إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

محمد ألڤَرفي يكتب للصباح: بين الموسيقى والسياسة (1)

يعتني الباحثون في السنوات الأخيرة بدراسة العلاقة بين الفن والسياسة خصوصا أن موسيقى الأنظمة الدكتاتورية مجال رحب لدراسة هذه العلاقة لأنها إحدى أدوات البروباغندا السياسية. وقد أثبتت الدراسات مدى تشعب العلاقات التي يربطها الموسيقيون مع السلطة في الأنظمة السياسية الدكتاتورية المعروفة بأنها ذات كُتلة واحدة. وفي بلدان كثيرة بيّن تحليل آليات الرقابة وبناء الولاءات وإدارة الصراعات الداخلية ولحظات القطيعة والتواصل مع الأنظمة السابقة أن تعددَ وسائل التفاوض واستمرارَ نفس السياق أمّن تواصل حياة موسيقية كبيرة ومبدعة بالرغم من غياب الحرية السياسية في أحلك الفترات من تاريخ القرن العشرين.

من بين الإبداعات الثقافية المختلفة التي تخيّلها الإنسان توفر الموسيقى في مفهومها العام مجالا خصبا لرصد آلياتها السيكولوجية والجمالية والسوسيولوجية والسياسية. فالموسيقى كظاهرة كونية مؤكدة منذ القدم تبين أن ترتيب الأنغام بسيطا كان أو مركّبا ليس فعلا اعتباطيا ولكنه عنصر هام من بين مكونات الحياة الاجتماعية يسهم في صنع أشكال التعبير الدقيقة والمعقدة.

وبصفتها أداةَ اتصال ذاتَ بُعد كوني فإن الموسيقى ليست منفصلة عن الرهانات الاجتماعية المتعلقة بمكان أو زمان أو كيان بشري ما. فسواء كانت عملا فرديا أو تعبيرا جماعيا فإنها كفعل ثقافي تُسهم عن قصد أو دونَه في بناء جمالياتٍ واتجاهاتٍ وظواهرَ اجتماعيةٍ كما تعكس بأدواتها الخاصة صورةً متغيرةً لإنتاج وسيط ذي خصوصية متميزة.

ويتساءل الباحث الأرجنتيني EstebanBuch(1971) في كتابه "السيمفونية التاسعة لبيتهوفن" عن المدلول السياسي للموسيقى وعن معنى التركيب التعبيري (الموسيقى السياسية). من جهة أخرى يطرح المؤلف الموسيقي الفرنسي المعاصرFrançois Nicolas(1947)أسئلة تكميلية تتعلق بالسياسة والأخلاق ونوعية التلقي وأخيرا بالتاريخ ويتساءل:

(هل تعرف سياسةُ نظامٍ ما كيف تستمع إلى قصيدة شعر ؟ وأكثر من ذلك هل تعرف كيف تستمع إلى عمل موسيقي ؟ الخلاصة هي أن السياسة لم تستمع أبدا إلى مؤلفة موسيقية ولا تعرف حتى كيف تستمع إليها بدليل أن السياسة النازية التي اعتبرت موسيقى ريتشارد فاغنرWagner خير ما يعبر عن الروح الوطنية الجرمانية لم تستمع إليها).

وهكذا فإن رجل السياسة على حد تعبيره لا يعتني بالموسيقى أو بالمؤلفات الموسيقية ولكنه يهتم عادة بالموسيقيين طبقا لنمطين اثنين لنا منهم الكثيرون:

- الأول حكومي حيث تتكفل الدولة بالمؤسسات الموسيقية

- الثاني حزبي حيث تتولى التنظيمات السياسية تكليفَ موسيقيين يضمَنون ترويج أفكارها بصفتهم رفقاءَ في المسيرة ويخضعون للتسخير باستمرار مقابل الاعتراف بهم كموسيقيين رسميين لهم مكانة في المجتمع.

لكن العصر الحديث رأى تمرّدا لدى كثير من المؤلفين الموسيقيين الذين لم ينخرطوا في هذا التسخير وظلوا على حريتهم في التعبير واختاروا الاتجاه الأنسب لتجربتهم الفكرية والسياسية. ومن هؤلاء الفنانين وفي الوطن العربي عائلةُ الرحباني الموسعة أي الأخوين عاصي ومنصور وأبناءُهما الذين يتميزون بصفتهم الموسيقية الأكيدة وبطرحهم لهموم المجتمع اللبناني تجاه مؤثرات بيئته المحيطة بما تحمله من متناقضات اجتماعية ودينية وسياسية.

والجدير بالذكر أنه لا يكفي أن تكون لدى المؤلف الموسيقي نية سياسية أو موضوع سياسي أو غاية سياسية مقصودة لإنتاجه كي يُنعت عمله بالموسيقى السياسية. وليس لأن الموسيقى والغناءَ خاصة تطرق مواضيع تهُم حياة الناس اليومية والتي للسياسة علاقةٌ بتكييفها حتى نضعها في خانة السياسة. فالوظيفة الاجتماعية للموسيقى هي التعبير عن مشاغل الناس ولسان حالهم الوجداني والمادي فردا وجماعة. ومن خصوصياتها المميزة أنها تحقق مباشرة وبسرعة بفضل وسائل النشر الحديثة من اتصال ووسائط بلوغَ الخطاب من الفم إلى الأذن دون تماس بشري ودون شروطَ ماديةٍ خاصة مثلما يتطلبه المكتوب مثلا.

(يتبع)

محمد ألڤَرفي يكتب للصباح: بين الموسيقى والسياسة (1)

يعتني الباحثون في السنوات الأخيرة بدراسة العلاقة بين الفن والسياسة خصوصا أن موسيقى الأنظمة الدكتاتورية مجال رحب لدراسة هذه العلاقة لأنها إحدى أدوات البروباغندا السياسية. وقد أثبتت الدراسات مدى تشعب العلاقات التي يربطها الموسيقيون مع السلطة في الأنظمة السياسية الدكتاتورية المعروفة بأنها ذات كُتلة واحدة. وفي بلدان كثيرة بيّن تحليل آليات الرقابة وبناء الولاءات وإدارة الصراعات الداخلية ولحظات القطيعة والتواصل مع الأنظمة السابقة أن تعددَ وسائل التفاوض واستمرارَ نفس السياق أمّن تواصل حياة موسيقية كبيرة ومبدعة بالرغم من غياب الحرية السياسية في أحلك الفترات من تاريخ القرن العشرين.

من بين الإبداعات الثقافية المختلفة التي تخيّلها الإنسان توفر الموسيقى في مفهومها العام مجالا خصبا لرصد آلياتها السيكولوجية والجمالية والسوسيولوجية والسياسية. فالموسيقى كظاهرة كونية مؤكدة منذ القدم تبين أن ترتيب الأنغام بسيطا كان أو مركّبا ليس فعلا اعتباطيا ولكنه عنصر هام من بين مكونات الحياة الاجتماعية يسهم في صنع أشكال التعبير الدقيقة والمعقدة.

وبصفتها أداةَ اتصال ذاتَ بُعد كوني فإن الموسيقى ليست منفصلة عن الرهانات الاجتماعية المتعلقة بمكان أو زمان أو كيان بشري ما. فسواء كانت عملا فرديا أو تعبيرا جماعيا فإنها كفعل ثقافي تُسهم عن قصد أو دونَه في بناء جمالياتٍ واتجاهاتٍ وظواهرَ اجتماعيةٍ كما تعكس بأدواتها الخاصة صورةً متغيرةً لإنتاج وسيط ذي خصوصية متميزة.

ويتساءل الباحث الأرجنتيني EstebanBuch(1971) في كتابه "السيمفونية التاسعة لبيتهوفن" عن المدلول السياسي للموسيقى وعن معنى التركيب التعبيري (الموسيقى السياسية). من جهة أخرى يطرح المؤلف الموسيقي الفرنسي المعاصرFrançois Nicolas(1947)أسئلة تكميلية تتعلق بالسياسة والأخلاق ونوعية التلقي وأخيرا بالتاريخ ويتساءل:

(هل تعرف سياسةُ نظامٍ ما كيف تستمع إلى قصيدة شعر ؟ وأكثر من ذلك هل تعرف كيف تستمع إلى عمل موسيقي ؟ الخلاصة هي أن السياسة لم تستمع أبدا إلى مؤلفة موسيقية ولا تعرف حتى كيف تستمع إليها بدليل أن السياسة النازية التي اعتبرت موسيقى ريتشارد فاغنرWagner خير ما يعبر عن الروح الوطنية الجرمانية لم تستمع إليها).

وهكذا فإن رجل السياسة على حد تعبيره لا يعتني بالموسيقى أو بالمؤلفات الموسيقية ولكنه يهتم عادة بالموسيقيين طبقا لنمطين اثنين لنا منهم الكثيرون:

- الأول حكومي حيث تتكفل الدولة بالمؤسسات الموسيقية

- الثاني حزبي حيث تتولى التنظيمات السياسية تكليفَ موسيقيين يضمَنون ترويج أفكارها بصفتهم رفقاءَ في المسيرة ويخضعون للتسخير باستمرار مقابل الاعتراف بهم كموسيقيين رسميين لهم مكانة في المجتمع.

لكن العصر الحديث رأى تمرّدا لدى كثير من المؤلفين الموسيقيين الذين لم ينخرطوا في هذا التسخير وظلوا على حريتهم في التعبير واختاروا الاتجاه الأنسب لتجربتهم الفكرية والسياسية. ومن هؤلاء الفنانين وفي الوطن العربي عائلةُ الرحباني الموسعة أي الأخوين عاصي ومنصور وأبناءُهما الذين يتميزون بصفتهم الموسيقية الأكيدة وبطرحهم لهموم المجتمع اللبناني تجاه مؤثرات بيئته المحيطة بما تحمله من متناقضات اجتماعية ودينية وسياسية.

والجدير بالذكر أنه لا يكفي أن تكون لدى المؤلف الموسيقي نية سياسية أو موضوع سياسي أو غاية سياسية مقصودة لإنتاجه كي يُنعت عمله بالموسيقى السياسية. وليس لأن الموسيقى والغناءَ خاصة تطرق مواضيع تهُم حياة الناس اليومية والتي للسياسة علاقةٌ بتكييفها حتى نضعها في خانة السياسة. فالوظيفة الاجتماعية للموسيقى هي التعبير عن مشاغل الناس ولسان حالهم الوجداني والمادي فردا وجماعة. ومن خصوصياتها المميزة أنها تحقق مباشرة وبسرعة بفضل وسائل النشر الحديثة من اتصال ووسائط بلوغَ الخطاب من الفم إلى الأذن دون تماس بشري ودون شروطَ ماديةٍ خاصة مثلما يتطلبه المكتوب مثلا.

(يتبع)

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews