كشفت نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 عن جملة من المعطيات المقلقة، التي تعكس تحولات اجتماعية سلبية تستدعي التوقف عندها وتحليلها بعمق بهدف معالجتها والحد من تداعياتها.
ولعل من أبرز هذه المؤشرات، نسبة الأمية المرتفعة التي بلغت 17.3 بالمائة، وما تحمله من دلالات تُحيل إلى إشكاليات أخرى مثل التسرب المدرسي، والتفاوت الجهوي، والحرمان التنموي، فضلا عن كونها عائقا حقيقيا للتنمية والنمو والإبداع الثقافي والحضاري.
تفاوت بين الجنسين والجهات
أوضح المعهد الوطني للإحصاء، في نتائجه الخاصة بتعداد 2024، أن معدل الأمية بلغ 17.3 بالمائة من مجموع السكان البالغ عددهم نحو 11.9 مليون نسمة.
وتُبيّن المعطيات وجود فوارق بين الجنسين، حيث بلغت نسبة الأمية لدى النساء 22.3 ٪، مقابل 12.0 ٪ لدى الرجال، إلى جانب تفاوت جهوي ملحوظ، إذ سجّلت ولايات جندوبة، القيروان، سيدي بوزيد، القصرين وسليانة أعلى نسب أمية، تراوحت بين 25 و28.5 ٪، في حين سجّلت ولايتا بن عروس والمنستير أدنى النسب على المستوى الوطني بـ10.12 ٪ و11.21 ٪ على التوالي.
قصور برامج تعليم الكبار
تُطرح هذه النسب المرتفعة ضمن سياق نقدي للبرامج المعتمدة في محو الأمية، والتي لم تُفلح، رغم اعتمادها لسنوات، في تقليص حجم الظاهرة بشكل ملموس.
وقد أجمعت الأطراف المعنية، بما فيهم خبراء ومتابعون، على أن هذه البرامج فشلت في إقناع العديد من الشرائح الاجتماعية بالالتحاق بها، مؤكدين ضرورة تطوير المضامين وتجاوز الاقتصار على «المعارف الأبجدية»، نحو إكساب المتعلمين مهارات حياتية ومهنية، مثل القدرة على بعث المشاريع وإدارتها.
وفي هذا السياق، أفادت مصادر من وزارة الشؤون الاجتماعية بأن الوزارة شرعت في تحيين ومراجعة الاستراتيجية الوطنية لمحو الأمية وتعليم الكبار، عبر مقاربة جديدة تتجاوز الأساليب التقليدية المعتمدة منذ 2002، والتي باتت غير قادرة على مواكبة التحولات الراهنة.
وتتجسّد هذه المقاربة في إحداث مشروع «مدرسة تونس للتعلم مدى الحياة»، وهي مؤسسة تعليمية توفر دروسًا وتدريبًا في مجالات متنوعة تشمل علوم الحاسوب، اللغات، الموسيقى، السينما، وغيرها من المهارات، في إطار منظومة تعليمية مرنة وشاملة، مفتوحة للجميع، من أميين أو ذوي قدرات محدودة في القراءة، أو حتى من المتعلمين الراغبين في تطوير مهاراتهم.
التسرب المدرسي.. قنبلة صامتة
تُعتبر الظاهرة المرتبطة بالتسرب المدرسي أحد أبرز الأسباب المباشرة لارتفاع نسب الأمية، باعتبار أن الأطفال المنقطعين عن التعليم في سن مبكرة يرتدّون تلقائيًا نحو الأمية.
وبالعودة إلى المؤشرات الإحصائية الأخيرة، يتضح جليًا اتساع رقعة التسرب المدرسي بشكل مقلق.
فقد كشفت نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 أن 4.5 بالمائة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و16 سنة لا يتلقون أي تعليم ويوجدون خارج المنظومة التربوية.
وحسب نفس المصدر، بلغت نسبة التسرب المدرسي 3.5 بالمائة من جملة 3.293.463 طفلًا، معظمهم من الذكور.
وسُجلت أعلى نسبة انقطاع عن التعليم في الفئة العمرية 12-16 سنة (8.1 بالمائة)، تليها الفئة العمرية 6-16 سنة (4.5 بالمائة)، ثم الفئة العمرية 6-11 سنة (1.6 بالمائة).
أما على المستوى الجغرافي، فقد تجاوزت نسب التسرب المدرسي 6 بالمائة في ولايات القيروان، المهدية والقصرين، بينما كانت في أدنى مستوياتها بـ أقل من 3 بالمائة في ولايات بن عروس، منوبة وأريانة.
كما بلغ عدد الأطفال غير الملتحقين أصلا بأي مؤسسة تربوية أو تكوينية نحو 1 بالمائة.
وتشير معطيات رسمية أخرى إلى أن ما بين 60 و100 ألف تلميذ يغادرون سنويًا مقاعد الدراسة، أغلبهم في المراحل الابتدائية، ولا ينخرط حوالي 50 بالمائة منهم في أيّ منظومة للتكوين المهني، مما يجعلهم ضمن فئة العاطلين عن العمل.
ويؤكد المختصون أن 60 بالمائة من المنقطعين عن الدراسة هنّ من الفتيات في الأرياف، وهو ما يعكس تراجع ثقة المواطن في المدرسة العمومية وفشلها في الاستقطاب والاحتفاظ بالتلاميذ.
الأمية ظاهرة خطيرة ومتعددة الأبعاد
في هذا السياق، صرّح رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ، رضا الزهروني، بأن «نسبة الأشخاص الذين لم يدرسوا أبدا يُعدّون أميين بطبيعتهم، وهناك فئة أخرى درست لسنوات محدودة لكنها لم تكتسب مهارات القراءة والكتابة والحساب، وهي أيضًا تدخل ضمن نسب الأمية».
واعتبر الزهروني في تصريح إعلامي أن نسبة الأمية البالغة 17 بالمائة «مرتفعة وخطيرة»، مذكرًا بأن بعض الدول لا تتجاوز فيها هذه النسبة 5 أو 6 بالمائة. ودعا إلى إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية وتحسين أدائها، مؤكدًا ضرورة العودة إلى مجانية التعليم كأساس للعدالة الاجتماعية.
وكان مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية قد كشف في وقت سابق عن دراسة أنجزتها وحدة «الأسرة والتغيرات الاجتماعية» شملت خمس ولايات، أثبتت أن الانقطاع المدرسي ظاهرة مركبة وصعبة الفهم، وتحتاج إلى مقاربة علمية متعددة الأبعاد.
وبيّنت الدراسة أن خطورة هذه الظاهرة لا تكمن فقط في الانقطاع في حد ذاته، بل في ما يولّده من ظواهر أشد خطورة، مثل، العنف المجتمعي، الانخراط في التهريب، التطرف الديني، الإرهاب والاقتصاد الموازي.
واعتبرت الدراسة أن المنقطعين عن التعليم يمثلون خزانا بشريا غير محدود يُغذّي هذه الظواهر السلبية، وهو ما يستوجب سياسات عاجلة واستباقية لاحتواء الأزمة.
باحث وخبير في الشأن التربوي: الانقطاع المدرسي ليس المغذي الأساسي للأمية في تونس
في قراءة تحليلية، ردّا على تساؤل «الصباح» حول نسب الأمية المرتفعة وعلاقتها بظاهرة التسرب المدرسي، يرى الباحث والخبير في الشأن التربوي خالد الشابي ما يلي:
«لا تزال آفة الأمية تنخر مجتمعنا، رغم مرور 69 سنة على الاستقلال، حيث كانت نسبة الأمية في تونس سنة 1956 حوالي 84.7 ٪. ولذلك راهنت دولة الاستقلال على التعليم باعتباره المدخل الرئيسي للارتقاء بالمجتمع، وكان برنامج محو الأمية وتعليم الكبار من بين أبرز آلياتها إلى جانب نشر التعليم العمومي المجاني.
ويضيف: «في غضون عشر سنوات، سُجّل انخفاض ملحوظ في نسبة الأمية، لتصل إلى 67.9 ٪، ثم تواصل الانخفاض تدريجيًّا ليبلغ 31.7 ٪ سنة 1994، و23.3 ٪ سنة 2004، ثم 19.1 ٪ سنة 2018. ورغم أننا لم نبلغ الهدف المنشود لسنة 2014 (وهو تقليص النسبة إلى 10 ٪)، إلا أن التراجع استمر، لتصل النسبة إلى 17.3 ٪ حسب تعداد 2024».
ويُفسّر الخبير هذه النسبة بقوله: «عدد التونسيين الذين لا يزالون يعانون من الأمية سنة 2024 يُقارب نفس العدد المسجّل سنة 2019، أي أكثر من مليوني تونسي، بما يعني أن واحدًا من كل ستة تونسيين تقريبًا هو أمي.
وبعد عقود من التعليم الإجباري، بات من الضروري إطلاق صيحة فزع، لدعوة الجهات المشرفة على برامج محو الأمية إلى معالجة الأسباب العميقة لهذه الظاهرة، سواء كانت اجتماعية أو فردية أو اقتصادية أو ثقافية.»
أي علاقة بين الانقطاع المدرسي والأمية؟
يتابع الشابي قائلا: «يتساءل الكثيرون عن دور التسرب المدرسي في تغذية نسبة الأمية المسجّلة سنة 2024، وهي في الواقع قريبة من نسب السنوات السابقة.
وقبل تقديم الإجابة، لا بد من التذكير بأنواع الأمية الموجودة في تونس: هناك الأمية الأبجدية العامة، وتُعرّف بعدم قدرة الفرد على قراءة أو كتابة جملة بسيطة تتعلق بحياته اليومية، إضافة إلى عجزه عن إجراء حسابات بسيطة، مما يعوق تواصله الاجتماعي.
وهناك الأمية القرائية، وهي تصيب من يعرف القراءة والكتابة، لكنه غير قادر على توظيفهما بفعالية في حياته.
وهناك أيضًا الأمية الرقمية، وهي عدم الإلمام باستخدام الحاسوب والتكنولوجيا الحديثة، وتُعتبر وفق منظمة اليونسكو أحد أشكال الأمية المعاصرة، وتشمل ما يُقارب ثلث الأميين عالميا.
وفي هذا السياق، يُصنَّف المنقطعون عن الدراسة ضمن الفئة الثانية، أي ممن دخلوا المدرسة لفترة محدودة، لكنهم غادروها دون اكتساب المهارات الأساسية، ويعانون من ضعف في التعلمات، خاصة في اللغات، ما يجعلهم معرّضين للارتداد إلى الأمية، وهو ما يتفاقم مع تزايد أهمية المهارات الرقمية في الحياة اليومية.»
الانقطاع المدرسي ليس السبب الرئيسي
ويُوضّح الشابي موقفه بقوله: «رغم العدد الهام من المنقطعين عن الدراسة في تونس – والذي تراوح خلال السنوات الماضية بين 60 و100 ألف سنويًا – فإنني لا أعتبره سببًا مباشرًا في تواصل ارتفاع نسبة الأمية.
والسبب في ذلك، أنه إذا صنّفنا الأمية حسب الشرائح العمرية، نجد أن نسبتها تبدأ بالارتفاع انطلاقًا من الفئة 30 – 40 سنة، لتتجاوز 90 ٪ بين من تجاوزوا سن الستين من النساء، خاصة في المناطق الريفية.
أما في الفئة العمرية 10 – 29 سنة، فإن نسبة الأمية لا تتجاوز 3.5 ٪، وهي أقل من النسبة العالمية (4 ٪). وهذا يعني أن فئة الشباب عموما هي الأقل تضررًا من الأمية، وأن المنقطعين عن التعليم لا يرتد منهم إلى الأمية إلا نسبة قليلة».
ويضيف: «إذا قارنا عدد المنقطعين سنويًا بعدد الأميين في البلاد، فإننا نُدرك أن الانقطاع المدرسي ليس المغذّي الأساسي لنسب الأمية المرتفعة.
لذا أصبح من الضروري البحث عن الأسباب الجوهرية التي تُبقي على هذه النسبة، والعمل على معالجتها عبر سياسات شاملة».
◗ م.ي
كشفت نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 عن جملة من المعطيات المقلقة، التي تعكس تحولات اجتماعية سلبية تستدعي التوقف عندها وتحليلها بعمق بهدف معالجتها والحد من تداعياتها.
ولعل من أبرز هذه المؤشرات، نسبة الأمية المرتفعة التي بلغت 17.3 بالمائة، وما تحمله من دلالات تُحيل إلى إشكاليات أخرى مثل التسرب المدرسي، والتفاوت الجهوي، والحرمان التنموي، فضلا عن كونها عائقا حقيقيا للتنمية والنمو والإبداع الثقافي والحضاري.
تفاوت بين الجنسين والجهات
أوضح المعهد الوطني للإحصاء، في نتائجه الخاصة بتعداد 2024، أن معدل الأمية بلغ 17.3 بالمائة من مجموع السكان البالغ عددهم نحو 11.9 مليون نسمة.
وتُبيّن المعطيات وجود فوارق بين الجنسين، حيث بلغت نسبة الأمية لدى النساء 22.3 ٪، مقابل 12.0 ٪ لدى الرجال، إلى جانب تفاوت جهوي ملحوظ، إذ سجّلت ولايات جندوبة، القيروان، سيدي بوزيد، القصرين وسليانة أعلى نسب أمية، تراوحت بين 25 و28.5 ٪، في حين سجّلت ولايتا بن عروس والمنستير أدنى النسب على المستوى الوطني بـ10.12 ٪ و11.21 ٪ على التوالي.
قصور برامج تعليم الكبار
تُطرح هذه النسب المرتفعة ضمن سياق نقدي للبرامج المعتمدة في محو الأمية، والتي لم تُفلح، رغم اعتمادها لسنوات، في تقليص حجم الظاهرة بشكل ملموس.
وقد أجمعت الأطراف المعنية، بما فيهم خبراء ومتابعون، على أن هذه البرامج فشلت في إقناع العديد من الشرائح الاجتماعية بالالتحاق بها، مؤكدين ضرورة تطوير المضامين وتجاوز الاقتصار على «المعارف الأبجدية»، نحو إكساب المتعلمين مهارات حياتية ومهنية، مثل القدرة على بعث المشاريع وإدارتها.
وفي هذا السياق، أفادت مصادر من وزارة الشؤون الاجتماعية بأن الوزارة شرعت في تحيين ومراجعة الاستراتيجية الوطنية لمحو الأمية وتعليم الكبار، عبر مقاربة جديدة تتجاوز الأساليب التقليدية المعتمدة منذ 2002، والتي باتت غير قادرة على مواكبة التحولات الراهنة.
وتتجسّد هذه المقاربة في إحداث مشروع «مدرسة تونس للتعلم مدى الحياة»، وهي مؤسسة تعليمية توفر دروسًا وتدريبًا في مجالات متنوعة تشمل علوم الحاسوب، اللغات، الموسيقى، السينما، وغيرها من المهارات، في إطار منظومة تعليمية مرنة وشاملة، مفتوحة للجميع، من أميين أو ذوي قدرات محدودة في القراءة، أو حتى من المتعلمين الراغبين في تطوير مهاراتهم.
التسرب المدرسي.. قنبلة صامتة
تُعتبر الظاهرة المرتبطة بالتسرب المدرسي أحد أبرز الأسباب المباشرة لارتفاع نسب الأمية، باعتبار أن الأطفال المنقطعين عن التعليم في سن مبكرة يرتدّون تلقائيًا نحو الأمية.
وبالعودة إلى المؤشرات الإحصائية الأخيرة، يتضح جليًا اتساع رقعة التسرب المدرسي بشكل مقلق.
فقد كشفت نتائج التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 أن 4.5 بالمائة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و16 سنة لا يتلقون أي تعليم ويوجدون خارج المنظومة التربوية.
وحسب نفس المصدر، بلغت نسبة التسرب المدرسي 3.5 بالمائة من جملة 3.293.463 طفلًا، معظمهم من الذكور.
وسُجلت أعلى نسبة انقطاع عن التعليم في الفئة العمرية 12-16 سنة (8.1 بالمائة)، تليها الفئة العمرية 6-16 سنة (4.5 بالمائة)، ثم الفئة العمرية 6-11 سنة (1.6 بالمائة).
أما على المستوى الجغرافي، فقد تجاوزت نسب التسرب المدرسي 6 بالمائة في ولايات القيروان، المهدية والقصرين، بينما كانت في أدنى مستوياتها بـ أقل من 3 بالمائة في ولايات بن عروس، منوبة وأريانة.
كما بلغ عدد الأطفال غير الملتحقين أصلا بأي مؤسسة تربوية أو تكوينية نحو 1 بالمائة.
وتشير معطيات رسمية أخرى إلى أن ما بين 60 و100 ألف تلميذ يغادرون سنويًا مقاعد الدراسة، أغلبهم في المراحل الابتدائية، ولا ينخرط حوالي 50 بالمائة منهم في أيّ منظومة للتكوين المهني، مما يجعلهم ضمن فئة العاطلين عن العمل.
ويؤكد المختصون أن 60 بالمائة من المنقطعين عن الدراسة هنّ من الفتيات في الأرياف، وهو ما يعكس تراجع ثقة المواطن في المدرسة العمومية وفشلها في الاستقطاب والاحتفاظ بالتلاميذ.
الأمية ظاهرة خطيرة ومتعددة الأبعاد
في هذا السياق، صرّح رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ، رضا الزهروني، بأن «نسبة الأشخاص الذين لم يدرسوا أبدا يُعدّون أميين بطبيعتهم، وهناك فئة أخرى درست لسنوات محدودة لكنها لم تكتسب مهارات القراءة والكتابة والحساب، وهي أيضًا تدخل ضمن نسب الأمية».
واعتبر الزهروني في تصريح إعلامي أن نسبة الأمية البالغة 17 بالمائة «مرتفعة وخطيرة»، مذكرًا بأن بعض الدول لا تتجاوز فيها هذه النسبة 5 أو 6 بالمائة. ودعا إلى إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية وتحسين أدائها، مؤكدًا ضرورة العودة إلى مجانية التعليم كأساس للعدالة الاجتماعية.
وكان مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية قد كشف في وقت سابق عن دراسة أنجزتها وحدة «الأسرة والتغيرات الاجتماعية» شملت خمس ولايات، أثبتت أن الانقطاع المدرسي ظاهرة مركبة وصعبة الفهم، وتحتاج إلى مقاربة علمية متعددة الأبعاد.
وبيّنت الدراسة أن خطورة هذه الظاهرة لا تكمن فقط في الانقطاع في حد ذاته، بل في ما يولّده من ظواهر أشد خطورة، مثل، العنف المجتمعي، الانخراط في التهريب، التطرف الديني، الإرهاب والاقتصاد الموازي.
واعتبرت الدراسة أن المنقطعين عن التعليم يمثلون خزانا بشريا غير محدود يُغذّي هذه الظواهر السلبية، وهو ما يستوجب سياسات عاجلة واستباقية لاحتواء الأزمة.
باحث وخبير في الشأن التربوي: الانقطاع المدرسي ليس المغذي الأساسي للأمية في تونس
في قراءة تحليلية، ردّا على تساؤل «الصباح» حول نسب الأمية المرتفعة وعلاقتها بظاهرة التسرب المدرسي، يرى الباحث والخبير في الشأن التربوي خالد الشابي ما يلي:
«لا تزال آفة الأمية تنخر مجتمعنا، رغم مرور 69 سنة على الاستقلال، حيث كانت نسبة الأمية في تونس سنة 1956 حوالي 84.7 ٪. ولذلك راهنت دولة الاستقلال على التعليم باعتباره المدخل الرئيسي للارتقاء بالمجتمع، وكان برنامج محو الأمية وتعليم الكبار من بين أبرز آلياتها إلى جانب نشر التعليم العمومي المجاني.
ويضيف: «في غضون عشر سنوات، سُجّل انخفاض ملحوظ في نسبة الأمية، لتصل إلى 67.9 ٪، ثم تواصل الانخفاض تدريجيًّا ليبلغ 31.7 ٪ سنة 1994، و23.3 ٪ سنة 2004، ثم 19.1 ٪ سنة 2018. ورغم أننا لم نبلغ الهدف المنشود لسنة 2014 (وهو تقليص النسبة إلى 10 ٪)، إلا أن التراجع استمر، لتصل النسبة إلى 17.3 ٪ حسب تعداد 2024».
ويُفسّر الخبير هذه النسبة بقوله: «عدد التونسيين الذين لا يزالون يعانون من الأمية سنة 2024 يُقارب نفس العدد المسجّل سنة 2019، أي أكثر من مليوني تونسي، بما يعني أن واحدًا من كل ستة تونسيين تقريبًا هو أمي.
وبعد عقود من التعليم الإجباري، بات من الضروري إطلاق صيحة فزع، لدعوة الجهات المشرفة على برامج محو الأمية إلى معالجة الأسباب العميقة لهذه الظاهرة، سواء كانت اجتماعية أو فردية أو اقتصادية أو ثقافية.»
أي علاقة بين الانقطاع المدرسي والأمية؟
يتابع الشابي قائلا: «يتساءل الكثيرون عن دور التسرب المدرسي في تغذية نسبة الأمية المسجّلة سنة 2024، وهي في الواقع قريبة من نسب السنوات السابقة.
وقبل تقديم الإجابة، لا بد من التذكير بأنواع الأمية الموجودة في تونس: هناك الأمية الأبجدية العامة، وتُعرّف بعدم قدرة الفرد على قراءة أو كتابة جملة بسيطة تتعلق بحياته اليومية، إضافة إلى عجزه عن إجراء حسابات بسيطة، مما يعوق تواصله الاجتماعي.
وهناك الأمية القرائية، وهي تصيب من يعرف القراءة والكتابة، لكنه غير قادر على توظيفهما بفعالية في حياته.
وهناك أيضًا الأمية الرقمية، وهي عدم الإلمام باستخدام الحاسوب والتكنولوجيا الحديثة، وتُعتبر وفق منظمة اليونسكو أحد أشكال الأمية المعاصرة، وتشمل ما يُقارب ثلث الأميين عالميا.
وفي هذا السياق، يُصنَّف المنقطعون عن الدراسة ضمن الفئة الثانية، أي ممن دخلوا المدرسة لفترة محدودة، لكنهم غادروها دون اكتساب المهارات الأساسية، ويعانون من ضعف في التعلمات، خاصة في اللغات، ما يجعلهم معرّضين للارتداد إلى الأمية، وهو ما يتفاقم مع تزايد أهمية المهارات الرقمية في الحياة اليومية.»
الانقطاع المدرسي ليس السبب الرئيسي
ويُوضّح الشابي موقفه بقوله: «رغم العدد الهام من المنقطعين عن الدراسة في تونس – والذي تراوح خلال السنوات الماضية بين 60 و100 ألف سنويًا – فإنني لا أعتبره سببًا مباشرًا في تواصل ارتفاع نسبة الأمية.
والسبب في ذلك، أنه إذا صنّفنا الأمية حسب الشرائح العمرية، نجد أن نسبتها تبدأ بالارتفاع انطلاقًا من الفئة 30 – 40 سنة، لتتجاوز 90 ٪ بين من تجاوزوا سن الستين من النساء، خاصة في المناطق الريفية.
أما في الفئة العمرية 10 – 29 سنة، فإن نسبة الأمية لا تتجاوز 3.5 ٪، وهي أقل من النسبة العالمية (4 ٪). وهذا يعني أن فئة الشباب عموما هي الأقل تضررًا من الأمية، وأن المنقطعين عن التعليم لا يرتد منهم إلى الأمية إلا نسبة قليلة».
ويضيف: «إذا قارنا عدد المنقطعين سنويًا بعدد الأميين في البلاد، فإننا نُدرك أن الانقطاع المدرسي ليس المغذّي الأساسي لنسب الأمية المرتفعة.
لذا أصبح من الضروري البحث عن الأسباب الجوهرية التي تُبقي على هذه النسبة، والعمل على معالجتها عبر سياسات شاملة».