إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

يستقطب التلاميذ والطلبة ويستنزف منظومة التعليم.. آليات الذكاء الاصطناعي.. بين الفوائد والمخاطر

باحث في الذكاء الاصطناعي لـ«الصباح»: دور الأستاذ والعائلة مهم في مجابهة كل المخاطر الممكنة

رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم لـ«الصباح»:تونس في حاجة إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم

مختص في علم الاجتماع والتربية لـ«الصباح»: الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا متغلغلًا في الحياة اليومية للتلميذ التونسي

بالرغم من الفرص الهائلة التي توفرها اليوم آليات الذكاء الاصطناعي من تطبيقات وبرامج في قطاع التعليم، إلا أن استخدامها غير السليم من قبل التلاميذ والطلبة فسح المجال لظهور مخاطر كثيرة تهدد مدارك المتعلم المعرفية، ومنظومة التعليم من جهة أخرى.

حول هذا الوافد الجديد بجميع أصنافه وتفرعاته، توقفت «الصباح» عند دراسة ظاهرة تستقطب الآلاف من التونسيين، بين منافعها ومخاطرها.

من بين هذه المخاطر: تراجع المهارات في الكتابة والتحليل والنقاش، الانتحال العلمي أو ما يُعرف بالسرقات الفكرية، ضعف الفهم العميق، والمخاطر النفسية والاجتماعية. هذه أبرز الآثار السلبية التي تترتب عن الاستعمال الخاطئ وغير السليم لآليات الذكاء الاصطناعي لدى التلاميذ والطلبة..

إلى جانب المخاطر الأخلاقية المتوقعة لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، المتمثلة في سوء استخدام البيانات، خسارة الوظائف، زيادة التبعية، وانتشار الجرائم السيبرانية التي قد تصل إلى تحويل المعلومات إلى أسلحة.

وفي هذا الخصوص، تحدث الدكتور والباحث في علم الاجتماع والتربية، منذر عافي، لـ«الصباح»، مبينًا أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا متغلغلًا في حياة التلميذ التونسي اليومية، بعد أن أصبح يزور المنصات الرقمية بشكل يومي عبر هاتفه الذكي، ويستخدم برامج تولّد الإجابات بضغطة زر، وهو ما يتطلب ثورة معرفية تعيد تشكيل العلاقة بين المتعلم والمعرفة.

مخاطر تربوية

هل ستظل المدرسة المصدر الأول للعلم، أم أن الذكاء الاصطناعي يزاحمها ويفرض نفسه كقوة تعليمية منافسة؟

حول هذا السؤال، أجاب عافي بأن ظهور أدوات مثل «شات جي بي تي» (ChatGPT) مكّن التلاميذ والطلبة من الوصول إلى المعلومات بسرعة فائقة، بحيث لم يعد هناك حاجة إلى البحث الذاتي أو القراءة الدقيقة للكتب أو بذل مجهود طويل لفهم مسألة ما، معتبرًا أن الذكاء الاصطناعي يقدم تلخيصًا دقيقًا، ويزود التلميذ بحلول جاهزة ومقالات كاملة خالية من الأخطاء اللغوية، حسب تعبيره.

وأضاف عافي في ذات السياق أن هذه الإمكانيات تبدو للوهلة الأولى إنجازًا تقنيًا واعدًا، لكنها تحمل في أعماقها مخاطر تربوية تؤدي إلى الكسل المعرفي للتلميذ، وتقلل من قيمة تفكيره النقدي، لتحوّل بذلك عملية التعلّم من بناء ذاتي إلى استهلاك جاهز للإجابات.

كما قال عافي إن دخول الذكاء الاصطناعي غير المؤطر خلق ثقافة الاستسهال المعرفي، ليصبح التلميذ يسأل الآلة بدل أن يسأل نفسه، ويعتمد على الإجابة الجاهزة بدل اختبار قدرته على الفهم والتطبيق، ويقيس نجاحه بقدرة الأداة على الإنجاز بدل تقديره بما اكتسبه من معرفة حقيقية، مبينًا أن ذلك يُفقد التعلّم روحه، إذ لا يكمن جوهره في الحصول على الإجابة، بل في المرور بالرحلة الذهنية التي تؤدي إليها، وفي بناء القدرة على التحليل والربط والنقد والإبداع، حسب تعبيره.

وأشار عافي إلى أن المشكلة الكبرى تكمن في عدم قدرة التلميذ على التفريق بين «المعلومة» و»المعرفة»، موضحًا أن «فيما توفر الآلة المعلومات بسهولة، تتطلب المعرفة التحليل والنقد والابتكار، وهي وظائف معرفية تُكتسب عبر مجهود طويل واستمرارية في التعلّم».

وأوضح عافي أن الدراسات السوسيولوجية أكدت أن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المدارس يعيد إنتاج الهياكل الاجتماعية بطرق جديدة، إذ يخلق فوارق بين فئات المجتمع، فنجد من التلاميذ من لديهم أجهزة اتصال رقمي جيّدة تمكّنهم من الحصول على فرص تعليمية أكبر، بينما يبقى آخرون في وضع غير متكافئ، مما يوسع الفجوة الرقمية والاجتماعية داخل الفصول، وبين المناطق الحضرية والريفية، حسب تعبيره.

الذكاء الاصطناعي في مدارسنا.. بين الغياب الاستراتيجي والمبادرات الفرديّة

من جانبه، أفاد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم، سليم قاسم، في تصريح لـ«الصباح» بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تكنولوجيا متقدّمة أو موجة عابرة في عالم المعرفة، بل أصبح لغة المستقبل ومحرك التحول في مختلف القطاعات، من الاقتصاد والطب إلى الثقافة والتعليم، مبينًا أن العالم اليوم يعيد بناء منظوماته الإنتاجيّة والمعرفيّة على أسس جديدة قوامها البيانات والخوارزميات والتعلّم الآلي، ومن لا يتهيّأ مبكرًا لهذا التحوّل سيجد نفسه خارج السباق الحضاري القادم.

وفي السياق نفسه، اعتبر قاسم أنه من الطبيعي أن يكون التعليم في صدارة القطاعات المستهدفة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، لما تتيحه من إمكانيات هائلة في تطوير التعلّم الشخصي، وتحليل أداء المتعلّمين، ودعم المعلّمين في تخطيط دروسهم وتصميم مواردهم التربويّة، مؤكدًا أن تعويد الناشئة على التعامل الواعي والمسؤول مع هذه التكنولوجيا منذ سنوات الدراسة الأولى بات ضرورة، لا ترفًا ولا ترفيهًا.

واعتبر قاسم، بالمقابل، أن مدارسنا، رغم ما تمتلكه من كفاءات وتجارب سابقة، ما تزال بعيدة عن ركب الدول التي جعلت من الذكاء الاصطناعي رافعة لتجديد ممارساتها التربويّة. فتونس، التي كانت سبّاقة منذ نهاية الألفيّة الماضية في إدماج تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعليم — من حوسبة المدارس وإنتاج محتويات تعليميّة رقمية، إلى إدخال الإنترنت والوسائط المتعدّدة مازالت في حاجة الى ادماج الذكاء الاصطناعي في التعليم. وقد كشفت نتائج المسح الدولي للتعليم والتعلّم الأخيرة عن هذه الهوّة، حيث تبيّن أن نحو 75 % من المدرّسين في بعض الدول يوظّفون الذكاء الاصطناعي بشكل منظّم ومؤطّر في ممارساتهم المهنيّة، في حين لا يتجاوز الأمر في مدارسنا بعض المحاولات الفرديّة المحدودة، حسب توضيحه المفصّل لـ«الصباح».

وأكد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أن هذا التأخّر يعود بالأساس إلى حالة الجمود التي تعيشها المنظومة التربويّة منذ أكثر من عقد، وتركيزها المفرط على إدارة الشأن اليومي بدل خوض مغامرة التفكير الرياديّ والاستشراف الاستراتيجي. كما يُضاف إلى ذلك غياب رؤية وطنية واضحة تضبط الأهداف والمسارات والأولويات في مجال الذكاء الاصطناعي، فيتحوّل الاهتمام بالموضوع إلى مجرّد شعارات متداولة أو ندوات استعراضية لا أثر لها في الواقع المدرسي.

بالمقابل، شدد قاسم على أهمية دور المربّين تجاه هذا الوافد، مبينًا أنه لا يمكن إنكار وجود عدد من المربّين الذين بادروا من تلقاء أنفسهم إلى إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم اليوميّ، سواء في إعداد الدروس أو تقييم المتعلّمين أو إنتاج موارد بيداغوجيّة مبتكرة.

وبيّن رئيس الجمعية أنه، بالرغم من إيجابية هذه المبادرات، فإنها تبقى مبعثرة وغير مؤطّرة، وقد تؤدّي إلى ضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين التلاميذ، بل وربما إلى ممارسات غير سليمة بسبب غياب التوجيه البيداغوجي والأخلاقي، حسب تعبيره.

وفي المقابل، أشار قاسم إلى أنه من الملحوظ أن التلاميذ أنفسهم سبقوا مؤسّساتهم في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وإن كان ذلك في كثير من الأحيان دون وعي نقدي أو تأطير تربوي، وبحثًا عن حلول سريعة للواجبات أو الملخّصات، لا عن تطوير مهاراتهم الفكريّة أو الإبداعيّة.

واعتبر قاسم، في هذا الإطار، أنه من الضروري اليوم وضع استراتيجية وطنية لإدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم، تقوم على مقاربة شاملة لا تقتصر على البعد التقنيّ فقط، بل تشمل أيضًا الجوانب الأخلاقية والقيمية، وتربط استعمال الذكاء الاصطناعي في التعليم بمشروع حضاري يضع الإنسان في قلب التكنولوجيا لا على هامشها، مبينًا أن المستقبل لن ينتظر المتردّدين، والمدرسة التي لا تُعلّم أبناءها كيف يُحسنون استخدام الذكاء الاصطناعي، قد تُخرّج جيلاً يُستخدم هو نفسه دون وعي من هذا الذكاء.

لضمان جودة التعليم وتجنب المخاطر

وذكر عافي أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي تتطلب استعماله بالطرق السليمة حتى يصبح شريكًا قويًا للمدرسة، خاصة إذا ما تم إدماجه ضمن رؤية تربوية واضحة تعيد تعريف دور المعلّم والمتعلّم معًا، مبينًا أن التلميذ، باستعماله للذكاء الاصطناعي كأداة محفّزة للبحث والاستقصاء وشرح المفاهيم والفهم، مع بقاء المعلم العقل المنظّم للعملية التعليمية، يمكن أن يكون في الاتجاه السليم.

وأضاف عافي أن الذكاء الاصطناعي يوفر فرصًا هائلة للتعلّم الشخصي، إذ يمكن تخصيصه وفق مستوى التلميذ وسرعته وصعوباته، فيصبح بذلك أداة للتوجيه والمتابعة، مؤكدًا على أهمية أن يظل المعلّم العقل المنظّم لهذه العلاقة، لأن الآلة لا تمتلك قيَمًا أو ضميرًا تربويًا. «وهنا تظهر ضرورة الإشراف البشري لضمان جودة التعلّم واستمراريته»، حسب رأيه.

وشدد الباحث في علم الاجتماع والتربية على أنه من الصعب تعويض التجربة الإنسانية في التعلّم بالذكاء الاصطناعي، بما لا يستطيع أي برنامج أن يُنشئ شخصية مفكرة، أو يزرع روح البحث والاكتشاف، أو يغرس الشجاعة الفكرية والمسؤولية الأخلاقية تجاه المعرفة، مشيرًا إلى أن الخطر الحقيقي في الذكاء الاصطناعي أنه قد يصنع جيلاً بارعًا في استخدام الأدوات.

وحتى يكون الذكاء الاصطناعي نافعًا، اعتبر عافي أن بناء وعي رقمي تربوي لدى التلاميذ، وتدريب المعلّمين والأساتذة على فهم إمكاناته وحدوده، ووضع أخلاقيات واضحة لاستخدامه، هو أساس النجاح، مشيرًا إلى أن الخطر الحقيقي يكمن في فقدان الرغبة في الفهم العميق، وليس في سرعة وصول التلميذ إلى المعلومات.

وحتى لا تقع مسؤولية حماية جوهر التعلّم من الانهيار على عاتق المؤسسات التربوية فقط، المطلوب - حسب عافي - تحويل الثورة الرقمية إلى فرصة للارتقاء، واستعادة ثقة التلميذ التونسي بقدراته على التفكير النقدي والإبداعي، معتبرًا أن هذه المهمة تشكل التحدي الحقيقي، والمعركة التربوية القادمة في تونس وفي كل دول العالم.

انخراط المنظومة التعليمية  من الأولويات

أشار الباحث في الذكاء الاصطناعي، محمد أمين قنوني، في تصريحه لـ»الصباح»، إلى التغير الكبير في الآونة الأخيرة في طريقة التعلّم لدى التلامذة والطلبة في تونس، وتوجههم المفرط إلى آليات الذكاء الاصطناعي، عبر الولوج إلى تطبيقات على غرار «شات جي بي تي»، ليس فقط كاستعانة في بحوثهم وأعمالهم النظرية، بل تطوّر الاستعمال إلى كتابة مواضيعهم وواجباتهم اليومية، التي كانت تمثّل تدريبًا لمداركهم المعرفية.

وبيّن القنوني أن لاستعمالات آليات الذكاء الاصطناعي آثارًا إيجابية، أهمها تطوّر عقلية الأجيال الجديدة وانفتاحها على التكنولوجيا، وحب المعرفة والاكتشاف، عبر استعمال أدوات متطوّرة في التعليم على غرار «شات جي بي تي»، كوسيلة تساعد على فك المفاهيم الصعبة، وتنظيم الأفكار، وتحسين طريقة الكتابة، خاصة بالنسبة للتلاميذ في الصفوف الابتدائية...

لكن هذه الآثار الإيجابية تتقاطع مع انعكاسات سلبية، وهذا ما أكده الباحث في الذكاء الاصطناعي، مبينًا أن التلميذ، باختياره التوجه مباشرة إلى الذكاء الاصطناعي في حل كل مشكلاته العلمية والمعرفية، قد يؤدي به التعويل المفرط على هذه الآليات إلى فقدان المخ لوظيفته الأساسية، ويصبح غير قادر على التحليل والنقد والتفكير الكمي والكيفي...

وبيّن القنوني أن العديد من الدراسات العلمية والبحوث الحديثة في هذا المجال أكدت أن الإفراط في استعمال الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى خمول ذهني، باعتبار أن الدماغ لم يعد قادرًا على التفكير السليم، ويصبح دوره استهلاكيًا فقط للمعلومات، مؤكدًا أن المخاطر الحقيقية لاستعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي تتحدد أساسًا في طريقة الاستعمال.

وبيّن الباحث، في السياق نفسه، أن الطرق السليمة في استعمال «شات جي بي تي»، على سبيل المثال، تجنّب التلاميذ في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي المخاطر كافة، بل إن الاستعمال الصحيح يمكن أن يُحسّن من مداركهم المعرفية..

واعتبر الباحث في الذكاء الاصطناعي أن دور الأستاذ والعائلة في مجابهة كل المخاطر، يتمثل في قبولهم لهذا الوافد الجديد، وعدم منعه من قِبل التلاميذ، والعمل بالمقابل على تثمينه كوسيلة تعلّم يمكن إدماجها في المناهج التعليمية، كوسيلة للنقاش والتفاعل، مع التأكيد على الجانب الأخلاقي والتفكير الذاتي، فضلًا عن إدماج وحدات أو حصص حول الأخلاقيات الرقمية والنزاهة الأكاديمية. فاليوم، لا بدّ للطالب والتلميذ أن يعرفا جيدًا ما معنى السرقات الفكرية، على سبيل المثال..

والحل الأنسب لاستيعاب هذا الوافد الجديد، أكد القنوني أنه من الضروري اليوم عدم الهروب إلى الأمام، بل تحقيق التوازن بين التكنولوجيا والتربية، وكذلك بين الذكاء الاصطناعي والمجهود البشري.

وفاء بن محمد

يستقطب التلاميذ والطلبة ويستنزف منظومة التعليم..   آليات الذكاء الاصطناعي.. بين الفوائد والمخاطر

باحث في الذكاء الاصطناعي لـ«الصباح»: دور الأستاذ والعائلة مهم في مجابهة كل المخاطر الممكنة

رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم لـ«الصباح»:تونس في حاجة إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم

مختص في علم الاجتماع والتربية لـ«الصباح»: الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا متغلغلًا في الحياة اليومية للتلميذ التونسي

بالرغم من الفرص الهائلة التي توفرها اليوم آليات الذكاء الاصطناعي من تطبيقات وبرامج في قطاع التعليم، إلا أن استخدامها غير السليم من قبل التلاميذ والطلبة فسح المجال لظهور مخاطر كثيرة تهدد مدارك المتعلم المعرفية، ومنظومة التعليم من جهة أخرى.

حول هذا الوافد الجديد بجميع أصنافه وتفرعاته، توقفت «الصباح» عند دراسة ظاهرة تستقطب الآلاف من التونسيين، بين منافعها ومخاطرها.

من بين هذه المخاطر: تراجع المهارات في الكتابة والتحليل والنقاش، الانتحال العلمي أو ما يُعرف بالسرقات الفكرية، ضعف الفهم العميق، والمخاطر النفسية والاجتماعية. هذه أبرز الآثار السلبية التي تترتب عن الاستعمال الخاطئ وغير السليم لآليات الذكاء الاصطناعي لدى التلاميذ والطلبة..

إلى جانب المخاطر الأخلاقية المتوقعة لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، المتمثلة في سوء استخدام البيانات، خسارة الوظائف، زيادة التبعية، وانتشار الجرائم السيبرانية التي قد تصل إلى تحويل المعلومات إلى أسلحة.

وفي هذا الخصوص، تحدث الدكتور والباحث في علم الاجتماع والتربية، منذر عافي، لـ«الصباح»، مبينًا أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا متغلغلًا في حياة التلميذ التونسي اليومية، بعد أن أصبح يزور المنصات الرقمية بشكل يومي عبر هاتفه الذكي، ويستخدم برامج تولّد الإجابات بضغطة زر، وهو ما يتطلب ثورة معرفية تعيد تشكيل العلاقة بين المتعلم والمعرفة.

مخاطر تربوية

هل ستظل المدرسة المصدر الأول للعلم، أم أن الذكاء الاصطناعي يزاحمها ويفرض نفسه كقوة تعليمية منافسة؟

حول هذا السؤال، أجاب عافي بأن ظهور أدوات مثل «شات جي بي تي» (ChatGPT) مكّن التلاميذ والطلبة من الوصول إلى المعلومات بسرعة فائقة، بحيث لم يعد هناك حاجة إلى البحث الذاتي أو القراءة الدقيقة للكتب أو بذل مجهود طويل لفهم مسألة ما، معتبرًا أن الذكاء الاصطناعي يقدم تلخيصًا دقيقًا، ويزود التلميذ بحلول جاهزة ومقالات كاملة خالية من الأخطاء اللغوية، حسب تعبيره.

وأضاف عافي في ذات السياق أن هذه الإمكانيات تبدو للوهلة الأولى إنجازًا تقنيًا واعدًا، لكنها تحمل في أعماقها مخاطر تربوية تؤدي إلى الكسل المعرفي للتلميذ، وتقلل من قيمة تفكيره النقدي، لتحوّل بذلك عملية التعلّم من بناء ذاتي إلى استهلاك جاهز للإجابات.

كما قال عافي إن دخول الذكاء الاصطناعي غير المؤطر خلق ثقافة الاستسهال المعرفي، ليصبح التلميذ يسأل الآلة بدل أن يسأل نفسه، ويعتمد على الإجابة الجاهزة بدل اختبار قدرته على الفهم والتطبيق، ويقيس نجاحه بقدرة الأداة على الإنجاز بدل تقديره بما اكتسبه من معرفة حقيقية، مبينًا أن ذلك يُفقد التعلّم روحه، إذ لا يكمن جوهره في الحصول على الإجابة، بل في المرور بالرحلة الذهنية التي تؤدي إليها، وفي بناء القدرة على التحليل والربط والنقد والإبداع، حسب تعبيره.

وأشار عافي إلى أن المشكلة الكبرى تكمن في عدم قدرة التلميذ على التفريق بين «المعلومة» و»المعرفة»، موضحًا أن «فيما توفر الآلة المعلومات بسهولة، تتطلب المعرفة التحليل والنقد والابتكار، وهي وظائف معرفية تُكتسب عبر مجهود طويل واستمرارية في التعلّم».

وأوضح عافي أن الدراسات السوسيولوجية أكدت أن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المدارس يعيد إنتاج الهياكل الاجتماعية بطرق جديدة، إذ يخلق فوارق بين فئات المجتمع، فنجد من التلاميذ من لديهم أجهزة اتصال رقمي جيّدة تمكّنهم من الحصول على فرص تعليمية أكبر، بينما يبقى آخرون في وضع غير متكافئ، مما يوسع الفجوة الرقمية والاجتماعية داخل الفصول، وبين المناطق الحضرية والريفية، حسب تعبيره.

الذكاء الاصطناعي في مدارسنا.. بين الغياب الاستراتيجي والمبادرات الفرديّة

من جانبه، أفاد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم، سليم قاسم، في تصريح لـ«الصباح» بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تكنولوجيا متقدّمة أو موجة عابرة في عالم المعرفة، بل أصبح لغة المستقبل ومحرك التحول في مختلف القطاعات، من الاقتصاد والطب إلى الثقافة والتعليم، مبينًا أن العالم اليوم يعيد بناء منظوماته الإنتاجيّة والمعرفيّة على أسس جديدة قوامها البيانات والخوارزميات والتعلّم الآلي، ومن لا يتهيّأ مبكرًا لهذا التحوّل سيجد نفسه خارج السباق الحضاري القادم.

وفي السياق نفسه، اعتبر قاسم أنه من الطبيعي أن يكون التعليم في صدارة القطاعات المستهدفة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، لما تتيحه من إمكانيات هائلة في تطوير التعلّم الشخصي، وتحليل أداء المتعلّمين، ودعم المعلّمين في تخطيط دروسهم وتصميم مواردهم التربويّة، مؤكدًا أن تعويد الناشئة على التعامل الواعي والمسؤول مع هذه التكنولوجيا منذ سنوات الدراسة الأولى بات ضرورة، لا ترفًا ولا ترفيهًا.

واعتبر قاسم، بالمقابل، أن مدارسنا، رغم ما تمتلكه من كفاءات وتجارب سابقة، ما تزال بعيدة عن ركب الدول التي جعلت من الذكاء الاصطناعي رافعة لتجديد ممارساتها التربويّة. فتونس، التي كانت سبّاقة منذ نهاية الألفيّة الماضية في إدماج تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعليم — من حوسبة المدارس وإنتاج محتويات تعليميّة رقمية، إلى إدخال الإنترنت والوسائط المتعدّدة مازالت في حاجة الى ادماج الذكاء الاصطناعي في التعليم. وقد كشفت نتائج المسح الدولي للتعليم والتعلّم الأخيرة عن هذه الهوّة، حيث تبيّن أن نحو 75 % من المدرّسين في بعض الدول يوظّفون الذكاء الاصطناعي بشكل منظّم ومؤطّر في ممارساتهم المهنيّة، في حين لا يتجاوز الأمر في مدارسنا بعض المحاولات الفرديّة المحدودة، حسب توضيحه المفصّل لـ«الصباح».

وأكد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أن هذا التأخّر يعود بالأساس إلى حالة الجمود التي تعيشها المنظومة التربويّة منذ أكثر من عقد، وتركيزها المفرط على إدارة الشأن اليومي بدل خوض مغامرة التفكير الرياديّ والاستشراف الاستراتيجي. كما يُضاف إلى ذلك غياب رؤية وطنية واضحة تضبط الأهداف والمسارات والأولويات في مجال الذكاء الاصطناعي، فيتحوّل الاهتمام بالموضوع إلى مجرّد شعارات متداولة أو ندوات استعراضية لا أثر لها في الواقع المدرسي.

بالمقابل، شدد قاسم على أهمية دور المربّين تجاه هذا الوافد، مبينًا أنه لا يمكن إنكار وجود عدد من المربّين الذين بادروا من تلقاء أنفسهم إلى إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم اليوميّ، سواء في إعداد الدروس أو تقييم المتعلّمين أو إنتاج موارد بيداغوجيّة مبتكرة.

وبيّن رئيس الجمعية أنه، بالرغم من إيجابية هذه المبادرات، فإنها تبقى مبعثرة وغير مؤطّرة، وقد تؤدّي إلى ضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين التلاميذ، بل وربما إلى ممارسات غير سليمة بسبب غياب التوجيه البيداغوجي والأخلاقي، حسب تعبيره.

وفي المقابل، أشار قاسم إلى أنه من الملحوظ أن التلاميذ أنفسهم سبقوا مؤسّساتهم في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وإن كان ذلك في كثير من الأحيان دون وعي نقدي أو تأطير تربوي، وبحثًا عن حلول سريعة للواجبات أو الملخّصات، لا عن تطوير مهاراتهم الفكريّة أو الإبداعيّة.

واعتبر قاسم، في هذا الإطار، أنه من الضروري اليوم وضع استراتيجية وطنية لإدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم، تقوم على مقاربة شاملة لا تقتصر على البعد التقنيّ فقط، بل تشمل أيضًا الجوانب الأخلاقية والقيمية، وتربط استعمال الذكاء الاصطناعي في التعليم بمشروع حضاري يضع الإنسان في قلب التكنولوجيا لا على هامشها، مبينًا أن المستقبل لن ينتظر المتردّدين، والمدرسة التي لا تُعلّم أبناءها كيف يُحسنون استخدام الذكاء الاصطناعي، قد تُخرّج جيلاً يُستخدم هو نفسه دون وعي من هذا الذكاء.

لضمان جودة التعليم وتجنب المخاطر

وذكر عافي أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي تتطلب استعماله بالطرق السليمة حتى يصبح شريكًا قويًا للمدرسة، خاصة إذا ما تم إدماجه ضمن رؤية تربوية واضحة تعيد تعريف دور المعلّم والمتعلّم معًا، مبينًا أن التلميذ، باستعماله للذكاء الاصطناعي كأداة محفّزة للبحث والاستقصاء وشرح المفاهيم والفهم، مع بقاء المعلم العقل المنظّم للعملية التعليمية، يمكن أن يكون في الاتجاه السليم.

وأضاف عافي أن الذكاء الاصطناعي يوفر فرصًا هائلة للتعلّم الشخصي، إذ يمكن تخصيصه وفق مستوى التلميذ وسرعته وصعوباته، فيصبح بذلك أداة للتوجيه والمتابعة، مؤكدًا على أهمية أن يظل المعلّم العقل المنظّم لهذه العلاقة، لأن الآلة لا تمتلك قيَمًا أو ضميرًا تربويًا. «وهنا تظهر ضرورة الإشراف البشري لضمان جودة التعلّم واستمراريته»، حسب رأيه.

وشدد الباحث في علم الاجتماع والتربية على أنه من الصعب تعويض التجربة الإنسانية في التعلّم بالذكاء الاصطناعي، بما لا يستطيع أي برنامج أن يُنشئ شخصية مفكرة، أو يزرع روح البحث والاكتشاف، أو يغرس الشجاعة الفكرية والمسؤولية الأخلاقية تجاه المعرفة، مشيرًا إلى أن الخطر الحقيقي في الذكاء الاصطناعي أنه قد يصنع جيلاً بارعًا في استخدام الأدوات.

وحتى يكون الذكاء الاصطناعي نافعًا، اعتبر عافي أن بناء وعي رقمي تربوي لدى التلاميذ، وتدريب المعلّمين والأساتذة على فهم إمكاناته وحدوده، ووضع أخلاقيات واضحة لاستخدامه، هو أساس النجاح، مشيرًا إلى أن الخطر الحقيقي يكمن في فقدان الرغبة في الفهم العميق، وليس في سرعة وصول التلميذ إلى المعلومات.

وحتى لا تقع مسؤولية حماية جوهر التعلّم من الانهيار على عاتق المؤسسات التربوية فقط، المطلوب - حسب عافي - تحويل الثورة الرقمية إلى فرصة للارتقاء، واستعادة ثقة التلميذ التونسي بقدراته على التفكير النقدي والإبداعي، معتبرًا أن هذه المهمة تشكل التحدي الحقيقي، والمعركة التربوية القادمة في تونس وفي كل دول العالم.

انخراط المنظومة التعليمية  من الأولويات

أشار الباحث في الذكاء الاصطناعي، محمد أمين قنوني، في تصريحه لـ»الصباح»، إلى التغير الكبير في الآونة الأخيرة في طريقة التعلّم لدى التلامذة والطلبة في تونس، وتوجههم المفرط إلى آليات الذكاء الاصطناعي، عبر الولوج إلى تطبيقات على غرار «شات جي بي تي»، ليس فقط كاستعانة في بحوثهم وأعمالهم النظرية، بل تطوّر الاستعمال إلى كتابة مواضيعهم وواجباتهم اليومية، التي كانت تمثّل تدريبًا لمداركهم المعرفية.

وبيّن القنوني أن لاستعمالات آليات الذكاء الاصطناعي آثارًا إيجابية، أهمها تطوّر عقلية الأجيال الجديدة وانفتاحها على التكنولوجيا، وحب المعرفة والاكتشاف، عبر استعمال أدوات متطوّرة في التعليم على غرار «شات جي بي تي»، كوسيلة تساعد على فك المفاهيم الصعبة، وتنظيم الأفكار، وتحسين طريقة الكتابة، خاصة بالنسبة للتلاميذ في الصفوف الابتدائية...

لكن هذه الآثار الإيجابية تتقاطع مع انعكاسات سلبية، وهذا ما أكده الباحث في الذكاء الاصطناعي، مبينًا أن التلميذ، باختياره التوجه مباشرة إلى الذكاء الاصطناعي في حل كل مشكلاته العلمية والمعرفية، قد يؤدي به التعويل المفرط على هذه الآليات إلى فقدان المخ لوظيفته الأساسية، ويصبح غير قادر على التحليل والنقد والتفكير الكمي والكيفي...

وبيّن القنوني أن العديد من الدراسات العلمية والبحوث الحديثة في هذا المجال أكدت أن الإفراط في استعمال الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى خمول ذهني، باعتبار أن الدماغ لم يعد قادرًا على التفكير السليم، ويصبح دوره استهلاكيًا فقط للمعلومات، مؤكدًا أن المخاطر الحقيقية لاستعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي تتحدد أساسًا في طريقة الاستعمال.

وبيّن الباحث، في السياق نفسه، أن الطرق السليمة في استعمال «شات جي بي تي»، على سبيل المثال، تجنّب التلاميذ في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي المخاطر كافة، بل إن الاستعمال الصحيح يمكن أن يُحسّن من مداركهم المعرفية..

واعتبر الباحث في الذكاء الاصطناعي أن دور الأستاذ والعائلة في مجابهة كل المخاطر، يتمثل في قبولهم لهذا الوافد الجديد، وعدم منعه من قِبل التلاميذ، والعمل بالمقابل على تثمينه كوسيلة تعلّم يمكن إدماجها في المناهج التعليمية، كوسيلة للنقاش والتفاعل، مع التأكيد على الجانب الأخلاقي والتفكير الذاتي، فضلًا عن إدماج وحدات أو حصص حول الأخلاقيات الرقمية والنزاهة الأكاديمية. فاليوم، لا بدّ للطالب والتلميذ أن يعرفا جيدًا ما معنى السرقات الفكرية، على سبيل المثال..

والحل الأنسب لاستيعاب هذا الوافد الجديد، أكد القنوني أنه من الضروري اليوم عدم الهروب إلى الأمام، بل تحقيق التوازن بين التكنولوجيا والتربية، وكذلك بين الذكاء الاصطناعي والمجهود البشري.

وفاء بن محمد