من ضفتي المتوسط، حيث تتقاطع الحضارات ويلتقي عبق التاريخ بتحديات المستقبل، نسجت تونس وإسبانيا على مدى ثلاثة عقود خيوط تعاون متين تحوّل إلى شراكة تتجدّد مع كل محطة، وتكتسب بعدًا أوسع مع كل تحدٍّ إقليمي ودولي. فثلاثون سنة من التعاون والاحترام المتبادل جعلت من العلاقات بين البلدين نموذجًا متفرّدًا في الفضاء الأورومتوسّطي، يجمع بين الجذور المتينة والرؤية المشتركة لمستقبل يقوم على التنمية العادلة والتضامن بين الشعوب.
واليوم، ومع تزامن هذه السنة مع الذكرى الثلاثين لمعاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار (26 أكتوبر 1995)، ومرور ثلاثة عقود على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وانطلاق مسار برشلونة، تستعيد العلاقات التونسية الإسبانية إشعاعها في سياق دولي دقيق يفرض إعادة رسم معالم التعاون المتوسطي على أسس أكثر توازنًا وإنصافًا وعدلًا.
قبل الخوض في التحديات المشتركة التي تواجه البلدين، والتي تفرضها المتغيرات الدولية والإقليمية، لا بد من التوقّف عند مسار التعاون الثنائي الذي أثمر جملة من الإنجازات الملموسة، مما ساهم في إرساء أرضية صلبة للتعاون التونسي الإسباني.
فقد نجحت كلٌّ من تونس وإسبانيا في بناء مسار تعاون متوازن شمل مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. وتعدّ إسبانيا اليوم الشريك الرابع لتونس، حيث يبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية التراكمية 2450.09 مليون دينار، وفقًا لإحصائيات نشرتها وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي بعنوان سنة 2024.
في حين يبلغ عدد الشركات الإسبانية الناشطة أساسًا في قطاعات مواد البناء والصناعات الغذائية والميكانيك والخدمات الفندقية والنسيج والملابس 72 شركة، توفّر جميعها ما يقارب 7781 موطن شغل. كما يحظى ملف الطاقات المتجددة باهتمام متزايد من قبل البلدين، حيث تشكّل تونس بوابة لإسبانيا نحو القارة الإفريقية بفضل موقعها الاستراتيجي ومشاريعها الطموحة في مجال الاقتصاد الأخضر، فيما تمثل الخبرة الإسبانية في هذا المجال أرضية هامة لتطوير القدرات الوطنية.
ولا يقف التعاون بين البلدين عند حدود الجانب الاقتصادي، وإنما يمتد إلى برامج التكوين المهني والتبادل الجامعي والثقافي، حيث تحتضن الجامعات الإسبانية سنويًا مئات الطلبة التونسيين في إطار اتفاقيات تعاون أكاديمي، في حين تشهد المؤسسات التعليمية والثقافية في تونس حضورًا متزايدًا للغة الإسبانية يترجمه نشاط “معهد ثيرفانتس” وبرامج التعاون الثقافي الثنائي.
انسجام في المواقف
من جانب آخر، وبعيدًا عن لغة الأرقام ومجالات التعاون، فإن أكثر ما يمنح العلاقات بين البلدين خصوصية وتميّزًا هو ذلك التناغم اللافت في الرؤى والمواقف إزاء كبرى القضايا الإقليمية والدولية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، حيث أكّد الجانبان في أكثر من مناسبة دعمهما لحقوق الشعب الفلسطيني ورفضهما للانتهاكات الصارخة، مع الدعوة إلى حل عادل وشامل قائم على قرارات الشرعية الدولية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، مما ساهم في تعزيز حضورهما المشترك وإعلاء صوتهما داخل المحافل الدولية دفاعًا عن قيم العدالة والكرامة الإنسانية.
وهذا التلاقي في الرؤى لا يقتصر على الملف الفلسطيني، بل يمتد ليشمل أيضًا قضايا الهجرة والتنمية المستدامة ومكافحة التغيرات المناخية وغيرها من المجالات الجوهرية التي تقتضي مزيدًا من التشاور والتنسيق بما يعزز المقاربة التضامنية التي تجمع البلدين في معالجة التحدّيات المشتركة، ويكرّس رؤيتهما المشتركة لفضاء متوسّطي أكثر توازنًا وعدلًا.
دفاع عن المصالح
ومع كل هذا الزخم المتجدد في العلاقات الثنائية، تواصل تونس وإسبانيا تعاونهما داخل الإطار الأوسع للاتحاد الأوروبي ومسار برشلونة، في دفاع مشترك عن المصالح المتوسطية وإحياء روح التعاون التي أرساها هذا المسار قبل ثلاثين عامًا. فالتحديات المشتركة التي تواجه ضفتي المتوسط، من أمن غذائي ومائي وبيئي إلى تحوّلات اقتصادية، تفرض مقاربة جماعية تقوم على الشراكة المتكافئة والاحترام المتبادل، وهو ما شدّدت عليه تونس في مختلف اللقاءات والمحطات الثنائية والمتعددة الأطراف.
وإذا كانت الذكرى الثلاثون لمعاهدة الصداقة والتعاون، التي يستعد البلدان قريبًا لإحيائها، تمثل محطة للاحتفاء بماضٍ ثريّ قوامه الانسجام في المواقف والشراكة الفاعلة، فإنها تمثل أيضًا فرصة لتجديد الالتزام بمستقبل واعد يضمن لتونس وإسبانيا مكانة فاعلة في فضاء أورومتوسّطي أكثر توازنًا.
في هذا الخضم، تتجاوز العلاقات التونسية الإسبانية كونها اليوم مجرد روابط دبلوماسية، لتمتد إلى شراكة حقيقية مبنية على الثقة والتاريخ المشترك والتطلّع إلى غدٍ أفضل؛ غدٍ قوامه التنمية العادلة والاحترام المتبادل والعمل من أجل الاستقرار في الضفة الجنوبية والشمالية للمتوسط.
فتونس وإسبانيا اليوم أمام فرصة تاريخية لتطوير تعاون نوعي يُكرّس الثقة ويحوّل البحر الأبيض المتوسط من فضاء للفصل إلى جسر حقيقي للتقارب والتكامل، في ظل وجود إرادة سياسية من الطرفين تجسّد هذه الرؤية المشتركة.
منال الحرزي
من ضفتي المتوسط، حيث تتقاطع الحضارات ويلتقي عبق التاريخ بتحديات المستقبل، نسجت تونس وإسبانيا على مدى ثلاثة عقود خيوط تعاون متين تحوّل إلى شراكة تتجدّد مع كل محطة، وتكتسب بعدًا أوسع مع كل تحدٍّ إقليمي ودولي. فثلاثون سنة من التعاون والاحترام المتبادل جعلت من العلاقات بين البلدين نموذجًا متفرّدًا في الفضاء الأورومتوسّطي، يجمع بين الجذور المتينة والرؤية المشتركة لمستقبل يقوم على التنمية العادلة والتضامن بين الشعوب.
واليوم، ومع تزامن هذه السنة مع الذكرى الثلاثين لمعاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار (26 أكتوبر 1995)، ومرور ثلاثة عقود على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وانطلاق مسار برشلونة، تستعيد العلاقات التونسية الإسبانية إشعاعها في سياق دولي دقيق يفرض إعادة رسم معالم التعاون المتوسطي على أسس أكثر توازنًا وإنصافًا وعدلًا.
قبل الخوض في التحديات المشتركة التي تواجه البلدين، والتي تفرضها المتغيرات الدولية والإقليمية، لا بد من التوقّف عند مسار التعاون الثنائي الذي أثمر جملة من الإنجازات الملموسة، مما ساهم في إرساء أرضية صلبة للتعاون التونسي الإسباني.
فقد نجحت كلٌّ من تونس وإسبانيا في بناء مسار تعاون متوازن شمل مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. وتعدّ إسبانيا اليوم الشريك الرابع لتونس، حيث يبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية التراكمية 2450.09 مليون دينار، وفقًا لإحصائيات نشرتها وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي بعنوان سنة 2024.
في حين يبلغ عدد الشركات الإسبانية الناشطة أساسًا في قطاعات مواد البناء والصناعات الغذائية والميكانيك والخدمات الفندقية والنسيج والملابس 72 شركة، توفّر جميعها ما يقارب 7781 موطن شغل. كما يحظى ملف الطاقات المتجددة باهتمام متزايد من قبل البلدين، حيث تشكّل تونس بوابة لإسبانيا نحو القارة الإفريقية بفضل موقعها الاستراتيجي ومشاريعها الطموحة في مجال الاقتصاد الأخضر، فيما تمثل الخبرة الإسبانية في هذا المجال أرضية هامة لتطوير القدرات الوطنية.
ولا يقف التعاون بين البلدين عند حدود الجانب الاقتصادي، وإنما يمتد إلى برامج التكوين المهني والتبادل الجامعي والثقافي، حيث تحتضن الجامعات الإسبانية سنويًا مئات الطلبة التونسيين في إطار اتفاقيات تعاون أكاديمي، في حين تشهد المؤسسات التعليمية والثقافية في تونس حضورًا متزايدًا للغة الإسبانية يترجمه نشاط “معهد ثيرفانتس” وبرامج التعاون الثقافي الثنائي.
انسجام في المواقف
من جانب آخر، وبعيدًا عن لغة الأرقام ومجالات التعاون، فإن أكثر ما يمنح العلاقات بين البلدين خصوصية وتميّزًا هو ذلك التناغم اللافت في الرؤى والمواقف إزاء كبرى القضايا الإقليمية والدولية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، حيث أكّد الجانبان في أكثر من مناسبة دعمهما لحقوق الشعب الفلسطيني ورفضهما للانتهاكات الصارخة، مع الدعوة إلى حل عادل وشامل قائم على قرارات الشرعية الدولية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، مما ساهم في تعزيز حضورهما المشترك وإعلاء صوتهما داخل المحافل الدولية دفاعًا عن قيم العدالة والكرامة الإنسانية.
وهذا التلاقي في الرؤى لا يقتصر على الملف الفلسطيني، بل يمتد ليشمل أيضًا قضايا الهجرة والتنمية المستدامة ومكافحة التغيرات المناخية وغيرها من المجالات الجوهرية التي تقتضي مزيدًا من التشاور والتنسيق بما يعزز المقاربة التضامنية التي تجمع البلدين في معالجة التحدّيات المشتركة، ويكرّس رؤيتهما المشتركة لفضاء متوسّطي أكثر توازنًا وعدلًا.
دفاع عن المصالح
ومع كل هذا الزخم المتجدد في العلاقات الثنائية، تواصل تونس وإسبانيا تعاونهما داخل الإطار الأوسع للاتحاد الأوروبي ومسار برشلونة، في دفاع مشترك عن المصالح المتوسطية وإحياء روح التعاون التي أرساها هذا المسار قبل ثلاثين عامًا. فالتحديات المشتركة التي تواجه ضفتي المتوسط، من أمن غذائي ومائي وبيئي إلى تحوّلات اقتصادية، تفرض مقاربة جماعية تقوم على الشراكة المتكافئة والاحترام المتبادل، وهو ما شدّدت عليه تونس في مختلف اللقاءات والمحطات الثنائية والمتعددة الأطراف.
وإذا كانت الذكرى الثلاثون لمعاهدة الصداقة والتعاون، التي يستعد البلدان قريبًا لإحيائها، تمثل محطة للاحتفاء بماضٍ ثريّ قوامه الانسجام في المواقف والشراكة الفاعلة، فإنها تمثل أيضًا فرصة لتجديد الالتزام بمستقبل واعد يضمن لتونس وإسبانيا مكانة فاعلة في فضاء أورومتوسّطي أكثر توازنًا.
في هذا الخضم، تتجاوز العلاقات التونسية الإسبانية كونها اليوم مجرد روابط دبلوماسية، لتمتد إلى شراكة حقيقية مبنية على الثقة والتاريخ المشترك والتطلّع إلى غدٍ أفضل؛ غدٍ قوامه التنمية العادلة والاحترام المتبادل والعمل من أجل الاستقرار في الضفة الجنوبية والشمالية للمتوسط.
فتونس وإسبانيا اليوم أمام فرصة تاريخية لتطوير تعاون نوعي يُكرّس الثقة ويحوّل البحر الأبيض المتوسط من فضاء للفصل إلى جسر حقيقي للتقارب والتكامل، في ظل وجود إرادة سياسية من الطرفين تجسّد هذه الرؤية المشتركة.