إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

معركة الجلاء عن بنزرت.. أكانت معركة بورقيبة حينها أم معركة شعب لاسترجاع تونس لسيادتها ؟

بقلم : الحبيب الذوادي

لقد واكبت بنزرت تاريخ تونس السياسي الحديث عاد أخذت قسطا وافرا من تاريخ الحركة الوطنية بفضل نخبة من أبنائها البررة ، فحرصت أن تكون هذه الجهة الشرارة الأولى في معارك شعبنا ضد الاستعمار ، الذي اتجه عن طريق البر في ماي 1881 إلى احتلال بنزرت ، فما أن أشرق يوم 5 ماي من تلك السنة حتى وطأت أقدام آلاف الجنود أرضها لأهمية استراتجيتها العسكرية لدى الجانب الفرنسي ، الشيء الذي دفع الإقامة العامة الفرنسية لاحقا إلى عقد اتفاقية ، خاصة ببنزرت في مارس 1942 و التي قدمت للباي لإمضائها حيث تم اعتبار بنزرت حينها و منشاتها العسكرية و مياهما الإقليمية منطقة خارجة عن الترتب التونسي و اعتبارها ولاية بحرية فرنسية .

 بنزرت واكبت مختلف المحطات النضالية ضد المستعمر الفرنسي بفضل صمود أبنائها خصوصا خلال مواجهات سنوات 1952 و 1954 حين تخلى بورقيبة عن الخيار السلمي لنيل الاستقلال الذي تم التحصل عليه في 20/03/1956 و تم على إثرها إلغاء الحماية ، تلاه مباشرة بيان توضيحي من الحكومة الفرنسية جاء فيه " إن اتفاق مارس 1956 لا يغير وضع الجيش الفرنسي في الأراضي التونسية ، إذ سيبقى في موقعه و يواصل القيام بالمهام الموكولة إليه " و قد أكد ذلك اتفاق 5 أكتوبر 1956 الذي يتيح للفرنسيين حماية مصالحهم الموجودة على الأراضي التونسية و مراقبة حدودها البحرية ومجالها الجوي .

 تبعا لما تقدم ذكره واصلت فرنسا إبقاء جيشها لا بعدة مناطق بالبلاد التونسية خصوصا بمنطقة رمادة ، التي عرفت لاحقا مواجهات مسلحة في 24 و 25 ماي 1958 ، أما بشمال البلاد فرغم اعتراف فرنسا بالسيادة التونسية على بنزرت إلا أنها رفضت التفاوض حول نظام القاعدة العسكرية ( الجوية و البحرية) لأهمية موقعها الاستراتيجي إلى حين تحديد وضعها النهائي مغتنمة إياها للقيام بعمليات عسكرية ضد الجزائر التي تصاعدت ثورتها حينها بتتالي انتصاراتها ، حيث مثلت تونس حينها للجزائر قاعدة خلفية على المستوى السياسي بتواجد حكومتها المؤقتة في الأراضي التونسية مقابل ارتباط مصير الحضور الاستعماري ببنزرت بمصير حضوره بالجزائر ، إضافة لقيام العدو الفرنسي بالهجوم على ساقية سيدي يوسف في 08/02/1958و سقوط عديد الشهداء التونسيين و الجزائريين لذا طالب بورقيبة حينها مستغلا نقطة التقاء الظرفية الداخلية ، الإستراتيجية ، الإقليمية و الدولية ،فرنسا بالانسحاب من قاعدة بنزرت خصوصا على اثر رفض فرنسا الدخول في مفاوضات حول بنزرت ، و تتالي المطالب الشعبية لاستكمال دولتنا الفتية حينها لكامل سيادتها على التراب التونسي بعد أن أصبحت قضية الجلاء شرطا من شروط الحكومة التونسية .

فهل كان الزعيم بورقيبة يريد المواجهة بأي ثمن حتى يغسل سمعته السياسية أمام المحافل الدولية ، و في منظومة عدم الانحياز ،و أمام قطاعات واسعة من السكان التونسيين التي انضمت إلى حركة الزعيم صالح بن يوسف حينها المعارض لاتفاقية الاستقلال المرحلي ؟ بخلاف بورقيبة إذ كان في حاجة أكيدة للخروج من موقع الولاء لفرنسا الذي وضعه فيه خصومه على الساحتين العربية و الدولية ، و كان تحقيق ذلك لا يمر حتما إلا عبر عمل قوي يجدد شرعيته كمعاد للاستعمار و كزعيم بلا منازع للتونسيين ؟ وهل كانت مثل هاته الحرب المفاجئة و المدمرة هي مواجهة لا بد من وقوعها و لا يمكن تفاديها ؟ خصوصا بعد العرض المسبق من الجنرال ديقول على بورقيبة في محادثات قصر رامبوبوي يوم 27/02/1961 أن يتواصل الحفاظ على قاعدة بنزرت أخر معاقل الجيش الفرنسي حتى استقلال الجزائر و حتى امتلاك فرنسا القوة النووية الرادعة بحيث يقع الاستغناء تلقائيا عن بنزرت ، و هل كان الزعيم الذي قادها و أقرها يقد حسب جيدا موازين القوى و أعد العدة اللازمة للمواجهة ؟ أم هو قذف بآلاف المتطوعين من الشباب المتحمس و الجنود البواسل في حرب خاطفة غير متكافئة أدت إلى سقوط ضحايا عديدة ؟ و هل كان بورقيبة فعلا متخوفا من التحاق الشباب المتحمس بحركة صالح بن يوسف و أن يساندها الجيش التونسي المتقد وطنية ؟ وهل كان يخشى أن يستغل بن يوسف هذه القوى الوطنية الحية لفائدة صفه المعادي لنظرية الاستقلال المرحلي ؟ و ما الذي يفسر حرصه على القذف بهذه الآلاف المؤلفة من الشباب ، و هؤلاء الأفواج من الجند والضباط البواسل في أتون حرب معروفة النتائج و من أجل جلاء مشروع وقع الاتفاق في موعده مسبقا في محادثات قصر رامبوبوي سنة 1961 و التي تحقق لاحقا في أكتوبر 1963؟ و هل كان الدمار الذي عرفته هذه الحرب ضروريا لتطهير السمعة السيئة التي تخبطت فيها سياسة المراحل التي توخاها بورقيبة منذ الاستقلال الداخلي ؟.

 لقد كان بورقيبة في سنة 1961 يعيش عزلة داخلية و خارجية مضنية و مرهقة لقواه ، وفي الوصول إلى حلها خصوصا على اثر العدوان على الجزائر انطلاقا من القاعدة الجوية الفرنسية حينها ببنزرت ، بحيث تضررت سمعته في المشرق العربي من هذا الأمر أيما ضرر ، حتى أن مؤتمر عدم الانحياز الذي انتظم في بلغراد سنة 1961 قد استدعى الزعيم صالح بن يوسف و استثنى الزعيم بورقيبة معتبرا إياه منحازا لفرنسا و تسبب ذلك في فرض عزلة سياسية عليه ، إضافة لعلاقته المتوترة حينها مع الجزائر و مصر.

لقد تم اتخاذ قرار المعركة التي كانت في الأصل سياسية الدوافع لعدم استعداد بورقيبة لتأجيلها كما حدث في جانفي 1960 نظرا لحالة الحماس الشعبي و خصوصا بعد توقف المحادثات و المراسلات بين طرفي النزاع في مارس 1961 و إعلان الأميرال " موريس مان " يوم 04/05/1961 توسعة ممر هبوط الطائرات بسيدي أحمد الجوية ، الذي اعتبره التونسيون سلوكا عدوانيا فأصدرت القيادة التونسية قرارا بحفر الخنادق و بناء جدران حول القاعدة الجوية لمحاصرتها ، في حالة اهتزت لها قيادة الجيش الفرنسي الذي يعتبر بنزرت ولاية بحرية فرنسية ، وتصاعدت وتيرة المواجهة المحتومة على اثر اجتماع الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري يوم 04/07/1961 من خلال دعوته لاتخاذ تدابير حول استرجاع قاعدة بنزرت خصوصا على اثر شروع الجيوش الفرنسية في إقامة منشات جديدة وتوسيع أرضية مطار القاعدة الجوية بسيدي أحمد و بدأت من بعدها بنزرت تستقبل وفود المتطوعين الذين هيأهم الحزب لخوض معركة الجلاء بجانب الجيش النظامي التونسي والحرس الوطني و تم إقامة السدود في كل مداخل المدينة لمراقبة تحركات الجيش الفرنسي إلى أن أعلن إعلان بورقيبة في اجتماع شعبي يوم 14/07/1961 بدء معركة الجلاء من بنزرت .

انطلقت هذه المعركة يوم 19/07/1961 و دامت أربعة أياما بين الجيشين الفرنسي و والتونسي ، إضافة لعديد المتطوعين من أبناء الوطن الذين توافدوا من كل أنحاء البلاد مسلحين بكثير من الحماس ، و قليل من العتاد ، و اختلف المؤرخون في تعداد شهدائها و اعتبرت من أهم المواجهات بين الشعب التونسي و الجيش التونسي الحديث العهد بالتأسيس من جهة وبين الجيش الفرنسي بكل قطاعاته البحرية و الجوية و البرية ، و تركت المعركة أثرا عميقا في الضمير الوطني التونسي وفي الذاكرة الجماعية باعتبارها حرب من قبيل المجازر والإبادة الذي ظل الجيش الفرنسي يقترفها في الجزائر لسنوات خصوصا مع انطلاق العدوان الفرنسي على بنزرت من قاعدتي المدية و البليدة الجزائريتين وما حصل يوم 21/07/1961 عند شروع قوات الاحتلال الفرنسية من احتلال بنزرت وعزلها عن بقية الجمهورية ، وقصف أحيائها بالقنابل واستعمالها لقنابل النابالم الحارقة إلا دليلا على ما تقدم ذكره.

بخصوص تحليل وقائع و أسباب ونتائج معركة بنزرت تعددت وجهات النظر و تفاوتت لالتماس أهم الحقائق التاريخية حولها، أولها رواية الزعيم بورقيبة والحزب الحر الدستوري التونسي ، التي أصبحت مع الزمن الرواية الرسمية وذلك من خلال العمل على استرجاع قاعدة بنزرت خصوصا على اثر شروع الجيش الفرنسي إقامة مشاءات جديدة وتوسيع أرضية مطار القاعدة الجوية سيدي أحمد إضافة لحالة الغليان الشعبي حينها بضرورة استكمال سيادة بلاده على كامل ترابه الوطني ، أما بخصوص أهالي بنزرت الذين عايشوا تلك المعركة فلقد اختلفت رواياتهم ، فالمناضل الوطني رشيد التراس رئيس بلدية بنزرت أيام حرب الجلاء ، وقائد المظاهرة التي قادها في 18/08/1961 بتكليف من الحزب و التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية بعد وقف إطلاق النار و قبل نظر مجلس الأمن في قضية بنزرت يوم 23/08/1961 بهدف خلق أجواء مناسبة تساعد على مناقشة وضع بنزرت في الأمم المتحدة وإقناعها بالجلاء، فخلال تقديمه لشهادته حول المعركة بجمعية صيانة المدينة بنزرت في إحدى دوراتها السنوية دعا إلى مراجعة كتابة تاريخ المعركة التي كانت ضرورية لكن الخسارة كانت أكبر وكان بالإمكان تفاديها حفاظا على الأرواح إلا أن بورقيبة اتخذ قرار المعركة رغم معارضة البعض فكان قرار الحرب مفاجئا للجميع خصوصا وأن المفاوضات بين بورقيبة و ديغول كانت قد خططت لمسار واضح فالخروج عن بنزرت سيكون بطريقة أوتوماتيكية وسلمية حال منح الجزائر استقلالها ، و بعد أن أصبحت فرنسا ممتلكة للسلاح النووي ،مسلكا لإرساء دعائم الحكم الفردي ،ومؤكدا أن نتائج و مسؤولية الحرب تتحملها القيادة السياسية التي كان من واجبها حماية أمن وسلامة الوطن والمواطنين .

بخلاف ذلك يرى المؤرخ رشيد الذوادي صاحب مؤلفات عديدة عن بنزرت مسقط رأسه والذي كان أول الكتاب الذين أرخوا لمعركة الجلاء من خلال مؤلفه " بنزرت أرض البطولات" والذي عايش ويلات المعركة ،وواحدا من الذين كتبوا عنها بالاعتماد على شهادة السياسيين والقادة الميدانيين حيث ذكر في مؤلفه المذكور أعلاه " أن ما جرى في بنزرت أثناء المعركة هو من قبيل الاعتداءات و الجرائم البشعة على شعب أعزل وعلى دولة ناشئة ترنو إلى تحرير أراضيها وبين قوتين غير متكافئتين فكانت الخسارة جسيمة خصوصا في صفوف المتطوعين من المدنيين تلبية لنداء تحرير الأرض ، تطوع فيها حتى اليوسفيين بوصفهم وطنيين حين كان الوطن يحتاج إلى الجميع".

أما الأطراف العسكرية التي شاركت في المعركة فاعتبر بعضهم أن الذي حدث في بنزرت لا يعتبر معركة و لا حرب ، و إنما تعتبر مجرد قضية تم خلالها ارتكاب عديد الأخطاء الفادحة من خلال الدخول لمعركة بنزرت بهذه الإمكانيات الحربية الهزيلة خصوصا من المدافع الانكليزية الكلاسيكية مقابل تفوق العدو عدة و عتاد الشيء الذي خلق جوا من التوتر بين القيادة السياسية و الجيش عند ارتفاع الضحايا التونسيين بدون موجب و خصوصا اثر سيطرة المظليين الفرنسيين على المدينة مدججين بما لديهم من طائرات وسيطرتهم على سماء المدينة ، لذا يستخلص مما تقدم ذكره أن تعاقب الروايات تدل على كتابة تاريخ معركة بنزرت ما تزال مفتوحة وعلى أن الشهادات الشخصية ستكون أهم مصادره ،كما أن الدعوة موجهة لفرنسا اليوم لفتح الأرشيف الخاص بمعركة بنزرت لتجاوز الإشكالات العالقة في ملف الذاكرة بين تونس وفرنسا .

تمكنت تونس على اثر هذه المعركة من تحقيق انجاز باهر على المستوى الدولي ، والعالم لتونس حينها بعد أن تم عرض قضية بنزرت على مجلس االذي أصدر قرارا بوقف القنابل في 22/07/1961 وإدانة العدوان يوم 23/08/1961 بعد نجاح الدبلوماسية التونسية في حشد الرأي العام العالمي لصفها ضد عدو غاشم وثالث قوة عالمية عسكرية حينها ، كما أن بورقيبة نجح عند قيامه بمغادرة محسوبه من جانبه رغم الخسائر حيث أمكن له بفضل ما تقدم ذكره من إعادة رسم صورته كأحد زعماء التحرر في العالم وتمكن لاحقا من تدعيم حكمه الفردي خصوصا بعد إجهاضه لانقلاب عسكري سنة 1962 و إعلانه سياسة الحزب الواحد الذي يقود مسيرة البلاد و التي عرفت بدورها نجاحات وإخفاقات تعرض لها العديد من المؤرخين والسياسيين لكشف مسيرة ونضال وحكم أول رئيس للجمهورية .

باحث و ناشط في الحقل الجمعياتي بمدينة بنزرت

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معركة  الجلاء عن بنزرت.. أكانت معركة  بورقيبة حينها أم معركة شعب لاسترجاع  تونس لسيادتها ؟

بقلم : الحبيب الذوادي

لقد واكبت بنزرت تاريخ تونس السياسي الحديث عاد أخذت قسطا وافرا من تاريخ الحركة الوطنية بفضل نخبة من أبنائها البررة ، فحرصت أن تكون هذه الجهة الشرارة الأولى في معارك شعبنا ضد الاستعمار ، الذي اتجه عن طريق البر في ماي 1881 إلى احتلال بنزرت ، فما أن أشرق يوم 5 ماي من تلك السنة حتى وطأت أقدام آلاف الجنود أرضها لأهمية استراتجيتها العسكرية لدى الجانب الفرنسي ، الشيء الذي دفع الإقامة العامة الفرنسية لاحقا إلى عقد اتفاقية ، خاصة ببنزرت في مارس 1942 و التي قدمت للباي لإمضائها حيث تم اعتبار بنزرت حينها و منشاتها العسكرية و مياهما الإقليمية منطقة خارجة عن الترتب التونسي و اعتبارها ولاية بحرية فرنسية .

 بنزرت واكبت مختلف المحطات النضالية ضد المستعمر الفرنسي بفضل صمود أبنائها خصوصا خلال مواجهات سنوات 1952 و 1954 حين تخلى بورقيبة عن الخيار السلمي لنيل الاستقلال الذي تم التحصل عليه في 20/03/1956 و تم على إثرها إلغاء الحماية ، تلاه مباشرة بيان توضيحي من الحكومة الفرنسية جاء فيه " إن اتفاق مارس 1956 لا يغير وضع الجيش الفرنسي في الأراضي التونسية ، إذ سيبقى في موقعه و يواصل القيام بالمهام الموكولة إليه " و قد أكد ذلك اتفاق 5 أكتوبر 1956 الذي يتيح للفرنسيين حماية مصالحهم الموجودة على الأراضي التونسية و مراقبة حدودها البحرية ومجالها الجوي .

 تبعا لما تقدم ذكره واصلت فرنسا إبقاء جيشها لا بعدة مناطق بالبلاد التونسية خصوصا بمنطقة رمادة ، التي عرفت لاحقا مواجهات مسلحة في 24 و 25 ماي 1958 ، أما بشمال البلاد فرغم اعتراف فرنسا بالسيادة التونسية على بنزرت إلا أنها رفضت التفاوض حول نظام القاعدة العسكرية ( الجوية و البحرية) لأهمية موقعها الاستراتيجي إلى حين تحديد وضعها النهائي مغتنمة إياها للقيام بعمليات عسكرية ضد الجزائر التي تصاعدت ثورتها حينها بتتالي انتصاراتها ، حيث مثلت تونس حينها للجزائر قاعدة خلفية على المستوى السياسي بتواجد حكومتها المؤقتة في الأراضي التونسية مقابل ارتباط مصير الحضور الاستعماري ببنزرت بمصير حضوره بالجزائر ، إضافة لقيام العدو الفرنسي بالهجوم على ساقية سيدي يوسف في 08/02/1958و سقوط عديد الشهداء التونسيين و الجزائريين لذا طالب بورقيبة حينها مستغلا نقطة التقاء الظرفية الداخلية ، الإستراتيجية ، الإقليمية و الدولية ،فرنسا بالانسحاب من قاعدة بنزرت خصوصا على اثر رفض فرنسا الدخول في مفاوضات حول بنزرت ، و تتالي المطالب الشعبية لاستكمال دولتنا الفتية حينها لكامل سيادتها على التراب التونسي بعد أن أصبحت قضية الجلاء شرطا من شروط الحكومة التونسية .

فهل كان الزعيم بورقيبة يريد المواجهة بأي ثمن حتى يغسل سمعته السياسية أمام المحافل الدولية ، و في منظومة عدم الانحياز ،و أمام قطاعات واسعة من السكان التونسيين التي انضمت إلى حركة الزعيم صالح بن يوسف حينها المعارض لاتفاقية الاستقلال المرحلي ؟ بخلاف بورقيبة إذ كان في حاجة أكيدة للخروج من موقع الولاء لفرنسا الذي وضعه فيه خصومه على الساحتين العربية و الدولية ، و كان تحقيق ذلك لا يمر حتما إلا عبر عمل قوي يجدد شرعيته كمعاد للاستعمار و كزعيم بلا منازع للتونسيين ؟ وهل كانت مثل هاته الحرب المفاجئة و المدمرة هي مواجهة لا بد من وقوعها و لا يمكن تفاديها ؟ خصوصا بعد العرض المسبق من الجنرال ديقول على بورقيبة في محادثات قصر رامبوبوي يوم 27/02/1961 أن يتواصل الحفاظ على قاعدة بنزرت أخر معاقل الجيش الفرنسي حتى استقلال الجزائر و حتى امتلاك فرنسا القوة النووية الرادعة بحيث يقع الاستغناء تلقائيا عن بنزرت ، و هل كان الزعيم الذي قادها و أقرها يقد حسب جيدا موازين القوى و أعد العدة اللازمة للمواجهة ؟ أم هو قذف بآلاف المتطوعين من الشباب المتحمس و الجنود البواسل في حرب خاطفة غير متكافئة أدت إلى سقوط ضحايا عديدة ؟ و هل كان بورقيبة فعلا متخوفا من التحاق الشباب المتحمس بحركة صالح بن يوسف و أن يساندها الجيش التونسي المتقد وطنية ؟ وهل كان يخشى أن يستغل بن يوسف هذه القوى الوطنية الحية لفائدة صفه المعادي لنظرية الاستقلال المرحلي ؟ و ما الذي يفسر حرصه على القذف بهذه الآلاف المؤلفة من الشباب ، و هؤلاء الأفواج من الجند والضباط البواسل في أتون حرب معروفة النتائج و من أجل جلاء مشروع وقع الاتفاق في موعده مسبقا في محادثات قصر رامبوبوي سنة 1961 و التي تحقق لاحقا في أكتوبر 1963؟ و هل كان الدمار الذي عرفته هذه الحرب ضروريا لتطهير السمعة السيئة التي تخبطت فيها سياسة المراحل التي توخاها بورقيبة منذ الاستقلال الداخلي ؟.

 لقد كان بورقيبة في سنة 1961 يعيش عزلة داخلية و خارجية مضنية و مرهقة لقواه ، وفي الوصول إلى حلها خصوصا على اثر العدوان على الجزائر انطلاقا من القاعدة الجوية الفرنسية حينها ببنزرت ، بحيث تضررت سمعته في المشرق العربي من هذا الأمر أيما ضرر ، حتى أن مؤتمر عدم الانحياز الذي انتظم في بلغراد سنة 1961 قد استدعى الزعيم صالح بن يوسف و استثنى الزعيم بورقيبة معتبرا إياه منحازا لفرنسا و تسبب ذلك في فرض عزلة سياسية عليه ، إضافة لعلاقته المتوترة حينها مع الجزائر و مصر.

لقد تم اتخاذ قرار المعركة التي كانت في الأصل سياسية الدوافع لعدم استعداد بورقيبة لتأجيلها كما حدث في جانفي 1960 نظرا لحالة الحماس الشعبي و خصوصا بعد توقف المحادثات و المراسلات بين طرفي النزاع في مارس 1961 و إعلان الأميرال " موريس مان " يوم 04/05/1961 توسعة ممر هبوط الطائرات بسيدي أحمد الجوية ، الذي اعتبره التونسيون سلوكا عدوانيا فأصدرت القيادة التونسية قرارا بحفر الخنادق و بناء جدران حول القاعدة الجوية لمحاصرتها ، في حالة اهتزت لها قيادة الجيش الفرنسي الذي يعتبر بنزرت ولاية بحرية فرنسية ، وتصاعدت وتيرة المواجهة المحتومة على اثر اجتماع الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري يوم 04/07/1961 من خلال دعوته لاتخاذ تدابير حول استرجاع قاعدة بنزرت خصوصا على اثر شروع الجيوش الفرنسية في إقامة منشات جديدة وتوسيع أرضية مطار القاعدة الجوية بسيدي أحمد و بدأت من بعدها بنزرت تستقبل وفود المتطوعين الذين هيأهم الحزب لخوض معركة الجلاء بجانب الجيش النظامي التونسي والحرس الوطني و تم إقامة السدود في كل مداخل المدينة لمراقبة تحركات الجيش الفرنسي إلى أن أعلن إعلان بورقيبة في اجتماع شعبي يوم 14/07/1961 بدء معركة الجلاء من بنزرت .

انطلقت هذه المعركة يوم 19/07/1961 و دامت أربعة أياما بين الجيشين الفرنسي و والتونسي ، إضافة لعديد المتطوعين من أبناء الوطن الذين توافدوا من كل أنحاء البلاد مسلحين بكثير من الحماس ، و قليل من العتاد ، و اختلف المؤرخون في تعداد شهدائها و اعتبرت من أهم المواجهات بين الشعب التونسي و الجيش التونسي الحديث العهد بالتأسيس من جهة وبين الجيش الفرنسي بكل قطاعاته البحرية و الجوية و البرية ، و تركت المعركة أثرا عميقا في الضمير الوطني التونسي وفي الذاكرة الجماعية باعتبارها حرب من قبيل المجازر والإبادة الذي ظل الجيش الفرنسي يقترفها في الجزائر لسنوات خصوصا مع انطلاق العدوان الفرنسي على بنزرت من قاعدتي المدية و البليدة الجزائريتين وما حصل يوم 21/07/1961 عند شروع قوات الاحتلال الفرنسية من احتلال بنزرت وعزلها عن بقية الجمهورية ، وقصف أحيائها بالقنابل واستعمالها لقنابل النابالم الحارقة إلا دليلا على ما تقدم ذكره.

بخصوص تحليل وقائع و أسباب ونتائج معركة بنزرت تعددت وجهات النظر و تفاوتت لالتماس أهم الحقائق التاريخية حولها، أولها رواية الزعيم بورقيبة والحزب الحر الدستوري التونسي ، التي أصبحت مع الزمن الرواية الرسمية وذلك من خلال العمل على استرجاع قاعدة بنزرت خصوصا على اثر شروع الجيش الفرنسي إقامة مشاءات جديدة وتوسيع أرضية مطار القاعدة الجوية سيدي أحمد إضافة لحالة الغليان الشعبي حينها بضرورة استكمال سيادة بلاده على كامل ترابه الوطني ، أما بخصوص أهالي بنزرت الذين عايشوا تلك المعركة فلقد اختلفت رواياتهم ، فالمناضل الوطني رشيد التراس رئيس بلدية بنزرت أيام حرب الجلاء ، وقائد المظاهرة التي قادها في 18/08/1961 بتكليف من الحزب و التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية بعد وقف إطلاق النار و قبل نظر مجلس الأمن في قضية بنزرت يوم 23/08/1961 بهدف خلق أجواء مناسبة تساعد على مناقشة وضع بنزرت في الأمم المتحدة وإقناعها بالجلاء، فخلال تقديمه لشهادته حول المعركة بجمعية صيانة المدينة بنزرت في إحدى دوراتها السنوية دعا إلى مراجعة كتابة تاريخ المعركة التي كانت ضرورية لكن الخسارة كانت أكبر وكان بالإمكان تفاديها حفاظا على الأرواح إلا أن بورقيبة اتخذ قرار المعركة رغم معارضة البعض فكان قرار الحرب مفاجئا للجميع خصوصا وأن المفاوضات بين بورقيبة و ديغول كانت قد خططت لمسار واضح فالخروج عن بنزرت سيكون بطريقة أوتوماتيكية وسلمية حال منح الجزائر استقلالها ، و بعد أن أصبحت فرنسا ممتلكة للسلاح النووي ،مسلكا لإرساء دعائم الحكم الفردي ،ومؤكدا أن نتائج و مسؤولية الحرب تتحملها القيادة السياسية التي كان من واجبها حماية أمن وسلامة الوطن والمواطنين .

بخلاف ذلك يرى المؤرخ رشيد الذوادي صاحب مؤلفات عديدة عن بنزرت مسقط رأسه والذي كان أول الكتاب الذين أرخوا لمعركة الجلاء من خلال مؤلفه " بنزرت أرض البطولات" والذي عايش ويلات المعركة ،وواحدا من الذين كتبوا عنها بالاعتماد على شهادة السياسيين والقادة الميدانيين حيث ذكر في مؤلفه المذكور أعلاه " أن ما جرى في بنزرت أثناء المعركة هو من قبيل الاعتداءات و الجرائم البشعة على شعب أعزل وعلى دولة ناشئة ترنو إلى تحرير أراضيها وبين قوتين غير متكافئتين فكانت الخسارة جسيمة خصوصا في صفوف المتطوعين من المدنيين تلبية لنداء تحرير الأرض ، تطوع فيها حتى اليوسفيين بوصفهم وطنيين حين كان الوطن يحتاج إلى الجميع".

أما الأطراف العسكرية التي شاركت في المعركة فاعتبر بعضهم أن الذي حدث في بنزرت لا يعتبر معركة و لا حرب ، و إنما تعتبر مجرد قضية تم خلالها ارتكاب عديد الأخطاء الفادحة من خلال الدخول لمعركة بنزرت بهذه الإمكانيات الحربية الهزيلة خصوصا من المدافع الانكليزية الكلاسيكية مقابل تفوق العدو عدة و عتاد الشيء الذي خلق جوا من التوتر بين القيادة السياسية و الجيش عند ارتفاع الضحايا التونسيين بدون موجب و خصوصا اثر سيطرة المظليين الفرنسيين على المدينة مدججين بما لديهم من طائرات وسيطرتهم على سماء المدينة ، لذا يستخلص مما تقدم ذكره أن تعاقب الروايات تدل على كتابة تاريخ معركة بنزرت ما تزال مفتوحة وعلى أن الشهادات الشخصية ستكون أهم مصادره ،كما أن الدعوة موجهة لفرنسا اليوم لفتح الأرشيف الخاص بمعركة بنزرت لتجاوز الإشكالات العالقة في ملف الذاكرة بين تونس وفرنسا .

تمكنت تونس على اثر هذه المعركة من تحقيق انجاز باهر على المستوى الدولي ، والعالم لتونس حينها بعد أن تم عرض قضية بنزرت على مجلس االذي أصدر قرارا بوقف القنابل في 22/07/1961 وإدانة العدوان يوم 23/08/1961 بعد نجاح الدبلوماسية التونسية في حشد الرأي العام العالمي لصفها ضد عدو غاشم وثالث قوة عالمية عسكرية حينها ، كما أن بورقيبة نجح عند قيامه بمغادرة محسوبه من جانبه رغم الخسائر حيث أمكن له بفضل ما تقدم ذكره من إعادة رسم صورته كأحد زعماء التحرر في العالم وتمكن لاحقا من تدعيم حكمه الفردي خصوصا بعد إجهاضه لانقلاب عسكري سنة 1962 و إعلانه سياسة الحزب الواحد الذي يقود مسيرة البلاد و التي عرفت بدورها نجاحات وإخفاقات تعرض لها العديد من المؤرخين والسياسيين لكشف مسيرة ونضال وحكم أول رئيس للجمهورية .

باحث و ناشط في الحقل الجمعياتي بمدينة بنزرت