إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

عبر أجنحة معرض الشارقة الدولي للكتاب.. الناشرون التونسيون بين التحديات المالية والرهانات الثقافية والانفتاح العربي

الشارقة – الإمارات – الصباح من مبعوثتنا – إيمان عبد اللطيف

في أروقة الدورة الـ44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، تتجسّد تجربة تونس الثقافية بصخبها وتردّداتها، حضور متواضع عدديًا، لكنه عميق في معناه، ومثقل بإرث متصل بالمكتبة والبحث والذاكرة الشعبية. فيحضر صُنّاع الكتاب والنشر التونسيون في 10 أجنحة تتوزع على مختلف أروقة فضاء إكسبو الشارقة، حيث يقدمون للقراء مؤلفات متنوعة تُراوح بين أمهات الكتب والتراجم، فضلًا عن آخر الإصدارات في مختلف التخصصات البحثية والأجناس الأدبية من رواية وقصة وشعر ودراسات وبحوث وكتب مختصة.

وتُعرض الإصدارات التونسية على زوّار المعرض من خلال أجنحة منشورات تونسية، فضلًا عن حضور الكتاب التونسي في أجنحة أخرى سواء لوكلاء توزيع أو لدور نشر عربية تصدر مؤلفات أو ترجمات لأدباء وباحثين ومترجمين تونسيين.

الوقوف عند تجربة كل ناشر تونسي في الشارقة يكشف تنوعًا في الرؤى والتجارب. في إحدى الزوايا، تحدث ناجي مرزوق، صاحب دار صامد للنشر، عن مشاركته الممتدة منذ 2009، ليس بوصفها عملًا تجاريًا فحسب، بل فعلًا ثقافيًا يقوم على «رفع صوت تونس» عبر الأمثال والشعر الشعبي والذاكرة الشفوية. مرزوق، الذي تجاوز سنّ السبعين، لا يختصر مشاركته على البيع والشراء، بل يواصل الترويج لجزء من التراث الجبلي والريفي التونسي الذي لا تجده بسهولة في مطبوعات السوق التجارية. وهو ما يبيّن أن المعرض هنا يتحوّل إلى سوقٍ معرضيٍّ للهوية، حيث يجد الجمهور العربي «حنين تونس» كما يسميه هو.

وفي جناح آخر، أوضح رياض شنيتر، صاحب دار سوتيميديا للنشر والتوزيع وعضو مجلس إدارة اتحاد الناشرين العرب، في تصريح لـ»الصباح»، أنّ مشاركته في المعرض ليست جديدة، فهو حاضر تقريبًا في كل المعارض العربية الكبرى. لكن هذه المشاركة بالذات، كما يراها، لها معنى خاص، فالشارقة بالنسبة له سوق ثقافي واسع يضم ناشرين ومؤسسات وجامعات ومراكز بحث.

وقال إنّ إصداراته تركز على العلوم الموسيقية، والعلوم الاجتماعية، والدراسات الثقافية، والتاريخ، والرواية. جمهورها نخبة محددة: أساتذة جامعات، باحثون، مكتبات جامعية، وقرّاء متخصصون. معنى هذا أن رهان المشاركة بالنسبة له لا يقوم على مبيعات مباشرة، بل على «تثبيت حضور» و»ربط شبكات علمية وثقافية».

لكن الصعوبة هي ذاتها التي أشار إليها كل من تحدثت إليهم «الصباح»، فلا وجود لأي دعم: لا للسفر، لا للشحن، لا للإقامة، لا لرسوم الجناح، كلها على حساب الدار. فـ»المردود الحقيقي لا يظهر في اليوم الأول ولا حتى في هذا المعرض فقط»، وفق الناشر رياض شنيتر، «بل في العلاقات المستمرة التي تتولد منه.» وحين سُئل عن الجالية التونسية في الإمارات، قال: «هي موجودة ولكن ليست بكثرة كما في الدوحة مثلًا. لكن المثقفين التونسيين الذين يحبون الكتاب يعودون دائمًا.»

المعرض كمنصة حضارية وليس تجارية فقط

أما الدكتور سالم الأطرش، صاحب مجمع الأطرش للكتاب المختص، فقد تجاوز فكرة «الناشر المحلي» منذ زمن، فيصف مؤسسته بأنها «مغاربية» لا تونسية فحسب، فهي تنشر للباحثين من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وليبيا، وتشارك في ما بين 12 و13 معرضًا دوليًا سنويًا، من العراق إلى طهران، ومن المغرب إلى قطر والإمارات. ولدى المؤسسة أيضًا فرع دائم في الشارقة، ما يجعل حضورهم في المعرض جزءًا من دورة مهنية مستمرة لا مجرد مشاركة موسمية.

ويرى الناشر أنّ المعرض لا يعتمد على الجمهور العام فقط، بل على المؤسسات الأكاديمية الداعمة، فالجامعات والكليات ومراكز البحث هي التي تشتري، وهي التي تضمن استمرارية المعرفة الورقية، في زمن أصبح فيه الكتاب الإلكتروني منافسًا عنيدًا. ففي حديثه لـ«الصباح»، كان هناك تأكيد على أن النشر ليس فقط تجارة، بل مشروع حضاري، وفق قوله: «حين يكون الكتاب مضبوطًا، محققًا، مصححًا، ومعتنى به، فإن طلبه يبقى دائمًا.»

تكلفة المشاركة: المعادلة المالية والسياسية

خلال جولة قصيرة بين الأجنحة، يتضح أن نقطة الاتفاق بين جميع الناشرين تقريبًا هي العبء المالي الذي يتوزع بين تكاليف الشحن، ورسوم الجناح، وتذاكر السفر، والإقامة. فأوضح أغلبهم أنّ العبء على كاهل الناشر في تونس لا يُقارن بالمقاربة المعتمدة في دول أخرى، حيث تقدم الدولة أو مؤسسات ثقافية منحًا أو دعمًا أو تسهيلات شحن. نقص هذا الدعم يجعل المشاركة «رهانًا محسوبًا» لجهات قادرة على تحمّل المخاطرة أو لمن يمتلك موارد خارجية، لكنه عادة ما يحرم ناشرون صغارًا من فرص الولوج إلى هذه الفضاءات الحيوية.

في جناح دار زينب للنشر والتوزيع، تحدثت صفاء بن سليمان لـ«الصباح» عن تجربتها وطبيعة مشاركتها قائلة: «نوعنا كثيرًا في المنشورات من روايات، دراسات، أبحاث، أطروحات، كما حرصنا على جلب العناوين الجديدة، إضافة إلى عدد من منشورات السنوات الماضية»، موضحة أنّ «أكثر زوار الجناح هم اللبنانيون والمصريون والفلسطينيون، إذ لديهم فضول كبير تجاه الكتاب التونسي باعتباره ذا جودة عالية من حيث العناوين والمضامين».

ولمجابهة المعضلات المالية والحاجات السوقية، اتبعت دور نشر تونسية سياسات متنوعة: تنويع العناوين بين البحوث والدراسات والرواية والقصة والتكنولوجيا، مع الاشتغال على جودة الطبعة والإخراج لتوليد ثقة القارئ، وإنشاء شراكات مع وكلاء توزيع عرب لتوسيع الحضور، بل والسعي إلى طباعة نسخ متخصصة بلغة أو تحقيقات مناسبة لحاجات المكتبات الأكاديمية. بعض الناشرين نجحوا في بناء قاعدة حرفاء إقليمية، ما يحوّل حضورهم في معرض الشارقة إلى محطة لتعزيز علاقاتهم مع المكتبات والجامعات في العالم العربي، وهو ما أكّده جلّ العارضين التونسيين في تصريحاتهم لـ«الصباح».

فدار المالكية للطباعة والنشر تقدم نموذجًا آخر، يصوّر ثقل التراث وارتفاع كلفة إنتاجه، خاصة حين يتعلق الأمر بالمشاريع البحثية الكبرى. فأكّد على العياشي، صاحب الدار: «نحن نهتم بكتاب التراث وبالكتاب الأدبي والإسلامي بصفة عامة، وبالتالي نتواجد بكافة المعارض الدولية في الوطن العربي من المغرب إلى الكويت إلى بغداد إلى مصر إلى الرياض والشارقة التي نتواجد فيها للمرة التاسعة بجهود خاصة، فلا دعم ولا تمويل ولا رعاية، ومع ذلك نواصل.» وأشار محدّثنا إلى مسألة بنيوية تمسّ قطاع النشر برمّته، إذ قال: «في تونس هناك أكثر من 65 ناشرًا، لكن المشاركين هنا 10 ناشرين فقط. هذا ليس مشكل الناشرين، بل هو مشكل الدولة التي لا تملك برنامجًا لدعم المشاركة الخارجية، خاصة في الشحن وتذاكر السفر ورسوم الأجنحة.»

وبما أنّ الحضور التونسي في معارض الكتاب الدولية، وخاصة البارزة منها، يظل – وفق ما لاحظنا – مرتبطًا بالمبادرات الفردية، في انتظار، ربما، بناء استراتيجيات ثقافية جديدة تدعم حضور الكتاب في الخارج وتُعزّز الدبلوماسية الثقافية للبلاد.

عبر أجنحة معرض الشارقة الدولي للكتاب..   الناشرون التونسيون بين التحديات المالية والرهانات الثقافية والانفتاح العربي

الشارقة – الإمارات – الصباح من مبعوثتنا – إيمان عبد اللطيف

في أروقة الدورة الـ44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، تتجسّد تجربة تونس الثقافية بصخبها وتردّداتها، حضور متواضع عدديًا، لكنه عميق في معناه، ومثقل بإرث متصل بالمكتبة والبحث والذاكرة الشعبية. فيحضر صُنّاع الكتاب والنشر التونسيون في 10 أجنحة تتوزع على مختلف أروقة فضاء إكسبو الشارقة، حيث يقدمون للقراء مؤلفات متنوعة تُراوح بين أمهات الكتب والتراجم، فضلًا عن آخر الإصدارات في مختلف التخصصات البحثية والأجناس الأدبية من رواية وقصة وشعر ودراسات وبحوث وكتب مختصة.

وتُعرض الإصدارات التونسية على زوّار المعرض من خلال أجنحة منشورات تونسية، فضلًا عن حضور الكتاب التونسي في أجنحة أخرى سواء لوكلاء توزيع أو لدور نشر عربية تصدر مؤلفات أو ترجمات لأدباء وباحثين ومترجمين تونسيين.

الوقوف عند تجربة كل ناشر تونسي في الشارقة يكشف تنوعًا في الرؤى والتجارب. في إحدى الزوايا، تحدث ناجي مرزوق، صاحب دار صامد للنشر، عن مشاركته الممتدة منذ 2009، ليس بوصفها عملًا تجاريًا فحسب، بل فعلًا ثقافيًا يقوم على «رفع صوت تونس» عبر الأمثال والشعر الشعبي والذاكرة الشفوية. مرزوق، الذي تجاوز سنّ السبعين، لا يختصر مشاركته على البيع والشراء، بل يواصل الترويج لجزء من التراث الجبلي والريفي التونسي الذي لا تجده بسهولة في مطبوعات السوق التجارية. وهو ما يبيّن أن المعرض هنا يتحوّل إلى سوقٍ معرضيٍّ للهوية، حيث يجد الجمهور العربي «حنين تونس» كما يسميه هو.

وفي جناح آخر، أوضح رياض شنيتر، صاحب دار سوتيميديا للنشر والتوزيع وعضو مجلس إدارة اتحاد الناشرين العرب، في تصريح لـ»الصباح»، أنّ مشاركته في المعرض ليست جديدة، فهو حاضر تقريبًا في كل المعارض العربية الكبرى. لكن هذه المشاركة بالذات، كما يراها، لها معنى خاص، فالشارقة بالنسبة له سوق ثقافي واسع يضم ناشرين ومؤسسات وجامعات ومراكز بحث.

وقال إنّ إصداراته تركز على العلوم الموسيقية، والعلوم الاجتماعية، والدراسات الثقافية، والتاريخ، والرواية. جمهورها نخبة محددة: أساتذة جامعات، باحثون، مكتبات جامعية، وقرّاء متخصصون. معنى هذا أن رهان المشاركة بالنسبة له لا يقوم على مبيعات مباشرة، بل على «تثبيت حضور» و»ربط شبكات علمية وثقافية».

لكن الصعوبة هي ذاتها التي أشار إليها كل من تحدثت إليهم «الصباح»، فلا وجود لأي دعم: لا للسفر، لا للشحن، لا للإقامة، لا لرسوم الجناح، كلها على حساب الدار. فـ»المردود الحقيقي لا يظهر في اليوم الأول ولا حتى في هذا المعرض فقط»، وفق الناشر رياض شنيتر، «بل في العلاقات المستمرة التي تتولد منه.» وحين سُئل عن الجالية التونسية في الإمارات، قال: «هي موجودة ولكن ليست بكثرة كما في الدوحة مثلًا. لكن المثقفين التونسيين الذين يحبون الكتاب يعودون دائمًا.»

المعرض كمنصة حضارية وليس تجارية فقط

أما الدكتور سالم الأطرش، صاحب مجمع الأطرش للكتاب المختص، فقد تجاوز فكرة «الناشر المحلي» منذ زمن، فيصف مؤسسته بأنها «مغاربية» لا تونسية فحسب، فهي تنشر للباحثين من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وليبيا، وتشارك في ما بين 12 و13 معرضًا دوليًا سنويًا، من العراق إلى طهران، ومن المغرب إلى قطر والإمارات. ولدى المؤسسة أيضًا فرع دائم في الشارقة، ما يجعل حضورهم في المعرض جزءًا من دورة مهنية مستمرة لا مجرد مشاركة موسمية.

ويرى الناشر أنّ المعرض لا يعتمد على الجمهور العام فقط، بل على المؤسسات الأكاديمية الداعمة، فالجامعات والكليات ومراكز البحث هي التي تشتري، وهي التي تضمن استمرارية المعرفة الورقية، في زمن أصبح فيه الكتاب الإلكتروني منافسًا عنيدًا. ففي حديثه لـ«الصباح»، كان هناك تأكيد على أن النشر ليس فقط تجارة، بل مشروع حضاري، وفق قوله: «حين يكون الكتاب مضبوطًا، محققًا، مصححًا، ومعتنى به، فإن طلبه يبقى دائمًا.»

تكلفة المشاركة: المعادلة المالية والسياسية

خلال جولة قصيرة بين الأجنحة، يتضح أن نقطة الاتفاق بين جميع الناشرين تقريبًا هي العبء المالي الذي يتوزع بين تكاليف الشحن، ورسوم الجناح، وتذاكر السفر، والإقامة. فأوضح أغلبهم أنّ العبء على كاهل الناشر في تونس لا يُقارن بالمقاربة المعتمدة في دول أخرى، حيث تقدم الدولة أو مؤسسات ثقافية منحًا أو دعمًا أو تسهيلات شحن. نقص هذا الدعم يجعل المشاركة «رهانًا محسوبًا» لجهات قادرة على تحمّل المخاطرة أو لمن يمتلك موارد خارجية، لكنه عادة ما يحرم ناشرون صغارًا من فرص الولوج إلى هذه الفضاءات الحيوية.

في جناح دار زينب للنشر والتوزيع، تحدثت صفاء بن سليمان لـ«الصباح» عن تجربتها وطبيعة مشاركتها قائلة: «نوعنا كثيرًا في المنشورات من روايات، دراسات، أبحاث، أطروحات، كما حرصنا على جلب العناوين الجديدة، إضافة إلى عدد من منشورات السنوات الماضية»، موضحة أنّ «أكثر زوار الجناح هم اللبنانيون والمصريون والفلسطينيون، إذ لديهم فضول كبير تجاه الكتاب التونسي باعتباره ذا جودة عالية من حيث العناوين والمضامين».

ولمجابهة المعضلات المالية والحاجات السوقية، اتبعت دور نشر تونسية سياسات متنوعة: تنويع العناوين بين البحوث والدراسات والرواية والقصة والتكنولوجيا، مع الاشتغال على جودة الطبعة والإخراج لتوليد ثقة القارئ، وإنشاء شراكات مع وكلاء توزيع عرب لتوسيع الحضور، بل والسعي إلى طباعة نسخ متخصصة بلغة أو تحقيقات مناسبة لحاجات المكتبات الأكاديمية. بعض الناشرين نجحوا في بناء قاعدة حرفاء إقليمية، ما يحوّل حضورهم في معرض الشارقة إلى محطة لتعزيز علاقاتهم مع المكتبات والجامعات في العالم العربي، وهو ما أكّده جلّ العارضين التونسيين في تصريحاتهم لـ«الصباح».

فدار المالكية للطباعة والنشر تقدم نموذجًا آخر، يصوّر ثقل التراث وارتفاع كلفة إنتاجه، خاصة حين يتعلق الأمر بالمشاريع البحثية الكبرى. فأكّد على العياشي، صاحب الدار: «نحن نهتم بكتاب التراث وبالكتاب الأدبي والإسلامي بصفة عامة، وبالتالي نتواجد بكافة المعارض الدولية في الوطن العربي من المغرب إلى الكويت إلى بغداد إلى مصر إلى الرياض والشارقة التي نتواجد فيها للمرة التاسعة بجهود خاصة، فلا دعم ولا تمويل ولا رعاية، ومع ذلك نواصل.» وأشار محدّثنا إلى مسألة بنيوية تمسّ قطاع النشر برمّته، إذ قال: «في تونس هناك أكثر من 65 ناشرًا، لكن المشاركين هنا 10 ناشرين فقط. هذا ليس مشكل الناشرين، بل هو مشكل الدولة التي لا تملك برنامجًا لدعم المشاركة الخارجية، خاصة في الشحن وتذاكر السفر ورسوم الأجنحة.»

وبما أنّ الحضور التونسي في معارض الكتاب الدولية، وخاصة البارزة منها، يظل – وفق ما لاحظنا – مرتبطًا بالمبادرات الفردية، في انتظار، ربما، بناء استراتيجيات ثقافية جديدة تدعم حضور الكتاب في الخارج وتُعزّز الدبلوماسية الثقافية للبلاد.