إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ولنا في التّاريخ عبر ومواقف... يا أولي الألباب

بقلم:مصدّق الشّريف

لا يُنكر عاقل أنّ أوضاع بلادنا السياسيّة والاقتصادية والثقافية متأزمة ولا سيّما الاجتماعية منها. ويوجد شبه اقتناع لدى أغلبيّة الشعب التونسي بمختلف فئاته وشرائحه أنّ الآفاق مسدودة ومن الصّعب جدّا التّكهّن بما ينتظر بلادنا من أحداث على جميع المستويات. ومع اشتعال الأسعار المتصاعد وغير المسبوق وغياب المواد الضّروريّة المعيشيّة في الأسواق والمغازات الصّغرى والكبرى، يُرجّح كثير من السياسيّين والإعلاميّين والمتابعين للشّأن العام أنّ احتقانا اجتماعيّا وما سيتبعه من فوضى وانفلات أمنيّ وارد في قادم الأيّام.

واليوم، أصبحت بلادنا على قاب قوسين أو أدنى من القحط الذي يُنذر بشبه المجاعة. وصار التّدافع في المغازات والمحلاّت من أجل الظّفر بعلبة حليب أو كيس سكّر صغير أمرا يوميّا وعاديّا. وانتشرت الفيديوهات التي توثّق هذا المشهد على مواقع التّواصل الاجتماعي في تونس وخارجها حتّى اتّخذ منها أحد الإعلاميّين المصريّين موضوعا للتّعليق عليه في برنامجه. وعلى إثر ذلك، أقيمت الدّنيا ولم تقعد في وسائل الإعلام التونسيّة. واعتبر كثيرون أنّ لهجة الإعلاميّ المصريّ لا تخلو من التّهكم والسّخرية من الأوضاع الاجتماعيّة التي يعيشها الشعب التونسي جرّاء عدم توفر المواد الأساسية وارتفاع نسبة التضخم المالي ارتفاعا صاروخيّا لم تشهده تونس قطّ منذ عقود متتالية. فيما رأى بعضهم في التعليق الإعلاميّ المذكور تلميحا لتفشّي الحقد والتّباغض بين التونسيّين وتهديدا لسلم البلاد الاجتماعيّة ممّا قد يؤدّي إلى حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس.

وفي اعتقادنا أنّ ردود الفعل حول ما قاله الإعلاميّ المصريّ كانت مفعمة بالحميّة. وقد طغى عليها منطق النعرات التي تؤجّج خطاب الكراهيّة بين الاعلاميّين التونسيّين والمصريّين. ولمسنا فيها أيضا إعلان حرب كلاميّة لا تخلو من السّب والشّتم فلسان حال بعضهم كان يقول: "داركم بالبلوّر فلا تضربوا النّاس بالحجارة. وأوضاعكم في الماضي القريب أفظع من التي عندنا. ولا فرق بين مستوى معيشة أبناء الشعب المصري المنحدر إلى الحضيض وبين ما عانته الكثير من الدّول الافريقيّة من فقر مدقع ومجاعة انتشرت بسببها الأمراض وتضاعفت نتيجتها الوفيّات".

ومن ناحيتنا، نرى أنّ من الأجدر بنا، حين تتردّى أوضاعنا وتتفاقم أزماتنا، أن نتوقّف عند أسباب العلل ونكشفها كما هي بكلّ عيوبها بعيدا عن اللّف والدّوران أو التّبرير أو معايرة الآخر، إن تعلّقت همّتنا بالنّهوض ونشدان الأفضل وقطع الصّلة بالدّمار والخراب. فليست نهاية الكون أن تُسدّ أمامنا الآفاق ونظلّ داخل النّفق المظلم طويلا. ولكنّ الخطير القاتل أن نلعب دور الضّحية ونُبرّر واقعنا. وإنّ العبر الموجعة والدّروس المؤلمة هي التي تصنع النّساء والرّجال والتاريخ وتُحيي الشجر والأرض كلّها بعد موتها.

" وقف أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش الملك فرديناند والملكة إيزابلا سنة 1492 على شاطئ الخليج الرّومي تحت ذيل جبل طارق قبل النّزول إلى السّفينة المعدّة لحمله إلى إفريقيا وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر فألقى على ملكه نظرة طويلة لم يسترجعها إلاّ مبلّلة بالدّمع، ثم أدنى رداءه من وجهه وأنشأ يبكي بكاء مرّا حتّى بكى من حوله لبكائه، إلاّ شيخا ناسكا كان واقفا يُشرف عليه فقد قال له:

نعم.. لك أن تبكي أيّه الملك السّاقط على ملكك بكاء النّساء فإنّك لم تحتفظ به احتفاظ الرّجال. إنك ضحكت بالأمس كثيرًا، فابكِ اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس، فالسرور نهار الحياة والحزن ليلها، ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم.

لو أن ما ذهب من يدك من ملكك ذهب بصدمةٍ من صدمات القدر، أو نازلةٍ من نوازل القضاء، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة، لهان أمره عليك، أما وقد أضعته بيدك، وأسلمته إلى عدوك باختيارك، فابكِ عليه بكاء النادم المتفجِّع الذي لا يجد له عن مصابه عزاءً ولا سلوى." (المنفلوطي)

 

 

 

 

ولنا في التّاريخ عبر ومواقف... يا أولي الألباب

بقلم:مصدّق الشّريف

لا يُنكر عاقل أنّ أوضاع بلادنا السياسيّة والاقتصادية والثقافية متأزمة ولا سيّما الاجتماعية منها. ويوجد شبه اقتناع لدى أغلبيّة الشعب التونسي بمختلف فئاته وشرائحه أنّ الآفاق مسدودة ومن الصّعب جدّا التّكهّن بما ينتظر بلادنا من أحداث على جميع المستويات. ومع اشتعال الأسعار المتصاعد وغير المسبوق وغياب المواد الضّروريّة المعيشيّة في الأسواق والمغازات الصّغرى والكبرى، يُرجّح كثير من السياسيّين والإعلاميّين والمتابعين للشّأن العام أنّ احتقانا اجتماعيّا وما سيتبعه من فوضى وانفلات أمنيّ وارد في قادم الأيّام.

واليوم، أصبحت بلادنا على قاب قوسين أو أدنى من القحط الذي يُنذر بشبه المجاعة. وصار التّدافع في المغازات والمحلاّت من أجل الظّفر بعلبة حليب أو كيس سكّر صغير أمرا يوميّا وعاديّا. وانتشرت الفيديوهات التي توثّق هذا المشهد على مواقع التّواصل الاجتماعي في تونس وخارجها حتّى اتّخذ منها أحد الإعلاميّين المصريّين موضوعا للتّعليق عليه في برنامجه. وعلى إثر ذلك، أقيمت الدّنيا ولم تقعد في وسائل الإعلام التونسيّة. واعتبر كثيرون أنّ لهجة الإعلاميّ المصريّ لا تخلو من التّهكم والسّخرية من الأوضاع الاجتماعيّة التي يعيشها الشعب التونسي جرّاء عدم توفر المواد الأساسية وارتفاع نسبة التضخم المالي ارتفاعا صاروخيّا لم تشهده تونس قطّ منذ عقود متتالية. فيما رأى بعضهم في التعليق الإعلاميّ المذكور تلميحا لتفشّي الحقد والتّباغض بين التونسيّين وتهديدا لسلم البلاد الاجتماعيّة ممّا قد يؤدّي إلى حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس.

وفي اعتقادنا أنّ ردود الفعل حول ما قاله الإعلاميّ المصريّ كانت مفعمة بالحميّة. وقد طغى عليها منطق النعرات التي تؤجّج خطاب الكراهيّة بين الاعلاميّين التونسيّين والمصريّين. ولمسنا فيها أيضا إعلان حرب كلاميّة لا تخلو من السّب والشّتم فلسان حال بعضهم كان يقول: "داركم بالبلوّر فلا تضربوا النّاس بالحجارة. وأوضاعكم في الماضي القريب أفظع من التي عندنا. ولا فرق بين مستوى معيشة أبناء الشعب المصري المنحدر إلى الحضيض وبين ما عانته الكثير من الدّول الافريقيّة من فقر مدقع ومجاعة انتشرت بسببها الأمراض وتضاعفت نتيجتها الوفيّات".

ومن ناحيتنا، نرى أنّ من الأجدر بنا، حين تتردّى أوضاعنا وتتفاقم أزماتنا، أن نتوقّف عند أسباب العلل ونكشفها كما هي بكلّ عيوبها بعيدا عن اللّف والدّوران أو التّبرير أو معايرة الآخر، إن تعلّقت همّتنا بالنّهوض ونشدان الأفضل وقطع الصّلة بالدّمار والخراب. فليست نهاية الكون أن تُسدّ أمامنا الآفاق ونظلّ داخل النّفق المظلم طويلا. ولكنّ الخطير القاتل أن نلعب دور الضّحية ونُبرّر واقعنا. وإنّ العبر الموجعة والدّروس المؤلمة هي التي تصنع النّساء والرّجال والتاريخ وتُحيي الشجر والأرض كلّها بعد موتها.

" وقف أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش الملك فرديناند والملكة إيزابلا سنة 1492 على شاطئ الخليج الرّومي تحت ذيل جبل طارق قبل النّزول إلى السّفينة المعدّة لحمله إلى إفريقيا وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر فألقى على ملكه نظرة طويلة لم يسترجعها إلاّ مبلّلة بالدّمع، ثم أدنى رداءه من وجهه وأنشأ يبكي بكاء مرّا حتّى بكى من حوله لبكائه، إلاّ شيخا ناسكا كان واقفا يُشرف عليه فقد قال له:

نعم.. لك أن تبكي أيّه الملك السّاقط على ملكك بكاء النّساء فإنّك لم تحتفظ به احتفاظ الرّجال. إنك ضحكت بالأمس كثيرًا، فابكِ اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس، فالسرور نهار الحياة والحزن ليلها، ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم.

لو أن ما ذهب من يدك من ملكك ذهب بصدمةٍ من صدمات القدر، أو نازلةٍ من نوازل القضاء، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة، لهان أمره عليك، أما وقد أضعته بيدك، وأسلمته إلى عدوك باختيارك، فابكِ عليه بكاء النادم المتفجِّع الذي لا يجد له عن مصابه عزاءً ولا سلوى." (المنفلوطي)