توفي أمس الكاتب المصري المعروف صنع الله إبراهيم بعد صراع مع المرض. ويُعتبر صنع الله إبراهيم من أهم الأدباء العرب المعاصرين، حيث شكّلت تجربته الروائية الممتدة على أكثر من خمسة عقود، مشروعًا روائيًّا فريدًا قائمًا على التجريب من جهة، والالتزام السياسي الواضح من جهة أخرى.
وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، حيث وجد نفسه يحمل اسمًا فريدًا وملفتًا للانتباه.
وأكّد الكاتب، في إحدى المقابلات، أن توجهه اليساري بدأ منذ الصغر، وهو يقول حول ذلك: «كان الوالد من عائلة بورجوازية، وبعد وفاة زوجته الأولى بسبب مرضها، تزوّج من الممرضة (والدة صنع الله) التي رفضتها العائلة لأسباب طبقية».
انخرط صنع الله إبراهيم في العمل السياسي أثناء دراسته في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، حيث انضمّ إلى «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» الشيوعيّة السريّة.
وفي عام 1959، اعتقلته السلطات المصرية آنذاك في حملة ضد الشيوعيين، وقضى ما يقارب ستّ سنوات في السجون.
وكان صنع الله إبراهيم، الأدبي في فترة سجنه، يقرأ بنهم ويتفاعل مع تيارات فكرية متعدّدة، وهي التجربة التي دوّنها لاحقًا في كتابه «يوميات الواحات».
واستطاع الكاتب، بلغته التي وُصفت بـ «الاقتصاد إلى درجة التقشّف»، أن يمزج بين العوالم الغرائبية وبين الواقع الموثّق بعناية بواسطة البحث في الأرشيف.
وقد أحدثت روايته «تلك الرائحة» (1966) صدمة عند صدورها، إذ تناولت حالة الاغتراب والفراغ الوجودي لشاب خرج من السجن ليجد نفسه تائهًا في مجتمع فاقد للبوصلة.
رُفضت الرواية من قبل الرقابة وصودرت بدعوى «البذاءة»، ولم تُنشر بنسختها الكاملة إلا بعد 20 عامًا، لكنها اليوم تُعتبر لحظة مفصلية في تطوّر الرواية العربية الحديثة. وتُعتبر رواية «اللجنة» (1981) أولى رواياته، لكنها تظل من أشهر أعماله وأكثرها رمزية.
«رفعتُ يدي المصابة إلى فمي وبدأت آكل نفسي» هي الجملة التي اختتم بها الرواية التي تدور حول قصة رجل يُستدعى للتحقيق من قبل لجنة مجهولة.
الرواية ترصد، من خلال رمزية مكثفة، اغتراب الفرد في مجتمعه.
وفي رواية «ذات» (1992)، التي استُلهمت أحداثها في المسلسل المصري «بنت اسمها ذات» (2013)، يتناول صنع الله إبراهيم قصة امرأة مصرية من الطبقة الوسطى، تتقاطع حياتها الشخصية مع تحوّلات الدولة المصرية في عهد عبد الناصر، والسادات، ومبارك. تتداخل الحكاية مع قصاصات صحفية واقعية لكون بطلة الرواية تعمل في قسم الأرشيف، ما خلق سردًا توثيقيًّا يُجسّد تآكل الطبقة الوسطى وتحوُّل الدولة من اشتراكية إلى نيوليبرالية.
وبعد «اللجنة»، نشر صنع الله إبراهيم رواية «بيروت بيروت» (1984)، والتي جاءت نتيجة المدة القصيرة التي أمضاها في العاصمة اللبنانية خلال واحدة من هدنات الحرب الأهلية.
يقول إبراهيم في إحدى المقابلات الصحفية: «أمضيت في بيروت حوالي شهر، وخلالها نشأت قصة حب. كنت قد انتهيت لتوّي من كتابة اللجنة وتلك الرائحة، وقلت لنفسي: كفى من هذا… أريد أن أكتب قصة حب.
ولكن ما إن بدأت أكتب، حتى وجدت نفسي غارقًا في الحرب الأهلية اللبنانية، وقلت لنفسي: أليس من المفترض أن أحاول فهم ما يحدث هنا بالضبط؟
فبدأت أُجري أبحاثًا. وجدت أفلامًا، ووثائق، وما إلى ذلك، وذهبت إلى الأرشيفات».
وفي «وردة» (2000)، انتقل إبراهيم إلى سلطنة عمان، مستعيدًا تاريخ ثورة ظفار من خلال مذكرات مناضلة يسارية. وكالعادة، تتداخل الوثائق مع السرد الذاتي، مما يجعل من الرواية تأمّلًا في حدود التاريخ الرسمي، وفي النسيان المتعمّد للثورات المغدورة.
ومن بين أعماله الأخرى نجد روايات: «أمريكانلي»، و»شرف»، و»برلين 69»، و»التلصص»، و»نجمة أغسطس»، ورواية «العمامة والقبعة» التي تتمحور حول الحملة الفرنسية في مصر (1798–1801)، وتتناول مواضيع السلطة، والاستعمار، وصدام الحضارات.
رفض جائزة الرواية العربية
في لحظة استثنائية شهيرة عام 2003، رفض صنع الله إبراهيم تسلُّم جائزة الرواية العربية – لملتقى القاهرة للإبداع الروائي – معلنًا أن السبب هو أنها «صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد».
وفي الكلمة التي ألقاها على مسرح دار الأوبرا المصرية خلال حفل تسليم الجائزة، انتقد صنع الله إبراهيم أيضًا سياسة بلاده الخارجية، وعلى رأسها التطبيع مع إسرائيل، كما ندد بـ ما وصفه بـ «الإملاءات الأمريكية، والعجز في السياسة الخارجية المصرية، وسائر مناحي الحياة».
وبعد نحو عقد من الزمان، علّق صنع الله إبراهيم على ثورة جانفي 2011 في مصر، قائلًا إن ما جرى: «لم يكن ثورة بالتأكيد، فالثورة لها برنامج وهدف: تغيير كامل للواقع أو إزاحة طبقة اجتماعية بأخرى. ما حدث كان انتفاضة شعبية، مطلبها الأساسي هو تغيير النظام، رغم أن معنى هذا لم يكن واضحًا، باستثناء الإطاحة بأبرز رموز النظام القديم».
وقد أعادت فترة مرض صنع الله إبراهيم في المدة الأخيرة، الأديب إلى الأضواء، لا سيما بعد مناشدة عدد من الأشخاص للدولة المصرية، في شهر مارس الماضي، بالتدخل والمساعدة في تغطية تكاليف علاجه. ورغم أن الدولة قد استجابت للدعوات، وفق تقارير إعلامية مصرية، إلا أن ذلك كان متأخرًا، وفق نفس المصادر.
وللتذكير، فإن رحلة صنع الله إبراهيم المهنية قد بدأت مع الصحافة، حيث تعاون مع وكالة أنباء الشرق الأوسط، ووكالة أنباء ألمانيا الشرقية.
ويعتبر النقاد أن الطابع الصحفي ظل يلاحقه طيلة مسيرته الإبداعية، ويظهر ذلك من خلال البعد التوثيقي الحاضر في أغلبية نصوصه الإبداعية.
وكان صنع الله إبراهيم من الأدباء القلائل الذين سعوا دائمًا إلى الالتزام بالمبادئ التي يدعون إلى اتباعها، وقد دفع ثمنًا باهظًا جعله يخسر سنوات طويلة من حياته في السجون، كما أنه لم يُذعن أبدًا للسلطة وإن تعدّدت الأنظمة، وكان سبّاقًا إلى فضح أوجه النفاق الذي مارسته الأنظمة التي عاصرها، وخاصة خلال ما يُعرف بفترة الانفتاح في بلاده، الذي انطلق مع نظام السادات واستمرّ مع خلفه مبارك. كما أنه لم يكن مُهادنًا مع حكم الضباط الأحرار، وطالته الملاحقات، وقبع في السجن بسبب أفكاره الشيوعية بالخصوص.
كان صنع الله إبراهيم نموذجًا معبّرًا عن الكاتب والمفكر الذي لم يعش في برجه العاجي، ورحل تاركًا إرثًا إبداعيًّا هامًّا وسيرة ملهمة.
توفي أمس الكاتب المصري المعروف صنع الله إبراهيم بعد صراع مع المرض. ويُعتبر صنع الله إبراهيم من أهم الأدباء العرب المعاصرين، حيث شكّلت تجربته الروائية الممتدة على أكثر من خمسة عقود، مشروعًا روائيًّا فريدًا قائمًا على التجريب من جهة، والالتزام السياسي الواضح من جهة أخرى.
وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، حيث وجد نفسه يحمل اسمًا فريدًا وملفتًا للانتباه.
وأكّد الكاتب، في إحدى المقابلات، أن توجهه اليساري بدأ منذ الصغر، وهو يقول حول ذلك: «كان الوالد من عائلة بورجوازية، وبعد وفاة زوجته الأولى بسبب مرضها، تزوّج من الممرضة (والدة صنع الله) التي رفضتها العائلة لأسباب طبقية».
انخرط صنع الله إبراهيم في العمل السياسي أثناء دراسته في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، حيث انضمّ إلى «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» الشيوعيّة السريّة.
وفي عام 1959، اعتقلته السلطات المصرية آنذاك في حملة ضد الشيوعيين، وقضى ما يقارب ستّ سنوات في السجون.
وكان صنع الله إبراهيم، الأدبي في فترة سجنه، يقرأ بنهم ويتفاعل مع تيارات فكرية متعدّدة، وهي التجربة التي دوّنها لاحقًا في كتابه «يوميات الواحات».
واستطاع الكاتب، بلغته التي وُصفت بـ «الاقتصاد إلى درجة التقشّف»، أن يمزج بين العوالم الغرائبية وبين الواقع الموثّق بعناية بواسطة البحث في الأرشيف.
وقد أحدثت روايته «تلك الرائحة» (1966) صدمة عند صدورها، إذ تناولت حالة الاغتراب والفراغ الوجودي لشاب خرج من السجن ليجد نفسه تائهًا في مجتمع فاقد للبوصلة.
رُفضت الرواية من قبل الرقابة وصودرت بدعوى «البذاءة»، ولم تُنشر بنسختها الكاملة إلا بعد 20 عامًا، لكنها اليوم تُعتبر لحظة مفصلية في تطوّر الرواية العربية الحديثة. وتُعتبر رواية «اللجنة» (1981) أولى رواياته، لكنها تظل من أشهر أعماله وأكثرها رمزية.
«رفعتُ يدي المصابة إلى فمي وبدأت آكل نفسي» هي الجملة التي اختتم بها الرواية التي تدور حول قصة رجل يُستدعى للتحقيق من قبل لجنة مجهولة.
الرواية ترصد، من خلال رمزية مكثفة، اغتراب الفرد في مجتمعه.
وفي رواية «ذات» (1992)، التي استُلهمت أحداثها في المسلسل المصري «بنت اسمها ذات» (2013)، يتناول صنع الله إبراهيم قصة امرأة مصرية من الطبقة الوسطى، تتقاطع حياتها الشخصية مع تحوّلات الدولة المصرية في عهد عبد الناصر، والسادات، ومبارك. تتداخل الحكاية مع قصاصات صحفية واقعية لكون بطلة الرواية تعمل في قسم الأرشيف، ما خلق سردًا توثيقيًّا يُجسّد تآكل الطبقة الوسطى وتحوُّل الدولة من اشتراكية إلى نيوليبرالية.
وبعد «اللجنة»، نشر صنع الله إبراهيم رواية «بيروت بيروت» (1984)، والتي جاءت نتيجة المدة القصيرة التي أمضاها في العاصمة اللبنانية خلال واحدة من هدنات الحرب الأهلية.
يقول إبراهيم في إحدى المقابلات الصحفية: «أمضيت في بيروت حوالي شهر، وخلالها نشأت قصة حب. كنت قد انتهيت لتوّي من كتابة اللجنة وتلك الرائحة، وقلت لنفسي: كفى من هذا… أريد أن أكتب قصة حب.
ولكن ما إن بدأت أكتب، حتى وجدت نفسي غارقًا في الحرب الأهلية اللبنانية، وقلت لنفسي: أليس من المفترض أن أحاول فهم ما يحدث هنا بالضبط؟
فبدأت أُجري أبحاثًا. وجدت أفلامًا، ووثائق، وما إلى ذلك، وذهبت إلى الأرشيفات».
وفي «وردة» (2000)، انتقل إبراهيم إلى سلطنة عمان، مستعيدًا تاريخ ثورة ظفار من خلال مذكرات مناضلة يسارية. وكالعادة، تتداخل الوثائق مع السرد الذاتي، مما يجعل من الرواية تأمّلًا في حدود التاريخ الرسمي، وفي النسيان المتعمّد للثورات المغدورة.
ومن بين أعماله الأخرى نجد روايات: «أمريكانلي»، و»شرف»، و»برلين 69»، و»التلصص»، و»نجمة أغسطس»، ورواية «العمامة والقبعة» التي تتمحور حول الحملة الفرنسية في مصر (1798–1801)، وتتناول مواضيع السلطة، والاستعمار، وصدام الحضارات.
رفض جائزة الرواية العربية
في لحظة استثنائية شهيرة عام 2003، رفض صنع الله إبراهيم تسلُّم جائزة الرواية العربية – لملتقى القاهرة للإبداع الروائي – معلنًا أن السبب هو أنها «صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد».
وفي الكلمة التي ألقاها على مسرح دار الأوبرا المصرية خلال حفل تسليم الجائزة، انتقد صنع الله إبراهيم أيضًا سياسة بلاده الخارجية، وعلى رأسها التطبيع مع إسرائيل، كما ندد بـ ما وصفه بـ «الإملاءات الأمريكية، والعجز في السياسة الخارجية المصرية، وسائر مناحي الحياة».
وبعد نحو عقد من الزمان، علّق صنع الله إبراهيم على ثورة جانفي 2011 في مصر، قائلًا إن ما جرى: «لم يكن ثورة بالتأكيد، فالثورة لها برنامج وهدف: تغيير كامل للواقع أو إزاحة طبقة اجتماعية بأخرى. ما حدث كان انتفاضة شعبية، مطلبها الأساسي هو تغيير النظام، رغم أن معنى هذا لم يكن واضحًا، باستثناء الإطاحة بأبرز رموز النظام القديم».
وقد أعادت فترة مرض صنع الله إبراهيم في المدة الأخيرة، الأديب إلى الأضواء، لا سيما بعد مناشدة عدد من الأشخاص للدولة المصرية، في شهر مارس الماضي، بالتدخل والمساعدة في تغطية تكاليف علاجه. ورغم أن الدولة قد استجابت للدعوات، وفق تقارير إعلامية مصرية، إلا أن ذلك كان متأخرًا، وفق نفس المصادر.
وللتذكير، فإن رحلة صنع الله إبراهيم المهنية قد بدأت مع الصحافة، حيث تعاون مع وكالة أنباء الشرق الأوسط، ووكالة أنباء ألمانيا الشرقية.
ويعتبر النقاد أن الطابع الصحفي ظل يلاحقه طيلة مسيرته الإبداعية، ويظهر ذلك من خلال البعد التوثيقي الحاضر في أغلبية نصوصه الإبداعية.
وكان صنع الله إبراهيم من الأدباء القلائل الذين سعوا دائمًا إلى الالتزام بالمبادئ التي يدعون إلى اتباعها، وقد دفع ثمنًا باهظًا جعله يخسر سنوات طويلة من حياته في السجون، كما أنه لم يُذعن أبدًا للسلطة وإن تعدّدت الأنظمة، وكان سبّاقًا إلى فضح أوجه النفاق الذي مارسته الأنظمة التي عاصرها، وخاصة خلال ما يُعرف بفترة الانفتاح في بلاده، الذي انطلق مع نظام السادات واستمرّ مع خلفه مبارك. كما أنه لم يكن مُهادنًا مع حكم الضباط الأحرار، وطالته الملاحقات، وقبع في السجن بسبب أفكاره الشيوعية بالخصوص.
كان صنع الله إبراهيم نموذجًا معبّرًا عن الكاتب والمفكر الذي لم يعش في برجه العاجي، ورحل تاركًا إرثًا إبداعيًّا هامًّا وسيرة ملهمة.