في منتدى أيام قرطاج المسرحية.. المسرح يغير أم لا يغير؟.. شهادتان لصوتين يمثلان جيلين وتجربتين مختلفين.. الفاضل الجعايبي ولطيفة أحرار في منتدى أيام قرطاج المسرحية
❞لطيفة أحرار: قد لا يغير المسرح العالم جذرياً، لكنه «يغيّر قليلاً»، يغيّر الأفكار، يكسر النمطيات، ويؤثر في التمثلات ❝
❞الفاضل الجعايبي: هناك «حاجة ملحّة» تدفع الفنان إلى الوقوف على الخشبة ورغبة غامضة في الحفر داخل الذات تجعله للحظة يظن أنه قادر على التغيير ❝
في الدورة السادسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، وفي إطار المنتدى الدولي «الفنان المسرحي، زمنه وأعماله» الذي انطلقت فعالياته يوم أمس الإثنين 24 ويتواصل إلى غاية 26 نوفمبر الجاري، تقاطعت شهادتان على قدر كبير من العمق: شهادة الفاضل الجعايبي، أحد أبرز رموز المسرح التونسي والعربي، وشهادة المسرحية المغربية لطيفة أحرار، التي خاضت تجارب مسرحية ودرامية ممتدة بين الخشبة والوثائقي.
كانت الشهادتان – في جلستين منفصلتين ومتتاليتين – أشبه بمحور فلسفي مفتوح، يتواجه فيه صوتان ينتميان إلى جيلين وتجربتين وحساسيتين مختلفتين، لكنهما يشتركان في سؤال واحد: هل يستطيع المسرح أن يغيّر الإنسان؟ وهل لا يزال الفن قائماً بوصفه وثيقة على عصره أم بوصفه مقاومة رمزية لزمن يتسارع أكثر مما يقوى الفن على اللحاق به؟
بدأ الفاضل الجعايبي شهادته بنبرة قاسية صادمة، مؤكداً أنّ الفنان لا يفعل سوى أن يكون شاهداً على عصره، وأنّ «مسؤولية الشهادة مسؤولية كبرى»، لأنّ المسرح منذ الإغريق إلى اليوم لم يكن يروي سوى عصره ومآزقه. يستحضر الجعايبي كُتّاباً مثل شكسبير وموليير وبريشت، ليقول إنهم تحدثوا عن الإنسان في زمانه، عن قلقه، عن تناقضاته، عن دوافعه الخفية، وأنّ جوهر المسرح ليس سوى «الكشف عن الذات الخفية، على ما لا يُقال ولا يُرى». ثم يذهب أبعد حين يؤكد أنّ المسرح ليس أداة تغيير للنفوس، وأنّ الإنسان منذ الغابة إلى التاريخ «لم يتغير»، بل هو ذات الحيوان الشرس الذي يقتل ويعوي ويعيد إنتاج العنف نفسه. ويطرح سؤاله الوجودي: لماذا نمارس المسرح إذن؟ هل يصلح لشيء؟ فيجيب بأن المسرح لا «يغير النفوس»، لكنه قد يعمل كعملية تطهير ذاتي للفنان نفسه، يشبه فيها الممثل من يذهب إلى طبيب نفسي، يغني، يصرخ، يرقص، أو يسافر بحثاً عن توازن ما. المسرح، في رأيه، لا يعدو أن يكون لحظة مؤقتة، «سعادة عابرة»، فيما الإحباط أعمق وأكثر رسوخاً، ومع ذلك يظل الإنسان يذهب إلى المسرح ويتجادل مع ذاته بعد العرض في مرحلة قصيرة من التفاعل المسرحي، لأنّ المسرح يؤثر في الوعي النسبي فقط، لكنه لا يغير جوهر الإنسان ولا طبيعة العالم.
تصل نظرة الجعايبي إلى نقطة سوداوية أكثر حدة حين يقول إن وظيفة المسرح ليست تغيير الواقع، وإنّ ما يقال عن قدرة المسرح على تغيير المجتمعات «كذبة». فخمسون سنة من العمل المسرحي، كما يقول، مكنته من ملاحظة أنّ البشر، في بيوتهم وشوارعهم وحياتهم اليومية، لم يتبدلوا جوهرياً، وأنّ صراعاتهم وغرائزهم وسلوكياتهم بقيت كما هي، وأنّ ما يتعلمه الإنسان في الجامعات وفي الفلسفة وعلم النفس والاجتماع — بل وحتى ما تقدمه العلوم الحديثة — لم ينجح في تهذيب هذه الطبيعة العنيفة.
هو يرى المسرح كساحة صراع يومي، ينهار ويقوم، يتجادل مع الجمهور، يواجه عنف النقد أو عنف اللامبالاة، ويواصل الاشتغال رغم انكساراته، لأنّ هناك «حاجة ملحّة» تدفع الفنان إلى الوقوف على الخشبة، حاجة لا يستطيع علم النفس ولا علم الاجتماع تفسيرها بالكامل: تلك الرغبة الغامضة في الحفر داخل الذات، في أن يرى الإنسان نفسه في مرآة المسرح ويظن للحظة أنه قادر على التغيّر، بينما يعود في النهاية إلى عاداته الأولى، إلى ما استقر عليه عبر الزمن.
في الجلسة الموالية، حملت لطيفة أحرار شهادة مختلفة في نبرتها، أقرب إلى روح من يسير في نفس الطريق الوعر، لكن بقلب يؤمن بأن الشرخ الذي يتركه الفن — ولو كان صغيراً — يملك قوة ما. بدأت كلماتها بشكر إدارة أيام قرطاج المسرحية على التكريم وعلى هذا «التمرين الجميل» في التفاعل واستنطاق الذاكرة. ثم تحدثت عن شهادة الفنان على زمنه باعتبارها شهادة على أزمنة متعددة: الزمن الواقعي، الزمن النفسي، زمن الدوافع، زمن المتلقي، ثم الزمن الافتراضي الذي بات يشكّل عالماً موازياً مفروضاً بقوة. وأشارت إلى أن نشأتها كابنة رجل يعمل في المجال العسكري جعلتها تعيش الترحال منذ طفولتها، وأنّ هذا الترحال هو جوهر عمل الفنان: انتقال من شخصية إلى أخرى، من فضاء إلى آخر، من رؤية إخراجية إلى أخرى. وأنّ الصدمة الأولى التي واجهتها كانت الحرب والموت، ما جعل سؤال «الخلود» ملازماً لها، فالتمثيل — كما تقول — هو بحث عن أن يعيش الإنسان في ذوات الآخرين وأن يتقن فن العيش والموت معاً.
وبلغة أقل قتامة من الفاضل الجعايبي، تحدثت لطيفة أحرار عن تكوينها ووعيها بالبناء والهدم، وعن عملها مع أسماء كبيرة مثل الطيب الصديقي، وعن انتمائها لبلد متعدد يغذيها ويغذي رؤاها الفنية والجمالية والفكرية. واعتبرت أنّ الوثيقة — كما يقول فوكو — هي أثر يتركه الإنسان ليشهد على وجوده، وأنّ المسرح هو لقاء مع آخر مختلف: ناقد أو معارض أو محب أو ممتعض، ومن هذا الاحتكاك تتشكل الديمقراطية الحقيقية. غير أن المتحدثة لا تخفي أيضاً أن المسرح يصدم، يصفع، يثير الأسئلة، ويواجه «التابوهات» كما في مسرحية «زنى المحارم» التي تعاملت فيها مع موضوع حساس. وقالت إنها لا تحمل حلولاً جاهزة، لكنها تضع الأصبع على الداء، لتتكفل بقية الحقول — السياسة، علم الاجتماع، الطب، الفكر — بإكمال المهمة.
وعندما تستعرض لطيفة أحرار مسرحية «كفر نعوم» وتجربتها في المسرح الوثائقي، يظهر جانب آخر من فلسفتها: أنها تؤمن أنّ الفن قد يثير جدلاً برلمانياً لكنه لا يُقمع، وأنّ بقاء العرض رغم الأصوات المحافظة هو «انتصار» لحرية التعبير والإبداع. وتواصل تحليل مساراتها المسرحية في فضاءات بديلة: المنازل، المقاهي، الساحات، مؤكدة أن اشتغالها على الفضاء جزء من رؤيتها العميقة لكسر «التابوهات» وإعادة تعريف أماكن العرض.
ثم تمتد شهادتها إلى العمل الوثائقي، إلى إعادة قراءة مسارات شخصية، وإلى لحظة فخرها سنة 2020 عندما نالت جائزتين في مهرجان قرطاج السينمائي. ومع أنها تعترف بأن المسرح قد لا يغير العالم جذرياً، إلا أنها تؤمن بأنه «يغيّر قليلاً»، يغيّر الأفكار، يكسر النمطيات، ويؤثر في التمثلات، وأنّ هذا التغيير — ولو نسبي — كافٍ ليمنح العمل الفني جدواه. وهي، بوصفها أستاذة للتعليم الفني والعالي، ترى أن طلابها يمنحونها قوة متجددة، وأن رؤاهم الجديدة للمسرح، وانفتاحهم وجرأتهم، يعيدون إليها إيمانها بأن المسرح قادر على صنع أجنحة حالمة فوق الخشبة.
وفي ختام شهادتها، تعترف بأنها تمر بلحظات شك وإحباط وخذلان، لكنها تتشبث بنهوض يشبه طائر الفينيق وتقول: «كلما حاول صوت أن يسقطني، نهضت. لدي قوة تدفعني لأن أكون هنا… الآن… ودائماً».
إيمان عبد اللطيف
❞لطيفة أحرار: قد لا يغير المسرح العالم جذرياً، لكنه «يغيّر قليلاً»، يغيّر الأفكار، يكسر النمطيات، ويؤثر في التمثلات ❝
❞الفاضل الجعايبي: هناك «حاجة ملحّة» تدفع الفنان إلى الوقوف على الخشبة ورغبة غامضة في الحفر داخل الذات تجعله للحظة يظن أنه قادر على التغيير ❝
في الدورة السادسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، وفي إطار المنتدى الدولي «الفنان المسرحي، زمنه وأعماله» الذي انطلقت فعالياته يوم أمس الإثنين 24 ويتواصل إلى غاية 26 نوفمبر الجاري، تقاطعت شهادتان على قدر كبير من العمق: شهادة الفاضل الجعايبي، أحد أبرز رموز المسرح التونسي والعربي، وشهادة المسرحية المغربية لطيفة أحرار، التي خاضت تجارب مسرحية ودرامية ممتدة بين الخشبة والوثائقي.
كانت الشهادتان – في جلستين منفصلتين ومتتاليتين – أشبه بمحور فلسفي مفتوح، يتواجه فيه صوتان ينتميان إلى جيلين وتجربتين وحساسيتين مختلفتين، لكنهما يشتركان في سؤال واحد: هل يستطيع المسرح أن يغيّر الإنسان؟ وهل لا يزال الفن قائماً بوصفه وثيقة على عصره أم بوصفه مقاومة رمزية لزمن يتسارع أكثر مما يقوى الفن على اللحاق به؟
بدأ الفاضل الجعايبي شهادته بنبرة قاسية صادمة، مؤكداً أنّ الفنان لا يفعل سوى أن يكون شاهداً على عصره، وأنّ «مسؤولية الشهادة مسؤولية كبرى»، لأنّ المسرح منذ الإغريق إلى اليوم لم يكن يروي سوى عصره ومآزقه. يستحضر الجعايبي كُتّاباً مثل شكسبير وموليير وبريشت، ليقول إنهم تحدثوا عن الإنسان في زمانه، عن قلقه، عن تناقضاته، عن دوافعه الخفية، وأنّ جوهر المسرح ليس سوى «الكشف عن الذات الخفية، على ما لا يُقال ولا يُرى». ثم يذهب أبعد حين يؤكد أنّ المسرح ليس أداة تغيير للنفوس، وأنّ الإنسان منذ الغابة إلى التاريخ «لم يتغير»، بل هو ذات الحيوان الشرس الذي يقتل ويعوي ويعيد إنتاج العنف نفسه. ويطرح سؤاله الوجودي: لماذا نمارس المسرح إذن؟ هل يصلح لشيء؟ فيجيب بأن المسرح لا «يغير النفوس»، لكنه قد يعمل كعملية تطهير ذاتي للفنان نفسه، يشبه فيها الممثل من يذهب إلى طبيب نفسي، يغني، يصرخ، يرقص، أو يسافر بحثاً عن توازن ما. المسرح، في رأيه، لا يعدو أن يكون لحظة مؤقتة، «سعادة عابرة»، فيما الإحباط أعمق وأكثر رسوخاً، ومع ذلك يظل الإنسان يذهب إلى المسرح ويتجادل مع ذاته بعد العرض في مرحلة قصيرة من التفاعل المسرحي، لأنّ المسرح يؤثر في الوعي النسبي فقط، لكنه لا يغير جوهر الإنسان ولا طبيعة العالم.
تصل نظرة الجعايبي إلى نقطة سوداوية أكثر حدة حين يقول إن وظيفة المسرح ليست تغيير الواقع، وإنّ ما يقال عن قدرة المسرح على تغيير المجتمعات «كذبة». فخمسون سنة من العمل المسرحي، كما يقول، مكنته من ملاحظة أنّ البشر، في بيوتهم وشوارعهم وحياتهم اليومية، لم يتبدلوا جوهرياً، وأنّ صراعاتهم وغرائزهم وسلوكياتهم بقيت كما هي، وأنّ ما يتعلمه الإنسان في الجامعات وفي الفلسفة وعلم النفس والاجتماع — بل وحتى ما تقدمه العلوم الحديثة — لم ينجح في تهذيب هذه الطبيعة العنيفة.
هو يرى المسرح كساحة صراع يومي، ينهار ويقوم، يتجادل مع الجمهور، يواجه عنف النقد أو عنف اللامبالاة، ويواصل الاشتغال رغم انكساراته، لأنّ هناك «حاجة ملحّة» تدفع الفنان إلى الوقوف على الخشبة، حاجة لا يستطيع علم النفس ولا علم الاجتماع تفسيرها بالكامل: تلك الرغبة الغامضة في الحفر داخل الذات، في أن يرى الإنسان نفسه في مرآة المسرح ويظن للحظة أنه قادر على التغيّر، بينما يعود في النهاية إلى عاداته الأولى، إلى ما استقر عليه عبر الزمن.
في الجلسة الموالية، حملت لطيفة أحرار شهادة مختلفة في نبرتها، أقرب إلى روح من يسير في نفس الطريق الوعر، لكن بقلب يؤمن بأن الشرخ الذي يتركه الفن — ولو كان صغيراً — يملك قوة ما. بدأت كلماتها بشكر إدارة أيام قرطاج المسرحية على التكريم وعلى هذا «التمرين الجميل» في التفاعل واستنطاق الذاكرة. ثم تحدثت عن شهادة الفنان على زمنه باعتبارها شهادة على أزمنة متعددة: الزمن الواقعي، الزمن النفسي، زمن الدوافع، زمن المتلقي، ثم الزمن الافتراضي الذي بات يشكّل عالماً موازياً مفروضاً بقوة. وأشارت إلى أن نشأتها كابنة رجل يعمل في المجال العسكري جعلتها تعيش الترحال منذ طفولتها، وأنّ هذا الترحال هو جوهر عمل الفنان: انتقال من شخصية إلى أخرى، من فضاء إلى آخر، من رؤية إخراجية إلى أخرى. وأنّ الصدمة الأولى التي واجهتها كانت الحرب والموت، ما جعل سؤال «الخلود» ملازماً لها، فالتمثيل — كما تقول — هو بحث عن أن يعيش الإنسان في ذوات الآخرين وأن يتقن فن العيش والموت معاً.
وبلغة أقل قتامة من الفاضل الجعايبي، تحدثت لطيفة أحرار عن تكوينها ووعيها بالبناء والهدم، وعن عملها مع أسماء كبيرة مثل الطيب الصديقي، وعن انتمائها لبلد متعدد يغذيها ويغذي رؤاها الفنية والجمالية والفكرية. واعتبرت أنّ الوثيقة — كما يقول فوكو — هي أثر يتركه الإنسان ليشهد على وجوده، وأنّ المسرح هو لقاء مع آخر مختلف: ناقد أو معارض أو محب أو ممتعض، ومن هذا الاحتكاك تتشكل الديمقراطية الحقيقية. غير أن المتحدثة لا تخفي أيضاً أن المسرح يصدم، يصفع، يثير الأسئلة، ويواجه «التابوهات» كما في مسرحية «زنى المحارم» التي تعاملت فيها مع موضوع حساس. وقالت إنها لا تحمل حلولاً جاهزة، لكنها تضع الأصبع على الداء، لتتكفل بقية الحقول — السياسة، علم الاجتماع، الطب، الفكر — بإكمال المهمة.
وعندما تستعرض لطيفة أحرار مسرحية «كفر نعوم» وتجربتها في المسرح الوثائقي، يظهر جانب آخر من فلسفتها: أنها تؤمن أنّ الفن قد يثير جدلاً برلمانياً لكنه لا يُقمع، وأنّ بقاء العرض رغم الأصوات المحافظة هو «انتصار» لحرية التعبير والإبداع. وتواصل تحليل مساراتها المسرحية في فضاءات بديلة: المنازل، المقاهي، الساحات، مؤكدة أن اشتغالها على الفضاء جزء من رؤيتها العميقة لكسر «التابوهات» وإعادة تعريف أماكن العرض.
ثم تمتد شهادتها إلى العمل الوثائقي، إلى إعادة قراءة مسارات شخصية، وإلى لحظة فخرها سنة 2020 عندما نالت جائزتين في مهرجان قرطاج السينمائي. ومع أنها تعترف بأن المسرح قد لا يغير العالم جذرياً، إلا أنها تؤمن بأنه «يغيّر قليلاً»، يغيّر الأفكار، يكسر النمطيات، ويؤثر في التمثلات، وأنّ هذا التغيير — ولو نسبي — كافٍ ليمنح العمل الفني جدواه. وهي، بوصفها أستاذة للتعليم الفني والعالي، ترى أن طلابها يمنحونها قوة متجددة، وأن رؤاهم الجديدة للمسرح، وانفتاحهم وجرأتهم، يعيدون إليها إيمانها بأن المسرح قادر على صنع أجنحة حالمة فوق الخشبة.
وفي ختام شهادتها، تعترف بأنها تمر بلحظات شك وإحباط وخذلان، لكنها تتشبث بنهوض يشبه طائر الفينيق وتقول: «كلما حاول صوت أن يسقطني، نهضت. لدي قوة تدفعني لأن أكون هنا… الآن… ودائماً».