-إدراج موقع في قائمة التراث العالمي لا يعني شيئا في حد ذاته ما لم يواكبه تخطيط استراتيجي واضح يقوم على عدة عناصر
-السياحة الثقافية أكثر استدامة من السياحة الشاطئية التي تتأثر سريعا بالأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية
-هل الإدراج مجرد إضافة رمزية أخرى، أم نقطة تحول تفتح الباب نحو استراتيجية جديدة تجعل من التراث الثقافي والعمارة التقليدية والسياحة الثقافية موارد اقتصادية فعلية؟
تحرص تونس على تسجيل مزيد من المواقع الأثرية والتاريخية والثقافية على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وقد أشرفت وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي، يوم الخميس 11 سبتمبر 2025، وكانت مرفوقة بوالي تونس عماد بوخريص، على جلسة عمل موسعة خُصصت للنظر في مستجدات تحضير ملف إدراج قرية سيدي بوسعيد على هذه اللائحة. وهو ما يدفع إلى التساؤل، عن جدوى هذه المساعي، ليس فقط من حيث رمزية الاعتراف الدولي بقيمة المكان وأصالته، بل خصوصا من زاوية ما تحقق فعلا بعد الإدراجات السابقة، وكيف يمكن أن يتحول هذا الاعتراف إلى رافعة اقتصادية وثقافية، في وقت ما تزال فيه مواقع تونسية مدرجة منذ عقود تعاني الإهمال وتفتقر إلى رؤية تثمين واضحة.
لقد أدرجت تونس منذ 1979 تسعة مواقع كبرى في قائمة التراث العالمي، موزعة على مراحل: ففي سنة 1979 سُجل الموقع الأثري بقرطاج، والمدرج الروماني بالجم، ومدينة تونس العتيقة، وهي مواقع تمثل حجر الأساس في إبراز العمق التاريخي والمعماري للبلاد. ثم تلا ذلك إدراج محمية إشكل الوطنية سنة 1980 بوصفها نموذجا فريدا للنظم البيئية في المتوسط، قبل أن تُسجل مدينة كركوان البونية ومقبرتها سنة 1985 باعتبارها الشاهد الوحيد تقريبا على مدينة بونية كاملة حافظت على طابعها.
وفي سنة 1988 انضمت القيروان وسوسة العتيقة، وهما من أبرز المدن الإسلامية المغاربية، وفي 1997 أُدرج موقع دقة الأثري الذي يعكس روعة العمارة الرومانية في إفريقيا القديمة. أما آخر الإضافات فكان إدراج جزيرة جربة سنة 2023 بعد مسار طويل من المفاوضات والملفات التقنية.
وإزاء هذا المسار الممتد على أكثر من أربعة عقود، هناك سؤال يفرض نفسه، وهو: ماذا تحقق عمليا بعد هذه الإدراجات؟ فالمواقع التسعة التي يُفترض أن تكون واجهات البلاد على العالم، ظلت في كثير من الأحيان تعاني غياب العناية والبرمجة السياحية والثقافية الجدية، مما جعلها مجرد عناوين رسمية أكثر منها موارد استراتيجية.
هنا تبرز أهمية ملف سيدي بوسعيد، القرية المتوسطية التي تحولت منذ عقود إلى أيقونة بصرية وثقافية لتونس، وجذبت رسامين وشعراء وموسيقيين من العالم. إدراجها المحتمل قد يمنح تونس موقعا عاشرا في القائمة، لكنه في الآن ذاته يطرح تحديا: هل سيكون هذا الإدراج مجرد إضافة رمزية أخرى، أم نقطة تحول تفتح الباب نحو استراتيجية جديدة تجعل من التراث الثقافي والعمارة التقليدية والسياحة الثقافية موارد اقتصادية فعلية؟
في التجارب المقارنة، يُلاحظ أن بلدانا عربية عدة استثمرت بذكاء في تصنيفات اليونسكو. المغرب، مثلا، حوّل مدن فاس (1981) ومراكش (1985) ومكناس (1996) والمدينة العتيقة للرباط (2012) إلى علامات سياحية عالمية عبر ترميم الأحياء القديمة وتثمين الحرف التقليدية وإطلاق مهرجانات موسيقية وصوفية داخل هذه الفضاءات، مما جعل السياحة الثقافية ركيزة أساسية لاقتصاده. الأردن بدوره جعل من البتراء، المصنفة منذ 1985، رمزا سياحيا عالميا يولد عوائد هائلة ويمثل واجهة للبلاد ووجهة لتصوير الأفلام والمسلسلات العربية والعالمية.
في ذات السياق، استفادت مصر من إدراج مواقع مثل الأقصر وأسوان والأهرامات عبر حملات ترويجية ضخمة ومشاريع تطوير مسارات سياحية متكاملة، لتجعل من السياحة الثقافية مصدرا رئيسيا من مواردها. كذلك الشأن بالنسبة لسلطنة عمان، بعد إدراج قلاعها التاريخية وأفلاجها التقليدية (2006)، وضعت برامج دقيقة لصيانتها وربطها بالسياحة المحلية والعالمية، وهو ما ساهم في تنويع اقتصادها.
أما في الغرب، فنجد نماذج لافتة مثل مدينة البندقية الإيطالية (المسجلة منذ 1987) التي، رغم التحديات البيئية، ظلت واحدة من أكثر الوجهات الثقافية زيارة في العالم بفضل استراتيجيات صارمة في إدارة التدفقات السياحية. فيما حوّلت إسبانيا مدنها التاريخية مثل طليطلة (1986) وقرطبة (1984) إلى مراكز جذب ثقافي وسياحي عالمي عبر مهرجانات موسيقية وأدبية وفنون الطبخ. وفرنسا، من جهتها، جعلت من مواقعها المصنفة مثل قصر فرساي أو كاتدرائية شارتر موارد اقتصادية مرتبطة بالسياحة الثقافية والتعليمية، إذ يجذب قصر فرساي وحده ملايين الزوار سنويا ويضخ اعتمادات ضخمة في الاقتصاد الفرنسي، والأمثلة عديدة ومتنوعة.
هذه النماذج تظهر أن إدراج موقع في قائمة التراث العالمي لا يعني شيئا في حد ذاته ما لم يواكبه تخطيط استراتيجي واضح يقوم على عدة عناصر: أولها حماية الموقع وصيانته الدورية، ثانيها إدماجه في مسارات سياحية وثقافية منظمة، وثالثها إشراك البلديات والمنظمات المحلية المتخصصة في الاقتصاد التراثي عبر الحرف التقليدية والأنشطة الثقافية. وهو ما لم يتحقق بعد بالقدر الكافي في تونس، حيث ظلت المواقع المدرجة رهينة المبادرات الجزئية والمناسباتية، في غياب رؤية واستراتيجية متكاملة.
والجدير بالتأكيد في هذا السياق أن السياحة الثقافية اليوم تعد أحد أهم محركات الاقتصاد العالمي، وتشكل وفق منظمة السياحة العالمية ما يقارب 40% من مجموع النشاط السياحي الدولي. وهي أكثر استدامة من السياحة الشاطئية التي تعتمد على المواسم وتتأثر سريعا بالأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويضاف إليها تداعيات التغيرات المناخية وتأثيراتها على درجات الحرارة ومواسم الأمطار.
في المقابل، تملك تونس رصيدا حضاريا فريدا ومتعددا ومتنوعا يبدأ من قرطاج إلى القيروان، من الجم إلى سيدي بوسعيد، قادرا إذا ما أُحسن استثماره أن يوفر موردا استراتيجيا يوازي قطاعات مثل الفوسفاط أو الفلاحة أو السياحة الشاطئية.
لكن ما تحقق فعليا بعد الإدراجات السابقة محدود، فمدينة القيروان مثلا لم تُستثمر بما يليق بها كعاصمة إسلامية أولى في المغرب العربي، وبقيت معزولة عن المسارات السياحية الكبرى. موقع الجم بدوره، رغم روعة مدرجه، لم يتحول إلى قطب عالمي إلا بفضل المهرجان الدولي للموسيقى السنفونية الذي يظل محدود الأثر ومرتبطا بالمهرجانات الصيفية. جزيرة جربة، رغم فرحة إدراجها سنة 2023، ما تزال تنتظر ترجمة هذا المكسب إلى مشاريع ملموسة في البنية التحتية والترويج الثقافي. وقرطاج، بمكانتها التاريخية، لم تستفد من إدراجها منذ 1979 سوى في الجانب الرمزي، إذ غابت عنها الاستراتيجيات الجدية للتثمين.
إن إدراج سيدي بوسعيد يضع اليوم الدولة أمام اختبار جديد: إما أن تكرر تجربة «التسجيل من أجل التسجيل»، أو أن تجعل من هذا المسار بداية لمرحلة جديدة تؤمن بأن التراث ليس فقط ذاكرة بل أيضا ثروة اقتصادية وسياحية وثقافية. فالتجارب الدولية أثبتت أن مدينة واحدة أو موقعا واحدا إذا ما أُحسن استثماره يمكن أن يخلق آلاف مواطن الشغل ويولد موارد مالية ضخمة.
الباحث في التاريخ نبيل قلالة لـ«الصباح»: التراث التونسي يحتاج إلى رؤية جديدة وهيكل مستقل لحمايته وتثمينه
في ظلّ التحديات التي تواجه المواقع الأثرية في تونس، دعا الباحث في التاريخ والحضارات القديمة نبيل قلالة، في تصريح لـ»الصباح»، إلى إحداث هيكل مؤسّسي مستقل صلب وزارة الشؤون الثقافية يتخصّص حصرا في ملفّات التراث العالمي، مؤكّداً أنّ هذا الإجراء، كما ذكر ذلك في كتابه «حول التراث المشترك من أجل صحوة ثقافية»، أصبح اليوم ضرورة ملحّة إذا أرادت تونس أن تثمّن مواقعها المصنّفة، وتستكمل ملفاتها العالقة، وتبحث عن آفاق جديدة لضمّ مواقع أخرى إلى قائمة التراث العالمي.
ويرى الأستاذ نبيل قلالة أنّ عددا من المواقع الأثرية، وفي مقدّمتها موقع قرطاج الأثري، ما تزال تعاني من نقص فادح في الإمكانيات البشرية واللوجستية، حتى أنّ بعضها لا يمتلك الحدّ الأدنى الذي يسمح بتوظيفه على النحو الأمثل وإبراز قيمتها للعالم، فتتحوّل من مجرّد معالم محلية إلى مكوّن أساسي من مكوّنات التراث العالمي.
ويطرح الباحث في التاريخ تصوّرا واضحا لمهام الهيكل المقترح، محدّدا إياها في ثلاث نقاط رئيسية: أوّلها العناية بالمواقع المسجّلة ضمن قائمة التراث العالمي، عبر وضع استراتيجيات جديدة لتوظيفها وتثمينها على الصعيدين الوطني والدولي.
وثانيها استكمال ملفات المواقع التي لا تزال في القائمة التمهيدية، وعددها في تونس يقارب 12 موقعا، من أجل تحويلها إلى تسجيل نهائي لدى اليونسكو. وثالثها البحث عن مواقع ومعالم جديدة تستحق الإدراج ضمن التراث العالمي، من خلال عمل بحثي جماعي منظّم. وشدّد محدّثنا على أنّ «هذه المهام تتطلّب وجود فرق عمل ولجان مختصّة تتكوّن من خبراء وتقنيين، تكون لها صلاحيات واضحة لتقديم توصيات ملزمة للجهات المسؤولة عن المواقع الأثرية».
وأكّد أنّ الاهتمام بالتراث لا يمكن أن يظلّ شأنا ثقافيا صرفا، بل هو رهان اقتصادي وسياحي بامتياز. فالتجارب الدولية – كما في العديد من الدول – أثبتت أنّ استقطاب تصوير الأفلام والمسلسلات العالمية في المواقع الأثرية يحوّل هذه المعالم إلى فضاءات استثمارية ومصادر جذب سياحي كبرى. ومن هذا المنطلق، فإنّ الهيكل المقترح يجب أن يعمل بتقاطع مع وزارات أخرى كالسياحة والاقتصاد والاستثمار وغيرهم.
وختم الباحث نبيل قلالة بالتأكيد على البعد المجتمعي للتراث، حيث اعتبر أنّ التراث ليس ملكا فرديا ولا حكرا على مؤسسة ما، بل هو ملك لجميع التونسيين، بل وللإنسانية جمعاء. وقال: «حين تدرك الدولة أنّ التراث ملك للجميع، يصبح من واجبها الوطني والأخلاقي أن تحميه وتثمّنه وتقدّمه للعالم باعتباره ثروة مشتركة ورصيدا حضاريا لا يقدّر بثمن».
إيمان عبد اللطيف
-إدراج موقع في قائمة التراث العالمي لا يعني شيئا في حد ذاته ما لم يواكبه تخطيط استراتيجي واضح يقوم على عدة عناصر
-السياحة الثقافية أكثر استدامة من السياحة الشاطئية التي تتأثر سريعا بالأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية
-هل الإدراج مجرد إضافة رمزية أخرى، أم نقطة تحول تفتح الباب نحو استراتيجية جديدة تجعل من التراث الثقافي والعمارة التقليدية والسياحة الثقافية موارد اقتصادية فعلية؟
تحرص تونس على تسجيل مزيد من المواقع الأثرية والتاريخية والثقافية على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وقد أشرفت وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي، يوم الخميس 11 سبتمبر 2025، وكانت مرفوقة بوالي تونس عماد بوخريص، على جلسة عمل موسعة خُصصت للنظر في مستجدات تحضير ملف إدراج قرية سيدي بوسعيد على هذه اللائحة. وهو ما يدفع إلى التساؤل، عن جدوى هذه المساعي، ليس فقط من حيث رمزية الاعتراف الدولي بقيمة المكان وأصالته، بل خصوصا من زاوية ما تحقق فعلا بعد الإدراجات السابقة، وكيف يمكن أن يتحول هذا الاعتراف إلى رافعة اقتصادية وثقافية، في وقت ما تزال فيه مواقع تونسية مدرجة منذ عقود تعاني الإهمال وتفتقر إلى رؤية تثمين واضحة.
لقد أدرجت تونس منذ 1979 تسعة مواقع كبرى في قائمة التراث العالمي، موزعة على مراحل: ففي سنة 1979 سُجل الموقع الأثري بقرطاج، والمدرج الروماني بالجم، ومدينة تونس العتيقة، وهي مواقع تمثل حجر الأساس في إبراز العمق التاريخي والمعماري للبلاد. ثم تلا ذلك إدراج محمية إشكل الوطنية سنة 1980 بوصفها نموذجا فريدا للنظم البيئية في المتوسط، قبل أن تُسجل مدينة كركوان البونية ومقبرتها سنة 1985 باعتبارها الشاهد الوحيد تقريبا على مدينة بونية كاملة حافظت على طابعها.
وفي سنة 1988 انضمت القيروان وسوسة العتيقة، وهما من أبرز المدن الإسلامية المغاربية، وفي 1997 أُدرج موقع دقة الأثري الذي يعكس روعة العمارة الرومانية في إفريقيا القديمة. أما آخر الإضافات فكان إدراج جزيرة جربة سنة 2023 بعد مسار طويل من المفاوضات والملفات التقنية.
وإزاء هذا المسار الممتد على أكثر من أربعة عقود، هناك سؤال يفرض نفسه، وهو: ماذا تحقق عمليا بعد هذه الإدراجات؟ فالمواقع التسعة التي يُفترض أن تكون واجهات البلاد على العالم، ظلت في كثير من الأحيان تعاني غياب العناية والبرمجة السياحية والثقافية الجدية، مما جعلها مجرد عناوين رسمية أكثر منها موارد استراتيجية.
هنا تبرز أهمية ملف سيدي بوسعيد، القرية المتوسطية التي تحولت منذ عقود إلى أيقونة بصرية وثقافية لتونس، وجذبت رسامين وشعراء وموسيقيين من العالم. إدراجها المحتمل قد يمنح تونس موقعا عاشرا في القائمة، لكنه في الآن ذاته يطرح تحديا: هل سيكون هذا الإدراج مجرد إضافة رمزية أخرى، أم نقطة تحول تفتح الباب نحو استراتيجية جديدة تجعل من التراث الثقافي والعمارة التقليدية والسياحة الثقافية موارد اقتصادية فعلية؟
في التجارب المقارنة، يُلاحظ أن بلدانا عربية عدة استثمرت بذكاء في تصنيفات اليونسكو. المغرب، مثلا، حوّل مدن فاس (1981) ومراكش (1985) ومكناس (1996) والمدينة العتيقة للرباط (2012) إلى علامات سياحية عالمية عبر ترميم الأحياء القديمة وتثمين الحرف التقليدية وإطلاق مهرجانات موسيقية وصوفية داخل هذه الفضاءات، مما جعل السياحة الثقافية ركيزة أساسية لاقتصاده. الأردن بدوره جعل من البتراء، المصنفة منذ 1985، رمزا سياحيا عالميا يولد عوائد هائلة ويمثل واجهة للبلاد ووجهة لتصوير الأفلام والمسلسلات العربية والعالمية.
في ذات السياق، استفادت مصر من إدراج مواقع مثل الأقصر وأسوان والأهرامات عبر حملات ترويجية ضخمة ومشاريع تطوير مسارات سياحية متكاملة، لتجعل من السياحة الثقافية مصدرا رئيسيا من مواردها. كذلك الشأن بالنسبة لسلطنة عمان، بعد إدراج قلاعها التاريخية وأفلاجها التقليدية (2006)، وضعت برامج دقيقة لصيانتها وربطها بالسياحة المحلية والعالمية، وهو ما ساهم في تنويع اقتصادها.
أما في الغرب، فنجد نماذج لافتة مثل مدينة البندقية الإيطالية (المسجلة منذ 1987) التي، رغم التحديات البيئية، ظلت واحدة من أكثر الوجهات الثقافية زيارة في العالم بفضل استراتيجيات صارمة في إدارة التدفقات السياحية. فيما حوّلت إسبانيا مدنها التاريخية مثل طليطلة (1986) وقرطبة (1984) إلى مراكز جذب ثقافي وسياحي عالمي عبر مهرجانات موسيقية وأدبية وفنون الطبخ. وفرنسا، من جهتها، جعلت من مواقعها المصنفة مثل قصر فرساي أو كاتدرائية شارتر موارد اقتصادية مرتبطة بالسياحة الثقافية والتعليمية، إذ يجذب قصر فرساي وحده ملايين الزوار سنويا ويضخ اعتمادات ضخمة في الاقتصاد الفرنسي، والأمثلة عديدة ومتنوعة.
هذه النماذج تظهر أن إدراج موقع في قائمة التراث العالمي لا يعني شيئا في حد ذاته ما لم يواكبه تخطيط استراتيجي واضح يقوم على عدة عناصر: أولها حماية الموقع وصيانته الدورية، ثانيها إدماجه في مسارات سياحية وثقافية منظمة، وثالثها إشراك البلديات والمنظمات المحلية المتخصصة في الاقتصاد التراثي عبر الحرف التقليدية والأنشطة الثقافية. وهو ما لم يتحقق بعد بالقدر الكافي في تونس، حيث ظلت المواقع المدرجة رهينة المبادرات الجزئية والمناسباتية، في غياب رؤية واستراتيجية متكاملة.
والجدير بالتأكيد في هذا السياق أن السياحة الثقافية اليوم تعد أحد أهم محركات الاقتصاد العالمي، وتشكل وفق منظمة السياحة العالمية ما يقارب 40% من مجموع النشاط السياحي الدولي. وهي أكثر استدامة من السياحة الشاطئية التي تعتمد على المواسم وتتأثر سريعا بالأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويضاف إليها تداعيات التغيرات المناخية وتأثيراتها على درجات الحرارة ومواسم الأمطار.
في المقابل، تملك تونس رصيدا حضاريا فريدا ومتعددا ومتنوعا يبدأ من قرطاج إلى القيروان، من الجم إلى سيدي بوسعيد، قادرا إذا ما أُحسن استثماره أن يوفر موردا استراتيجيا يوازي قطاعات مثل الفوسفاط أو الفلاحة أو السياحة الشاطئية.
لكن ما تحقق فعليا بعد الإدراجات السابقة محدود، فمدينة القيروان مثلا لم تُستثمر بما يليق بها كعاصمة إسلامية أولى في المغرب العربي، وبقيت معزولة عن المسارات السياحية الكبرى. موقع الجم بدوره، رغم روعة مدرجه، لم يتحول إلى قطب عالمي إلا بفضل المهرجان الدولي للموسيقى السنفونية الذي يظل محدود الأثر ومرتبطا بالمهرجانات الصيفية. جزيرة جربة، رغم فرحة إدراجها سنة 2023، ما تزال تنتظر ترجمة هذا المكسب إلى مشاريع ملموسة في البنية التحتية والترويج الثقافي. وقرطاج، بمكانتها التاريخية، لم تستفد من إدراجها منذ 1979 سوى في الجانب الرمزي، إذ غابت عنها الاستراتيجيات الجدية للتثمين.
إن إدراج سيدي بوسعيد يضع اليوم الدولة أمام اختبار جديد: إما أن تكرر تجربة «التسجيل من أجل التسجيل»، أو أن تجعل من هذا المسار بداية لمرحلة جديدة تؤمن بأن التراث ليس فقط ذاكرة بل أيضا ثروة اقتصادية وسياحية وثقافية. فالتجارب الدولية أثبتت أن مدينة واحدة أو موقعا واحدا إذا ما أُحسن استثماره يمكن أن يخلق آلاف مواطن الشغل ويولد موارد مالية ضخمة.
الباحث في التاريخ نبيل قلالة لـ«الصباح»: التراث التونسي يحتاج إلى رؤية جديدة وهيكل مستقل لحمايته وتثمينه
في ظلّ التحديات التي تواجه المواقع الأثرية في تونس، دعا الباحث في التاريخ والحضارات القديمة نبيل قلالة، في تصريح لـ»الصباح»، إلى إحداث هيكل مؤسّسي مستقل صلب وزارة الشؤون الثقافية يتخصّص حصرا في ملفّات التراث العالمي، مؤكّداً أنّ هذا الإجراء، كما ذكر ذلك في كتابه «حول التراث المشترك من أجل صحوة ثقافية»، أصبح اليوم ضرورة ملحّة إذا أرادت تونس أن تثمّن مواقعها المصنّفة، وتستكمل ملفاتها العالقة، وتبحث عن آفاق جديدة لضمّ مواقع أخرى إلى قائمة التراث العالمي.
ويرى الأستاذ نبيل قلالة أنّ عددا من المواقع الأثرية، وفي مقدّمتها موقع قرطاج الأثري، ما تزال تعاني من نقص فادح في الإمكانيات البشرية واللوجستية، حتى أنّ بعضها لا يمتلك الحدّ الأدنى الذي يسمح بتوظيفه على النحو الأمثل وإبراز قيمتها للعالم، فتتحوّل من مجرّد معالم محلية إلى مكوّن أساسي من مكوّنات التراث العالمي.
ويطرح الباحث في التاريخ تصوّرا واضحا لمهام الهيكل المقترح، محدّدا إياها في ثلاث نقاط رئيسية: أوّلها العناية بالمواقع المسجّلة ضمن قائمة التراث العالمي، عبر وضع استراتيجيات جديدة لتوظيفها وتثمينها على الصعيدين الوطني والدولي.
وثانيها استكمال ملفات المواقع التي لا تزال في القائمة التمهيدية، وعددها في تونس يقارب 12 موقعا، من أجل تحويلها إلى تسجيل نهائي لدى اليونسكو. وثالثها البحث عن مواقع ومعالم جديدة تستحق الإدراج ضمن التراث العالمي، من خلال عمل بحثي جماعي منظّم. وشدّد محدّثنا على أنّ «هذه المهام تتطلّب وجود فرق عمل ولجان مختصّة تتكوّن من خبراء وتقنيين، تكون لها صلاحيات واضحة لتقديم توصيات ملزمة للجهات المسؤولة عن المواقع الأثرية».
وأكّد أنّ الاهتمام بالتراث لا يمكن أن يظلّ شأنا ثقافيا صرفا، بل هو رهان اقتصادي وسياحي بامتياز. فالتجارب الدولية – كما في العديد من الدول – أثبتت أنّ استقطاب تصوير الأفلام والمسلسلات العالمية في المواقع الأثرية يحوّل هذه المعالم إلى فضاءات استثمارية ومصادر جذب سياحي كبرى. ومن هذا المنطلق، فإنّ الهيكل المقترح يجب أن يعمل بتقاطع مع وزارات أخرى كالسياحة والاقتصاد والاستثمار وغيرهم.
وختم الباحث نبيل قلالة بالتأكيد على البعد المجتمعي للتراث، حيث اعتبر أنّ التراث ليس ملكا فرديا ولا حكرا على مؤسسة ما، بل هو ملك لجميع التونسيين، بل وللإنسانية جمعاء. وقال: «حين تدرك الدولة أنّ التراث ملك للجميع، يصبح من واجبها الوطني والأخلاقي أن تحميه وتثمّنه وتقدّمه للعالم باعتباره ثروة مشتركة ورصيدا حضاريا لا يقدّر بثمن».