات لدمج القطاع غير الرسمي تحت مظلة الشبكة الضريبية وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام ووضع إستراتيجية لمقاومة التغيرات المناخية وتبني سياسة مالية مناسبة للمحافظة على استقرار الأسعار وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي من خلال زيادة التحويلات النقدية، وتوسيع نطاق تغطية شبكات الأمان الاجتماعي لتعويض الأسر الضعيفة عن تداعيات ارتفاع الأسعار والعمل على تنفيذ خطة شاملة لإصلاح المؤسسات العمومية من خلال دعم الحوكمة والشفافية في القطاع العام، بما في ذلك من خلال إجراء تشخيص شامل لأوضاع الحوكمة بهدف وضع خطة لتنفيذ الإصلاحات اللازمة، بالإضافة إلى تعزيز الإصلاحات الهيكلية لدعم المنافسة، وضمان الشفافية وتكافؤ الفرص للمستثمرين من خلال ترشيد الحوافز الاستثمارية.

وأعلنت الوزيرة، موفى الأسبوع الماضي، خلال لقاء إعلامي انه لن يتم رفع الدعم بل سيتم توجيهه لمستحقيه، وبيّنت الوزيرة، في لقاء تلفزي، أن تحويلات مالية سيتم صرفها قبل الشروع في إصلاح منظومة الدعم. وأضافت أنه وخلال شهر نوفمبر الجاري، سيتم فتح منصة للتسجيل أمام الجميع، من أجل التمتع بهذه التحويلات.

وشددت الوزيرة أن الطبقة المتوسطة ستكون مشمولة بتحويلات الدعم، إلى جانب الفئات المتمتعة بمساعدات اجتماعية من الدولة، مشيرة إلى أن أكثر من 70 بالمائة من العائلات التونسية ستتمتع بالدعم، أي بما يعادل 8 مليون تونسي.

إرجاء ملف الدعم إلى حين تعافي الاقتصاد

وحول هذه الإجراءات وما رافقها من غموض، قال الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان، في تصريح لـ"الصباح"، أمس أن ما كشفت عنه وزيرة المالية هو مجرد الإعلان عن منصة الكترونية، ولم تتحدث عن رفع الدعم وإنما إصلاح المنظومة، والحديث هنا عن إعادة توجيه الدعم لمستحقيه، إلا أن مجرد الحديث عن ملف الدعم في بلد يشهد في الوقت الحالي أزمة اقتصادية خانقة لا يستقيم، وفق تعبيره، حيث أن هذا الملف شائك ولا يمكن معالجته الآن، مشددا على أن المعالجة تستقيم حينما يكون الاقتصاد التونسي في وضع جيد.

وأضاف الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان بالقول:"إننا نعيش أزمة اقتصادية خانقة تستدعي اتخاذ إجراءات تتعلق بإصلاح المؤسسات العمومية وإعادة هيكلتها ودفع الاستثمار ووضع منوال تنموي جديد، والمساس بملف الدعم، أو حتى الخوض في خباياه، هو إجراء في غير محله في الوقت الراهن، خصوصا وأن العالم بأسره يمر بأزمة اقتصادية حادة وتداعياتها على تونس مستمرة، علما وأن هذا الملف هو أخطر الملفات في تونس نظرا لحساسيته على الأوضاع المعيشية الصعبة للمواطن التونسي الذي انهارت قدرته الشرائية خلال العقد الأخير بنسبة 40٪."

وتابع سعيدان بالقول: "رغم أن ملف الدعم في تونس شائك ويسوده فساد رهيب، لا يمكن معالجته بين ليلة وضحاها، إلا أن الحديث عن رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية أو حتى إعادة توجيه الدعم لمستحقيه عبر آليات مهما كانت، هو أمر يهدد السلم الاجتماعية في الوقت الراهن، علما وأن العديد من المواد المدعمة في تونس تشكل عبئا كبيرا على الدولة، وهناك بعض المواد التي تدعمها الدولة مفقودة في الأسواق ومنها الزيت النباتي، والذي من المفروض توفره في الأسواق التونسية، إلا أنه مفقود رغم أنه يحظى بدعم مباشر من الدولة".

وحسب سعيدان لا يقتصر الأمر فقط على الزيت النباتي، فهناك مواد من المفروض أنها خاضعة للدعم من قبل الدولة، لم تعد تلبي طموحات الفلاحين، وعلى سبيل المثال القمح اللين والذي تسبب في فقدان "الفرينة" من الأسواق بسبب سوء التسيير، وعدم قدرة الفلاحين على مجاراة الأسعار، مشددا على أن المنظومة الفلاحية في حاجة ماسة للدعم حتى نتمكن من تحقيق أمننا الغذائي.

وقال الخبير في الشأن الاقتصادي، أن تونس مرتهنة اليوم للخارج حيث أن 60٪ من الحبوب نستوردها من الخارج، كما أن 50٪ من حاجياتنا الطاقية، أيضا نؤمنها من الخارج، وهذا كله ناجم عن غياب الإصلاحات في منظومة شائكة تتسم بالفساد، ومن الضروري أن نسعى في الفترة القليلة القادمة إلى تأمين أمننا الغذائي والطاقي، عبر توجيه الدعم لمستحقيه، وخاصة في القطاع الفلاحي، الذي يعد احد القطاعات الحيوية والهامة، لافتا إلى أن إصلاح منظومة الدعم يقوم عبر التدرج في الإصلاحات، وفي وقت يكون فيه الاقتصاد التونسي قد تعافى، أما في الوقت الراهن، فمن الضروري عدم الحديث عن رفع الدعم، في ظل وضع اقتصادي حرج تمر به البلاد، أثر بشكل فادح على توازناتها المالية، وفق قوله.

تحذيرات من مواجهة الشارع

الخبير الاقتصادي لدى الاتحاد العام التونسي للشغل عبد الرحمان اللاحقة، أشار إلى أن الاتحاد يساند إصلاح منظومة الدعم لكن دون رفعه، لافتا إلى أن إصلاح الدعم يجب أن يكون جديا ويأخذ بعين الاعتبار السياق السياسي لتونس.

وتابع اللاحقة خلال لقاء حواري نظمه المرصد التونسي للاقتصاد لمناقشة الإصلاح الهيكلي لمنظومة دعم المحروقات، مؤخرا، إن إصلاح هذه المنظومة يحتاج إلى حوار مجتمعي وأن الحكومة يجب أن تقوم بدورها الاتصالي في هذا الملف، مشيرا إلى أن الاتحاد لا يمكنه الحكم نهائيا على البرنامج الإصلاحي للحكومة، إلا بعد أن تخرج رئيسة الحكومة للشعب التونسي وتقدم تفسيرا للمقاربة التي ستعتمدها الحكومة في إصلاح منظومة الدعم.

وأعرب اللاحقة عن تخوفات الاتحاد من المقاربة الغامضة للحكومة في إصلاح منظومة الدعم، مشيرا إلى أن الاتحاد يملك مقاربة عقلانية تأخذ بعين الاعتبار السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد.

وشدّد على أن الاتحاد العام التونسي للشغل طلب مراجعة المصاريف العمومية وأن إصلاح منظومة دعم المحروقات في تونس لا يمكن أن يكون من خلال الرفع بل من خلال مراجعة جباية المحروقات والتي ستؤدي إلى تخفيض الأسعار.

ولفت اللاحقة إلى أن منظومة المحروقات في تونس تعاني من مشاكل هيكلية ترتبط بدفع الدولة الشركات إلى الاقتراض لتسديد ثمن شراء المواد البترولية وأن الشركة التونسية للكهرباء والغاز دفعت 800 مليون دينار على شكل فوائض على القروض.

وعبر اللاحقة عن مخاوفه من أن الحكومة ستواجه الشارع، في حال أقدمت على رفع الدعم عن قطاع المحروقات دون دراسة مسبقة وتقييم للآثار الجانبية لعملية الرفع الشامل للدعم الحكومي.

وأكد الأستاذ الجامعي المختص في الاقتصاد والخبير بقسم الدراسات بالاتحاد العام التونسي للشغل، عبد الرحمان اللاحقة، أن رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، الذي اقترحته الحكومة في برنامجها الإصلاحي الموجه إلى صندوق النقد الدولي، سيتسبب في زيادة معدل الفقر في تونس بـ 4 نقاط مائوية، وسقوط ما يزيد عن 450 ألف شخص في دائرة الفقر، إضافة إلى مزيد تفقير الفئات التي ترزح تحت خط الفقر.

وكشف اللاحقة، في قراءة نقدية تحت عنوان "برنامج الإصلاحات الحكومية للخروج من الأزمة: الملاحظات والخيارات البديلة للإصلاح"، أن "نصف نفقات الدعم التي وصلت قيمتها إلى 7 مليار دينار بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، لا توجه إلى العائلات وتستفيد منها المؤسسات والمهن الصغرى وغيرها".

واقترح الخبير الاقتصادي في خطة إصلاح منظومة الدعم، الإسراع بوضع المعرف الاجتماعي الذي من المفروض أن يشمل عموم التونسيين، مشيرا إلى أن مثل هذا التمشي سيمكن من التقليص من نفقات الدعم بنسبة تصل إلى 50 بالمائة دون المساس بالقدرة الشرائية للعائلات وخاصة الأجراء، لافتا إلى أن نفقات الدعم الموجهة إلى المؤسسات الاقتصادية والمقدرة بحوالي 5000 مليون دينار لا تقل أهمية عن نفقات دعم المواد الأساسية والمحروقات.

بدوره، حذر أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، رضا الشكندالي، في تصريح لـ"الصباح"، من المساس بمنظومة الدعم، مشددا على أن هذه الخطوة تهدد السلم الاجتماعية في البلاد، ومن الضروري الحديث عن إصلاحات في شتى القطاعات، لافتا إلى أن ملف الدعم هو خط احمر في تونس، وأي إصلاحات تتعلق برفع الدعم، لا يقبلها أي مواطن تونسي، خصوصا مع ارتفاع أسعار أغلب المواد، وتراجع المقدرة الشرائية للتونسيين إلى مستويات خلفت موجة احتقان واحتجاجات.

غموض حول نجاعة المنصة الالكترونية

ويلف الغموض طبيعة الإجراءات المعلنة عن وزير المالية سهام نمصية حول معالجتها لملف الدعم، حيث يرى أغلب الخبراء، أن ما اقترحته الوزيرة في لقاء متلفز، حول إطلاق منصة الكترونية، لإعادة توجيه الدعم، هي مسالة مكلفة أكثر من الاعتمادات المرصودة للدعم، خصوصا وأن الوزيرة تحدثت عن استفادة قرابة 8 ملايين تونسي بالإجراءات الجديدة، التي تسعى وزارة المالية إلى تنفيذها خلال الفترة القليلة القادمة.

وما يزال البرنامج الذي أعلنت عنه وزيرة المالية في إطار خطة تهدف لتوقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، غير دقيق للعديد من الخبراء، حيث أن الغموض رافق قيمة الاعتمادات المرصودة التي ستصرف لقرابة 8 ملايين تونسي، وهل هي كافية فعلا، في الحفاظ على القدرة الشرائية للتونسيين، كما أن هناك حديثا عن أن هذه الاعتمادات قد تكون أكثر كلفة من الاعتمادات المرصودة للدعم والتي بلغت خلال سنة 2022 قرابة 7 مليار دينار.

المتحدث باسم الحكومة نصر الدين النصيبي، كان قد أعلن في تصريح لـ"الصباح"، أن المنصة الخاصة بتسجيل المواطنين للانتفاع بالدعم سيتم تفعيلها قريبا ليتمكن كل التونسيين من الانتفاع بالدعم في مرحلة أولى.

وبين المتحدث باسم الحكومة أن الدراسات أثبتت وجود حوالي 18 مليونا ينتفعون حاليا من الدعم، رغم أن عدد التونسيين المقيمين بصفة دائمة في تونس يبلغ حوالي 10 مليون تونسي، وان المرحلة الأولى من برنامج توجيه الدعم لمستحقيه سيشمل80% من الشعب التونسي أي كل المواطنين الذين سيقومون بالتسجيل في المنصة، لافتا إلى أن هذا القرار سيحد من تهريب المواد المدعمة إلى أسواق أخرى خارج تونس، بما يكلف خسائر فادحة للدولة التونسية.

خطة الحكومة لإعادة توجيه الدعم

وزير التجارة، فضيلة الرابحي، كانت قد كشفت، مؤخرا، في تصريح لـ"الصباح"، عن برنامج وخطة الحكومة لرفع الدعم، وقالت خلال ندوة حضرها 15 وزيرا في حكومة نجلاء بودن، أنه لن يتم التخلي عن الدعم بل سيتم توجيهه إلى مستحقيه من العائلات المعوزة ومحدودة الدخل.

ولفتت الوزيرة إلى أن الإجراءات ستنطلق بداية من سنة 2023 لتمتد على مدى 4 سنوات، ليتم بذلك تدريجيا الانتقال من دعم الأسعار إلى نظام دعم المداخيل (تحويلات نقدية مباشرة عوضا عن دعم الأسعار). وأوضحت الرابحي أن الهدف هو إرساء منظومة عادلة للدعم وإحداث منصة رقمية لتسجيل المستفيدين تستوعب كل المنتفعين ببرنامج الأمان الاجتماعي وتفتح باب التسجيل للطبقات الاجتماعية الأخرى.

وأشارت الوزيرة إلى أنه سيتم بداية من نهاية السنة الحالية الانطلاق في تنفيذ نظام التحويلات النقدية للمستفيدين قبل التعديل التدريجي للأسعار. وتابعت الوزيرة بالقول:"بلغنا مراحل متقدمة في إنشاء منصة رقمية للتسجيل وتركيز وحدة تصرف حسب الأهداف بوزارة الشؤون الاجتماعية ستُعنى بعملية التسجيل والتحويلات، بالإضافة إلى وضع خطة اتصالية متكاملة للتأكيد على التمسك بسياسة الدعم كمكسب اجتماعي للحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلك وضرورة مراجعتها للقضاء على التلاعب بالمواد المدعمة ومكافحة تهريبها وتوجيهها لمستحقيها".

وتوقعت وزيرة التجارة، أن تصل كلفة الدعم نهاية السنة الحالية إلى 4200 مليون دينار، مقابل 3200 مليون دينار سنة 2021 و730 مليون دينار لسنة 2010. وكشفت الوزيرة أن كلفة الدعم لسنة 2022 تمثل 3.3 من الناتج الداخلي الخام، وهي أيضا أكثر من نصف الاعتمادات المخصصة للاستثمار، وتضاهي ميزانية وزارتي الصحة والتشغيل معا".

وأشارت الوزيرة إلى أن عوامل عديدة أدت إلى ارتفاع كلفة الدعم، أبرزها تنامي حدة الأزمة الأوكرانية الروسية وانعكاسها على ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار القمح التي ارتفعت من 30 إلى 50 بالمائة والزيت النباتي أكثر من 50 بالمائة، إضافة إلى تضاعف كلفة الشحن إلى 6 مرات وكذلك تراجع سعر الدينار، علما وأن 87 بالمائة من كلفة الدعم، موجهة بالأساس للحبوب ومشتقاتها، بالإضافة إلى الزيت النباتي.

وأشارت وزيرة التجارة في سياق حديثها، إلى أن ظاهرة تهريب المواد المدعمة، زادت في تعميق الأزمة، مشيرة إلى أن العديد من المواد الغذائية المدعمة تباع في أسواق دول أخرى، ومن الضروري الحد من هذه المعضلة عبر توجيه الدعم إلى مستحقيه، وذلك يضمن توفير اعتمادات مالية يمكن تخصيصها للعمل التنموي في البلاد.

تكاليف دعم المحروقات تضاعفت

بدورها، حذرت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي، في تصريح لـ"الصباح"، من تواصل ارتفاع تكاليف دعم المحروقات، وذلك بعد تضاعف حاجيات الدعم 3 مرات، لتبلغ حوالي 8000 مليون دينار، في حين ارتفعت حاجيات التمويل إلى 10.000 مليون دينار. وشددت الوزيرة خلال ورشة حوارية وإعلامية بمقر الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة بالعاصمة مؤخرا، على ضرورة مواصلة برنامج التعديل الآلي لأسعار الطاقة، مشيرة إلى أنّ تونس تعيش عجزا هيكليا في الميزان الطاقي، مثل باقي دول العالم بسبب ارتفاع أسعار النفط.

وأضافت نائلة نويرة القنجي بالقول أنّ حاجيات الدعم تضاعفت 3 مرات، أي من 2900 مليون دينار إلى 8000 مليون دينار، مشيرة إلى أنّ استئناف العمل بالتعديل الآلي لأسعار المحروقات سيوفر حوالي 16% من حاجيات التمويل. وأكدت الوزيرة، من جهة أخرى، إلى أنّ الحرب الروسية الأوكرانية، كانت لها انعكاسات كبيرة على الأسعار العالمية في سوق النفط، داعية إلى ضرورة الاقتصاد في الطاقة، سواء من قبل المستهلك المنزلي أو من قبل المؤسسات الخاصة أو العمومية.

وكشفت الوزيرة، من جهة أخرى، إلى أن الوزارة وضعت برنامجا طموحا ومتكاملا، لتحقيق نسبة إنتاج تبلغ 35٪ من الطاقات المتجددة في أفق 2030، و50٪ في أفق 2050، مشددة على أنه لا مجال اليوم غير الدفع بالاستثمارات في الطاقات المتجددة، لتأمين احتياجات بلادنا من الطاقة، خصوصا في ظل تقلب أسعار النفط عالميا، وانعكاساتها على ميزانية الدعم.

وترنو الحكومة الحالية إلى إرساء منظومة جديدة لتوجيه الدعم نحو مستحقيه واعتماد منوال يعتمد التدرج في الضغط على الأسعار على مدى أربع سنوات، انطلاقاً من سنة 2023، مع إقرار المراجعة التدريجية لأسعار قوارير الغاز المسال المعدة للاستهلاك المنزلي بداية 2023. وكشفت الحكومة عن هذا التوجه، في إطار برنامج وطني رسمت خلاله الخطوط العريضة لإصلاح منظومة دعم المواد الأساسية، حيث سيتم اعتماد مبدأ التسجيل التلقائي لتمكين كل العائلات من التمتع بالتحويلات المالية، إلى جانب توعية المواطن بضرورة ومزايا الانتقال إلى المنظومة الجديدة، بما يمكن من التصدي لممارسات الاحتكار والمضاربة والتهريب.

وأعلنت الحكومة، مؤخرا، عن عزمها صرف منح مالية مباشرة لفائدة المستفيدين قبل الانطلاق في تنفيذ برنامج التعديل التدريجي للأسعار وضبط مبلغ التحويلات المالية، بما يعادل قيمة الزيادة في الأسعار، لدعم القدرة الشرائية للمواطن، وهي تعد أول حكومة بقيادة امرأة تسعى إلى إصلاح منظومة الدعم، إلا انه على الرغم من تطمينات الحكومة للعائلات المعوزة والفقيرة وتأكيدها الحفاظ على سياسة الدعم وتوجيهه إلى مستحقيه، إلاّ أن هذا القرار ما يزال يثير الجدل في تونس يوما بعد يوم، في ظل مخاوف من التضحية بالفئات الهشة، من أجل تنفيذ برنامج إصلاحات طالب به المانحون الدوليون. ويعد الاتحاد العام التونسي للشغل أوّل الرافضين لتمشي الحكومة الرامي لرفع الدعم الكلي، وتوجيهه فقط إلى العائلات المعوزة، واعتبر أن أغلب العائلات التونسية تستحق الدعم، داعيا إياها إلى مراجعة سياستها في ملف حيوي يمس عموم التونسيين.

نفقات الدعم في أرقام

سجلت نفقات الدعم في تونس عام 2022 ارتفاعا بنحو 7.26 مليار دينار، أي ما يعادل 15.4٪ من جملة نفقات ميزانية الدولة وقرابة 5.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وفق ما كشفت عنه ميزانية سنة 2022، وقدرت حاجيات منظومة الدعم للمحروقات والكهرباء والغاز في عام 2022 نحو 5.13 مليار دينار، أعدت بناء على فرضيات معدل سعر النفط 75 دولاراً للبرميل "برنت"، علما وأن أي زيادة بدولار واحد في أسعار النفط تكلف ميزانية الدولة اليوم قرابة 140 مليون دينار، وهو ما يزيد في استنزاف الميزانية ويحرم الدولة من تحقيق التوازنات المالية المطلوبة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي.

وارتفعت الاعتمادات المرصودة لدعم المواد الأساسية والغذائية لسنة 2022 إلى نحو 3.7 مليار دينار، مقابل 2.2 مليار دينار خلال سنة 2021، بالإضافة إلى 600 مليون دينار لدعم النقل العمومي، علما وأن هذه الاعتمادات تضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالسنوات العشر الماضية، وتجاوزت 6 مليارات دينار في عام 2010، لتبلغ 22 مليار دينار إجمالا خلال 2022، وتعد من أحد الأسباب الرئيسية في اختلال التوازنات المالية في تونس.

وانطلقت الحكومة في اعتماد عملية التدرج التي ستكون من خلال تعديل الأسعار مرة كل ستة أشهر على امتداد 4 سداسيات أي على امتداد عامين ليقع بداية من 2023 اعتماد الأسعار الحقيقية لعدد من المواد المدعمة، وقبل الشروع في تنفيذ هذه الخطة سيتم توزيع موارد مالية على العائلات المعوزة ومحدودة الدخل.

وأثارت الخطوات التي اعتزمت الحكومات السابقة اتخاذها في إطار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتي تشمل رفع الدعم نهائيا، غضب التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة وان إعادة توجيه الدعم يتزامن مع تدني مستوى العيش للتونسي وارتفاع أسعار العديد من المواد، ما دفع بالعديد إلى التحذير من موجة احتجاجات عارمة في البلاد، في حال تنفيذ برنامج الحكومة لتوجيه الدعم إلى مستحقيه في ما يتعلق بالمواد الأساسية.

تطوير مداخيل المواطنين

ويشدد الخبراء، على ضرورة تطوير مداخيل المواطنين قبل الإقدام على هذه الخطوة التي ستلحق ضررا كبيرا في ميزانية الأسر، وتعمق من الأزمة الاجتماعية الخانقة التي خلفتها جائحة كورونا منذ نحو عامين، محذرين في الوقت ذاته خطر انهيار القدرة الشرائية للتونسيين في الفترة القادمة.

في المقابل، يؤكد مسؤولون بالحكومة، أن حجم الميزانية الموجهة لدعم المنتجات الأساسية وعدد من القطاعات الإستراتيجية، لا يقل عن 2.5 في المائة من الناتج الداخلي الخام التونسي، مشددين على أن نسبة الدعم في تونس تعد نسبة معقولة مقارنة بالمعدل العام للدعم المسجل في الدول العربية، والذي يتراوح بين 5 و6 في المائة مقابل نسبة لا تتعدى 1.3 في المائة في البلدان النامية.

وخصصت ميزانية تونس لسنة 2020 نسبة 9 في المائة من الميزانية العامة للدولة لدعم عدد من المنتجات الأساسية والمحروقات والكهرباء والنقل، وأشارت التقديرات الحكومية إلى أن مقدار الدعم ناهز خلال سنة 2020 حدود 4.18 مليار دينار تونسي، وهو يتوزع بين 1.8 مليار دينار موجهة نحو دعم المواد الأساسية (الخبز والعجين بأنواعه)، ونفس المبلغ لدعم المحروقات والكهرباء، و0.5 مليار دينار لقطاع النقل العمومي. وبلغت نفقات دعم المواد الأساسية لسنة 2021 تحديدا 2400 مليون دينار، مقابل 1800 مليون دينار تم برمجتها في قانون المالية لسنة 2020، وشملت الزيادة تغير أسعار الحبوب والزيت النباتي التي شهدت مع موفى سنة 2020 ارتفاعا بفعل تبعات جائحة كوفيد-19 .

وتتوزع ميزانية الدعم وفقا لبيانات وزارة التجارة على الحبوب بـ1804 مليون دينار يليها الزيت النباتي بـ290 مليون دينار والحليب 205 مليون دينار، و86 مليون دينار لدعم العجين الغذائي و10 مليون دينار لدعم السكر الذي شهد مع بداية سنة 2021 ارتفاعا في أسعاره، نتيجة العجز المسجل لدى الشركة المنتجة.

رفع الدعم يجبر شركات على الرحيل

وأمام موجة الزيادات الأخيرة، خرج العديد من الخبراء إلى المنابر الإعلامية للتحذير من موجة الزيادات الأخيرة التي طالت مختلف القطاعات الإنتاجية، داعين الحكومة إلى الضغط على حركة الأسعار التي قفزت إلى مستويات تهدد السلم الاجتماعية.

واعتبر بعض الخبراء أن سياسة رفع الدعم التي تنتهجها الحكومة ستزيد من عمق الأزمة، مشددين على ضرورة أن تعمل مستقبلا على القضاء على التجارة الموازية والحد من ظاهرة التلاعب بالأسعار والاحتكار والقضاء على التهريب، مقرين في ذات الوقت أن منظومة الدعم المفروضة في بلادنا منذ سنوات طويلة، كانت تهدف إلى الحفاظ على مستوى الأجور متدنية في إطار التشجيع على جلب الاستثمار الأجنبي وخلق مواطن شغل جديدة، وفي حال المطالبة برفع الأجور فإن ذلك سيدفع آلاف الشركات الكبرى إلى مغادرة البلاد بسبب عدم قدرتها على مجاراة الارتفاع في الأجور.

وتتخوف الأطراف الاقتصادية اليوم من مسألة رفع الدعم الذي قد تنتهجه الدولة التونسية مستقبلا إذعانا لشروط صندوق النقد الدولي، حيث أن إبقاء الدعم على حاله، يبقي التوازنات المالية للشركات الكبرى الأجنبية الناشطة في بلادنا والتي تعتمد بالأساس على استقطاب اليد العاملة بأجور زهيدة، وفي حال رفع الدعم فإن هذه الشركات مضطرة لرفع الأجور إلى مستويات لن تقدر على مجاراتها الأمر الذي يدفعها إلى الرحيل.

ونبّه اتحاد الصناعة والتجارة مؤخرا إلى أن الوضع المالي والاقتصادي الراهن ينذر بالأسوإ ويفرض الانطلاق في الإصلاحات العاجلة والهيكلية، مؤكدا أن لا حل لتونس سوى إقرار خطة طوارئ للإنقاذ الاقتصادي تقوم على تحسين المناخ العام للأعمال ودفع الاستثمار، وتشجيع التصدير وتنشيط الديبلوماسية الاقتصادية بما يساعد على اقتحام الأسواق الخارجية ويدعم جاذبية الوجهة التونسية لاستقطاب المستثمرين، ومراجعة منوال التصرف في موارد البلاد، بالإضافة إلى مراجعة سياسة الدعم وتوجيهه نحو مستحقيه دون الإضرار بمصلحة الفئات الهشة.

كما دعت منظمة الأعراف الحكومة إلى التركيز على القطاعات الواعدة وخاصة الطاقات المتجددة، وحل مشكلة تمويل المشاريع التي أصبحت تعاني منها المؤسسات بسبب الشح في السيولة، ودفع المستحقات المالية للقطاعات المتخلدة لدى الدولة ومؤسساتها، والتصدي للتجارة الموازية والإسراع بإدماجها في الاقتصاد المنظم..

86% من التونسيين يرفضون رفع الدعم

وتؤكد الأرقام المسجلة للاقتصاد الوطني خلال السنتين الأخيرتين، إن الوضع الاقتصادي الصعب يستوجب مراجعة فعلية لمنوال التنمية، والتضحيات لا يجب أن تقدمها الطبقات الفقيرة والمتوسطة وحدها، لكن أيضا الطبقة الميسورة .

ويطالب بعض خبراء الاقتصاد الحكومة بضرورة "محاربة الاقتصاد الريعي، والتصدي للتهرّب الضريبي، وإصلاح المنظومة الجبائية، وتكثيف الرّقابة على الصفقات العمومية، ومراقبة مسالك الإنتاج والتوزيع لتعديل الأسعار، ووضع حدّ لتغول لوبيات الاحتكار والفساد".

وكشفت إحصائيات أجراها مركز "وان تو وان" للبحوث والاستطلاعات في إطار الموجة الخامسة من الافروباروميتر حول نظرة التونسيين للوضع الاقتصادي، أن 86 بالمائة يرفضون رفع الدعم ويطالبون بالحفاظ على دعم المواد الأساسية فيما اعتبر 72 بالمائة من التونسيين أن تونس تسير في الاتجاه الخاطئ، ويرى 84 بالمائة أن الوضع الاقتصادي سيء جدا. ويرى 47٪ من التونسيين أن ظروفهم المعيشية "سيئة جدا"، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي، في حين أظهرت بيانات الافروباروميتر، أن قرابة 86٪ من التونسيين رفضوا المساس بمنظومة الدعم، واعتبروا أنه من الضروري أن تستمر الدولة في نظام الدعم، خصوصا وأن البلاد تعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية أرهقت كافة التونسيين.