إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

كيفَ تفوزُ الهُويات الثقافيّة في نحْت لُبِّ معَالم هوياتِ الشعوب

 

 

                              الأستاذ الدكتور محمود الذوادي –عالم الاجتماع

أصناف الهويات البشرية

 نشرت بعضُ الصحف التونسية ملخصات للكتاب الجديد باللغة الأجنبية (من هم التونسيون؟ وما هي أصولهم الحقيقية؟ ). وهو كتاب يرسم معالم البنية/ الهوية الوراثية الجماعية للشعب التونسي. يجوز الحديث بهذا الصدد عن ثلاثة أنواع من الهوية الجماعية للشعوب. هوية وراثية تتمثل في الأصول الجينية للشعوب وهوية عرقية يحددها لونُ بشرة السكان ونوعية الشعر والمعالم العضوية/ الفيزيولوجية الخَلقية لملامح الوجوه وطول وقصر قامات الناس إلخ ... وهوية ثقافية تتجلى في مجموعة من الرموز الثقافية : اللغة والدين والقيم والأعراف والتقاليد الثقافية.

الهويات في عصر العولمة

ما من شك أن مسألة هويات الشعوب والمجتمعات أصبحت اليوم من معالم خطابات وسياسات عصر العولمة الثقافية على الخصوص. فقضية الانتماء الهوياتي للمجتمع التونسي الحديث طُرحت منذ بداية الاستقلال على القيادة السياسية التونسية الجديدة برئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة. فمعروف عن هذا الأخير اختلافاته السياسية مع العديد من القادة العرب وفي طليعتهم الزعيم جمال عبد الناصر المنادي بقوة لصالح الهوية العربية لكل الشعوب العربية. وكان لذلك انعكاسات أدت إلى بعض الالتباس بالنسبة للانتماء الشفاف وغير المرتبك للهوية العربية الإسلامية للمجتمع التونسي. وتبنت هذا الموقف السياسي بعد الاستقلال بعض النخب الفكرية التونسية (والناس" وبعض النخب أيضا" على دين ملوكهم كما يقال) التي تدعو إلى مشروعية العمل على إبراز الجوانب الفينيقية والقرطاجنية في الانتماء الهوياتي للشعب التونسي.وتتشابه بعض هذه النخب المثقفة مع بعض النخب السياسية في كون أن كلا منهما لا يرغب في إعطاء الأولوية للمعالم العربية الإسلامية في تشكيل الهوية التونسية، ناهيك عن تنكر أقلية تنكرا كاملا لكل ما هو عربي وإسلامي.ربما يتشابه الوضع في تونس مع نظيره عند بعض النخب والفئات المصرية أو اللبنانية التي تنادي هي الأخرى بإبراز المعالم المصرية القبطية أوالفينيقية في الهويتين الجماعيتين المصرية و اللبنانية المعاصرتين.

النخبُ حمّالةُ حَطب جهل ذي غصَّة

يفيد التحليل الموضوعي أن تصور تلك النخب لمحددات الهويات الجماعية للشعوب تصور قاصر خاطئ علميا . فبعض النخب في تونس ،مثلا، تؤكد على أسبقية حضور الحضارة الفينيقية والقرطاجنية في الأرض التونسية قبل مجيء العرب والمسلمين بحضارتهم إلى افريقية (تونس). وآثار الفينيقيين والقرطاجنيين لا تزال ماثلة للعيان في أماكن مختلفة من البلاد التونسية. لكن السؤال المشروع هنا: ما هي العوامل المحددة والحاسمة أكثر لهويات الشعوب والمجتمعات والأمم: أهي العوامل المادية (الإرث المعماري ونوع الطعام والشراب واللباس...) أو العوامل الرمزية الثقافية مثل اللغة والدين والقيم والأساطير... التي تحملها الحضارات البشرية عبر العصور؟ نرى مما نسميه منظومة الرموز الثقافية (اللغة والفكر والدين والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية) هي الأكثر حسما في نحت هويات الجماعات والشعوب والمجتمعات. والأمثلة الشاهدة على ذلك عديدة. فالهجرة من الجنوب إلى الشمال ،مثلا، لا تجتث من المهاجرين هوياتهم الثقافية بمجرد أن يحلوا جغرافيا بالمجتمعات المستقبلة المختلفة عنهم ثقافيا. ومن ثم، جاء مشكل الاندماج الثقافي للمهاجرين في قيم المجتمع المضيف في طليعة مشاكل عولمة الهجرة في الماضي والحاضر وسيكون الأمر كذلك في المستقبل.تتفوق عوامل اللغة والدين والثقافة... على عناصر الهويتين الوراثية والعرقية في تحديد هويات الأفراد والمجتمعات والشعوب بسبب مركزية الرموز الثقافية في هوية الجنس البشري التي جعلت الإنسان هو السيد على وجه الأرض.

المجتمعات الشقيقة والصديقة والرموز الثقافية

نستعمل في العالم العربي الإسلامي كثيرا نعتيْ الشقيقة والصديقة في الحديث عن المجتمعات. فتلك التي تشترك معنا في الدين أو اللغة أو هما معا هي مجتمعات شقيقة وأما التي لا تدين بالإسلام ولا تتحدث العربية فهي مجتمعات صديقة. فالاشتراك في هذين الرمزيين الثقافيين الهامين أو فقدانهما هو الذي يجعل مواطني المجتمعات أشقاء أو أصدقاء لمواطني المجتمعات العربية الإسلامية. وهكذا، تتضح مركزية الرموز الثقافية في قلب هوية الجنس البشري.

انصهار الهوية التونسية في الثقافة العربية الإسلامية

 عند الرجوع إلى فحص مدى مصداقية المنادين في تونس إلى تبني هوية فينيقية و قرطاجنية وحتى أمازيغية بدل الهوية العربية الإسلامية ، فإننا نجد مثل تلك الدعوة ضعيفة الأسس في إطارنا الفكري للرموز الثقافية. فاندثار لغة/لغات ودين/أديان القرطاجنيين والفينيقيين والأمازيغ من البلاد التونسية بعد الفتوحات العربية الإسلامية منذ قرون عديدة جعل الشخصية القاعدية Basic Personality التونسية منصهرة تماما في بوتقة الرموز الثقافية العربية الإسلامية. وهذا ما عبر عنه المرحوم الأستاذ هشام جعيط : " لا ينبغي خداع النفس بالنسبة لإمكانية استمرار الحضارة الفينيقية والثقافة اللاتينية والآثار اليونانية على الأرض التونسية. فالإسلام استطاع القضاء نهائيا على الكل. فإفريقية/تونس القرن الثامن كانت كما هي اليوم : بلد مسلم عربي ". يعكس هذا الانصهارَ الكبيرَ للمجتمع التونسي في الثقافة العربية الإسلامية معالمُ كبيرة وصغيرة لا تكاد تحصى على مستويات السلوك الفردي والنظام المجتمعي والعقل الجماعي للتونسيين. وكمثال على مدى تجلى التأثر الكبير للعقل الجماعي التونسي برموز الثقافة العربية ما رُوي في حادثة من الجنوب التونسي التي تبرز، من ناحية، مدى حضور الثقافة العربية في الحياة اليومية للتونسيين وغياب أو ذبول الثقافة القرطاجنية والفينيقية، من ناحية ثانية. يحكي شاب من الجنوب التونسي بأن أمه عندما تغضب عليه وتريد توبيخه تصرخ قائلة : "أيّه متتعنترش (عنترة) عليّ " ولم تقل لي أبدا "أي متتحنبلش (حنبعل) عليّ" .

الرموز الثقافية أساس لهوية جماعية رحبة

 لو كان الأصل العرقي هو العامل الحاسم في نحت هويات الشعوب لما كان ممكنا تأسيس أمم وشعوب تتألف من خليط من السلالات والأعراق البشرية المتنوعة والمختلفة مثل الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. فرغم اختلاف الفئات المكونة لتلك الشعوب وغيرها في ألوان بشرتها وأنواع وألوان شعرها وقصر أو طول قامتها، فإن أفرادها يعتبرون أنفسهم بطريقة عفوية جماعية أنهم ينتمون إلى شعب واحد هو الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. لقد وجد الباحثون في العلوم الاجتماعية الحديثة أن اشتراك الفئات البشرية في لغة واحدة ودين واحد يؤهلها لكي تظفر بالانتماء إلى هوية جماعية واحدة. فاللغة العربية والدين الإسلامي واللغة الانكليزية والدين المسيحي البروتستنتي واللغة الفرنسية والدين المسيحي الكاثوليكي هما العاملان المحددان لهويات تلك المجتمعات. إذن، فالأرضية الصلبة لبناء الهويات الجماعية للجماعات والمجتمعات والشعوب تكمن في الرموز الثقافية لتلك الشعوب وفي طليعتها رمزا اللغة والد ين. ومن ثم، فالمناداة بالانتماء إلى هوية جماعية فقدت أهم رموزها الثقافية في المجتمع الذي ينادي فيه البعض بالعودة إلى تلك الهوية هي مناداة أساسها الجهل بالمحددات الحقيقية للهويات الجماعية عند الشعوب، كما تطرحها بحوث ومفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة. ومنه، تُمكّن منظومة الرموز الثقافية الناس من تجاوز الانتماءات المحدودة والضيقة بين بني البشر التي تفرضها عليهم بنيتهم الجينية و أصولهم العرقية ولون بشرتهم وطول أو قصر قاماتهم. فالرموز الثقافية لها نوع من العصا السحرية في قدرتها على إفساح الآفاق أمام الفئات والمجتمعات والشعوب ذات الأصول المختلفة و المتنوعة لكي تتجاوز حدود الانتماءات الضيقة إلى انتماءات واسعة ورحبة تكاد تكون بلا حدود.أي أن الرموز الثقافية تسمح للناس أن يبلغوا عبرها أوج إنسانيتهم في التلاحم والتحالف والتآخي مع الآخرين.إذ تمنحهم تأشيرة خضراء لتجاوز حدود ومضايقات الفروق والاختلافات الجينية والعرقية التي يمكن أن توجد بينهم عبر الزمان والمكان على الأرض أو فوقها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كيفَ تفوزُ الهُويات الثقافيّة في نحْت لُبِّ معَالم هوياتِ الشعوب

 

 

                              الأستاذ الدكتور محمود الذوادي –عالم الاجتماع

أصناف الهويات البشرية

 نشرت بعضُ الصحف التونسية ملخصات للكتاب الجديد باللغة الأجنبية (من هم التونسيون؟ وما هي أصولهم الحقيقية؟ ). وهو كتاب يرسم معالم البنية/ الهوية الوراثية الجماعية للشعب التونسي. يجوز الحديث بهذا الصدد عن ثلاثة أنواع من الهوية الجماعية للشعوب. هوية وراثية تتمثل في الأصول الجينية للشعوب وهوية عرقية يحددها لونُ بشرة السكان ونوعية الشعر والمعالم العضوية/ الفيزيولوجية الخَلقية لملامح الوجوه وطول وقصر قامات الناس إلخ ... وهوية ثقافية تتجلى في مجموعة من الرموز الثقافية : اللغة والدين والقيم والأعراف والتقاليد الثقافية.

الهويات في عصر العولمة

ما من شك أن مسألة هويات الشعوب والمجتمعات أصبحت اليوم من معالم خطابات وسياسات عصر العولمة الثقافية على الخصوص. فقضية الانتماء الهوياتي للمجتمع التونسي الحديث طُرحت منذ بداية الاستقلال على القيادة السياسية التونسية الجديدة برئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة. فمعروف عن هذا الأخير اختلافاته السياسية مع العديد من القادة العرب وفي طليعتهم الزعيم جمال عبد الناصر المنادي بقوة لصالح الهوية العربية لكل الشعوب العربية. وكان لذلك انعكاسات أدت إلى بعض الالتباس بالنسبة للانتماء الشفاف وغير المرتبك للهوية العربية الإسلامية للمجتمع التونسي. وتبنت هذا الموقف السياسي بعد الاستقلال بعض النخب الفكرية التونسية (والناس" وبعض النخب أيضا" على دين ملوكهم كما يقال) التي تدعو إلى مشروعية العمل على إبراز الجوانب الفينيقية والقرطاجنية في الانتماء الهوياتي للشعب التونسي.وتتشابه بعض هذه النخب المثقفة مع بعض النخب السياسية في كون أن كلا منهما لا يرغب في إعطاء الأولوية للمعالم العربية الإسلامية في تشكيل الهوية التونسية، ناهيك عن تنكر أقلية تنكرا كاملا لكل ما هو عربي وإسلامي.ربما يتشابه الوضع في تونس مع نظيره عند بعض النخب والفئات المصرية أو اللبنانية التي تنادي هي الأخرى بإبراز المعالم المصرية القبطية أوالفينيقية في الهويتين الجماعيتين المصرية و اللبنانية المعاصرتين.

النخبُ حمّالةُ حَطب جهل ذي غصَّة

يفيد التحليل الموضوعي أن تصور تلك النخب لمحددات الهويات الجماعية للشعوب تصور قاصر خاطئ علميا . فبعض النخب في تونس ،مثلا، تؤكد على أسبقية حضور الحضارة الفينيقية والقرطاجنية في الأرض التونسية قبل مجيء العرب والمسلمين بحضارتهم إلى افريقية (تونس). وآثار الفينيقيين والقرطاجنيين لا تزال ماثلة للعيان في أماكن مختلفة من البلاد التونسية. لكن السؤال المشروع هنا: ما هي العوامل المحددة والحاسمة أكثر لهويات الشعوب والمجتمعات والأمم: أهي العوامل المادية (الإرث المعماري ونوع الطعام والشراب واللباس...) أو العوامل الرمزية الثقافية مثل اللغة والدين والقيم والأساطير... التي تحملها الحضارات البشرية عبر العصور؟ نرى مما نسميه منظومة الرموز الثقافية (اللغة والفكر والدين والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية) هي الأكثر حسما في نحت هويات الجماعات والشعوب والمجتمعات. والأمثلة الشاهدة على ذلك عديدة. فالهجرة من الجنوب إلى الشمال ،مثلا، لا تجتث من المهاجرين هوياتهم الثقافية بمجرد أن يحلوا جغرافيا بالمجتمعات المستقبلة المختلفة عنهم ثقافيا. ومن ثم، جاء مشكل الاندماج الثقافي للمهاجرين في قيم المجتمع المضيف في طليعة مشاكل عولمة الهجرة في الماضي والحاضر وسيكون الأمر كذلك في المستقبل.تتفوق عوامل اللغة والدين والثقافة... على عناصر الهويتين الوراثية والعرقية في تحديد هويات الأفراد والمجتمعات والشعوب بسبب مركزية الرموز الثقافية في هوية الجنس البشري التي جعلت الإنسان هو السيد على وجه الأرض.

المجتمعات الشقيقة والصديقة والرموز الثقافية

نستعمل في العالم العربي الإسلامي كثيرا نعتيْ الشقيقة والصديقة في الحديث عن المجتمعات. فتلك التي تشترك معنا في الدين أو اللغة أو هما معا هي مجتمعات شقيقة وأما التي لا تدين بالإسلام ولا تتحدث العربية فهي مجتمعات صديقة. فالاشتراك في هذين الرمزيين الثقافيين الهامين أو فقدانهما هو الذي يجعل مواطني المجتمعات أشقاء أو أصدقاء لمواطني المجتمعات العربية الإسلامية. وهكذا، تتضح مركزية الرموز الثقافية في قلب هوية الجنس البشري.

انصهار الهوية التونسية في الثقافة العربية الإسلامية

 عند الرجوع إلى فحص مدى مصداقية المنادين في تونس إلى تبني هوية فينيقية و قرطاجنية وحتى أمازيغية بدل الهوية العربية الإسلامية ، فإننا نجد مثل تلك الدعوة ضعيفة الأسس في إطارنا الفكري للرموز الثقافية. فاندثار لغة/لغات ودين/أديان القرطاجنيين والفينيقيين والأمازيغ من البلاد التونسية بعد الفتوحات العربية الإسلامية منذ قرون عديدة جعل الشخصية القاعدية Basic Personality التونسية منصهرة تماما في بوتقة الرموز الثقافية العربية الإسلامية. وهذا ما عبر عنه المرحوم الأستاذ هشام جعيط : " لا ينبغي خداع النفس بالنسبة لإمكانية استمرار الحضارة الفينيقية والثقافة اللاتينية والآثار اليونانية على الأرض التونسية. فالإسلام استطاع القضاء نهائيا على الكل. فإفريقية/تونس القرن الثامن كانت كما هي اليوم : بلد مسلم عربي ". يعكس هذا الانصهارَ الكبيرَ للمجتمع التونسي في الثقافة العربية الإسلامية معالمُ كبيرة وصغيرة لا تكاد تحصى على مستويات السلوك الفردي والنظام المجتمعي والعقل الجماعي للتونسيين. وكمثال على مدى تجلى التأثر الكبير للعقل الجماعي التونسي برموز الثقافة العربية ما رُوي في حادثة من الجنوب التونسي التي تبرز، من ناحية، مدى حضور الثقافة العربية في الحياة اليومية للتونسيين وغياب أو ذبول الثقافة القرطاجنية والفينيقية، من ناحية ثانية. يحكي شاب من الجنوب التونسي بأن أمه عندما تغضب عليه وتريد توبيخه تصرخ قائلة : "أيّه متتعنترش (عنترة) عليّ " ولم تقل لي أبدا "أي متتحنبلش (حنبعل) عليّ" .

الرموز الثقافية أساس لهوية جماعية رحبة

 لو كان الأصل العرقي هو العامل الحاسم في نحت هويات الشعوب لما كان ممكنا تأسيس أمم وشعوب تتألف من خليط من السلالات والأعراق البشرية المتنوعة والمختلفة مثل الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. فرغم اختلاف الفئات المكونة لتلك الشعوب وغيرها في ألوان بشرتها وأنواع وألوان شعرها وقصر أو طول قامتها، فإن أفرادها يعتبرون أنفسهم بطريقة عفوية جماعية أنهم ينتمون إلى شعب واحد هو الشعب التونسي أو الأمريكي أو الفرنسي. لقد وجد الباحثون في العلوم الاجتماعية الحديثة أن اشتراك الفئات البشرية في لغة واحدة ودين واحد يؤهلها لكي تظفر بالانتماء إلى هوية جماعية واحدة. فاللغة العربية والدين الإسلامي واللغة الانكليزية والدين المسيحي البروتستنتي واللغة الفرنسية والدين المسيحي الكاثوليكي هما العاملان المحددان لهويات تلك المجتمعات. إذن، فالأرضية الصلبة لبناء الهويات الجماعية للجماعات والمجتمعات والشعوب تكمن في الرموز الثقافية لتلك الشعوب وفي طليعتها رمزا اللغة والد ين. ومن ثم، فالمناداة بالانتماء إلى هوية جماعية فقدت أهم رموزها الثقافية في المجتمع الذي ينادي فيه البعض بالعودة إلى تلك الهوية هي مناداة أساسها الجهل بالمحددات الحقيقية للهويات الجماعية عند الشعوب، كما تطرحها بحوث ومفاهيم ونظريات العلوم الاجتماعية الحديثة. ومنه، تُمكّن منظومة الرموز الثقافية الناس من تجاوز الانتماءات المحدودة والضيقة بين بني البشر التي تفرضها عليهم بنيتهم الجينية و أصولهم العرقية ولون بشرتهم وطول أو قصر قاماتهم. فالرموز الثقافية لها نوع من العصا السحرية في قدرتها على إفساح الآفاق أمام الفئات والمجتمعات والشعوب ذات الأصول المختلفة و المتنوعة لكي تتجاوز حدود الانتماءات الضيقة إلى انتماءات واسعة ورحبة تكاد تكون بلا حدود.أي أن الرموز الثقافية تسمح للناس أن يبلغوا عبرها أوج إنسانيتهم في التلاحم والتحالف والتآخي مع الآخرين.إذ تمنحهم تأشيرة خضراء لتجاوز حدود ومضايقات الفروق والاختلافات الجينية والعرقية التي يمكن أن توجد بينهم عبر الزمان والمكان على الأرض أو فوقها.