إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط ناصر كامل يكتب لـ«الصباح»: برشلونة بعد ثلاثين عامًا: أي مستقبل للسلام والتنمية في المتوسط؟

ثلاثون عامًا مرّت على بدء عملية برشلونة، التي سعى المبادرون من خلالها إلى أن تكون نقطة تحوّل في العلاقة بين ضفتي المتوسط لرسم ملامح منطقة تتشارك في الأمن والازدهار، ولجسر فجوة التنمية بالحوار والتعاون. لكننا اليوم، بعد ثلاثة عقود، نقف أمام واقع لا يمكن تجميله: التكامل والسلام الإقليميين ما زالا حلما بعيد المنال، وشعب فلسطين ينزف من جرح قديم لم يندمل. ورغم هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، فإنه فتح نافذة ضيقة للأمل، ومسؤوليتنا، كدول ومجتمعات ومؤسسات، ألا نسمح لهذه النافذة بأن تُغلق، بل أن نحوّلها إلى مدخل لسلام عادل ودائم، يضمن للفلسطينيين حقهم في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة على حدود الرابع من جوان 1967، ويمنح منطقتنا استقرارا تستحقه منذ أمد طويل.

في هذه اللحظة الفارقة، يعقد الاتحاد من أجل المتوسط في برشلونة اجتماعا لوزراء خارجية الدول الأعضاء الثلاث والأربعين، بعد أسبوع شهد نقاشات مكثفة بين ممثلي المجتمع المدني وسلطات الحكم في أقاليم ومدن المنطقة، بجانب العديد من الشركاء في كافة مجالات التعاون الإقليمي. إن هذا الاجتماع لا يأتي من فراغ؛ فالحرب التي عانت منها منطقتنا في العامين الماضيين تجاوزت حدودها الجغرافية، وألقت بظلالها على الاقتصاد والطاقة والسلم الأهلي، تماما كما تفعل سائر الأزمات في المنطقة وجوارها: من اتساع فجوات عدم المساواة، إلى تفاقم البطالة، وغلاء المعيشة، فضلا عما تواجهه منطقتنا بسبب تحديات التغير المناخي والبيئي، وكذلك هشاشة سلاسل الإمداد وأمن الطاقة، فضلا عن انتشار سرديات تغذي الاستقطاب وتعمق انعدام الثقة بين الشعوب ومؤسساتها.

لهذا يبدو المتوسط اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. فإما أن نعود إلى منطق كل دولة تواجه أزماتها بمفردها، فيتكرس منطق التجزئة والعجز عن العمل الجماعي بما يزيد من هذه الاختلالات بين دولنا، وإما أن نغتنم هذه اللحظة لإعادة تعزيز شراكة أورومتوسطية جادة، تُبنى على المصالح المتبادلة وتدرك أن أي اضطراب في شرق أو جنوب المتوسط سرعان ما ينعكس على شماله، والعكس صحيح. من هنا تكتسب مناقشات برشلونة هذا العام وزنا خاصا؛ فهي لا تقتصر على تقوية قيم العمل الجماعي بين الدول، بل تشهد تطورين أساسيين في مسار التعاون الإقليمي.

أولهما، ستتبنى الدول الأعضاء في الاتحاد من أجل المتوسط رؤية استراتيجية جديدة توجه البوصلة لتقوية الترابط بين الشعوب والاقتصادات والدول، في حزمة من السياسات والمشاريع المشتركة التي تُترجم مبادئ الشراكة إلى واقع ملموس. وثانيهما، سيعتمد الاتحاد الأوروبي وشركاؤه الجنوبيون «الميثاق من أجل المتوسط»، وهو إطار عملي للتعاون يرتكز على تحسين حياة الناس، وبناء اقتصادات أكثر استدامة وتكاملا، وتعزيز الأمن. ما يميز هذه الخطوات أنها ثمرة عمل تراكمي وتوافق على أولويات مشتركة، لا مجرد عناوين على الورق.

خلال سبع سنوات في منصبي كأمين عام للاتحاد من أجل المتوسط، رأيت عن قرب ما يمكن أن يحققه هذا الإطار المؤسسي عندما تتوفر له الإرادة والخبرة والموارد. لقد حشدنا شركاءنا من مختلف أنحاء المنطقة لصوغ أولويات وسياسات مشتركة، ولدعم مشاريع تخدم منطقتنا. كما أطلق الاتحاد مبادرات تدعم التكامل الإقليمي والعمل المناخي والمساواة بين الجنسين والتنمية المستدامة، كما عزز الاتحاد دوره كمحفّز للاستثمار لحشد الموارد من أجل الاقتصاد الأزرق المستدام والتوظيف الأخضر الشامل.

لكن الدرس الأهم هو أن أي تقدم في المتوسط لن يصمد إذا قام على أرضية سياسية رخوة. لا يمكن لمبادرة اقتصادية أن تزدهر في محيط مضطرب، ولا لاستثمارات بعيدة المدى أن تستقر في بيئة يغيب عنها السلام وتنهشها الأزمات المتلاحقة. إن بناء الثقة السياسية ليس مجرد شعار، بل شرطٌ مسبق لأي مشروع تنموي جدي، وهذا يعيدنا إلى جوهر القضية: السلام العادل والشامل ليس ترفا دبلوماسيا، بل هو أساسٌ لأي رخاء اقتصادي واجتماعي في منطقتنا.

هذا هو مضمون الرسالة التي أودّ أن أسلّمها إلى من سيخلفني في قيادة الأمانة العامة للاتحاد من أجل المتوسط: ربط الشعوب، وربط الاقتصادات، وربط الدول. ولعلني وأنا أغادر هذه المؤسسة العريقة قد أكون ساهمت في جعلها أكثر قوة وطموحا، ولكني أيضا لمست تطلعات ومخاوف شباب المنطقة ونسائها، فضلا عن طموحات رواد أعمالها المبدعين، وقياداتها الواعدة، والتي لمست لديها إيمانا بجدوى العمل على بناء منطقة أورومتوسطية تنعم بالمزيد من التكامل.

إن الشراكة الأورومتوسطية، بعد ثلاثين عاما على انطلاق عملية برشلونة، ليست مناسبة للاحتفال الشكلي بذكرى إنشائها، بل هي فرصة لكي نقرر سويا إن كنا حقا نريد للمتوسط أن يبقى ساحة أزمات، أم فضاء يطلق المزيد من المبادرات الخلاقة والحلول العملية لما نواجه من تحديات. الخيار بأيدينا، إلا أن الوقت ليس في صالحنا. لذلك، فلنبدأ من اليوم، معا، العمل من أجل شراكة أورومتوسطية أقوى، وأوثق.

* الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط

الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط   ناصر كامل يكتب لـ«الصباح»:   برشلونة بعد ثلاثين عامًا: أي مستقبل للسلام والتنمية في المتوسط؟

ثلاثون عامًا مرّت على بدء عملية برشلونة، التي سعى المبادرون من خلالها إلى أن تكون نقطة تحوّل في العلاقة بين ضفتي المتوسط لرسم ملامح منطقة تتشارك في الأمن والازدهار، ولجسر فجوة التنمية بالحوار والتعاون. لكننا اليوم، بعد ثلاثة عقود، نقف أمام واقع لا يمكن تجميله: التكامل والسلام الإقليميين ما زالا حلما بعيد المنال، وشعب فلسطين ينزف من جرح قديم لم يندمل. ورغم هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، فإنه فتح نافذة ضيقة للأمل، ومسؤوليتنا، كدول ومجتمعات ومؤسسات، ألا نسمح لهذه النافذة بأن تُغلق، بل أن نحوّلها إلى مدخل لسلام عادل ودائم، يضمن للفلسطينيين حقهم في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة على حدود الرابع من جوان 1967، ويمنح منطقتنا استقرارا تستحقه منذ أمد طويل.

في هذه اللحظة الفارقة، يعقد الاتحاد من أجل المتوسط في برشلونة اجتماعا لوزراء خارجية الدول الأعضاء الثلاث والأربعين، بعد أسبوع شهد نقاشات مكثفة بين ممثلي المجتمع المدني وسلطات الحكم في أقاليم ومدن المنطقة، بجانب العديد من الشركاء في كافة مجالات التعاون الإقليمي. إن هذا الاجتماع لا يأتي من فراغ؛ فالحرب التي عانت منها منطقتنا في العامين الماضيين تجاوزت حدودها الجغرافية، وألقت بظلالها على الاقتصاد والطاقة والسلم الأهلي، تماما كما تفعل سائر الأزمات في المنطقة وجوارها: من اتساع فجوات عدم المساواة، إلى تفاقم البطالة، وغلاء المعيشة، فضلا عما تواجهه منطقتنا بسبب تحديات التغير المناخي والبيئي، وكذلك هشاشة سلاسل الإمداد وأمن الطاقة، فضلا عن انتشار سرديات تغذي الاستقطاب وتعمق انعدام الثقة بين الشعوب ومؤسساتها.

لهذا يبدو المتوسط اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. فإما أن نعود إلى منطق كل دولة تواجه أزماتها بمفردها، فيتكرس منطق التجزئة والعجز عن العمل الجماعي بما يزيد من هذه الاختلالات بين دولنا، وإما أن نغتنم هذه اللحظة لإعادة تعزيز شراكة أورومتوسطية جادة، تُبنى على المصالح المتبادلة وتدرك أن أي اضطراب في شرق أو جنوب المتوسط سرعان ما ينعكس على شماله، والعكس صحيح. من هنا تكتسب مناقشات برشلونة هذا العام وزنا خاصا؛ فهي لا تقتصر على تقوية قيم العمل الجماعي بين الدول، بل تشهد تطورين أساسيين في مسار التعاون الإقليمي.

أولهما، ستتبنى الدول الأعضاء في الاتحاد من أجل المتوسط رؤية استراتيجية جديدة توجه البوصلة لتقوية الترابط بين الشعوب والاقتصادات والدول، في حزمة من السياسات والمشاريع المشتركة التي تُترجم مبادئ الشراكة إلى واقع ملموس. وثانيهما، سيعتمد الاتحاد الأوروبي وشركاؤه الجنوبيون «الميثاق من أجل المتوسط»، وهو إطار عملي للتعاون يرتكز على تحسين حياة الناس، وبناء اقتصادات أكثر استدامة وتكاملا، وتعزيز الأمن. ما يميز هذه الخطوات أنها ثمرة عمل تراكمي وتوافق على أولويات مشتركة، لا مجرد عناوين على الورق.

خلال سبع سنوات في منصبي كأمين عام للاتحاد من أجل المتوسط، رأيت عن قرب ما يمكن أن يحققه هذا الإطار المؤسسي عندما تتوفر له الإرادة والخبرة والموارد. لقد حشدنا شركاءنا من مختلف أنحاء المنطقة لصوغ أولويات وسياسات مشتركة، ولدعم مشاريع تخدم منطقتنا. كما أطلق الاتحاد مبادرات تدعم التكامل الإقليمي والعمل المناخي والمساواة بين الجنسين والتنمية المستدامة، كما عزز الاتحاد دوره كمحفّز للاستثمار لحشد الموارد من أجل الاقتصاد الأزرق المستدام والتوظيف الأخضر الشامل.

لكن الدرس الأهم هو أن أي تقدم في المتوسط لن يصمد إذا قام على أرضية سياسية رخوة. لا يمكن لمبادرة اقتصادية أن تزدهر في محيط مضطرب، ولا لاستثمارات بعيدة المدى أن تستقر في بيئة يغيب عنها السلام وتنهشها الأزمات المتلاحقة. إن بناء الثقة السياسية ليس مجرد شعار، بل شرطٌ مسبق لأي مشروع تنموي جدي، وهذا يعيدنا إلى جوهر القضية: السلام العادل والشامل ليس ترفا دبلوماسيا، بل هو أساسٌ لأي رخاء اقتصادي واجتماعي في منطقتنا.

هذا هو مضمون الرسالة التي أودّ أن أسلّمها إلى من سيخلفني في قيادة الأمانة العامة للاتحاد من أجل المتوسط: ربط الشعوب، وربط الاقتصادات، وربط الدول. ولعلني وأنا أغادر هذه المؤسسة العريقة قد أكون ساهمت في جعلها أكثر قوة وطموحا، ولكني أيضا لمست تطلعات ومخاوف شباب المنطقة ونسائها، فضلا عن طموحات رواد أعمالها المبدعين، وقياداتها الواعدة، والتي لمست لديها إيمانا بجدوى العمل على بناء منطقة أورومتوسطية تنعم بالمزيد من التكامل.

إن الشراكة الأورومتوسطية، بعد ثلاثين عاما على انطلاق عملية برشلونة، ليست مناسبة للاحتفال الشكلي بذكرى إنشائها، بل هي فرصة لكي نقرر سويا إن كنا حقا نريد للمتوسط أن يبقى ساحة أزمات، أم فضاء يطلق المزيد من المبادرات الخلاقة والحلول العملية لما نواجه من تحديات. الخيار بأيدينا، إلا أن الوقت ليس في صالحنا. لذلك، فلنبدأ من اليوم، معا، العمل من أجل شراكة أورومتوسطية أقوى، وأوثق.

* الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط