-وفي خضمّ ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من انتهاكات دأب الكيان الصهيوني على القيام بها دون أي رادع، فإنّ مجموعة هذه الدول التي تطالها الانتهاكات لم ولن تجد نفسها بعيدة عن «زئبقية» التعامل الغربي مع إدانة التجاوزات الصهيونية.
بقلم : عصام الدردوري (*)
منذ نشأة المجتمع الدولي الحديث ومؤسساته، إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، روّجت القوى المنتصرة لعديد الأفكار والمفاهيم، وقد اقتسمت الأقطاب التي شكّلت المشهد الدولي وظيفة صياغة المفاهيم السياسية الرئيسية. فمنها ما كان وليد الفكر الشيوعي الاشتراكي، الذي تولّى الاتحاد السوفيتي رئاسة كتلته الشرقية، في حين تولّت الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية صياغة مفاهيم الكتلة الغربية عبر الفكر الليبرالي. وقد تم، في هذا السياق، التعامل مع ملفات الحرب الباردة بالشكل الذي روّجت من خلاله الكتلة الشرقية للعدالة الاجتماعية القائمة على الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج، ومساواة الأفراد في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من أجل القضاء على الطبقية، مما ينتفي معه الحاجة إلى المال.
ولا يخفى أنّه من خلال هذا الفكر، قامت الكتلة الشرقية، على مستوى قيادتها السياسية، بترويج منظومة ومجموعة من المبادئ والأخلاقيات السياسية التي تميزها عن الخصم الغربي، بالشكل الذي يخدم مصالحها السياسية الدولية ويعزز من نفوذها الخارجي.
وكما تميزت الحرب الباردة بالتنافسية الحادّة في كل المجالات والمستويات، كان هذا المستوى أحد ميادين التنافس الذي قدّم فيه المعسكر الغربي منظومته الأخلاقية، وحزمة مبادئ روّجها من أجل مصالحه ونفوذه؛ إذ قدّمت واشنطن والعواصم الغربية الحليفة لها جملة من المبادئ التي شكّلت محور العجلة لتسويغ تخندق الدول الأخرى إلى جانبها ضد التمدد السوفياتي. وقد قدّم المعسكر الغربي، من أجل ذلك، الليبرالية، وصوّرها كحزمة من الضمانات التي تمكّن الشعوب والدول من حقوقها، فمثّلت عنوانًا لأفكار كالحرية والمساواة. وقد بذل المجتمع الغربي جهدًا كبيرًا في هذا الإطار لتأكيد الربط بين المبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة والنظام العالمي القائم، وبين الليبرالية وما تحتويه من جملة الحقوق، وهو ما جعل الدول الغربية، طوال الحرب الباردة، تروّج لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وسيادة الدول واستقلالها.
وقد كان هذا التوظيف يخدم مصالح الغرب طالما أن الحرب الباردة قائمة ومتواصلة. لكن، بمجرد نهاية الصراع القطبي الثنائي وغياب الطرف الذي قد تستعمل الكتلة الغربية ضده هذه المنظومة بهدف تقويض نفوذه أو الحدّ من توسعه، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة، والكتلة الغربية، عمومًا، نفسها مستهدفة بهذه المنظومة المبدئية؛ حيث تولّى استعمالها كلّ من قام بالدفاع عن أفغانستان كدولة وشعب سنة 2001 ضد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن الغرب انتهك سيادة دولة وارتكب جرائم في حق شعب كامل آنذاك، بعد أن صدعت واشنطن العالم برواية «مقاتلي الحرية» عندما كان الصراع يهدف لضرب الاتحاد السوفياتي.
كما تكرّر ذلك بصورة أكثر حدّة في العراق بداية من سنة 2003، إضافة إلى كلّ الحروب التي تولّى الكيان الصهيوني إشعالها منذ 2006 وإلى يومنا هذا. ومع تصاعد مجابهة المجتمع الغربي بالمنظومة التي أنتجها هو نفسه، نظرًا إلى خروجه عنها وانقلابه عليها وخرقها في ظل كل توتر أو حرب أو ملف دولي يتعلق بحقوق الدول الأضعف أو الدول غير المرضي عنها غربيًا وغير الخاضعة، وحيث إن هذا الوضع قد دفع عديد الدول إلى معارضة الغرب باستعمال المنظومة المبدئية التي أسسها سابقًا ضده في الملفات التي تتنافى فيها مصالحه مع مبادئ هذه المنظومة، فإنّ المعسكر الغربي انتقل بذلك من مستعمل لهذا «السلاح» ضد خصمه السوفياتي إلى موقع يُستعمل هذا «السلاح» ضده من قبل الدول التي تطمح إلى الانعتاق من القطب المنفرد ونفوذه.
وهو ما أهّل، بشكل تلقائي، الدول التي تطمح إلى لعب دور أكبر إلى صياغة مفاهيم جديدة تحدّ من «زئبقية» التموقع الأمريكي من هذه المنظومة، فخرج لنا مصطلح هامّ يخدم هذا المسعى، ألا وهو: «ازدواجية المعايير»، حيث كان أشهر استعمال لهذا المصطلح عند ترديده من قبل ممثل الجزائر في مجلس الأمن الدولي، في إطار كلمة ممثلها لدى المجلس أثناء استصدار قرار ضد الكيان الصهيوني بشأن إيقاف الحرب في غزة وإدانة الكيان وقيادته.
ورغم أنّ مصطلح «ازدواجية المعايير» ما زال لم يتّخذ الزخم الذي يستحقه كوصفٍ مؤطّرٍ لمواقف الدول الغربية، إلا أنه أصبح يترسخ في أذهان مكوّنات المجتمع الدولي، ما قد يؤهله لأن يكون مصطلحًا سياسيًا وقانونيًا معتمدًا في المواثيق ومخيال المؤسسات الدولية الكبرى، على غرار الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وفي خضمّ ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من انتهاكات دأب الكيان الصهيوني على القيام بها دون أي رادع، فإنّ مجموعة هذه الدول التي تطالها الانتهاكات لم ولن تجد نفسها بعيدة عن «زئبقية» التعامل الغربي مع إدانة التجاوزات الصهيونية. وعليه، فإنّ إسناد استعمال مصطلح «ازدواجية المعايير»، وما يتماشى معه من ترسانة قانونية وسياسية وتاريخية، لا بدّ أن يكون عبر جملة من العوامل الإضافية، حتى يتسنّى عزل الكيان الصهيوني عن الحماية والدعم الغربي.
وأُولى هذه العوامل استغلال الجزئيات المشتركة مع الدول التي انتهك الكيان الصهيوني حرمتها، فضلًا عن تشجيع الدول التي قد تتعرّض إلى الاعتداء على الاستباق إلى سياسة الضغط المشترك على الولايات المتحدة الأمريكية ودول المجال الأوروبي، في سبيل اعتراض أي عمل عدائي جديد من الكيان على دول المنطقة.
وقد عبّر عن هذا الهاجس فاسيلي نيبينزيا، المندوب الروسي لدى مجلس الأمن الدولي، إثر الضربة الإسرائيلية على قطر، والتي تطابقت مخاوفه بشأنها مع ممثل مصر لدى مجلس الأمن، الذي عبّر عن عودة القاهرة إلى الرؤية التقليدية الواسعة للأمن القومي المصري، والتي تتبنّى أمنًا قوميًا عربيًا مستقرًا، من خلال التعبير عن اشتراك القاهرة مع الدوحة، بوصفها أيضًا دولة تحتضن وفود المفاوضات، إذ يمكن أن تُستهدف كما استُهدفت قطر.
ويُعدّ الإفصاح عن هذه المشتركات بين مصر وقطر مخالفة لما جرت عليه العلاقات المصرية القطرية منذ 2014 إلى اليوم، والتي اتسمت بالتوتر والخلاف والتباعد. غير أن الهواجس الجديدة، التي تشكّلها جرأة الكيان الصهيوني، والصمت الغربي عليها من جهة، والدعم غير المحدود له من جهة أخرى، أصبحت تشكّل دافعًا أكبر إلى الاتساق السياسي بدلًا من الخلافات. وفيما يتعلّق بتونس، فإن خفايا الاستهداف الذي أصاب «أسطول الصمود» بميناء سيدي بوسعيد، والذي قد تشير بعض التحليلات إلى وقوف الكيان خلفه، في انتظار ما سيكشف عنه التحقيق الذي أعلنت السلطات التونسية مباشرتَه، قد يفتح الباب أمام التساؤل حول ما إذا كانت نية الكيان الصهيوني تتّجه نحو ارتكاب اعتداءات أكبر، والذهاب بالانتهاك إلى أبعد من ذلك.
ممّا يستوجب النظر في مسألة الاشتراك في السياق الإقليمي الرامي إلى تحجيم الكيان، والحدّ من المدى الذي تصل إليه يده، وعزله عن الحاضنة الغربية، بل ومنع الحاضنة الغربية للكيان من رسم سياساتها وأولوياتها في المنطقة وفق الرؤية المشتركة معه، واستبدال ذلك برؤية ندّية مشتركة مع دول المنطقة.
الحكمة الإلهية والسياسات البديلة
واستنادًا إلى الحكمة الإلهية التي تفترض إمكانية أن يُخرج الحيَّ من الميت، وأن يُخرج الميتَ من الحي بإذنه، فإنّه يمكن أن يُولَد من رحم هذه الاعتداءات المتكرّرة رسمُ سياسة ناجعة ومؤهلة للنجاح والتطبيق على أرض الواقع، تُفضي إلى فتح الباب أمام إمكانية محاصرة الكيان وتحجيم تغوّل النفوذ الغربي كذلك، خاصّة في إطار توفّر البدائل التشاركية الإقليمية والدولية.
تجربة تونس مع مجلس الأمن
إنّ لتونس تاريخًا حافلًا من الأحداث التي جمعتها بالكيان، إذ إنها أول دولة أمكنها أن تنتزع قرارًا ضد الكيان من مجلس الأمن الدولي دون استعمال حقّ الفيتو من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، وهو القرار رقم 573 لسنة 1985. وحتى وإن كان تخلّي الولايات المتحدة عن استعمال حقّ النقض إزاء هذا القرار راجعًا لأسباب تتعلّق بضغطها على تونس من أجل التنازل عن بعض بنود مطالبها المضمّنة بمشروع القرار، فإنّ هذا هو بيت القصيد ومربط الفرس، فالغاية أساسًا هي عزل الدعم الشامل والكامل الغربي عن إمكانية إدانة وتحجيم الكيان الصهيوني، وذلك حتى تتمكّن الدول المتشاركة في هذا المسعى من الانتقال إلى مرحلة جديدة تتّسم بنسبية المصالح الغربية، أي أن لا ترتبط مصالح الدول الغربية بصفة مطلقة بالكيان، ممّا يضعفه ويزيد من حصار هذا الجسم الدخيل على المنطقة.
خاصّة أنّ الظرفية الدولية تسمح بذلك في الوقت الحاضر، مع تصاعد الرأي العام المناهض للصهيونية، واتجاه المحاكم الدولية إلى تصنيف قيادات الكيان كمجرمي حرب، والاقتراب أكثر من أي وقت مضى من تصنيف الكيان ذاته كـ»دولة مارقة» على القانون الدولي.
بل وقد صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على خيار حلّ الدولتين، من قبل 147 عضوًا، ممّا يُبرز فاعلية ونجاح فرض هذا الخيار عمليًا.
المدرسة الواقعية والمصالح الغربية
إن التحليل السابق قد يبدو مخالفًا لما تقتضيه أساسيات التحليل المعتمدة وفقًا للمدرسة الواقعية، إلّا أنّ ذلك ينتفي فقط إذا ما وضعناه في إطار حسابات المصلحة والربح والخسارة بالنسبة للمعسكر الغربي، الذي أصبح يتعامل مع واقع ملموس، لا مع مجرّد مخاوف متعلّقة بخسارة جزء من نفوذه التقليدي لصالح قوى أخرى مؤهّلة ماديًا لإدارة النظام العالمي الجديد.
وعليه، فإنّه عند هذا المستوى، سوف تتّجه الإدارات السياسية بالعواصم الغربية إلى قائمة الأولويات الاستراتيجية، المجبرة على الالتزام بها، والتي تفترض وجوب بقائها كقوة مهيمنة ونافذة في العالم، وفي هذه المنطقة الاستراتيجية التي تحتلها دول شمال إفريقيا، ممّا يجعل الكيان الصهيوني، في إطار صراعاته المفتعلة، عالةً وعبئًا يعطّل الأهداف العليا للغرب.
وهو ما يتيح توازنا أكبر على المستوى الإقليمي، لا يخدم الكيان، بل ويحدّ من قدراته وامتداد انتهاكاته، خاصّة إذا ما انكشفت مجازره بحقّ الشعب الفلسطيني بالشكل الذي لا يستطيع الغرب إنكاره أو التغطية عليه، وكذلك إذا ما كُشفت جرائم الكيان التي بقيت مجهولة للعموم، وتحوّلت إلى قضايا رأي عام يُعتمد عليها من قِبل صانعي السياسات في دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كأحد وسائل الضغط، بالتوازي مع استغلال ذلك في إطار دعاية متكاملة تزيد من ثقل عبء الدفاع عن الكيان من طرف الغرب.
(*) أمني وباحث في مجال القانون والدبلوماسية والعلاقات الدولية
-وفي خضمّ ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من انتهاكات دأب الكيان الصهيوني على القيام بها دون أي رادع، فإنّ مجموعة هذه الدول التي تطالها الانتهاكات لم ولن تجد نفسها بعيدة عن «زئبقية» التعامل الغربي مع إدانة التجاوزات الصهيونية.
بقلم : عصام الدردوري (*)
منذ نشأة المجتمع الدولي الحديث ومؤسساته، إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، روّجت القوى المنتصرة لعديد الأفكار والمفاهيم، وقد اقتسمت الأقطاب التي شكّلت المشهد الدولي وظيفة صياغة المفاهيم السياسية الرئيسية. فمنها ما كان وليد الفكر الشيوعي الاشتراكي، الذي تولّى الاتحاد السوفيتي رئاسة كتلته الشرقية، في حين تولّت الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية صياغة مفاهيم الكتلة الغربية عبر الفكر الليبرالي. وقد تم، في هذا السياق، التعامل مع ملفات الحرب الباردة بالشكل الذي روّجت من خلاله الكتلة الشرقية للعدالة الاجتماعية القائمة على الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج، ومساواة الأفراد في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من أجل القضاء على الطبقية، مما ينتفي معه الحاجة إلى المال.
ولا يخفى أنّه من خلال هذا الفكر، قامت الكتلة الشرقية، على مستوى قيادتها السياسية، بترويج منظومة ومجموعة من المبادئ والأخلاقيات السياسية التي تميزها عن الخصم الغربي، بالشكل الذي يخدم مصالحها السياسية الدولية ويعزز من نفوذها الخارجي.
وكما تميزت الحرب الباردة بالتنافسية الحادّة في كل المجالات والمستويات، كان هذا المستوى أحد ميادين التنافس الذي قدّم فيه المعسكر الغربي منظومته الأخلاقية، وحزمة مبادئ روّجها من أجل مصالحه ونفوذه؛ إذ قدّمت واشنطن والعواصم الغربية الحليفة لها جملة من المبادئ التي شكّلت محور العجلة لتسويغ تخندق الدول الأخرى إلى جانبها ضد التمدد السوفياتي. وقد قدّم المعسكر الغربي، من أجل ذلك، الليبرالية، وصوّرها كحزمة من الضمانات التي تمكّن الشعوب والدول من حقوقها، فمثّلت عنوانًا لأفكار كالحرية والمساواة. وقد بذل المجتمع الغربي جهدًا كبيرًا في هذا الإطار لتأكيد الربط بين المبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة والنظام العالمي القائم، وبين الليبرالية وما تحتويه من جملة الحقوق، وهو ما جعل الدول الغربية، طوال الحرب الباردة، تروّج لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وسيادة الدول واستقلالها.
وقد كان هذا التوظيف يخدم مصالح الغرب طالما أن الحرب الباردة قائمة ومتواصلة. لكن، بمجرد نهاية الصراع القطبي الثنائي وغياب الطرف الذي قد تستعمل الكتلة الغربية ضده هذه المنظومة بهدف تقويض نفوذه أو الحدّ من توسعه، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة، والكتلة الغربية، عمومًا، نفسها مستهدفة بهذه المنظومة المبدئية؛ حيث تولّى استعمالها كلّ من قام بالدفاع عن أفغانستان كدولة وشعب سنة 2001 ضد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن الغرب انتهك سيادة دولة وارتكب جرائم في حق شعب كامل آنذاك، بعد أن صدعت واشنطن العالم برواية «مقاتلي الحرية» عندما كان الصراع يهدف لضرب الاتحاد السوفياتي.
كما تكرّر ذلك بصورة أكثر حدّة في العراق بداية من سنة 2003، إضافة إلى كلّ الحروب التي تولّى الكيان الصهيوني إشعالها منذ 2006 وإلى يومنا هذا. ومع تصاعد مجابهة المجتمع الغربي بالمنظومة التي أنتجها هو نفسه، نظرًا إلى خروجه عنها وانقلابه عليها وخرقها في ظل كل توتر أو حرب أو ملف دولي يتعلق بحقوق الدول الأضعف أو الدول غير المرضي عنها غربيًا وغير الخاضعة، وحيث إن هذا الوضع قد دفع عديد الدول إلى معارضة الغرب باستعمال المنظومة المبدئية التي أسسها سابقًا ضده في الملفات التي تتنافى فيها مصالحه مع مبادئ هذه المنظومة، فإنّ المعسكر الغربي انتقل بذلك من مستعمل لهذا «السلاح» ضد خصمه السوفياتي إلى موقع يُستعمل هذا «السلاح» ضده من قبل الدول التي تطمح إلى الانعتاق من القطب المنفرد ونفوذه.
وهو ما أهّل، بشكل تلقائي، الدول التي تطمح إلى لعب دور أكبر إلى صياغة مفاهيم جديدة تحدّ من «زئبقية» التموقع الأمريكي من هذه المنظومة، فخرج لنا مصطلح هامّ يخدم هذا المسعى، ألا وهو: «ازدواجية المعايير»، حيث كان أشهر استعمال لهذا المصطلح عند ترديده من قبل ممثل الجزائر في مجلس الأمن الدولي، في إطار كلمة ممثلها لدى المجلس أثناء استصدار قرار ضد الكيان الصهيوني بشأن إيقاف الحرب في غزة وإدانة الكيان وقيادته.
ورغم أنّ مصطلح «ازدواجية المعايير» ما زال لم يتّخذ الزخم الذي يستحقه كوصفٍ مؤطّرٍ لمواقف الدول الغربية، إلا أنه أصبح يترسخ في أذهان مكوّنات المجتمع الدولي، ما قد يؤهله لأن يكون مصطلحًا سياسيًا وقانونيًا معتمدًا في المواثيق ومخيال المؤسسات الدولية الكبرى، على غرار الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وفي خضمّ ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من انتهاكات دأب الكيان الصهيوني على القيام بها دون أي رادع، فإنّ مجموعة هذه الدول التي تطالها الانتهاكات لم ولن تجد نفسها بعيدة عن «زئبقية» التعامل الغربي مع إدانة التجاوزات الصهيونية. وعليه، فإنّ إسناد استعمال مصطلح «ازدواجية المعايير»، وما يتماشى معه من ترسانة قانونية وسياسية وتاريخية، لا بدّ أن يكون عبر جملة من العوامل الإضافية، حتى يتسنّى عزل الكيان الصهيوني عن الحماية والدعم الغربي.
وأُولى هذه العوامل استغلال الجزئيات المشتركة مع الدول التي انتهك الكيان الصهيوني حرمتها، فضلًا عن تشجيع الدول التي قد تتعرّض إلى الاعتداء على الاستباق إلى سياسة الضغط المشترك على الولايات المتحدة الأمريكية ودول المجال الأوروبي، في سبيل اعتراض أي عمل عدائي جديد من الكيان على دول المنطقة.
وقد عبّر عن هذا الهاجس فاسيلي نيبينزيا، المندوب الروسي لدى مجلس الأمن الدولي، إثر الضربة الإسرائيلية على قطر، والتي تطابقت مخاوفه بشأنها مع ممثل مصر لدى مجلس الأمن، الذي عبّر عن عودة القاهرة إلى الرؤية التقليدية الواسعة للأمن القومي المصري، والتي تتبنّى أمنًا قوميًا عربيًا مستقرًا، من خلال التعبير عن اشتراك القاهرة مع الدوحة، بوصفها أيضًا دولة تحتضن وفود المفاوضات، إذ يمكن أن تُستهدف كما استُهدفت قطر.
ويُعدّ الإفصاح عن هذه المشتركات بين مصر وقطر مخالفة لما جرت عليه العلاقات المصرية القطرية منذ 2014 إلى اليوم، والتي اتسمت بالتوتر والخلاف والتباعد. غير أن الهواجس الجديدة، التي تشكّلها جرأة الكيان الصهيوني، والصمت الغربي عليها من جهة، والدعم غير المحدود له من جهة أخرى، أصبحت تشكّل دافعًا أكبر إلى الاتساق السياسي بدلًا من الخلافات. وفيما يتعلّق بتونس، فإن خفايا الاستهداف الذي أصاب «أسطول الصمود» بميناء سيدي بوسعيد، والذي قد تشير بعض التحليلات إلى وقوف الكيان خلفه، في انتظار ما سيكشف عنه التحقيق الذي أعلنت السلطات التونسية مباشرتَه، قد يفتح الباب أمام التساؤل حول ما إذا كانت نية الكيان الصهيوني تتّجه نحو ارتكاب اعتداءات أكبر، والذهاب بالانتهاك إلى أبعد من ذلك.
ممّا يستوجب النظر في مسألة الاشتراك في السياق الإقليمي الرامي إلى تحجيم الكيان، والحدّ من المدى الذي تصل إليه يده، وعزله عن الحاضنة الغربية، بل ومنع الحاضنة الغربية للكيان من رسم سياساتها وأولوياتها في المنطقة وفق الرؤية المشتركة معه، واستبدال ذلك برؤية ندّية مشتركة مع دول المنطقة.
الحكمة الإلهية والسياسات البديلة
واستنادًا إلى الحكمة الإلهية التي تفترض إمكانية أن يُخرج الحيَّ من الميت، وأن يُخرج الميتَ من الحي بإذنه، فإنّه يمكن أن يُولَد من رحم هذه الاعتداءات المتكرّرة رسمُ سياسة ناجعة ومؤهلة للنجاح والتطبيق على أرض الواقع، تُفضي إلى فتح الباب أمام إمكانية محاصرة الكيان وتحجيم تغوّل النفوذ الغربي كذلك، خاصّة في إطار توفّر البدائل التشاركية الإقليمية والدولية.
تجربة تونس مع مجلس الأمن
إنّ لتونس تاريخًا حافلًا من الأحداث التي جمعتها بالكيان، إذ إنها أول دولة أمكنها أن تنتزع قرارًا ضد الكيان من مجلس الأمن الدولي دون استعمال حقّ الفيتو من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، وهو القرار رقم 573 لسنة 1985. وحتى وإن كان تخلّي الولايات المتحدة عن استعمال حقّ النقض إزاء هذا القرار راجعًا لأسباب تتعلّق بضغطها على تونس من أجل التنازل عن بعض بنود مطالبها المضمّنة بمشروع القرار، فإنّ هذا هو بيت القصيد ومربط الفرس، فالغاية أساسًا هي عزل الدعم الشامل والكامل الغربي عن إمكانية إدانة وتحجيم الكيان الصهيوني، وذلك حتى تتمكّن الدول المتشاركة في هذا المسعى من الانتقال إلى مرحلة جديدة تتّسم بنسبية المصالح الغربية، أي أن لا ترتبط مصالح الدول الغربية بصفة مطلقة بالكيان، ممّا يضعفه ويزيد من حصار هذا الجسم الدخيل على المنطقة.
خاصّة أنّ الظرفية الدولية تسمح بذلك في الوقت الحاضر، مع تصاعد الرأي العام المناهض للصهيونية، واتجاه المحاكم الدولية إلى تصنيف قيادات الكيان كمجرمي حرب، والاقتراب أكثر من أي وقت مضى من تصنيف الكيان ذاته كـ»دولة مارقة» على القانون الدولي.
بل وقد صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على خيار حلّ الدولتين، من قبل 147 عضوًا، ممّا يُبرز فاعلية ونجاح فرض هذا الخيار عمليًا.
المدرسة الواقعية والمصالح الغربية
إن التحليل السابق قد يبدو مخالفًا لما تقتضيه أساسيات التحليل المعتمدة وفقًا للمدرسة الواقعية، إلّا أنّ ذلك ينتفي فقط إذا ما وضعناه في إطار حسابات المصلحة والربح والخسارة بالنسبة للمعسكر الغربي، الذي أصبح يتعامل مع واقع ملموس، لا مع مجرّد مخاوف متعلّقة بخسارة جزء من نفوذه التقليدي لصالح قوى أخرى مؤهّلة ماديًا لإدارة النظام العالمي الجديد.
وعليه، فإنّه عند هذا المستوى، سوف تتّجه الإدارات السياسية بالعواصم الغربية إلى قائمة الأولويات الاستراتيجية، المجبرة على الالتزام بها، والتي تفترض وجوب بقائها كقوة مهيمنة ونافذة في العالم، وفي هذه المنطقة الاستراتيجية التي تحتلها دول شمال إفريقيا، ممّا يجعل الكيان الصهيوني، في إطار صراعاته المفتعلة، عالةً وعبئًا يعطّل الأهداف العليا للغرب.
وهو ما يتيح توازنا أكبر على المستوى الإقليمي، لا يخدم الكيان، بل ويحدّ من قدراته وامتداد انتهاكاته، خاصّة إذا ما انكشفت مجازره بحقّ الشعب الفلسطيني بالشكل الذي لا يستطيع الغرب إنكاره أو التغطية عليه، وكذلك إذا ما كُشفت جرائم الكيان التي بقيت مجهولة للعموم، وتحوّلت إلى قضايا رأي عام يُعتمد عليها من قِبل صانعي السياسات في دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كأحد وسائل الضغط، بالتوازي مع استغلال ذلك في إطار دعاية متكاملة تزيد من ثقل عبء الدفاع عن الكيان من طرف الغرب.
(*) أمني وباحث في مجال القانون والدبلوماسية والعلاقات الدولية