إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

في الندوة الدولية «الترجمة وبناء الطفولة».. الترجمة تفتح اليوم أفقا كونيا أمام الطفل

 

  • الترجمة رافعة أساسية في تكوين شخصية الطفل وصقل مهاراته المعرفية واللغوية.
  • الطفل يبني معارفه منذ سنواته الأولى بلغته الأم، لكنه في الوقت ذاته يتأثر بلغات أخرى.
  • حان الوقت لفتح أفق للتعاون بين المترجمين العرب والأجانب لخدمة الطفل والناشئة في مواجهة تحديات عصر العولمة
  • ضرورة العمل على ترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية والحديثة باعتبارها جزءا من تكوين الفكر النقدي للأجيال القادمة
  • الترجمة لا تُختزل في كونها نشاطا لغويا، وإنما تمثل أداة تربوية ومعرفية تسهم في تطوير الوظائف الذهنية العليا للطفل

احتضنت قاعة المنجي الشملي بمدينة الثقافة «الشاذلي القليبي» بالعاصمة على امتداد يومي 30 سبتمبر و1 أكتوبر 2025 فعاليات الندوة الدولية التي دأب على تنظيمها معهد تونس للترجمة كل عام، تزامنا مع الاحتفال باليوم العالمي للترجمة الذي أقرّته منظمة الأمم المتحدة منذ 2017. وشهدت هذه الندوة، التي اهتمت بمحور «الترجمة وبناء الطفل»، حضورا هاما لعدد كبير من الباحثين الجامعيين والخبراء في مجالات الترجمة وأدب الطفل والتربية من تونس ومن الجزائر والأردن وسوريا وإيطاليا وإنقلترا وروسيا وكوريا واليابان.

وأبرز الأستاذ توفيق قريرة، مدير معهد تونس للترجمة، في افتتاح هذه الندوة الدولية دور الترجمة في تشكيل وعي الطفل وبناء شخصيته، مؤكدا أن الطفل ينشأ في عالم متعدد اللغات والثقافات، وأن للترجمة دورا محوريا في مساعدته على فهم السياقات المختلفة التي يعيشها سواء بلغته الأم أو عبر اللغات الأخرى التي ينغمس فيها اختيارا أو اضطرارا، خاصة في ظل الانفتاح الواسع على العوالم الرقمية والافتراضية.

وبين في ذات الكلمة أن الترجمة وسيلة لتبادل المعارف بين الشعوب، لكنها أيضا رافعة أساسية في تكوين شخصية الطفل وصقل مهاراته المعرفية واللغوية والثقافية. وأوضح أن الطفل يبني معارفه منذ سنواته الأولى بلغته الأم، لكنه في الوقت ذاته يتأثر بلغات أخرى ينخرط فيها اختيارا عبر التعلم أو اضطرارا عبر وسائط الحياة اليومية، خاصة مع الانغماس الكبير في العالم الرقمي والافتراضي.

كما توقف عند الانغماس اللغوي الذي لم يعد - حسب تعبيره - موجودا فقط في البيئات التعليمية التقليدية، وإنما صار يحدث عبر الشاشات المتاحة للأطفال في الهواتف الذكية والحواسيب والألعاب الإلكترونية، وهو ما يفرض مقاربة جديدة تجعل من الترجمة وسيلة لتوجيه هذا الانغماس نحو بناء شخصية متوازنة، قادرة على التفاعل مع الثقافات المختلفة دون أن تفقد ارتباطها بجذورها المحلية والوطنية.

والترجمة اليوم – والكلام للأستاذ توفيق قريرة – تساعد الطفل على فهم السياقات المتنوعة التي يجد نفسه فيها، وتمنحه أدوات للتأقلم والإبداع والانفتاح. وأكد أن الترجمة تظل في بعدها التربوي عملا أخلاقيا وإنسانيا قبل أن تكون مجرد تقنية لغوية، لأنها تفتح أمام الطفل أفقا كونيا يوازن بين الانتماء المحلي والانفتاح العالمي.

وأثر الكلمة الافتتاحية، قدم الأستاذ الطاهر بن قيزة، أستاذ تاريخ الفلسفة الحديثة والإبستيمولوجيا بجامعة تونس، محاضرته بعنوان «في ترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية»، تناول خلالها التحديات التي تطرحها ترجمة النصوص الفلسفية الكبرى، مستشهدا بتجربة ترجمة نصوص الفيلسوف الألماني «لايبنتز»، الذي تميز إنتاجه الفكري بتعدد أبعاده المعرفية من منطق ورياضيات وفلسفة وعلوم طبيعية.

وبين أن الترجمة في هذا المستوى هي فعل تأويلي وتجديدي، يتيح للأمم التي تتلقى هذه النصوص أن تنخرط في النقاش الفلسفي الكوني وأن تسهم في تطويره من زاويتها الخاصة.

وختم مداخلته بالتأكيد على أن العالم العربي اليوم يحتاج إلى تكثيف الجهود في ترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية والحديثة، ليس بوصفها نصوصا نظرية جامدة، وإنما باعتبارها جزءا من تكوين الفكر النقدي للأجيال القادمة.

أسئلة وتساؤلات حول الترجمة والطفل

وطرحت هذه الندوة الدولية، على امتداد يومين ومن خلال الورقة العلمية التي أعدت للغرض، العديد من الأسئلة والتساؤلات والمواقف والقراءات. وقد سعى المحاضرون المشاركون إلى التعمق في هذه الإشكاليات، منها علاقة الترجمة بالطفل ودورها في بناء شخصيته الاجتماعية والمعرفية بدرجة أولى، ومنها أيضا علاقة الترجمة بتنمية قدرات الأطفال وانفتاحهم على الثقافات الأخرى، ورهانات ترجمة الأعمال الأدبية المخصصة للأطفال: «بين التبعية والإبداع»، و»الوساطة الحضارية للترجمة في أدب الطفل: الرهانات والحدود»، و»اكتساب فن الترجمة مع الأطفال في عصر العالمية»، و»إسهامات أدب الطفل المترجم إلى اللغة العربية في ترسيخ القيم الأخلاقية»، و»دور الترجمة في تطوير السلوكات الإبداعية الموسيقية لدى الأطفال»، بالإضافة إلى قراءات في بعض المواد المدرجة في المناهج التربوية، خاصة المرتبطة باللغات الأجنبية.

وفي هذا الإطار، بينت الدكتورة خالدة مدوي «جامعة منوبة» في مداخلتها أن الترجمة تعدّ أداة شاملة تساهم في بناء القدرات المعرفية والوجدانية والثقافية لدى الطفل وفي صقل شخصيته وهويته الاجتماعية، شريطة أن تُمارس في إطار متوازن يدمج بين الخبرة الإنسانية والتقنيات الرقمية.

وأوضحت أن الترجمة لا تُختزل في كونها نشاطا لغويا، وإنما هي تمثل أداة تربوية ومعرفية تسهم في تطوير الوظائف الذهنية العليا للطفل، على غرار التفكير المجرد. واستعرضت في هذا السياق الأطر النظرية في علم نفس النمو، خاصة نظرية «جان بياجيه» حول الاستيعاب والملاءمة، مؤكدة أن الانخراط المبكر في الترجمة يعزز قدرات الأطفال ثنائيي أو متعددي اللغة على التكيف، ويوسع من أفقهم المعرفي والثقافي. كما أشارت إلى أن الترجمة تترك بصمة في تشكيل الشخصية والذكاء العاطفي، لاسيما لدى أبناء المهاجرين الذين يكلّفون بمهمات الترجمة لأسرهم في الحياة اليومية.

ومن جانبه، ركز الدكتور حمدي دوكالي «جامعة منوبة» على البعد الوجداني للترجمة، مبرزا أن الطفل الذي يضطلع بدور «المترجم العائلي» يكتسب مهارات عالية في التعاطف وتحمل المسؤولية، لكنه قد يتعرض في المقابل لضغط نفسي بسبب تحمّل أعباء تفوق سنّه، خاصة حين يتعلق الأمر بترجمة وثائق أو مواقف متشابكة تفوق عمره. وأكد أن الموازنة بين التمكين والضغط ضرورية لحماية التوازن النفسي للأطفال.

كما توقف عند دور التكنولوجيا الحديثة في تعزيز تعلم اللغات والترجمة لدى الناشئة، مبيّنا أن تطبيقات مثل «غوغل للترجمة» توفر للأطفال فرصا للتجريب اللغوي واختبار المعاني، لكنها تظل قاصرة أمام التعابير الثقافية الدقيقة، مما يستدعي حضور التوجيه البشري لضمان تنمية التفكير النقدي والوعي الثقافي.

مداخلات من وراء البحار

وشهدت هذه الندوة مشاركة باحثين وخبراء من وراء البحار بالاعتماد على تقنية الاتصال عن بعد، من ذلك الأستاذة جيليان لايثي من جامعة «روهمبتون» بلندن، التي أبرزت في مداخلتها الدور المحوري للترجمة في تنمية قدرات الطفل المعرفية والعاطفية، معتمدة في ذلك على خبرتها كمعلمة لأطفال تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة في شمال لندن، حيث اعتادت قراءة قصص مترجمة من حكايات الأخوين غريم وشارل بيرو إلى رواية “إميل والمحققون” للألماني إريش كاستنر.

وأكدت في جانب آخر من مداخلتها أن الترجمة الموجهة للأطفال ترتبط بتطورهم النفسي والمعرفي، مبينة أن المترجم يواجه تحديات كبرى أبرزها ملاءمة النصوص لمستويات القراءة المتفاوتة، والموازنة بين الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية أو تكييفها، وأهمية الوساطة التي يقوم بها الراشدون عند قراءة النصوص.

ودعت المتدخلة إلى ضرورة أن يراعي المترجم عند نقل نصوص الأطفال “تطور الطفل كقارئ”، إذ لاحظت أن الإيقاع والنغم والصوتيات أساسية لجذب انتباه الصغار قبل أن يتمكنوا من القراءة بأنفسهم، و“معرفة الطفل بثقافات أخرى”، حيث ترى الكاتبة والمترجمة البريطانية أن المترجم من وجهة نظرها يواجه هنا معضلة “التدجين” أو “التغريب”، مشيرة إلى أن القصد من ذلك هو الإجابة عن سؤال: هل يغيّر المترجم أسماء الشخصيات والأطعمة والعادات أم يحافظ عليها كما هي؟

وأشارت إلى أن الأهل والمعلمين غالبا ما يقرؤون النصوص للأطفال، وهو ما يفرض على المترجم التفكير في كيفية تسهيل الوساطة دون إثقال النص بالهوامش أو الشروح، وفق تقديرها، منادية «بضرورة الأخذ بعين الاعتبار بما وصفته «تفاوت الترجمة بين الثقافات»». وكشفت في هذا المجال أنه «في بريطانيا لا تتجاوز نسبة الكتب المترجمة 3 في المائة من مجمل الإصدارات الموجهة للأطفال، في حين أنها تصل في فنلندا إلى 80 في المائة».

وتوقفت الباحثة اليابانية «مايا ماكينو» عند الخصوصيات الثقافية والاجتماعية التي من شأنها المساهمة في تشكيل مفهوم الطفولة، مبينة أن الطفولة هي بناء اجتماعي يختلف من مجتمع إلى آخر وفق القوانين والعادات التربوية والعائلية.

ففي اليابان تقول الباحثة «مايا ماكينو»: تقوم الناشئة على قيم جماعية مثل الانسجام واحترام الآخر من خلال تعويد الأطفال منذ الصغر على الاستقلالية والمسؤولية، في حين أن الناشئة في تونس ترتكز على القيم الإسلامية وصلابة الروابط العائلية، حيث يكون للدور الأخلاقي دور رئيسي في عملية التنشئة الاجتماعية.

وخلصت إلى أن الأطفال في تونس اليوم، وبعد الثورة، يعيشون في مفترق طرق بين الإرث الثقافي التقليدي وضغوط الحداثة والعولمة، وهو ما يطرح تحديات متشابكة على مستوى الهوية والتنشئة.

وقدم الباحث سهيل بن الحبيب «جامعة ابن طفيل بالقنيطرة – المغرب» مداخلة توقف فيها عند الترجمة السمعية البصرية، وقدم الأستاذ ألدوني كوسيا «جامعة باري – إيطاليا» مداخلة تعلقت بعلاقة الأم بالطفل من خلال التحاور معه، واعتبرها – أي لغة الأم – «وطنا للطفل». أما الدكتورة صفية بلعيد «جامعة بجاية – الجزائر»، فتوقفت عند إسهامات أدب الطفل المترجم إلى اللغة العربية في ترسيخ القيم الأخلاقية.

ليكون الإجماع في هذا الملتقى، من خلال الجلسات والمداخلات، حول ضرورة فتح أفق للتعاون بين المترجمين والباحثين العرب والأجانب، لأجل كسب رهان إعداد وإنجاز مشاريع عملية تخدم الطفل والناشئة في مواجهة تحديات عصر العولمة.

محسن بن أحمد

في الندوة الدولية «الترجمة وبناء الطفولة»..   الترجمة تفتح اليوم أفقا كونيا أمام الطفل

 

  • الترجمة رافعة أساسية في تكوين شخصية الطفل وصقل مهاراته المعرفية واللغوية.
  • الطفل يبني معارفه منذ سنواته الأولى بلغته الأم، لكنه في الوقت ذاته يتأثر بلغات أخرى.
  • حان الوقت لفتح أفق للتعاون بين المترجمين العرب والأجانب لخدمة الطفل والناشئة في مواجهة تحديات عصر العولمة
  • ضرورة العمل على ترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية والحديثة باعتبارها جزءا من تكوين الفكر النقدي للأجيال القادمة
  • الترجمة لا تُختزل في كونها نشاطا لغويا، وإنما تمثل أداة تربوية ومعرفية تسهم في تطوير الوظائف الذهنية العليا للطفل

احتضنت قاعة المنجي الشملي بمدينة الثقافة «الشاذلي القليبي» بالعاصمة على امتداد يومي 30 سبتمبر و1 أكتوبر 2025 فعاليات الندوة الدولية التي دأب على تنظيمها معهد تونس للترجمة كل عام، تزامنا مع الاحتفال باليوم العالمي للترجمة الذي أقرّته منظمة الأمم المتحدة منذ 2017. وشهدت هذه الندوة، التي اهتمت بمحور «الترجمة وبناء الطفل»، حضورا هاما لعدد كبير من الباحثين الجامعيين والخبراء في مجالات الترجمة وأدب الطفل والتربية من تونس ومن الجزائر والأردن وسوريا وإيطاليا وإنقلترا وروسيا وكوريا واليابان.

وأبرز الأستاذ توفيق قريرة، مدير معهد تونس للترجمة، في افتتاح هذه الندوة الدولية دور الترجمة في تشكيل وعي الطفل وبناء شخصيته، مؤكدا أن الطفل ينشأ في عالم متعدد اللغات والثقافات، وأن للترجمة دورا محوريا في مساعدته على فهم السياقات المختلفة التي يعيشها سواء بلغته الأم أو عبر اللغات الأخرى التي ينغمس فيها اختيارا أو اضطرارا، خاصة في ظل الانفتاح الواسع على العوالم الرقمية والافتراضية.

وبين في ذات الكلمة أن الترجمة وسيلة لتبادل المعارف بين الشعوب، لكنها أيضا رافعة أساسية في تكوين شخصية الطفل وصقل مهاراته المعرفية واللغوية والثقافية. وأوضح أن الطفل يبني معارفه منذ سنواته الأولى بلغته الأم، لكنه في الوقت ذاته يتأثر بلغات أخرى ينخرط فيها اختيارا عبر التعلم أو اضطرارا عبر وسائط الحياة اليومية، خاصة مع الانغماس الكبير في العالم الرقمي والافتراضي.

كما توقف عند الانغماس اللغوي الذي لم يعد - حسب تعبيره - موجودا فقط في البيئات التعليمية التقليدية، وإنما صار يحدث عبر الشاشات المتاحة للأطفال في الهواتف الذكية والحواسيب والألعاب الإلكترونية، وهو ما يفرض مقاربة جديدة تجعل من الترجمة وسيلة لتوجيه هذا الانغماس نحو بناء شخصية متوازنة، قادرة على التفاعل مع الثقافات المختلفة دون أن تفقد ارتباطها بجذورها المحلية والوطنية.

والترجمة اليوم – والكلام للأستاذ توفيق قريرة – تساعد الطفل على فهم السياقات المتنوعة التي يجد نفسه فيها، وتمنحه أدوات للتأقلم والإبداع والانفتاح. وأكد أن الترجمة تظل في بعدها التربوي عملا أخلاقيا وإنسانيا قبل أن تكون مجرد تقنية لغوية، لأنها تفتح أمام الطفل أفقا كونيا يوازن بين الانتماء المحلي والانفتاح العالمي.

وأثر الكلمة الافتتاحية، قدم الأستاذ الطاهر بن قيزة، أستاذ تاريخ الفلسفة الحديثة والإبستيمولوجيا بجامعة تونس، محاضرته بعنوان «في ترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية»، تناول خلالها التحديات التي تطرحها ترجمة النصوص الفلسفية الكبرى، مستشهدا بتجربة ترجمة نصوص الفيلسوف الألماني «لايبنتز»، الذي تميز إنتاجه الفكري بتعدد أبعاده المعرفية من منطق ورياضيات وفلسفة وعلوم طبيعية.

وبين أن الترجمة في هذا المستوى هي فعل تأويلي وتجديدي، يتيح للأمم التي تتلقى هذه النصوص أن تنخرط في النقاش الفلسفي الكوني وأن تسهم في تطويره من زاويتها الخاصة.

وختم مداخلته بالتأكيد على أن العالم العربي اليوم يحتاج إلى تكثيف الجهود في ترجمة النصوص الفلسفية الكلاسيكية والحديثة، ليس بوصفها نصوصا نظرية جامدة، وإنما باعتبارها جزءا من تكوين الفكر النقدي للأجيال القادمة.

أسئلة وتساؤلات حول الترجمة والطفل

وطرحت هذه الندوة الدولية، على امتداد يومين ومن خلال الورقة العلمية التي أعدت للغرض، العديد من الأسئلة والتساؤلات والمواقف والقراءات. وقد سعى المحاضرون المشاركون إلى التعمق في هذه الإشكاليات، منها علاقة الترجمة بالطفل ودورها في بناء شخصيته الاجتماعية والمعرفية بدرجة أولى، ومنها أيضا علاقة الترجمة بتنمية قدرات الأطفال وانفتاحهم على الثقافات الأخرى، ورهانات ترجمة الأعمال الأدبية المخصصة للأطفال: «بين التبعية والإبداع»، و»الوساطة الحضارية للترجمة في أدب الطفل: الرهانات والحدود»، و»اكتساب فن الترجمة مع الأطفال في عصر العالمية»، و»إسهامات أدب الطفل المترجم إلى اللغة العربية في ترسيخ القيم الأخلاقية»، و»دور الترجمة في تطوير السلوكات الإبداعية الموسيقية لدى الأطفال»، بالإضافة إلى قراءات في بعض المواد المدرجة في المناهج التربوية، خاصة المرتبطة باللغات الأجنبية.

وفي هذا الإطار، بينت الدكتورة خالدة مدوي «جامعة منوبة» في مداخلتها أن الترجمة تعدّ أداة شاملة تساهم في بناء القدرات المعرفية والوجدانية والثقافية لدى الطفل وفي صقل شخصيته وهويته الاجتماعية، شريطة أن تُمارس في إطار متوازن يدمج بين الخبرة الإنسانية والتقنيات الرقمية.

وأوضحت أن الترجمة لا تُختزل في كونها نشاطا لغويا، وإنما هي تمثل أداة تربوية ومعرفية تسهم في تطوير الوظائف الذهنية العليا للطفل، على غرار التفكير المجرد. واستعرضت في هذا السياق الأطر النظرية في علم نفس النمو، خاصة نظرية «جان بياجيه» حول الاستيعاب والملاءمة، مؤكدة أن الانخراط المبكر في الترجمة يعزز قدرات الأطفال ثنائيي أو متعددي اللغة على التكيف، ويوسع من أفقهم المعرفي والثقافي. كما أشارت إلى أن الترجمة تترك بصمة في تشكيل الشخصية والذكاء العاطفي، لاسيما لدى أبناء المهاجرين الذين يكلّفون بمهمات الترجمة لأسرهم في الحياة اليومية.

ومن جانبه، ركز الدكتور حمدي دوكالي «جامعة منوبة» على البعد الوجداني للترجمة، مبرزا أن الطفل الذي يضطلع بدور «المترجم العائلي» يكتسب مهارات عالية في التعاطف وتحمل المسؤولية، لكنه قد يتعرض في المقابل لضغط نفسي بسبب تحمّل أعباء تفوق سنّه، خاصة حين يتعلق الأمر بترجمة وثائق أو مواقف متشابكة تفوق عمره. وأكد أن الموازنة بين التمكين والضغط ضرورية لحماية التوازن النفسي للأطفال.

كما توقف عند دور التكنولوجيا الحديثة في تعزيز تعلم اللغات والترجمة لدى الناشئة، مبيّنا أن تطبيقات مثل «غوغل للترجمة» توفر للأطفال فرصا للتجريب اللغوي واختبار المعاني، لكنها تظل قاصرة أمام التعابير الثقافية الدقيقة، مما يستدعي حضور التوجيه البشري لضمان تنمية التفكير النقدي والوعي الثقافي.

مداخلات من وراء البحار

وشهدت هذه الندوة مشاركة باحثين وخبراء من وراء البحار بالاعتماد على تقنية الاتصال عن بعد، من ذلك الأستاذة جيليان لايثي من جامعة «روهمبتون» بلندن، التي أبرزت في مداخلتها الدور المحوري للترجمة في تنمية قدرات الطفل المعرفية والعاطفية، معتمدة في ذلك على خبرتها كمعلمة لأطفال تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسابعة في شمال لندن، حيث اعتادت قراءة قصص مترجمة من حكايات الأخوين غريم وشارل بيرو إلى رواية “إميل والمحققون” للألماني إريش كاستنر.

وأكدت في جانب آخر من مداخلتها أن الترجمة الموجهة للأطفال ترتبط بتطورهم النفسي والمعرفي، مبينة أن المترجم يواجه تحديات كبرى أبرزها ملاءمة النصوص لمستويات القراءة المتفاوتة، والموازنة بين الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية أو تكييفها، وأهمية الوساطة التي يقوم بها الراشدون عند قراءة النصوص.

ودعت المتدخلة إلى ضرورة أن يراعي المترجم عند نقل نصوص الأطفال “تطور الطفل كقارئ”، إذ لاحظت أن الإيقاع والنغم والصوتيات أساسية لجذب انتباه الصغار قبل أن يتمكنوا من القراءة بأنفسهم، و“معرفة الطفل بثقافات أخرى”، حيث ترى الكاتبة والمترجمة البريطانية أن المترجم من وجهة نظرها يواجه هنا معضلة “التدجين” أو “التغريب”، مشيرة إلى أن القصد من ذلك هو الإجابة عن سؤال: هل يغيّر المترجم أسماء الشخصيات والأطعمة والعادات أم يحافظ عليها كما هي؟

وأشارت إلى أن الأهل والمعلمين غالبا ما يقرؤون النصوص للأطفال، وهو ما يفرض على المترجم التفكير في كيفية تسهيل الوساطة دون إثقال النص بالهوامش أو الشروح، وفق تقديرها، منادية «بضرورة الأخذ بعين الاعتبار بما وصفته «تفاوت الترجمة بين الثقافات»». وكشفت في هذا المجال أنه «في بريطانيا لا تتجاوز نسبة الكتب المترجمة 3 في المائة من مجمل الإصدارات الموجهة للأطفال، في حين أنها تصل في فنلندا إلى 80 في المائة».

وتوقفت الباحثة اليابانية «مايا ماكينو» عند الخصوصيات الثقافية والاجتماعية التي من شأنها المساهمة في تشكيل مفهوم الطفولة، مبينة أن الطفولة هي بناء اجتماعي يختلف من مجتمع إلى آخر وفق القوانين والعادات التربوية والعائلية.

ففي اليابان تقول الباحثة «مايا ماكينو»: تقوم الناشئة على قيم جماعية مثل الانسجام واحترام الآخر من خلال تعويد الأطفال منذ الصغر على الاستقلالية والمسؤولية، في حين أن الناشئة في تونس ترتكز على القيم الإسلامية وصلابة الروابط العائلية، حيث يكون للدور الأخلاقي دور رئيسي في عملية التنشئة الاجتماعية.

وخلصت إلى أن الأطفال في تونس اليوم، وبعد الثورة، يعيشون في مفترق طرق بين الإرث الثقافي التقليدي وضغوط الحداثة والعولمة، وهو ما يطرح تحديات متشابكة على مستوى الهوية والتنشئة.

وقدم الباحث سهيل بن الحبيب «جامعة ابن طفيل بالقنيطرة – المغرب» مداخلة توقف فيها عند الترجمة السمعية البصرية، وقدم الأستاذ ألدوني كوسيا «جامعة باري – إيطاليا» مداخلة تعلقت بعلاقة الأم بالطفل من خلال التحاور معه، واعتبرها – أي لغة الأم – «وطنا للطفل». أما الدكتورة صفية بلعيد «جامعة بجاية – الجزائر»، فتوقفت عند إسهامات أدب الطفل المترجم إلى اللغة العربية في ترسيخ القيم الأخلاقية.

ليكون الإجماع في هذا الملتقى، من خلال الجلسات والمداخلات، حول ضرورة فتح أفق للتعاون بين المترجمين والباحثين العرب والأجانب، لأجل كسب رهان إعداد وإنجاز مشاريع عملية تخدم الطفل والناشئة في مواجهة تحديات عصر العولمة.

محسن بن أحمد