إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

جدل يهدد بأزمة واسعة حول من يملك الزعامة الفنية والثقافية العربية.. هل هذه هي المعارك الثقافية التي تحتاجها «الأمة» العربية اليوم؟

 

  • باستثناء مبادرة كوثر بن هنية وإنجازها التاريخي بفيلمها «صوت هند رجب»، لم نشهد ميلاد عمل فني عربي ينبض بهول ما يحدث في المنطقة العربية.
  • ألم يكن من المفروض أن تتوحد الجهود، في ظل التهديدات الصهيونية للجميع، لإنجاز «أوبيرات» عربية تجوب مسارح جميع الدول العربية لتستنهض الهمم!!؟
  • عواصم عربية سقطت، وشعوب مهددة بالإبادة وسط صمت مدوٍ، لكن السيوف استلت بمجرد أن عبر فنان عن رأيه بحرية، وبات الأمر كأننا على أبواب معركة القرن...
  • أي وضع يضطر فيه الفنان إلى الاعتذار تحت الضغط عن رأي موضوعي ونابع من معاينة للواقع؟

نُقل عن الممثل السوري سلوم حداد، الذي تعرفه الجماهير التونسية من خلال أدواره في أبرز أعمال الفانتازيا السورية التي يجسم فيها شخصيات ترمز للقوة والشجاعة والقيادة، قوله إن الممثلين المصريين لا يتقنون جيدا اللغة العربية الفصحى في أعمالهم الدرامية والسينمائية، وإن أداءهم بالعربية يكون عادة مختلطا باللهجة المصرية. وقد أثار هذا التصريح غضبا حادا في مصر، وسارع عدد من الفنانين المصريين إلى الرد على الممثل السوري، وبعضهم انتقده بكلمات حادة، واستغل آخرون الفرصة للتأكيد على قيمة الأعمال الفنية التاريخية المصرية مقابل التقليل من قيمة التجارب الفنية في بقية الدول العربية، حتى إن بعضهم شكك في قيمة الممثل السوري سلوم حداد، ومن ورائه في قيمة الأعمال الفنية السورية.

وإن صرحت بعض الوجوه الفنية المصرية بمواقف يمكن القول إنها معتدلة، إذ أقر بعض الفنانين بوجود تراجع في مستوى إتقان العربية، معتبرين أن ذلك يعود لاستسهال الأمر، فإن نسبة عالية من ردود الأفعال المصرية يغلب عليها التعصب، وبعضهم لم يتردد في شتم الممثل سلوم حداد وكل من يشاطره رأيه، مما أوحى في لحظة ما بأن الأمور ربما تأخذ منحى أكبر بكثير من مجرد نقاش حول تفصيل صغير من تفاصيل العمل الفني، إلى ما هو أوسع وربما تندلع بسببه أزمة سياسية بين مصر وسوريا، ويمكن أن تتوسع إلى دول أخرى، وذلك بسبب إصرار البعض على التصعيد.

ورغم أن سلوم حداد قد اعتذر رسميا لنقابة المهن التمثيلية بمصر، وأكد أن تصريحه قديم ويعود لفترة سابقة، وأن نقيب الفنانين المصريين قد أعلن عن قبوله الاعتذار، فإن الجدل متواصل إلى درجة تثير الحيرة وتدفع إلى التساؤل: لماذا يضطر ممثل في حجم وقيمة الممثل السوري سلوم حداد إلى الاعتذار والإقرار بارتكاب خطأ وطلب الصفح والسماح وكأنه ارتكب جريمة خطيرة أو كأنه مس أحد المقدسات، في حين أن كل ما قام به هو التعبير عن رأيه؟؟

إن ردة الفعل المصرية – لا نعمم طبعا لأن البعض كان متعقلا جدا – مبالغ فيها جدا، لأن الممثل السوري سلوم حداد عبر عن رأي أو عن موقف قد يكون صحيحا وقد يكون خاطئا، ولا يتطلب ردة الفعل القوية التي أجبرته على الاعتذار، في وقت كان من المفروض فيه أن نحترم حرية الرأي، لاسيما إذا كان منبنيا على معطيات موضوعية. فإن سلمنا بأن مصر هي هوليود الشرق، وأنها موطن الإبداع، وأن إنتاجها السينمائي والدرامي غزير، وأنها لوحدها، كما يقول المصريون، تنتج أكثر مما تنتجه كل الدول العربية مجتمعة، وأنها حاملة للواء القيادة الفنية وأنها أنجبت أكبر المطربين، فإن هذا لا يجعل إنتاجها غير قابل للنقد.

ولئن قدم التلفزيون المصري أعمالا تاريخية جيدة، فإنه قدم أيضا أعمالا أقل قيمة، وفي بعض الأعمال الدرامية أو حتى السينمائية نشاهد فنانين كبارا ينطقون اللغة العربية وكأنهم يتحدثون باللهجة المصرية. وقول إن هناك ممثلين مصريين لا يجيدون نطق العربية الفصحى في أعمالهم لا يعتبر خطيئة جسيمة ومسا من المقدسات، ولا يتطلب جيوشا من المدافعين عن الفن المصري. وهي لا تتطلب، بالخصوص، في كل مرة التذكير بهجرة فنانين عرب إلى مصر لأنهم لا يمكنهم أن يجدوا فرصا حقيقية إلا في مصر، لأن هناك فنانين مصريين فعلا لا يجيدون نطق العربية الفصحى، تماما مثلما نجد فنانين في تونس أو في الجزائر أو في المغرب لا يجيدون نطق العربية الفصحى، وكذلك في الخليج العربي. فلا أحد يملك، من منظورنا، الحق في احتكار اللغة أو الادعاء بالأفضلية، مادامت العربية هي اللغة الرسمية لجميع البلدان العربية.

ولئن تحدث سلوم حداد فقط عن الممثلين الذين لا يجيدون نطق العربية، فإنها فرصة لنشير إلى أن القضية أوسع بكثير. فالبلدان العربية، وخلافا تقريبا لبلدان العالم، كلها لديها لهجاتها الخاصة التي تتعامل بها في حياتها اليومية، في حين تستعمل العربية الفصحى في استعمالاتها الرسمية. وهذا في حد ذاته يخلق إشكالا كبيرا، لأن كل مواطن عربي يجد نفسه أمام لغتين، إن صح اعتبار اللهجة لغة: العامية أو الدارجة اليومية، والعربية الفصحى لغة المعاملات الرسمية والقانونية واللغة المستعملة في الدراسة.

وطبيعي أن يكون المواطن العربي متأثرا بهذا الوضع وتختلط عليه الأمور أحيانا. وفي اعتقادنا، ومثلما لا يعتبر تعثر ممثل في نطق العربية جريمة، فإن نقد أسلوب بعض الممثلين في نطق اللغة العربية لا يمثل أيضا جريمة أو مسا من المقدسات.

وعلينا أن نعترف بأن الجدل الساخن الذي تواصل لفترة نعتبرها طالت نسبيا، منذ تداول رأي الممثل السوري سلوم حداد حول الموضوع على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يزيد الملاحظ إلا إحباطا.

ففي الوقت الذي تواجه فيه الأمة العربية – إن صح طبعا استعمال مصطلح الأمة – في ظل ما نشاهده من انقسامات سياسية، خطرا يهدد وجودها وهي مهددة فعلا بالأطماع الصهيونية، وقد أصبح زعماء الكيان الصهيوني يتحدثون علنا عن مشاريعهم التوسعية داخل الأوطان العربية، تطفو على السطح قضية تعيدنا إلى الوراء. فهل من أولوياتنا اليوم مناقشة من يملك الزعامة الفنية والثقافية؟

صحيح، هناك هاجس لدى الإخوة المصريين يتمثل في ضرورة الحفاظ على مكانتهم في الساحة الثقافية العربية بعد عقود من الهيمنة المصرية، حيث لم تكن أمام الجماهير خيارات كثيرة، وكانوا يستهلكون الفن المصري بكثافة، لكن نعتقد أنه آن الأوان لكي نعترف جميعنا بأن الجماهير اليوم، خاصة منها أجيال الشباب، أصبحت منفتحة على كل ما هو أجنبي. وبعد هيمنة هوليود طويلا، اكتست الدراما الكورية والآسيوية عموما المساحات، كما انتشرت الفرق الموسيقية الآسيوية التي تمتلك أدوات سحرية في الجذب في أنحاء العالم العربي.

وإن كان هناك إشكالية يجب مناقشتها اليوم في هذا السياق، فهي: كيف يمكن استرجاع اهتمام الجماهير العربية التي تنفر من المنتوج الفني العربي؟

ولنا أن نوضح بأنه إن كان يمكن من قبل توجيه الأذواق لقلة المنتوج الفني أولا، وثانيا لقلة قنوات البث، فإن الأمر صار اليوم من قبيل المستحيل، نظرا لغزارة المنتوج، وتعدد الاختيارات، وكثرة قنوات ومنصات البث، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح إمكانية النشر والبث والتوزيع بشكل مهول على الخط. وبالتالي، فإن مسائل مثل: من من العرب يملك اليوم القيادة أو الريادة الفنية في المنطقة العربية، سؤال مردود على أصحابه.

ثم، هل هذه معارك العرب الثقافية اليوم؟

ولنا أن نقر بأننا لم نستطع، وباستثناء المبادرات القليلة، أن ننتج عملا فنيا واحدا يعكس ما نعيشه اليوم من أزمات ومحن. ربما مثل الفيلم الجديد لكوثر بن هنية، المخرجة التونسية المعروفة، «صوت هند رجب»، المستوحى من مأساة الطفلة الفلسطينية هند رجب التي اغتالتها القوات الصهيونية منذ حوالي سنة، وهي تطلب العون من الهلال الأحمر الفلسطيني بعد أن تعرضت سيارة عائلتها للقصف الصهيوني في غزة وظلت هي الناجية الوحيدة لساعات قليلة، نقطة ضوء في مساحة شاسعة من الظلام، بعد أن وصل صدى الفيلم إلى أنحاء العالم وفاز بجوائز قيمة في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية السينمائي الدولي، لعل أبرزها جائزة الأسد الفضي. وقد استغلت كوثر بن هنية في ذلك علاقاتها في الساحة السينمائية العالمية وحشدت الدعم لفيلمها في كل مكان، بما في ذلك في هوليود. لكن، ماذا هناك باستثناء ذلك؟ لا شيء يذكر تقريبا. تصحر تام. وكأن كل هذه المآسي، وعلى رأسها حرب الإبادة التي تتواصل ضد قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وحصدت خلالها القوات الصهيونية آلاف الأرواح وأوقعت مئات الآلاف من الجرحى مع الدمار الهائل والترهيب المستمر والتجويع الممنهج، لا تكفي لإلهام أحدهم لصياغة نص ينبض بهول ما يحدث، أو لإنتاج فيلم يعبر عن الوضع بصدق، أو صياغة «أوبيرات» عربية تتجول على كل الأركاح العربية لتحريك الهمم.

قتل جيش الاحتلال الصهيوني أبرز قيادات المقاومة العربية، وهو لا يتوقف عن قصف لبنان وسوريا واليمن، وقد قصف مؤخرا الدوحة عاصمة قطر. الكيان يهدد علنا بالتوسع في أراضي مصر والأردن وسوريا التي يحتل جزءا هاما منها، وهو يسعى بكل قوة من أجل تحقيق مشروعه الذي يقول عنه إنه توراتي، ويقوم على بناء إسرائيل الكبرى من النيل المصري إلى الفرات العراقي. ليس هذا فحسب، بل وضع الكيان، المدعوم بالولايات المتحدة الأمريكية التي يقودها رئيس متبنٍ لكل مشاريع الكيان بل يستبقها في تحقيق ذلك، في ذهن العرب جميعهم أنهم هدف له، وأنه يمكن أن يصيب الهدف متى شاء.

كل هذا لم يخلق الضوضاء الضرورية لإنتاج إبداعات استثنائية. كل ما حدث لم يحرك السواكن ولم يستفز القرائح. إنه الصمت الكامل. إنها اللامبالاة الكاملة. لكأن العقول تبلدت، والقريحة جفت، وعم الفراغ المساحة بالكامل.

وليت الصمت ظل مستمرا، بل نبعت من الفراغ حرب مفتعلة، فارغة من كل معنى، تعكس حالة الهوان التي بلغناها وتؤكد أن الساحة الثقافية، التي طالما اعتقد البعض أنها يمكن أن تعوضنا عن مشاكل السياسة، هي بدورها تبيع الوهم.

العالم العربي ينفجر ويحترق فعلا وليس مجازا، والنخب الفنية تتجادل حول من ينطق العربية بشكل أفضل، ومن يملك الريادة في المجال، ومن يعتبر حصنا للعربية. يحدث هذا، والقلاع العربية تسقط الواحدة تلو الأخرى أمام الاكتساح الصهيوني الأميركي الهائل. ماذا ترانا نقول؟

لقد سقطت بغداد إثر الغزو الأميركي، ولم يكن ذلك سببا كافيا لتتقدم جيوش الدفاع عن هويتنا وثقافتنا ووجودنا. فلسطين مهددة بالزوال، وليس فقط غزة التي تواجه حرب إبادة صهيونية، ويتواصل التعامل كما لو أن شيئا لم يحدث. سوريا مهددة بالانقسام إلى دويلات بسبب الطمع الصهيوني وكأن الأمر عادي. لبنان في وضع بائس، والعدو الصهيوني لا يسمح للبنانيين حتى بالتنفس. وكل الدول العربية مهددة في استقلاليتها وفي سلامة أراضيها، وكل ذلك لا يحرك السواكن. لكن مجرد رأي من فنان له تاريخ ومكانة، نابع من معاينة للواقع، كان كافيا لإشهار السيوف، حتى ليبدو وكأننا على أبواب معركة القرن...

حياة السايب

جدل يهدد بأزمة واسعة حول من يملك الزعامة الفنية والثقافية العربية..   هل هذه هي المعارك الثقافية التي تحتاجها «الأمة» العربية اليوم؟

 

  • باستثناء مبادرة كوثر بن هنية وإنجازها التاريخي بفيلمها «صوت هند رجب»، لم نشهد ميلاد عمل فني عربي ينبض بهول ما يحدث في المنطقة العربية.
  • ألم يكن من المفروض أن تتوحد الجهود، في ظل التهديدات الصهيونية للجميع، لإنجاز «أوبيرات» عربية تجوب مسارح جميع الدول العربية لتستنهض الهمم!!؟
  • عواصم عربية سقطت، وشعوب مهددة بالإبادة وسط صمت مدوٍ، لكن السيوف استلت بمجرد أن عبر فنان عن رأيه بحرية، وبات الأمر كأننا على أبواب معركة القرن...
  • أي وضع يضطر فيه الفنان إلى الاعتذار تحت الضغط عن رأي موضوعي ونابع من معاينة للواقع؟

نُقل عن الممثل السوري سلوم حداد، الذي تعرفه الجماهير التونسية من خلال أدواره في أبرز أعمال الفانتازيا السورية التي يجسم فيها شخصيات ترمز للقوة والشجاعة والقيادة، قوله إن الممثلين المصريين لا يتقنون جيدا اللغة العربية الفصحى في أعمالهم الدرامية والسينمائية، وإن أداءهم بالعربية يكون عادة مختلطا باللهجة المصرية. وقد أثار هذا التصريح غضبا حادا في مصر، وسارع عدد من الفنانين المصريين إلى الرد على الممثل السوري، وبعضهم انتقده بكلمات حادة، واستغل آخرون الفرصة للتأكيد على قيمة الأعمال الفنية التاريخية المصرية مقابل التقليل من قيمة التجارب الفنية في بقية الدول العربية، حتى إن بعضهم شكك في قيمة الممثل السوري سلوم حداد، ومن ورائه في قيمة الأعمال الفنية السورية.

وإن صرحت بعض الوجوه الفنية المصرية بمواقف يمكن القول إنها معتدلة، إذ أقر بعض الفنانين بوجود تراجع في مستوى إتقان العربية، معتبرين أن ذلك يعود لاستسهال الأمر، فإن نسبة عالية من ردود الأفعال المصرية يغلب عليها التعصب، وبعضهم لم يتردد في شتم الممثل سلوم حداد وكل من يشاطره رأيه، مما أوحى في لحظة ما بأن الأمور ربما تأخذ منحى أكبر بكثير من مجرد نقاش حول تفصيل صغير من تفاصيل العمل الفني، إلى ما هو أوسع وربما تندلع بسببه أزمة سياسية بين مصر وسوريا، ويمكن أن تتوسع إلى دول أخرى، وذلك بسبب إصرار البعض على التصعيد.

ورغم أن سلوم حداد قد اعتذر رسميا لنقابة المهن التمثيلية بمصر، وأكد أن تصريحه قديم ويعود لفترة سابقة، وأن نقيب الفنانين المصريين قد أعلن عن قبوله الاعتذار، فإن الجدل متواصل إلى درجة تثير الحيرة وتدفع إلى التساؤل: لماذا يضطر ممثل في حجم وقيمة الممثل السوري سلوم حداد إلى الاعتذار والإقرار بارتكاب خطأ وطلب الصفح والسماح وكأنه ارتكب جريمة خطيرة أو كأنه مس أحد المقدسات، في حين أن كل ما قام به هو التعبير عن رأيه؟؟

إن ردة الفعل المصرية – لا نعمم طبعا لأن البعض كان متعقلا جدا – مبالغ فيها جدا، لأن الممثل السوري سلوم حداد عبر عن رأي أو عن موقف قد يكون صحيحا وقد يكون خاطئا، ولا يتطلب ردة الفعل القوية التي أجبرته على الاعتذار، في وقت كان من المفروض فيه أن نحترم حرية الرأي، لاسيما إذا كان منبنيا على معطيات موضوعية. فإن سلمنا بأن مصر هي هوليود الشرق، وأنها موطن الإبداع، وأن إنتاجها السينمائي والدرامي غزير، وأنها لوحدها، كما يقول المصريون، تنتج أكثر مما تنتجه كل الدول العربية مجتمعة، وأنها حاملة للواء القيادة الفنية وأنها أنجبت أكبر المطربين، فإن هذا لا يجعل إنتاجها غير قابل للنقد.

ولئن قدم التلفزيون المصري أعمالا تاريخية جيدة، فإنه قدم أيضا أعمالا أقل قيمة، وفي بعض الأعمال الدرامية أو حتى السينمائية نشاهد فنانين كبارا ينطقون اللغة العربية وكأنهم يتحدثون باللهجة المصرية. وقول إن هناك ممثلين مصريين لا يجيدون نطق العربية الفصحى في أعمالهم لا يعتبر خطيئة جسيمة ومسا من المقدسات، ولا يتطلب جيوشا من المدافعين عن الفن المصري. وهي لا تتطلب، بالخصوص، في كل مرة التذكير بهجرة فنانين عرب إلى مصر لأنهم لا يمكنهم أن يجدوا فرصا حقيقية إلا في مصر، لأن هناك فنانين مصريين فعلا لا يجيدون نطق العربية الفصحى، تماما مثلما نجد فنانين في تونس أو في الجزائر أو في المغرب لا يجيدون نطق العربية الفصحى، وكذلك في الخليج العربي. فلا أحد يملك، من منظورنا، الحق في احتكار اللغة أو الادعاء بالأفضلية، مادامت العربية هي اللغة الرسمية لجميع البلدان العربية.

ولئن تحدث سلوم حداد فقط عن الممثلين الذين لا يجيدون نطق العربية، فإنها فرصة لنشير إلى أن القضية أوسع بكثير. فالبلدان العربية، وخلافا تقريبا لبلدان العالم، كلها لديها لهجاتها الخاصة التي تتعامل بها في حياتها اليومية، في حين تستعمل العربية الفصحى في استعمالاتها الرسمية. وهذا في حد ذاته يخلق إشكالا كبيرا، لأن كل مواطن عربي يجد نفسه أمام لغتين، إن صح اعتبار اللهجة لغة: العامية أو الدارجة اليومية، والعربية الفصحى لغة المعاملات الرسمية والقانونية واللغة المستعملة في الدراسة.

وطبيعي أن يكون المواطن العربي متأثرا بهذا الوضع وتختلط عليه الأمور أحيانا. وفي اعتقادنا، ومثلما لا يعتبر تعثر ممثل في نطق العربية جريمة، فإن نقد أسلوب بعض الممثلين في نطق اللغة العربية لا يمثل أيضا جريمة أو مسا من المقدسات.

وعلينا أن نعترف بأن الجدل الساخن الذي تواصل لفترة نعتبرها طالت نسبيا، منذ تداول رأي الممثل السوري سلوم حداد حول الموضوع على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يزيد الملاحظ إلا إحباطا.

ففي الوقت الذي تواجه فيه الأمة العربية – إن صح طبعا استعمال مصطلح الأمة – في ظل ما نشاهده من انقسامات سياسية، خطرا يهدد وجودها وهي مهددة فعلا بالأطماع الصهيونية، وقد أصبح زعماء الكيان الصهيوني يتحدثون علنا عن مشاريعهم التوسعية داخل الأوطان العربية، تطفو على السطح قضية تعيدنا إلى الوراء. فهل من أولوياتنا اليوم مناقشة من يملك الزعامة الفنية والثقافية؟

صحيح، هناك هاجس لدى الإخوة المصريين يتمثل في ضرورة الحفاظ على مكانتهم في الساحة الثقافية العربية بعد عقود من الهيمنة المصرية، حيث لم تكن أمام الجماهير خيارات كثيرة، وكانوا يستهلكون الفن المصري بكثافة، لكن نعتقد أنه آن الأوان لكي نعترف جميعنا بأن الجماهير اليوم، خاصة منها أجيال الشباب، أصبحت منفتحة على كل ما هو أجنبي. وبعد هيمنة هوليود طويلا، اكتست الدراما الكورية والآسيوية عموما المساحات، كما انتشرت الفرق الموسيقية الآسيوية التي تمتلك أدوات سحرية في الجذب في أنحاء العالم العربي.

وإن كان هناك إشكالية يجب مناقشتها اليوم في هذا السياق، فهي: كيف يمكن استرجاع اهتمام الجماهير العربية التي تنفر من المنتوج الفني العربي؟

ولنا أن نوضح بأنه إن كان يمكن من قبل توجيه الأذواق لقلة المنتوج الفني أولا، وثانيا لقلة قنوات البث، فإن الأمر صار اليوم من قبيل المستحيل، نظرا لغزارة المنتوج، وتعدد الاختيارات، وكثرة قنوات ومنصات البث، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح إمكانية النشر والبث والتوزيع بشكل مهول على الخط. وبالتالي، فإن مسائل مثل: من من العرب يملك اليوم القيادة أو الريادة الفنية في المنطقة العربية، سؤال مردود على أصحابه.

ثم، هل هذه معارك العرب الثقافية اليوم؟

ولنا أن نقر بأننا لم نستطع، وباستثناء المبادرات القليلة، أن ننتج عملا فنيا واحدا يعكس ما نعيشه اليوم من أزمات ومحن. ربما مثل الفيلم الجديد لكوثر بن هنية، المخرجة التونسية المعروفة، «صوت هند رجب»، المستوحى من مأساة الطفلة الفلسطينية هند رجب التي اغتالتها القوات الصهيونية منذ حوالي سنة، وهي تطلب العون من الهلال الأحمر الفلسطيني بعد أن تعرضت سيارة عائلتها للقصف الصهيوني في غزة وظلت هي الناجية الوحيدة لساعات قليلة، نقطة ضوء في مساحة شاسعة من الظلام، بعد أن وصل صدى الفيلم إلى أنحاء العالم وفاز بجوائز قيمة في الدورة الأخيرة لمهرجان البندقية السينمائي الدولي، لعل أبرزها جائزة الأسد الفضي. وقد استغلت كوثر بن هنية في ذلك علاقاتها في الساحة السينمائية العالمية وحشدت الدعم لفيلمها في كل مكان، بما في ذلك في هوليود. لكن، ماذا هناك باستثناء ذلك؟ لا شيء يذكر تقريبا. تصحر تام. وكأن كل هذه المآسي، وعلى رأسها حرب الإبادة التي تتواصل ضد قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وحصدت خلالها القوات الصهيونية آلاف الأرواح وأوقعت مئات الآلاف من الجرحى مع الدمار الهائل والترهيب المستمر والتجويع الممنهج، لا تكفي لإلهام أحدهم لصياغة نص ينبض بهول ما يحدث، أو لإنتاج فيلم يعبر عن الوضع بصدق، أو صياغة «أوبيرات» عربية تتجول على كل الأركاح العربية لتحريك الهمم.

قتل جيش الاحتلال الصهيوني أبرز قيادات المقاومة العربية، وهو لا يتوقف عن قصف لبنان وسوريا واليمن، وقد قصف مؤخرا الدوحة عاصمة قطر. الكيان يهدد علنا بالتوسع في أراضي مصر والأردن وسوريا التي يحتل جزءا هاما منها، وهو يسعى بكل قوة من أجل تحقيق مشروعه الذي يقول عنه إنه توراتي، ويقوم على بناء إسرائيل الكبرى من النيل المصري إلى الفرات العراقي. ليس هذا فحسب، بل وضع الكيان، المدعوم بالولايات المتحدة الأمريكية التي يقودها رئيس متبنٍ لكل مشاريع الكيان بل يستبقها في تحقيق ذلك، في ذهن العرب جميعهم أنهم هدف له، وأنه يمكن أن يصيب الهدف متى شاء.

كل هذا لم يخلق الضوضاء الضرورية لإنتاج إبداعات استثنائية. كل ما حدث لم يحرك السواكن ولم يستفز القرائح. إنه الصمت الكامل. إنها اللامبالاة الكاملة. لكأن العقول تبلدت، والقريحة جفت، وعم الفراغ المساحة بالكامل.

وليت الصمت ظل مستمرا، بل نبعت من الفراغ حرب مفتعلة، فارغة من كل معنى، تعكس حالة الهوان التي بلغناها وتؤكد أن الساحة الثقافية، التي طالما اعتقد البعض أنها يمكن أن تعوضنا عن مشاكل السياسة، هي بدورها تبيع الوهم.

العالم العربي ينفجر ويحترق فعلا وليس مجازا، والنخب الفنية تتجادل حول من ينطق العربية بشكل أفضل، ومن يملك الريادة في المجال، ومن يعتبر حصنا للعربية. يحدث هذا، والقلاع العربية تسقط الواحدة تلو الأخرى أمام الاكتساح الصهيوني الأميركي الهائل. ماذا ترانا نقول؟

لقد سقطت بغداد إثر الغزو الأميركي، ولم يكن ذلك سببا كافيا لتتقدم جيوش الدفاع عن هويتنا وثقافتنا ووجودنا. فلسطين مهددة بالزوال، وليس فقط غزة التي تواجه حرب إبادة صهيونية، ويتواصل التعامل كما لو أن شيئا لم يحدث. سوريا مهددة بالانقسام إلى دويلات بسبب الطمع الصهيوني وكأن الأمر عادي. لبنان في وضع بائس، والعدو الصهيوني لا يسمح للبنانيين حتى بالتنفس. وكل الدول العربية مهددة في استقلاليتها وفي سلامة أراضيها، وكل ذلك لا يحرك السواكن. لكن مجرد رأي من فنان له تاريخ ومكانة، نابع من معاينة للواقع، كان كافيا لإشهار السيوف، حتى ليبدو وكأننا على أبواب معركة القرن...

حياة السايب