ونحن في مفتتح الموسم الثقافي، يطيب أن نأمل خيرا منه يعُمّ جهات الجمهوريـّــة، و نشــدّ على أيدي العامليــن فيه والساهرين عليه لأنّ الثقافــة قاعــدة الأعمال وأساسها المتيـن وغذاء الجمهور الذي لا غــنــى عنه. وقد عشنا حركية ثقافية في الموسم المنقضي رغم الثغرات والهنات والهزّات كشأن سائر مناحي حياتنا الوطنيــة.
و يحلو – من ناحيــة أخرى- أن نتذكر ما كان عليه العمل الثقافي في عقود ماضية لا سيما داخل الجمهورية والذكرى تنفع العاملين، فإنّه، لشيء لذيذ أن نتذكر كما يقول الأديب الفرنسي أناطول فرنس Anatole France ، والذّاكرة ملكة عجيبــة، والموهبة التي تساعدك على بعث الماضي لا تقلّ قيمة عن موهبــة استشراف المستقبل، و الذكرى خير كلّها، وإننا بالماضي نصنع الاتي (1).
صفحة من حياتنا الثقافيّة:
وبتصفـّـــح تاريخنا الثقافي القريب والجهــوي خاصة، وعلى نهج الموضوعيـة والنّزاهة، نلمح علامات مضيئة جديرة بأن نتوقف عندها لعلّها تشحذ الهمم وتُنسّب الأحكام المنتقصة لجهود السابقيــن وتلحّ على وصف بعض حياتنا الثقافيـة " بالتصحّر" وتهميش المثّقّف. فالصورة لم تكن قاتمـــة إنْ رُمنا الإنصاف وإلاّ لما شهدنا ما شهدنا من تظاهرة" القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية" وتظاهرة"صفاقس عاصمة للثقافة العربيــة". فلا يكون الاختيار، اختيار المنظمات المختصة اعتباطا لهذه المدينة أو تلك، وإنما حصيلة رويّــة ومتابعة. وسأورد في هذا الحيـّــز شذرات ممّا كانت تعجّ به صفاقس التي أعرفها وعشت في خضم حراكها الثقافي طيلة العقود الأخيــرة، من جدل وعمل وتأليف، ومدارســـة وتكريــم المثقّفيـــن والمثقفات في نطاق الظروف السائدة والعقليات القائمــة والإمكانات المتاحــة. وليس من رأى وشهــد وفعل كما كان متفرّجا من بعيد، محترزا.
• التفكير في المسألــة الثقافيــة:
إنّ المتابـــع الحصيف ليجد كثيرا من الأفكار والآراء السّديدة قد حفلت بها موائد لجان التفكير والمنتديات والندوات وعبّرعنها لفيف من مثقفي الجهــة من مختلف المشارب والمستويات. وتعلقت هذه الآراء والأفكار بإشكاليات حقيقيــة تمسّ صميم حياتنا الثقافيــة وألقيت في كنف الصّراحــة والالتزام. ففي حوار نظمتــه جمعيــة الدراسات الفلسفيــة(2) عن واقــع الثقافـــة وآفاقها بالجهــة تم التركيز على مبدإ الإيمان بدور المثقف وحاجــة المثقفيــن إلى تولّي مسؤولياتهم وعلى أنّ صفاقس رائدة في مجال الثقافـة، وعلى أنّ المبادرة الفرديّــة الثقافيــة هي الفعل القادح ...
وفي مناسبــة أخرى (3) قاد التفكير الجماعي في المسألة الثقافيــة إلى ضرورة الارتقاء بالذوق العامّ والعنايـة بالإعلام الثقافي وتنظيم المهــن الثقافيـّــة وكنت – في هذا السياق – ألحّ في المنابر على توأم : التربيــــة والتثــــقيف وقد حللت هذا المفهوم في افتتاحيــة مجلـــــة القــلم ( ع 11 س 2004 ) .
• ما بقـــــــــي بالبــال من تظاهرات:
ولم يقف الحراك الثقافي المتحدّث عنه عند النقاش العام بل تجسـّد في سيل من التظاهرات الجادّة محكمــة التنظيم حسب شهادة المتابعــين من مختلف أنحاء الطيف الثقافي.
ويضيق المجال عن تعدادها وأكتفي بالإشارة إلى دورات ملتقــى علي النور للعلوم والتقنيات التي كانت تنظم في مواعيدها وتوثـّـق وتدور حول قضايا الساعــة، وحلقات "عــــلَم ومسألـــــة" التي كُرّم فيها تكريما علميا أعلام من كبار مثقفينا أمثال عبد القادر المهيري ومنــجي الشملي وعبد السلام المسدي. ثم جلسات المنتدى الثقافي الذي هو فضاء مستقلللحوار بين المفكّرين والمبدعيــن وجمهور المثقفيــن وقد استضاف كوكبـة أخرى من أعلام الثقافـة في بلادنا مثل عبد الجليل التميمي وتوفيق بكار وأحمد خالد. وقد شاركت في تنظيم لقاءات المنتدى جملة من الجمعيات الثقافية بالجهـة. ثم لا ننسـى " الاحتفاء بالمؤلّفيــن" ذاك اللقاء السنوي الممتاز الذي يكرّم فيه المؤلّفون المقيمون بالجهــة، و"جائزة محمـّــد محفوظ للثقافة والفكر والفنّ" جائزة الولاية التي أسندت بالتناصف إلى وجوه من الثقافة كعامر التونسي (المسرحي) وعلي الحشيشة (الموسيقـى) وعلي الزواري (المؤرّخ) .
على سبيـــل الخاتمـــة
وأختم هذا الملمح من حياتنا الثقافيـة كما عشتـها بالقول: إنّ العمل الثقافي بصفاقس في عقود خلت كان مفتوحا على الجميع دون إقصاء وإن العلاقة كانت حميمة بين أفراد " الأسرة الثقافية". فكان العطاء بلا حساب.
وإن "المجتمع المدني" كان فاعلا وبقوّة في المشهد الثقافي وإنّ العاملين في الحقل الثقافي بالجهـــة كانوا ميّاليــن إلى العمل الهادئ زاهديــن في الترويج الإعلامي لولا صفوة من الاعلامييـــن المتطوّعيـــن الذين تابعــوا وكتبوا وأذاعــوا وبهذا الصنيع وغيره استحقت صفاقس أن تكون عاصمـة للثقافة العربيّــة.
هـــوامش:
مدير مجلّــة " القلم" التي احتجبت (صفاقس)
(1) ذكر ذلك في تأليفه " كتاب صديقي" « Le Livre de mon ami »
الصادر سنة 1992 عن الدار التونسية للنشر في سلسلة " النصوص الباقية" بإشراف الأستاذ سمير المرزقي.
(2) بتاريخ 07/10/1988 بدار الشباب .
(3) لجنة التفكير في العمل الثقافي 30/10/1998 .
بقلم :علي السعداوي
ونحن في مفتتح الموسم الثقافي، يطيب أن نأمل خيرا منه يعُمّ جهات الجمهوريـّــة، و نشــدّ على أيدي العامليــن فيه والساهرين عليه لأنّ الثقافــة قاعــدة الأعمال وأساسها المتيـن وغذاء الجمهور الذي لا غــنــى عنه. وقد عشنا حركية ثقافية في الموسم المنقضي رغم الثغرات والهنات والهزّات كشأن سائر مناحي حياتنا الوطنيــة.
و يحلو – من ناحيــة أخرى- أن نتذكر ما كان عليه العمل الثقافي في عقود ماضية لا سيما داخل الجمهورية والذكرى تنفع العاملين، فإنّه، لشيء لذيذ أن نتذكر كما يقول الأديب الفرنسي أناطول فرنس Anatole France ، والذّاكرة ملكة عجيبــة، والموهبة التي تساعدك على بعث الماضي لا تقلّ قيمة عن موهبــة استشراف المستقبل، و الذكرى خير كلّها، وإننا بالماضي نصنع الاتي (1).
صفحة من حياتنا الثقافيّة:
وبتصفـّـــح تاريخنا الثقافي القريب والجهــوي خاصة، وعلى نهج الموضوعيـة والنّزاهة، نلمح علامات مضيئة جديرة بأن نتوقف عندها لعلّها تشحذ الهمم وتُنسّب الأحكام المنتقصة لجهود السابقيــن وتلحّ على وصف بعض حياتنا الثقافيـة " بالتصحّر" وتهميش المثّقّف. فالصورة لم تكن قاتمـــة إنْ رُمنا الإنصاف وإلاّ لما شهدنا ما شهدنا من تظاهرة" القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية" وتظاهرة"صفاقس عاصمة للثقافة العربيــة". فلا يكون الاختيار، اختيار المنظمات المختصة اعتباطا لهذه المدينة أو تلك، وإنما حصيلة رويّــة ومتابعة. وسأورد في هذا الحيـّــز شذرات ممّا كانت تعجّ به صفاقس التي أعرفها وعشت في خضم حراكها الثقافي طيلة العقود الأخيــرة، من جدل وعمل وتأليف، ومدارســـة وتكريــم المثقّفيـــن والمثقفات في نطاق الظروف السائدة والعقليات القائمــة والإمكانات المتاحــة. وليس من رأى وشهــد وفعل كما كان متفرّجا من بعيد، محترزا.
• التفكير في المسألــة الثقافيــة:
إنّ المتابـــع الحصيف ليجد كثيرا من الأفكار والآراء السّديدة قد حفلت بها موائد لجان التفكير والمنتديات والندوات وعبّرعنها لفيف من مثقفي الجهــة من مختلف المشارب والمستويات. وتعلقت هذه الآراء والأفكار بإشكاليات حقيقيــة تمسّ صميم حياتنا الثقافيــة وألقيت في كنف الصّراحــة والالتزام. ففي حوار نظمتــه جمعيــة الدراسات الفلسفيــة(2) عن واقــع الثقافـــة وآفاقها بالجهــة تم التركيز على مبدإ الإيمان بدور المثقف وحاجــة المثقفيــن إلى تولّي مسؤولياتهم وعلى أنّ صفاقس رائدة في مجال الثقافـة، وعلى أنّ المبادرة الفرديّــة الثقافيــة هي الفعل القادح ...
وفي مناسبــة أخرى (3) قاد التفكير الجماعي في المسألة الثقافيــة إلى ضرورة الارتقاء بالذوق العامّ والعنايـة بالإعلام الثقافي وتنظيم المهــن الثقافيـّــة وكنت – في هذا السياق – ألحّ في المنابر على توأم : التربيــــة والتثــــقيف وقد حللت هذا المفهوم في افتتاحيــة مجلـــــة القــلم ( ع 11 س 2004 ) .
• ما بقـــــــــي بالبــال من تظاهرات:
ولم يقف الحراك الثقافي المتحدّث عنه عند النقاش العام بل تجسـّد في سيل من التظاهرات الجادّة محكمــة التنظيم حسب شهادة المتابعــين من مختلف أنحاء الطيف الثقافي.
ويضيق المجال عن تعدادها وأكتفي بالإشارة إلى دورات ملتقــى علي النور للعلوم والتقنيات التي كانت تنظم في مواعيدها وتوثـّـق وتدور حول قضايا الساعــة، وحلقات "عــــلَم ومسألـــــة" التي كُرّم فيها تكريما علميا أعلام من كبار مثقفينا أمثال عبد القادر المهيري ومنــجي الشملي وعبد السلام المسدي. ثم جلسات المنتدى الثقافي الذي هو فضاء مستقلللحوار بين المفكّرين والمبدعيــن وجمهور المثقفيــن وقد استضاف كوكبـة أخرى من أعلام الثقافـة في بلادنا مثل عبد الجليل التميمي وتوفيق بكار وأحمد خالد. وقد شاركت في تنظيم لقاءات المنتدى جملة من الجمعيات الثقافية بالجهـة. ثم لا ننسـى " الاحتفاء بالمؤلّفيــن" ذاك اللقاء السنوي الممتاز الذي يكرّم فيه المؤلّفون المقيمون بالجهــة، و"جائزة محمـّــد محفوظ للثقافة والفكر والفنّ" جائزة الولاية التي أسندت بالتناصف إلى وجوه من الثقافة كعامر التونسي (المسرحي) وعلي الحشيشة (الموسيقـى) وعلي الزواري (المؤرّخ) .
على سبيـــل الخاتمـــة
وأختم هذا الملمح من حياتنا الثقافيـة كما عشتـها بالقول: إنّ العمل الثقافي بصفاقس في عقود خلت كان مفتوحا على الجميع دون إقصاء وإن العلاقة كانت حميمة بين أفراد " الأسرة الثقافية". فكان العطاء بلا حساب.
وإن "المجتمع المدني" كان فاعلا وبقوّة في المشهد الثقافي وإنّ العاملين في الحقل الثقافي بالجهـــة كانوا ميّاليــن إلى العمل الهادئ زاهديــن في الترويج الإعلامي لولا صفوة من الاعلامييـــن المتطوّعيـــن الذين تابعــوا وكتبوا وأذاعــوا وبهذا الصنيع وغيره استحقت صفاقس أن تكون عاصمـة للثقافة العربيّــة.
هـــوامش:
مدير مجلّــة " القلم" التي احتجبت (صفاقس)
(1) ذكر ذلك في تأليفه " كتاب صديقي" « Le Livre de mon ami »
الصادر سنة 1992 عن الدار التونسية للنشر في سلسلة " النصوص الباقية" بإشراف الأستاذ سمير المرزقي.