وسط قصص محزنة وأخبار غرق مراكب هجرة غير نظامية، يواصل تونسيون وتونسيات ركوب قوارب مغادرة غير أمنة في جنح الظلام نحو الضفة الأخرى. لا احد يستثنى من هذه الرحلات فالجميع أصبح معنيا بها ويسعى إلى المشاركة في احد خرجاتها غير المعلنة والسرية للغاية، نساء وأطفال فتيان وفتيات، عائلات بأكملها، مجموعات من الأقارب أو الأصدقاء والأصحاب وأبناء الحي الواحد.. فعدوى الهجرة غير النظامية أو "الحرقة"، لم تعتد تقتصر على فئة بعينها أو جنس دون آخر تتخذ أشكالا مختلفة ومسارات متغيرة في كل مرة في مواجهة رقابة الحرس البحري ورادارات الرقابة البينية.
ويوضح خالد الطبابي الباحث في علم الاجتماع، أن كلمة "الحرقة" كانت في البداية تعني في لهجتها المغربية تجاوز مدة الإقامة في بلد المهجر وانتهاء مدة صلاحية الوثائق القانونية. لتتحول اليوم مع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى حرقة في بلد المنشأ قبل الوصول إلى بلد الاستقبال. واعتماد مصطلح الحرقة يكون في العموم مصحوب بعدد من المفاهيم الأخرى المشابهة التبريرية لفعل الهجرة غير النظامية والتي يتم فيها اعتماد المرجعية الدينية مثلا:"قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، أو الأمثال الشعبية "لعبة حمرا كحلة". وبين في نفس السياق أن أولاد الحي والعائلة والحومة والحلقات المعرفية تتكتل مع السببية الاقتصادية والاجتماعية والأزمة السياسية لتشكل دافعا من دوافع الهجرة غير النظامية واحد حواضنها الأساسية.
ويعتبر الطبابي أن السياسات الهجرية الوطنية والأوروبية كانت بدورها احد محركات توسيع خارطة المهاجرين وتكثيف عمليات الهجرة غير النظامية، وقصة المرأة وفلذتها الرضيعة اللتان كانتا من ضمن المشاركين في عملية الهجرة غير النظامية في جرجيس والتي غرق مركبهم خير دليل على ذلك فهي ركبت البحر بعد فشلها ورفض الجانب الإيطالي لمطلبها في الالتحاق بزوجها المقيم هناك.
وبين أن عدوى الهجرة غير النظامية مرتبطة بسيكولوجيا بنفسية كاملة، يكون لها صلة بالتأثر والتأثير الذي تتركه الجالية التونسية في دول المهجر وبالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وبفقدان الأمل في تغيير البنى والأنماط الإنتاجية والوضعية الاجتماعية من عاطل إلى أجير ومن أعزب إلى متزوج..، لتتحول في أطرها غير النظامية إلى شكل من أشكال الاحتجاج والتمرد والتعبير عن الغضب والاستياء، تكون شكلا احتجاجيا يعبر عن عدم القبول بالبقاء تحت نماذج اقتصادية واجتماعية وسياسية معينة. ويذهب نحو البحث عن عوالم أخرى وفضاءات تتجسد فيها ملامح الحلم ومختلف التمثلات الاجتماعية السالف ذكرها.
ويفسر خالد الطبابي التغير الحاصل في فئة المهاجرين، بالتغيير الحاصل في المقاربة المجتمعية للهجرة. فالهجرة غير النظامية تحولت اليوم إلى مشروع عائلي ينخرط فيه القاصر الذي لفظته المدرسة ودور الشباب والثقافة المتآكلة والفاقدة لأدوارها نحو المقاهي والشارع أين تنظم رحلات الهجرة غير النظامية وتنتقل عدوى الحرقة.
ويشير في نفس الوقت إلى أن عمليات الهجرة قد شهدت تحولا مهما فيما يهم النساء، حيث خرجت من الصورة النمطية والتي كانت مرتبطة بالوصم والهروب، واكتسبت تدريجيا لشرعنة مجتمعية كسرت معها الحواجز وأصبحت تعتمد نفس الدوافع التي يعتمدها الذكور.
في المقابل يرى رمضان بن عمر منسق قسم الهجرة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن قرار الهجرة غير النظامية لا يتنزل ضمن الترف أو الصادر عن شخصية مستهترة غير مستقرة وإنما هو يأتي على خلفية جملة من العوامل الدافعة التي تجبر هذه الفئات الاجتماعية على اختيار ركوب قوارب الموت وهو على وعي تام بصعوبة الرحلة وخطورتها وتحديات مجتمعات الوصول. ويتم اختيار القرار عندما يصبح خطر البحر وإمكانية الغرق خطر ثانوي أمام التحديات التي تواجهه في معيشته اليومية.
وأفاد أن قرار الهجرة يمكن تفسيره بعديد الأسباب، والدوافع الاقتصادية والاجتماعية تكون دائما محددا لكن ذلك لا يمكن أن نغفل معه بعض العوامل الأخرى والتي منها ما هو مرتبط بالوضع السياسي العام وحالة الإحباط وغموض آفاق الوضع السياسي وهي كلها تجعل المئات من التونسيين والتونسيات يتخذون قرار الهجرة غير النظامية. ويضاف إليها وضع الحقوق والحريات ومؤخرا بدا واضحا أن هناك منحى نحو التضييق وهناك عنف بوليسي كبير بصدد التفاقم تجاه فئات اجتماعية وخاصة منها الشباب وحالة الإفلات من العقاب التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية يزيد في تعميق الرغبة في المغادرة يضاف إليها الانحدار الكبير في الخدمات العمومية، أزمة في التعليم وتسرب مدرسي هام وخدمات صحية سيئة ومستشفيات عاجزة على استقبال المرضى وتقديم العلاج وأزمة في النقل العمومي وانتشار للعنف في الفضاء العام.. كلها جعلت من مستوى العيش يتدهور في تونس. ويضاف للأسباب الموضوعية الأسباب الذاتية فكل مهاجر له قصة ودافع تجعله يتخذ قرار الهجرة.
وبلغة الأرقام يقول رمضان بن عمر أن هذه السنة هي السنة الأكبر في تاريخ الهجرة غير النظامية في تونس، ومنذ اعتماد منظومة التأشيرة، فإلى حدود اليوم ومنذ بداية السنة تم تسجيل أكثر من 15 ألف واصل نحو السواحل الإيطالية من جنسيات تونسية منها 3 آلاف قاصر أي 20% من الواصلين و650 امرأة و550 عائلة.. كما أعلنت السلطات النمساوية منذ أسبوع أن 15 ألف تونسي مروا عبرها، إذن فنحن نتحدث عن أكثر من 30 ألف تونسي وصلوا إلى فضاء شنغان ونحن بهذه الأرقام قد تجاوزنا كل الأرقام المسجلة خلال السنوات الماضية وبداية من سنة 2011، والتوجه نحو صربيا يأتي في سياق ونتيجة لخوف المهاجرين غير النظاميين من إمكانيات الترحيل القسري على خلفية الاتفاقات التي أبرمتها تونس مع دول أوروبية حتى في صورة نجاح الرحلة، وتم التوجه نحو رحلات أكثر أمنا حتى وإن كان كلفتها أعلى بكثير.
وتأتي أرقام الوصول بالتوازي مع تسجيل أكثر من 550 مفقودا وضحية على الشواطئ التونسية من مختلف الجنسيات وإحباط السلطات التونسية 2100 رحلة اجتياز شارك فيها 27 ألف مهاجر غير نظامي قبل وصولهم للسواحل الإيطالية. وهذه المقاربة الأمنية رغم أهميتها لم تنجح في الحد من الهجرة ولا إنقاذ الأرواح.
ريم سوودي
-"شرعنة" مجتمعية تدمج النساء والقصر والأطفال..
تونس الصباح
وسط قصص محزنة وأخبار غرق مراكب هجرة غير نظامية، يواصل تونسيون وتونسيات ركوب قوارب مغادرة غير أمنة في جنح الظلام نحو الضفة الأخرى. لا احد يستثنى من هذه الرحلات فالجميع أصبح معنيا بها ويسعى إلى المشاركة في احد خرجاتها غير المعلنة والسرية للغاية، نساء وأطفال فتيان وفتيات، عائلات بأكملها، مجموعات من الأقارب أو الأصدقاء والأصحاب وأبناء الحي الواحد.. فعدوى الهجرة غير النظامية أو "الحرقة"، لم تعتد تقتصر على فئة بعينها أو جنس دون آخر تتخذ أشكالا مختلفة ومسارات متغيرة في كل مرة في مواجهة رقابة الحرس البحري ورادارات الرقابة البينية.
ويوضح خالد الطبابي الباحث في علم الاجتماع، أن كلمة "الحرقة" كانت في البداية تعني في لهجتها المغربية تجاوز مدة الإقامة في بلد المهجر وانتهاء مدة صلاحية الوثائق القانونية. لتتحول اليوم مع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى حرقة في بلد المنشأ قبل الوصول إلى بلد الاستقبال. واعتماد مصطلح الحرقة يكون في العموم مصحوب بعدد من المفاهيم الأخرى المشابهة التبريرية لفعل الهجرة غير النظامية والتي يتم فيها اعتماد المرجعية الدينية مثلا:"قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، أو الأمثال الشعبية "لعبة حمرا كحلة". وبين في نفس السياق أن أولاد الحي والعائلة والحومة والحلقات المعرفية تتكتل مع السببية الاقتصادية والاجتماعية والأزمة السياسية لتشكل دافعا من دوافع الهجرة غير النظامية واحد حواضنها الأساسية.
ويعتبر الطبابي أن السياسات الهجرية الوطنية والأوروبية كانت بدورها احد محركات توسيع خارطة المهاجرين وتكثيف عمليات الهجرة غير النظامية، وقصة المرأة وفلذتها الرضيعة اللتان كانتا من ضمن المشاركين في عملية الهجرة غير النظامية في جرجيس والتي غرق مركبهم خير دليل على ذلك فهي ركبت البحر بعد فشلها ورفض الجانب الإيطالي لمطلبها في الالتحاق بزوجها المقيم هناك.
وبين أن عدوى الهجرة غير النظامية مرتبطة بسيكولوجيا بنفسية كاملة، يكون لها صلة بالتأثر والتأثير الذي تتركه الجالية التونسية في دول المهجر وبالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وبفقدان الأمل في تغيير البنى والأنماط الإنتاجية والوضعية الاجتماعية من عاطل إلى أجير ومن أعزب إلى متزوج..، لتتحول في أطرها غير النظامية إلى شكل من أشكال الاحتجاج والتمرد والتعبير عن الغضب والاستياء، تكون شكلا احتجاجيا يعبر عن عدم القبول بالبقاء تحت نماذج اقتصادية واجتماعية وسياسية معينة. ويذهب نحو البحث عن عوالم أخرى وفضاءات تتجسد فيها ملامح الحلم ومختلف التمثلات الاجتماعية السالف ذكرها.
ويفسر خالد الطبابي التغير الحاصل في فئة المهاجرين، بالتغيير الحاصل في المقاربة المجتمعية للهجرة. فالهجرة غير النظامية تحولت اليوم إلى مشروع عائلي ينخرط فيه القاصر الذي لفظته المدرسة ودور الشباب والثقافة المتآكلة والفاقدة لأدوارها نحو المقاهي والشارع أين تنظم رحلات الهجرة غير النظامية وتنتقل عدوى الحرقة.
ويشير في نفس الوقت إلى أن عمليات الهجرة قد شهدت تحولا مهما فيما يهم النساء، حيث خرجت من الصورة النمطية والتي كانت مرتبطة بالوصم والهروب، واكتسبت تدريجيا لشرعنة مجتمعية كسرت معها الحواجز وأصبحت تعتمد نفس الدوافع التي يعتمدها الذكور.
في المقابل يرى رمضان بن عمر منسق قسم الهجرة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن قرار الهجرة غير النظامية لا يتنزل ضمن الترف أو الصادر عن شخصية مستهترة غير مستقرة وإنما هو يأتي على خلفية جملة من العوامل الدافعة التي تجبر هذه الفئات الاجتماعية على اختيار ركوب قوارب الموت وهو على وعي تام بصعوبة الرحلة وخطورتها وتحديات مجتمعات الوصول. ويتم اختيار القرار عندما يصبح خطر البحر وإمكانية الغرق خطر ثانوي أمام التحديات التي تواجهه في معيشته اليومية.
وأفاد أن قرار الهجرة يمكن تفسيره بعديد الأسباب، والدوافع الاقتصادية والاجتماعية تكون دائما محددا لكن ذلك لا يمكن أن نغفل معه بعض العوامل الأخرى والتي منها ما هو مرتبط بالوضع السياسي العام وحالة الإحباط وغموض آفاق الوضع السياسي وهي كلها تجعل المئات من التونسيين والتونسيات يتخذون قرار الهجرة غير النظامية. ويضاف إليها وضع الحقوق والحريات ومؤخرا بدا واضحا أن هناك منحى نحو التضييق وهناك عنف بوليسي كبير بصدد التفاقم تجاه فئات اجتماعية وخاصة منها الشباب وحالة الإفلات من العقاب التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية يزيد في تعميق الرغبة في المغادرة يضاف إليها الانحدار الكبير في الخدمات العمومية، أزمة في التعليم وتسرب مدرسي هام وخدمات صحية سيئة ومستشفيات عاجزة على استقبال المرضى وتقديم العلاج وأزمة في النقل العمومي وانتشار للعنف في الفضاء العام.. كلها جعلت من مستوى العيش يتدهور في تونس. ويضاف للأسباب الموضوعية الأسباب الذاتية فكل مهاجر له قصة ودافع تجعله يتخذ قرار الهجرة.
وبلغة الأرقام يقول رمضان بن عمر أن هذه السنة هي السنة الأكبر في تاريخ الهجرة غير النظامية في تونس، ومنذ اعتماد منظومة التأشيرة، فإلى حدود اليوم ومنذ بداية السنة تم تسجيل أكثر من 15 ألف واصل نحو السواحل الإيطالية من جنسيات تونسية منها 3 آلاف قاصر أي 20% من الواصلين و650 امرأة و550 عائلة.. كما أعلنت السلطات النمساوية منذ أسبوع أن 15 ألف تونسي مروا عبرها، إذن فنحن نتحدث عن أكثر من 30 ألف تونسي وصلوا إلى فضاء شنغان ونحن بهذه الأرقام قد تجاوزنا كل الأرقام المسجلة خلال السنوات الماضية وبداية من سنة 2011، والتوجه نحو صربيا يأتي في سياق ونتيجة لخوف المهاجرين غير النظاميين من إمكانيات الترحيل القسري على خلفية الاتفاقات التي أبرمتها تونس مع دول أوروبية حتى في صورة نجاح الرحلة، وتم التوجه نحو رحلات أكثر أمنا حتى وإن كان كلفتها أعلى بكثير.
وتأتي أرقام الوصول بالتوازي مع تسجيل أكثر من 550 مفقودا وضحية على الشواطئ التونسية من مختلف الجنسيات وإحباط السلطات التونسية 2100 رحلة اجتياز شارك فيها 27 ألف مهاجر غير نظامي قبل وصولهم للسواحل الإيطالية. وهذه المقاربة الأمنية رغم أهميتها لم تنجح في الحد من الهجرة ولا إنقاذ الأرواح.