إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح.. ليبيا: أنصار القذافي المُستفيد الأول من الحركات الاحتجاجية

بقلم: رشيد خشانة*

تفجر غضب الليبيين بعد يوم واحد من انتهاء المساومات بين الرجلين القويين عقيلة صالح وخالد المشري في جنيف. وفي سابقة غير مألوفة انطلق المتظاهرون في طرابلس إلى مقر رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، لكن لم تحدث صدامات مع الحراس، على ما يبدو. وانطلقت في الآن نفسه، أي بعد إخفاق محادثات جنيف، مظاهرات أخرى في كل من بنغازي والبيضاء ومصراتة وبعض المدن الأصغر. وما سهل التجاوب مع تلك الشعارات ضنك الأوضاع الاجتماعية، التي بات يعيش فيها الليبيون جراء الانقطاعات الكثيرة للكهرباء، وعلاقة ذلك بفساد الطبقة السياسية برمتها. ويمكن القول إن من يقدر على تعبئة كل هؤلاء المتظاهرين، في وقت واحد وبشعارات موحدة تُدين الحكام السابقين واللاحقين، هم من يُعرفون بـ"الخُضر"، وهم أنصار النظام السابق الذين مازالت ماكينتهم التعبوية قادرة على العمل، بالرغم من الضربات التي لحقتها. من هنا أتت الشعارات، التي عبرت عن رفض جميع من تصدروا المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، والتي وصلت إلى حد مهاجمة مقر مجلس النواب في طبرق، وهو ما يؤكد أن خلف المظاهرات قوة سياسية تستثمر الغضب الشعبي لتغليب مشروعها، ورمزه سيف الاسلام القذافي. وكان لافتا أن عدة مدن في المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر بقبضة من حديد، أسوة ببنغازي والبيضاء وطبرق وبعض المدن الأصغر، خرجت عن طوعه وشاركت بكثافة في الاحتجاجات. وكان الوقود الذي حرك المتظاهرين هو السأم العام من استمرار الصراع على المناصب بين الطامحين إلى السلطة، وسط تدهور غير مسبوق للبنية الأساسية، وفي مقدمتها شبكة الكهرباء المهترئة. ويتهم المتظاهرون الحكام الحاليين والسابقين بنهب المال العام وتهريب الأموال إلى الخارج. مع ذلك يمكن القول إن جماعة سيف الاسلام تعلموا من التجربة التونسية أن عودة المنظومة السابقة ممكنة، إذا ما بلغ سيل الغضب الزُبى، ولم يوجد بديل سياسي واضح المعالم ومقنع من بين من يُسمون بـ"الفبرايريين"، نسبة إلى انتفاضة 17 فيفري 2011 التي أسقطت منظومة معمر القذافي وأبناءه.

خطاب أمريكي جديد؟

أما على الطرف الآخر من المشهد، حيث يتقاتل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، فإن الأمر لم يعد متعلقا بمبارزة شخصية، مثلما يوحي بذلك بعض وسائل الاعلام، وإنما هو تعبير عن نزاع بين شبكتين من التحالفات الداخلية والخارجية، الرامية للفوز بحكم ليبيا. وهذا ما يُفسر إهدار 23 يوما في اجتماعات عقيمة بين الطرفين في القاهرة، قبل تعليق تلك الاجتماعات. وبالرغم من تأكيد هذا الطرف أو ذاك أن تقدما نوعيا تم إحرازه، فإن المواد التي اتفق عليها الجانبان هي مبادئ عامة ليس هناك اختلافات جوهرية في شأنها أصلا، بينما ظل التباعد في القضايا الجوهرية قائما، وهي التي تُعتبر أساس القاعدة الدستورية للانتخابات. وما من شك في أن خيبة أمل الليبيين من مخرجات اجتماعات القاهرة/جنيف لعبت دورا مهما في إذكاء نار الغضب من السياسيين أجمعين. وهذا هو تقريبا موقف الأمريكيين أيضا، فقد أشاروا لأول مرة إلى دور اللوبيات والجماعات المسلحة في استمرار الأزمة في ليبيا. ولم يتوان مساعد المندوب الأمريكي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز عن توجيه إصبع الاتهام إلى "مجموعة من الشخصيات المسلحة غير الشرعية التي أمضت الأشهر الستة الأخيرة تعقد الصفقات لتحديد من سيكون في السلطة"، لكنه لم يُسم تلك الشخصيات.

فخلال الجلسة التي عقدها مجلس الأمن لمناقشة تطورات الأوضاع في ليبيا، لم يُفصح ميلز عن أسماء هؤلاء الزعماء، لكن الخطاب الأمريكي الجديد، برهن على قوة الاندفاع نحو فرض حل سياسي، معتبرا أن ملتقى الحوار السياسي الليبي "ملهاة" لأنه لا يكسر الجمود السياسي بل ويزيد من عدم الاطمئنان للوضع الراهن. وعاد ميلز ليُقرع القادة الليبيين مرة أخرى، متهما إياهم باختلاق المبررات "من أجل تأخير الانتخابات وتمديد وقت بقائهم في السلطة". وهناك عنصر آخر لا يمكن إغفاله، ويتمثل بانتهاء مهمة مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة في الملف الليبي ستيفاني وليامز، أواخر هذا الشهر، إذ دعا المندوب الأميركي مجلس الأمن إلى تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة، لمدة عام كامل "كي تكون فاعلة" على ما قال. إلا أن تطورات الصراع في ليبيا منذ 2011 إلى اليوم، أظهرت أن الزمن لا قيمة له وأن كل تأجيل يسحب خلفه تأجيلا جديدا، مع بقاء عناوين الأزمة على حالها.

في مقابل المعركة التي تقودها أمريكا لمزيد الامساك بخيوط الملف الليبي عبر التمديد لمواطنتها على رأس البعثة الأممية، شهرا آخر، طرح الفريق المقابل بديلا تمثل بتسمية وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم رئيسا لبعثة الأمم المتحدة بليبيا. وأعلم الأمين العام للمنظمة الأممية أنطونيو غوتيريش اعضاء مجلس الأمن بأنه قرر تعيين بوقادوم ليخلف السلوفاكي يان كوبيش. لكن هذا الترشيح أعاد إبراز خطوط الفصل والوصل بين القوى الاقليمية والدولية المتداخلة في الملف الليبي. وهذا ما جعل اجتماع مجلس الأمن عاصفا، إذ اعترض بعض أعضاء المجلس على الترشيح، وفي مقدمتهم أمريكا والإمارات، العضو غير الدائم بالمجلس. ومع ذلك ظل غوتيريش متمسكا بمرشحه. وبحسب تعميم للجامعة العربية كان هناك تحرك أفريقي كبير للدفع بمرشح من القارة ليشغل هذا المنصب، لكن الغلبة كانت لأمريكا في نهاية المطاف. والأرجح بالنظر لتمسك الأمم المتحدة بأن يكون رئيس البعثة المقبل من القارة الأفريقية، أن الأوفر حظا هو النائب الأسبق لرئيس البعثة وزير الخارجية الموريتاني السابق إسماعيل ولد الشيخ أحمد.

حكومة منتخبة وموحدة

اللافت أن أمريكا تخلت في هذه العملية وفي سواها عن الأقنعة، وباتت تدير اللعبة في ليبيا بنفسها، بعدما انسحبت منها في 2012 على إثر مصرع سفيرها لدى ليبيا في مدينة بنغازي. بهذا المعنى لم تعد واشنطن تتحرك من خلف الجدران، وإنما يطوف سفيرها وموفدها الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند على الزعماء والوجهاء كي يُناقش معهم السياسة والاقتصاد. وأفاد بيان للخارجية الأمريكية أن نورلاند ركز الاجتماعات التي عقدها على دعم الولايات المتحدة "لتجاوز المرحلة الانتقالية في ليبيا إلى حكومة منتخبة وموحدة". أكثر من ذلك، تطرق الدبلوماسي الأمريكي إلى بعض الملفات الاقتصادية، التي تعتبر جزءا من الأمن القومي للبلد، إذ انتقد ما دعاها "المصالح الضيقة (التي) تستخدم قطاع النفط كسلاح وتتخذ قرارات أحادية الجانب تؤثر في إنفاق عائدات النفط الليبية"، وهي إشارة واضحة إلى الجماعات التي تعطل الانتاج في الحقول والموانئ النفطية، مُحذرا من "استخدام الأدوات الاقتصادية كجزء من الخلافات السياسية".

وخلال هذه الزيارة، الأولى من نوعها لسفير أمريكي إلى طرابلس، منذ أكثر من عشر سنوات، لم يمض نورلاند سوى ليلة واحدة في العاصمة، اجتمع خلالها مع طيف واسع من الزعماء الليبيين، بشكل منفصل، من الدبيبة إلى المنفي إلى نجلاء المنقوش وصنع الله ورئيس مفوضية الانتخابات عماد السايح. وحصد نورلاند نصرا دبلوماسيا مهما بالحصول على اتفاق بالتمديد للمستشارة وليامز، إلى شهرا آخر، ما يعني أن ملف ترشيح بوقادوم وُضع في الأدراج (مؤقتا؟). غير أن وليامز لم تعلق على مبادرة باشاغا فتح قنوات حوار مع قادة ميليشيات في طرابلس، لتمكين أعضاء حكومته من "مباشرة مهامهم من العاصمة" بدل المقر المؤقت الحالي في سرت. ويُثير هذا الموقف الكثير من الاستغراب والغضب لدى الليبيين، لأن تخليص البلد من قبضة الجماعات المسلحة يُوضع دوما في مقدمة الشروط لإجراء انتخابات حرة ونزيهة. ولم يكتف باشاغا بالتخلي عن هذا الهدف الأساسي، وإنما هو يطلب الدعم منها، ولا يُضيره أن يدخل طرابلس، إن وجد إليها سبيلا، محميا بحراب المليشيات. أكثر من ذلك، اعترف باشاغا في حوار بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بأنه "يتفاوض مع مجموعة مسلحة أو اثنتين في طرابلس للانضمام إلى الحكومة والمشاركة (فيها)"، ما يعني أنه يُمهد لتوزير أمراء مليشيات، وتمكينهم من وضع قدم ثابتة في أجهزة الدولة. وفي مايو/أيار الماضي غادر باشاغا طرابلس بعد اشتباكات مسلحة، إثر محاولة حكومته دخول العاصمة بالقوة لمباشرة مهامها.

طرق بديلة

وانتهت الخميس محادثات عقيلة والمشري التي رعتها الأمم المتحدة في جنيف، من دون التوصل إلى اتفاق على إطار دستوري يتيح إجراء الانتخابات المقبلة، فيما قالت وليامز للصحفيين إنها ستكتب تقريرا كاملا للأمين العام للأمم المتحدة، عن الإجراءات المتخذة وتوصياتها بشأن "الطرق البديلة"، للمضي قدما في العملية السياسية. لكنها لم تُوضح ماهية "الطرق البديلة" والضمانات التي تؤكد أنها ستكون مختلفة عن المسار السابق. وفي المحصلة حدث تقدم في النقاط التي كانت محل خلاف بين وفدي المجلسين في حوارات جنيف، منها أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ موزعين بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، وأن يكون مقر مجلس النواب بمدينة بنغازي ومجلس الشيوخ بمدينة سبها. كما تم الاتفاق على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرسمي للتشريع، وأن تُراعى حقوق مكونات المجتمع الليبي كافة من دون تهميش، وأن يوزع الدخل بطريقة وآلية عادلتين. ويمكن القول إن العقبة التي عطلت التفاهم بين المُتحاورين لأكثر من ثلاثة أيام، تتعلق بحق حملة الجنسية الأجنبية في الترشح لرئاسة الدولة والمناصب السيادية، وتخص هذه المادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يحمل الجنسيتين الليبية والأمريكية، وهو مُصرٌ على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

من البرلماني إلى الرئاسي

 ويمكن القول إن الليبيين استفادوا من أخطاء التونسيين في كثير من البنود التي تتضمنها الوثيقة الجديدة، ومن بينها توزيع الصلاحيات بشكل متوازن بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء، والحكومات المحلية. وبعدما اختارت تونس في دستور 2014 نظاما برلمانيا، باتت الغالبية تميل اليوم إلى نظام رئاسي، لكن من دون طغيان الرئاسة على دور البرلمان وعلى السلطة القضائية. وكان لافتا أن قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في بفاريا اهتمت بالملف الليبي، وحضت بإلحاح على الاستئناف الكامل لإنتاج النفط و"عدم استخدامه أداة للمواجهة السياسية". وهذه رسالة حازمة إلى الفرقاء الليبيين تدعوهم إلى الكف عن التنابذ والقبول بتنازلات متبادلة، لإنقاذ البلد من الانزلاق إلى العنف مجددا. كما حث السبعُ على سحب جميع القوات الأجنبية، والمرتزقة من ليبيا، مثل مجموعة "فاغنر" الروسية. وهذا الموقف هو أحد أوجه الحرب على النفوذ في المنطقة بين أعضاء مجلس الأمن، وخاصة أمريكا وفرنسا من جهة وروسيا من جهة ثانية.

ولا يستبعد مراقبون اندلاع مزيد من حركات الاحتجاج الشارعية تعبيرا عن الملل والخيبة من أداء الزعماء، وتحت ضغط التهاب الأسعار وانقطاعات الكهرباء. ووسط هذه الأجواء المحتقنة أطلق المجلس الرئاسي مبادرة للمصالحة بين الليبيين، تهدف إلى إعادة بناء الدولة وتغيير الطبقة السياسية الحالية، ما اعتُبر استهدافا لكل من حفتر وعقيلة والمشري والدبيبة وباشاغا، الذين يتصدرون المشهد حاليا، فهل يُوفق "الرئاسي" في تحقيق هذه النقلة، وهو الذي لا يملك قوة لإنفاذ مشروعه، ولا كاريزما تفتح له الطريق؟

*مدير المركز المغاربي للأبحاث حول ليبيا

 

منتدى الصباح.. ليبيا: أنصار القذافي المُستفيد الأول من الحركات الاحتجاجية

بقلم: رشيد خشانة*

تفجر غضب الليبيين بعد يوم واحد من انتهاء المساومات بين الرجلين القويين عقيلة صالح وخالد المشري في جنيف. وفي سابقة غير مألوفة انطلق المتظاهرون في طرابلس إلى مقر رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، لكن لم تحدث صدامات مع الحراس، على ما يبدو. وانطلقت في الآن نفسه، أي بعد إخفاق محادثات جنيف، مظاهرات أخرى في كل من بنغازي والبيضاء ومصراتة وبعض المدن الأصغر. وما سهل التجاوب مع تلك الشعارات ضنك الأوضاع الاجتماعية، التي بات يعيش فيها الليبيون جراء الانقطاعات الكثيرة للكهرباء، وعلاقة ذلك بفساد الطبقة السياسية برمتها. ويمكن القول إن من يقدر على تعبئة كل هؤلاء المتظاهرين، في وقت واحد وبشعارات موحدة تُدين الحكام السابقين واللاحقين، هم من يُعرفون بـ"الخُضر"، وهم أنصار النظام السابق الذين مازالت ماكينتهم التعبوية قادرة على العمل، بالرغم من الضربات التي لحقتها. من هنا أتت الشعارات، التي عبرت عن رفض جميع من تصدروا المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، والتي وصلت إلى حد مهاجمة مقر مجلس النواب في طبرق، وهو ما يؤكد أن خلف المظاهرات قوة سياسية تستثمر الغضب الشعبي لتغليب مشروعها، ورمزه سيف الاسلام القذافي. وكان لافتا أن عدة مدن في المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر بقبضة من حديد، أسوة ببنغازي والبيضاء وطبرق وبعض المدن الأصغر، خرجت عن طوعه وشاركت بكثافة في الاحتجاجات. وكان الوقود الذي حرك المتظاهرين هو السأم العام من استمرار الصراع على المناصب بين الطامحين إلى السلطة، وسط تدهور غير مسبوق للبنية الأساسية، وفي مقدمتها شبكة الكهرباء المهترئة. ويتهم المتظاهرون الحكام الحاليين والسابقين بنهب المال العام وتهريب الأموال إلى الخارج. مع ذلك يمكن القول إن جماعة سيف الاسلام تعلموا من التجربة التونسية أن عودة المنظومة السابقة ممكنة، إذا ما بلغ سيل الغضب الزُبى، ولم يوجد بديل سياسي واضح المعالم ومقنع من بين من يُسمون بـ"الفبرايريين"، نسبة إلى انتفاضة 17 فيفري 2011 التي أسقطت منظومة معمر القذافي وأبناءه.

خطاب أمريكي جديد؟

أما على الطرف الآخر من المشهد، حيث يتقاتل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، فإن الأمر لم يعد متعلقا بمبارزة شخصية، مثلما يوحي بذلك بعض وسائل الاعلام، وإنما هو تعبير عن نزاع بين شبكتين من التحالفات الداخلية والخارجية، الرامية للفوز بحكم ليبيا. وهذا ما يُفسر إهدار 23 يوما في اجتماعات عقيمة بين الطرفين في القاهرة، قبل تعليق تلك الاجتماعات. وبالرغم من تأكيد هذا الطرف أو ذاك أن تقدما نوعيا تم إحرازه، فإن المواد التي اتفق عليها الجانبان هي مبادئ عامة ليس هناك اختلافات جوهرية في شأنها أصلا، بينما ظل التباعد في القضايا الجوهرية قائما، وهي التي تُعتبر أساس القاعدة الدستورية للانتخابات. وما من شك في أن خيبة أمل الليبيين من مخرجات اجتماعات القاهرة/جنيف لعبت دورا مهما في إذكاء نار الغضب من السياسيين أجمعين. وهذا هو تقريبا موقف الأمريكيين أيضا، فقد أشاروا لأول مرة إلى دور اللوبيات والجماعات المسلحة في استمرار الأزمة في ليبيا. ولم يتوان مساعد المندوب الأمريكي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز عن توجيه إصبع الاتهام إلى "مجموعة من الشخصيات المسلحة غير الشرعية التي أمضت الأشهر الستة الأخيرة تعقد الصفقات لتحديد من سيكون في السلطة"، لكنه لم يُسم تلك الشخصيات.

فخلال الجلسة التي عقدها مجلس الأمن لمناقشة تطورات الأوضاع في ليبيا، لم يُفصح ميلز عن أسماء هؤلاء الزعماء، لكن الخطاب الأمريكي الجديد، برهن على قوة الاندفاع نحو فرض حل سياسي، معتبرا أن ملتقى الحوار السياسي الليبي "ملهاة" لأنه لا يكسر الجمود السياسي بل ويزيد من عدم الاطمئنان للوضع الراهن. وعاد ميلز ليُقرع القادة الليبيين مرة أخرى، متهما إياهم باختلاق المبررات "من أجل تأخير الانتخابات وتمديد وقت بقائهم في السلطة". وهناك عنصر آخر لا يمكن إغفاله، ويتمثل بانتهاء مهمة مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة في الملف الليبي ستيفاني وليامز، أواخر هذا الشهر، إذ دعا المندوب الأميركي مجلس الأمن إلى تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة، لمدة عام كامل "كي تكون فاعلة" على ما قال. إلا أن تطورات الصراع في ليبيا منذ 2011 إلى اليوم، أظهرت أن الزمن لا قيمة له وأن كل تأجيل يسحب خلفه تأجيلا جديدا، مع بقاء عناوين الأزمة على حالها.

في مقابل المعركة التي تقودها أمريكا لمزيد الامساك بخيوط الملف الليبي عبر التمديد لمواطنتها على رأس البعثة الأممية، شهرا آخر، طرح الفريق المقابل بديلا تمثل بتسمية وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم رئيسا لبعثة الأمم المتحدة بليبيا. وأعلم الأمين العام للمنظمة الأممية أنطونيو غوتيريش اعضاء مجلس الأمن بأنه قرر تعيين بوقادوم ليخلف السلوفاكي يان كوبيش. لكن هذا الترشيح أعاد إبراز خطوط الفصل والوصل بين القوى الاقليمية والدولية المتداخلة في الملف الليبي. وهذا ما جعل اجتماع مجلس الأمن عاصفا، إذ اعترض بعض أعضاء المجلس على الترشيح، وفي مقدمتهم أمريكا والإمارات، العضو غير الدائم بالمجلس. ومع ذلك ظل غوتيريش متمسكا بمرشحه. وبحسب تعميم للجامعة العربية كان هناك تحرك أفريقي كبير للدفع بمرشح من القارة ليشغل هذا المنصب، لكن الغلبة كانت لأمريكا في نهاية المطاف. والأرجح بالنظر لتمسك الأمم المتحدة بأن يكون رئيس البعثة المقبل من القارة الأفريقية، أن الأوفر حظا هو النائب الأسبق لرئيس البعثة وزير الخارجية الموريتاني السابق إسماعيل ولد الشيخ أحمد.

حكومة منتخبة وموحدة

اللافت أن أمريكا تخلت في هذه العملية وفي سواها عن الأقنعة، وباتت تدير اللعبة في ليبيا بنفسها، بعدما انسحبت منها في 2012 على إثر مصرع سفيرها لدى ليبيا في مدينة بنغازي. بهذا المعنى لم تعد واشنطن تتحرك من خلف الجدران، وإنما يطوف سفيرها وموفدها الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند على الزعماء والوجهاء كي يُناقش معهم السياسة والاقتصاد. وأفاد بيان للخارجية الأمريكية أن نورلاند ركز الاجتماعات التي عقدها على دعم الولايات المتحدة "لتجاوز المرحلة الانتقالية في ليبيا إلى حكومة منتخبة وموحدة". أكثر من ذلك، تطرق الدبلوماسي الأمريكي إلى بعض الملفات الاقتصادية، التي تعتبر جزءا من الأمن القومي للبلد، إذ انتقد ما دعاها "المصالح الضيقة (التي) تستخدم قطاع النفط كسلاح وتتخذ قرارات أحادية الجانب تؤثر في إنفاق عائدات النفط الليبية"، وهي إشارة واضحة إلى الجماعات التي تعطل الانتاج في الحقول والموانئ النفطية، مُحذرا من "استخدام الأدوات الاقتصادية كجزء من الخلافات السياسية".

وخلال هذه الزيارة، الأولى من نوعها لسفير أمريكي إلى طرابلس، منذ أكثر من عشر سنوات، لم يمض نورلاند سوى ليلة واحدة في العاصمة، اجتمع خلالها مع طيف واسع من الزعماء الليبيين، بشكل منفصل، من الدبيبة إلى المنفي إلى نجلاء المنقوش وصنع الله ورئيس مفوضية الانتخابات عماد السايح. وحصد نورلاند نصرا دبلوماسيا مهما بالحصول على اتفاق بالتمديد للمستشارة وليامز، إلى شهرا آخر، ما يعني أن ملف ترشيح بوقادوم وُضع في الأدراج (مؤقتا؟). غير أن وليامز لم تعلق على مبادرة باشاغا فتح قنوات حوار مع قادة ميليشيات في طرابلس، لتمكين أعضاء حكومته من "مباشرة مهامهم من العاصمة" بدل المقر المؤقت الحالي في سرت. ويُثير هذا الموقف الكثير من الاستغراب والغضب لدى الليبيين، لأن تخليص البلد من قبضة الجماعات المسلحة يُوضع دوما في مقدمة الشروط لإجراء انتخابات حرة ونزيهة. ولم يكتف باشاغا بالتخلي عن هذا الهدف الأساسي، وإنما هو يطلب الدعم منها، ولا يُضيره أن يدخل طرابلس، إن وجد إليها سبيلا، محميا بحراب المليشيات. أكثر من ذلك، اعترف باشاغا في حوار بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بأنه "يتفاوض مع مجموعة مسلحة أو اثنتين في طرابلس للانضمام إلى الحكومة والمشاركة (فيها)"، ما يعني أنه يُمهد لتوزير أمراء مليشيات، وتمكينهم من وضع قدم ثابتة في أجهزة الدولة. وفي مايو/أيار الماضي غادر باشاغا طرابلس بعد اشتباكات مسلحة، إثر محاولة حكومته دخول العاصمة بالقوة لمباشرة مهامها.

طرق بديلة

وانتهت الخميس محادثات عقيلة والمشري التي رعتها الأمم المتحدة في جنيف، من دون التوصل إلى اتفاق على إطار دستوري يتيح إجراء الانتخابات المقبلة، فيما قالت وليامز للصحفيين إنها ستكتب تقريرا كاملا للأمين العام للأمم المتحدة، عن الإجراءات المتخذة وتوصياتها بشأن "الطرق البديلة"، للمضي قدما في العملية السياسية. لكنها لم تُوضح ماهية "الطرق البديلة" والضمانات التي تؤكد أنها ستكون مختلفة عن المسار السابق. وفي المحصلة حدث تقدم في النقاط التي كانت محل خلاف بين وفدي المجلسين في حوارات جنيف، منها أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ موزعين بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، وأن يكون مقر مجلس النواب بمدينة بنغازي ومجلس الشيوخ بمدينة سبها. كما تم الاتفاق على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرسمي للتشريع، وأن تُراعى حقوق مكونات المجتمع الليبي كافة من دون تهميش، وأن يوزع الدخل بطريقة وآلية عادلتين. ويمكن القول إن العقبة التي عطلت التفاهم بين المُتحاورين لأكثر من ثلاثة أيام، تتعلق بحق حملة الجنسية الأجنبية في الترشح لرئاسة الدولة والمناصب السيادية، وتخص هذه المادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يحمل الجنسيتين الليبية والأمريكية، وهو مُصرٌ على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

من البرلماني إلى الرئاسي

 ويمكن القول إن الليبيين استفادوا من أخطاء التونسيين في كثير من البنود التي تتضمنها الوثيقة الجديدة، ومن بينها توزيع الصلاحيات بشكل متوازن بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء، والحكومات المحلية. وبعدما اختارت تونس في دستور 2014 نظاما برلمانيا، باتت الغالبية تميل اليوم إلى نظام رئاسي، لكن من دون طغيان الرئاسة على دور البرلمان وعلى السلطة القضائية. وكان لافتا أن قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في بفاريا اهتمت بالملف الليبي، وحضت بإلحاح على الاستئناف الكامل لإنتاج النفط و"عدم استخدامه أداة للمواجهة السياسية". وهذه رسالة حازمة إلى الفرقاء الليبيين تدعوهم إلى الكف عن التنابذ والقبول بتنازلات متبادلة، لإنقاذ البلد من الانزلاق إلى العنف مجددا. كما حث السبعُ على سحب جميع القوات الأجنبية، والمرتزقة من ليبيا، مثل مجموعة "فاغنر" الروسية. وهذا الموقف هو أحد أوجه الحرب على النفوذ في المنطقة بين أعضاء مجلس الأمن، وخاصة أمريكا وفرنسا من جهة وروسيا من جهة ثانية.

ولا يستبعد مراقبون اندلاع مزيد من حركات الاحتجاج الشارعية تعبيرا عن الملل والخيبة من أداء الزعماء، وتحت ضغط التهاب الأسعار وانقطاعات الكهرباء. ووسط هذه الأجواء المحتقنة أطلق المجلس الرئاسي مبادرة للمصالحة بين الليبيين، تهدف إلى إعادة بناء الدولة وتغيير الطبقة السياسية الحالية، ما اعتُبر استهدافا لكل من حفتر وعقيلة والمشري والدبيبة وباشاغا، الذين يتصدرون المشهد حاليا، فهل يُوفق "الرئاسي" في تحقيق هذه النقلة، وهو الذي لا يملك قوة لإنفاذ مشروعه، ولا كاريزما تفتح له الطريق؟

*مدير المركز المغاربي للأبحاث حول ليبيا