إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الغضب الساطع آت

بقلم:منير الشرفي

عاشت تونس في أواخر الستينات فترة جفاف كانت عسيرة على الفلاحة وعلى الاقتصاد التونسي عموما، خاصّة بعد الفشل الذريع الذي شهدته تجربة التعاضد التي قادت تونس إلى حافة الإفلاس. ومنذ أن أخذ المرحوم الهادي نويرة بزمام الحكم، تهاطلت أمطار غزيرة، ممّا جعله يقول: "المطر صوّت لفائدتي".

اليوم، ونحن نعيش فترة جفاف مُخيف، هل يُمكن القول بأن الأمطار صوّتت ضد قيس سعيّد؟

الجفاف، إن تواصل، سوف تكون له انعكاسات خطيرة جدا على الفلاحة وعلى الاقتصاد التونسي عموما، علما بأن الفلاحة في بلادنا هي أساس التوازن الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي. وإذا كان الجفاف هو المُعطى السلبي الوحيد في البلاد لهان الأمر. لكن الذي يبعث حقّا على الانشغال هو أنه يأتي في فترة تعدّدت فيها الأزمات على كل الأصعدة.

على المستوى الاقتصادي، جميعنا يعلم أن البلاد تعيش أزمة خانقة، حتى أن الميزانية التكميلية للسنة الحالية لم تظهر بعد، وقد تجاوزنا الشهر العاشر منها. كما أن صندوق النقد الدولي لم يمنح لتونس سوى مبلغ ضئيل ممّا تحتاج إليه البلاد، بما يعني أن الخزينة ستجفّ بعد فترة قصيرة من انتعاشها الظرفي بذلك المبلغ الصغير، وقد نشرع في حملة التسوّل القادمة قبل نهاية السنة. هذا عدا ما ينتظرنا من مفاجآت عند اطّلاعنا على فحوى الاتّفاقية الحاصلة بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي والتي يُمكن أن تكون مُتضمّنة لالتزامات من الدولة التونسية تتعارض مع المصالح الماديّة المباشرة للمواطنين، على غرار التقليص من أعباء صندوق الدعم والرفع في أسعار المواد الأساسية، أو الرفع بشكل محسوس في سعر المحروقات ومواد حياتية أخرى، أو التفريط في عدد من الشركات القومية لفائدة الخواص، أو إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية والتقليص من كتلة الأجور فيها، الخ... وكل ذلك سينضاف إلى ما يُعانيه المواطن من زيادات يوميّة في الأسعار ونقص في الموارد.

لا أضيف شيئا للقارئ إن قلت إن الأسعار لم نكن نتصوّر قبل سنة واحدة أنها ستبلغ هذه المستويات الخيالية. والأدهى من ذلك النقص الفضيح في المواد الضرورية، نقص أصاب أيضا الأدوية التي أصبحت نادرة حتى في المستشفيات.

قلة ذات اليد، قبل الوصول إلى الأوضاع التي تنتظرنا عند تطبيق الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، هي دون شك السبب الأساسي في الاكتئاب الذي أصبح الميزة الأكثر وضوحا في ملامح التونسي وفي وجدانه. ولا أدلّ على ذلك من العدد المهول والمتزايد للمواطنين الفارّين من البلاد، سواء ممّن كانوا من أصحاب الشهادات العليا والكفاءات والتجارب، من أطباء ومهندسين...، أو من العاطلين عن العمل والفاقدين لكل أمل والذين خيّروا الموت بين أنياب الحيتان على العيش دون كرامة ولا آفاق. ويكفي في هذا الصدد أن نُذكّر بأنه تمّ احباط 18 محاولة اجتياز الحدود البحرية خلسة في ليلة واحدة، هذا الأسبوع.

أما على الصعيد السياسي فحدّث ولا حرج. فبعد أن تمّ التخلي عن مبدأ الحوار الوطني وعن البرلمان، وبعد أن تمّ التحييد الغريب للأحزاب بتعلّة عدم الاعتراف بدور "الأجسام السياسية الوسيطة"، تكاثرت القرارات السياسية الانفرادية بشكل أضرّ بالعديد من المكاسب ليس أقلّها التنكّر لمدنية الدولة في الدستور ولمكانة المرأة التونسية في المرسوم الانتخابي. فالنساء، ومن ورائهن الرجال المدافعون عن حقوق المرأة، غاضبات من فقدان مكسبهن الثمين في الحضور الفعلي في المجلس النيابي جرّاء تجاهل المرسوم الانتخابي الجديد لمبدأ التناصف. وها أن الأرقام الرسمية تُؤكّد ضعف مشاركة النساء في الانتخابات القادمة، إذ بلغ عدد المترشحات 214 من بين 1427 مترشحا، أي أن من بين سبعة مترشحين تُوجد امرأة واحدة مقابل ستة رجال.

الغضب السياسي، عندما ينضاف إلى الغضب الاقتصادي والاجتماعي، يُولّد التشنّج والانقسام في المؤسسات المُهيكلة، مثل الأحزاب والجمعيّات. وحتى التنظيمات التي تأسست بعد 25 جويلية لمساندة قيس سعيّد أصابها هي أيضا داء الانقسام والخصام. هذا التشنّج أصبح السمة البارزة في التعامل بين المواطنين. فترى التشاجر بين الواقفين في طوابير الانتظار أمام مادّة قلّ توفيرها، أو أمام محطة بيع البنزين، أو بين سائقيْن لسيّارتيْن كل واحد منهما على خطأ...

هذا العنف كثيرا ما يتجاوز اللسان ليصل إلى اليدين، بين الجارين، وبين الزوجين... وها أننا نسمع عن محفظة المراهق في المعاهد التي لم تعد تحتوي على المخدرات فقط، بل نجد فيها سكّينا صالحا لطعن من يُخالف صاحبه بشكل من الأشكال.

التشنج الاجتماعي ليس مرضا من اختصاص الأطباء النفسانيين ولا ظاهرة من اختصاص علماء الاجتماع، وإنما هو مشكل سياسيّ بحت، بما في السياسة من جوانب اقتصادية واجتماعية، يستوجب حلولا سياسيّة عميقة وجذرية وعاجلة. وما نشاهده من تحركات احتجاجيّة متزايدة، وفي مناطق متعددة، هو نتيجة طبيعية وحتميّة للوضع العام. غير أن هذه الاحتجاجات، ورغم ما يُمكن أن يكون فيها من مال فاسد أو من قُطّاع طريق، فإنها يُمكن أن تتجاوز الاحتجاجات السلمية السياسية بسبب حالة الاكتئاب السائدة وحالة التعصّب واليأس والفاقة.

المراجعة الجذرية والسريعة للسياسة الحالية، قبل أن تزيد الأوضاع تعقيدا جراء تواصل الجفاف وقبل البدء في تنفيذ الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، هي وحدها الكفيلة بتجنّب الغضب الساطع الآتي.

 

 

 

 

 

 

الغضب الساطع آت

بقلم:منير الشرفي

عاشت تونس في أواخر الستينات فترة جفاف كانت عسيرة على الفلاحة وعلى الاقتصاد التونسي عموما، خاصّة بعد الفشل الذريع الذي شهدته تجربة التعاضد التي قادت تونس إلى حافة الإفلاس. ومنذ أن أخذ المرحوم الهادي نويرة بزمام الحكم، تهاطلت أمطار غزيرة، ممّا جعله يقول: "المطر صوّت لفائدتي".

اليوم، ونحن نعيش فترة جفاف مُخيف، هل يُمكن القول بأن الأمطار صوّتت ضد قيس سعيّد؟

الجفاف، إن تواصل، سوف تكون له انعكاسات خطيرة جدا على الفلاحة وعلى الاقتصاد التونسي عموما، علما بأن الفلاحة في بلادنا هي أساس التوازن الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي. وإذا كان الجفاف هو المُعطى السلبي الوحيد في البلاد لهان الأمر. لكن الذي يبعث حقّا على الانشغال هو أنه يأتي في فترة تعدّدت فيها الأزمات على كل الأصعدة.

على المستوى الاقتصادي، جميعنا يعلم أن البلاد تعيش أزمة خانقة، حتى أن الميزانية التكميلية للسنة الحالية لم تظهر بعد، وقد تجاوزنا الشهر العاشر منها. كما أن صندوق النقد الدولي لم يمنح لتونس سوى مبلغ ضئيل ممّا تحتاج إليه البلاد، بما يعني أن الخزينة ستجفّ بعد فترة قصيرة من انتعاشها الظرفي بذلك المبلغ الصغير، وقد نشرع في حملة التسوّل القادمة قبل نهاية السنة. هذا عدا ما ينتظرنا من مفاجآت عند اطّلاعنا على فحوى الاتّفاقية الحاصلة بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي والتي يُمكن أن تكون مُتضمّنة لالتزامات من الدولة التونسية تتعارض مع المصالح الماديّة المباشرة للمواطنين، على غرار التقليص من أعباء صندوق الدعم والرفع في أسعار المواد الأساسية، أو الرفع بشكل محسوس في سعر المحروقات ومواد حياتية أخرى، أو التفريط في عدد من الشركات القومية لفائدة الخواص، أو إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية والتقليص من كتلة الأجور فيها، الخ... وكل ذلك سينضاف إلى ما يُعانيه المواطن من زيادات يوميّة في الأسعار ونقص في الموارد.

لا أضيف شيئا للقارئ إن قلت إن الأسعار لم نكن نتصوّر قبل سنة واحدة أنها ستبلغ هذه المستويات الخيالية. والأدهى من ذلك النقص الفضيح في المواد الضرورية، نقص أصاب أيضا الأدوية التي أصبحت نادرة حتى في المستشفيات.

قلة ذات اليد، قبل الوصول إلى الأوضاع التي تنتظرنا عند تطبيق الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، هي دون شك السبب الأساسي في الاكتئاب الذي أصبح الميزة الأكثر وضوحا في ملامح التونسي وفي وجدانه. ولا أدلّ على ذلك من العدد المهول والمتزايد للمواطنين الفارّين من البلاد، سواء ممّن كانوا من أصحاب الشهادات العليا والكفاءات والتجارب، من أطباء ومهندسين...، أو من العاطلين عن العمل والفاقدين لكل أمل والذين خيّروا الموت بين أنياب الحيتان على العيش دون كرامة ولا آفاق. ويكفي في هذا الصدد أن نُذكّر بأنه تمّ احباط 18 محاولة اجتياز الحدود البحرية خلسة في ليلة واحدة، هذا الأسبوع.

أما على الصعيد السياسي فحدّث ولا حرج. فبعد أن تمّ التخلي عن مبدأ الحوار الوطني وعن البرلمان، وبعد أن تمّ التحييد الغريب للأحزاب بتعلّة عدم الاعتراف بدور "الأجسام السياسية الوسيطة"، تكاثرت القرارات السياسية الانفرادية بشكل أضرّ بالعديد من المكاسب ليس أقلّها التنكّر لمدنية الدولة في الدستور ولمكانة المرأة التونسية في المرسوم الانتخابي. فالنساء، ومن ورائهن الرجال المدافعون عن حقوق المرأة، غاضبات من فقدان مكسبهن الثمين في الحضور الفعلي في المجلس النيابي جرّاء تجاهل المرسوم الانتخابي الجديد لمبدأ التناصف. وها أن الأرقام الرسمية تُؤكّد ضعف مشاركة النساء في الانتخابات القادمة، إذ بلغ عدد المترشحات 214 من بين 1427 مترشحا، أي أن من بين سبعة مترشحين تُوجد امرأة واحدة مقابل ستة رجال.

الغضب السياسي، عندما ينضاف إلى الغضب الاقتصادي والاجتماعي، يُولّد التشنّج والانقسام في المؤسسات المُهيكلة، مثل الأحزاب والجمعيّات. وحتى التنظيمات التي تأسست بعد 25 جويلية لمساندة قيس سعيّد أصابها هي أيضا داء الانقسام والخصام. هذا التشنّج أصبح السمة البارزة في التعامل بين المواطنين. فترى التشاجر بين الواقفين في طوابير الانتظار أمام مادّة قلّ توفيرها، أو أمام محطة بيع البنزين، أو بين سائقيْن لسيّارتيْن كل واحد منهما على خطأ...

هذا العنف كثيرا ما يتجاوز اللسان ليصل إلى اليدين، بين الجارين، وبين الزوجين... وها أننا نسمع عن محفظة المراهق في المعاهد التي لم تعد تحتوي على المخدرات فقط، بل نجد فيها سكّينا صالحا لطعن من يُخالف صاحبه بشكل من الأشكال.

التشنج الاجتماعي ليس مرضا من اختصاص الأطباء النفسانيين ولا ظاهرة من اختصاص علماء الاجتماع، وإنما هو مشكل سياسيّ بحت، بما في السياسة من جوانب اقتصادية واجتماعية، يستوجب حلولا سياسيّة عميقة وجذرية وعاجلة. وما نشاهده من تحركات احتجاجيّة متزايدة، وفي مناطق متعددة، هو نتيجة طبيعية وحتميّة للوضع العام. غير أن هذه الاحتجاجات، ورغم ما يُمكن أن يكون فيها من مال فاسد أو من قُطّاع طريق، فإنها يُمكن أن تتجاوز الاحتجاجات السلمية السياسية بسبب حالة الاكتئاب السائدة وحالة التعصّب واليأس والفاقة.

المراجعة الجذرية والسريعة للسياسة الحالية، قبل أن تزيد الأوضاع تعقيدا جراء تواصل الجفاف وقبل البدء في تنفيذ الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، هي وحدها الكفيلة بتجنّب الغضب الساطع الآتي.