رحل أمس الفنان الكبير، المخرج المسرحي المعروف الفاضل الجزيري، بعد معاناة مع المرض. رحل صباح يوم الاثنين، أي بعد ساعات من عرض آخر مسرحياته «جرانتي العزيزة» في الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي، وتحديداً في سهرة الأحد 10 أوت. والمسرحية تدور فكرتها وأحداثها حول العلاقة المعقدة بين عالمي الفن والسياسة، وحظيت بتفاعل الجمهور في الحمامات.
وقد خلف خبر رحيل الفاضل الجزيري، الذي يوارى جسده التراب بعد ظهر اليوم الثلاثاء في أوتيك من ولاية بنزرت، حيث كان يقيم الفنان وعائلته، حزناً عميقاً في صفوف زملائه، وخاصة أولئك الذين عرفوه عن قرب وتعاملوا معه، وأيضاً من جمهوره، حيث حرص كثيرون على توديعه بكلمات مؤثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وإذ خير بعض المسرحيين الذين اتصلنا بهم للحديث حول رحيل الفاضل الجزيري، وهو الذي طبع الحياة الفنية في تونس لفترة طويلة، الصمت، فإن المدير العام للمسرح الوطني التونسي، معز مرابط، عبر لنا في تصريح له عن عميق تأثره لرحيل الفاضل الجزيري، وقال إن الخبر موجع جداً له، وإنه لا يجد الكلمات للتعبير عن الألم والحزن الكبيرين لفقدان المسرحي الكبير. وقال معز مرابط بتأثر: «سي الفاضل رحمه الله، أعطى الكثير للساحة الفنية والمسرحية في تونس، وبصمته ستبقى حية فينا إلى الأبد»، مضيفاً قوله: «إننا اليوم نودع فناناً كبيراً، ومدرسة فنية قائمة الذات، وأحد أهم صانعي أمجاد المسرح التونسي، وشخصية فذة وملهمة بسخاء عطائه ورفعة أخلاقه وروعة منجزه الفني».
وفي تدوينة له على صفحته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أبّن الممثل رؤوف بن عمر، الراحل الفاضل الجزيري الذي ربطتهما علاقة دامت ستين سنة وفق تأكيده. وقد ذكر رؤوف بن عمر بشخصية الفاضل الجزيري الفنية الشاملة، فتحدث عن الفاضل الجزيري الممثل والمخرج المسرحي والخطاط والمختص في الجماليات، والأهم من ذلك، عاشق الموسيقى، مذكراً ببداياتهم في قفصة، وخاصة بمسرحية «جحا والشرق الحائر»، وهي أول عمل لفرقة الجنوب بقفصة التي أسستها مجموعة من المسرحيين الشباب آنذاك، والذين تحولوا فيما بعد إلى رموز للفن الرابع، ومن بينهم الراحل الفاضل الجزيري، والمخرج الفاضل الجعايبي، ورؤوف بن عمر، وغيرهم.
ونعى مدير عام المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، عبد الحليم المسعودي، الراحل الفاضل الجزيري، في تدوينة مقتضبة لكن مشحونة بالمعاني، إذ دون ما يلي: «والآن كيف سنعوضك أيها الكبير؟ وداعاً أستاذنا».
ولنا أن نشير إلى أن مسيرة الفاضل الجزيري التي كانت مليئة بالأحداث الكبرى لم تكن سهلة جداً. وعلى الرغم من أن اسم الفاضل الجزيري كان لوحده يمثل مدرسة فنية قائمة الذات، فإن أغلب مبادراته، خاصة في مجال الفرجة الحية، رافقها جدل واسع، بداية من عرض «النوبة»، مرورا بـ»زغندة وعزوز»، و»نجوم»، و»الحضرة 1»، و»الحضرة 2»، وصولاً إلى عرض «المحفل»، وهو مستلهم من التراث الموسيقي البدوي، والذي افتتح مهرجان قرطاج الدولي في دورته السابعة والخمسين منذ عامين. وعلى الرغم من أن عروض الجزيري التي قدمها في أبرز مسارح البلاد شهدت أغلبها حضوراً جماهيرياً واسعاً، فإن الجدل حولها يكاد لا ينتهي، وتكون دائماً في مرمى النقد. وعلينا أن نعترف بأن النقاد لم يكونوا في أغلب الحالات متسامحين كثيراً مع الجزيري، وكثيراً ما يتركز النقد الموجه له حول مدى علاقته بالغناء والموسيقى، وتعامله مع التراث الفني الصوفي والشعبي في تونس، ومحاولاته تقديم قراءات مجددة من خلال إعادة توزيع بعض الأغاني التراثية والصوفية أو الشعبية، ومن خلال إضافة آلات غربية للعرض. وهو ما لا يروق للبعض، خاصة ممن نصطلح عليهم بحراس المعبد الذين يرفضون أي فكرة جديدة وهم موجودون تقريبا في كل المجالات.
وقد سعى الفاضل الجزيري إلى تجسيم حلمه في بناء مركز للفنون في جربة وافتتحه فعلاً منذ سنوات قليلة – في 2022 – وهذا المشروع جوبه بدوره بمعارضة شديدة، لأنه وفق المعارضين قد بُني على منطقة رطبة في الجزيرة غير مؤهلة للبناء.
وقد واجه الفاضل الجزيري في حياته محنة فقدان الابن، إذ فقد نجله الشاب عمر الفاروق في حادث قطار عام 2014 أثناء تصوير فيلمه «خسوف».
وللتذكير، وُلد الفاضل الجزيري في 1948 وتوفي عن عمر يناهز الـ77 سنة بعد صراع مع المرض. وقد ترك رصيداً إبداعياً أسسه على امتداد خمسة عقود كاملة. وقد نشأ الفاضل الجزيري، وهو أصيل العاصمة، في بيئة محبة للثقافة، مؤمنة بالفن والكتاب.
تلقى تعليمه الثانوي في المدرسة الصادقية، ونشط في فرقتها المسرحية المدرسية، وقد زامل كوكبة من الشباب الذين تحولوا فيما بعد إلى رموز في الثقافة والفنون، من بينهم على سبيل الذكر رؤوف بن عمر، ومحمد رجاء فرحات، وعبد الرؤوف الباسطي، ومحمد إدريس، والبشير الدريسي، وغيرهم. وقد واصل الفاضل الجزيري دراسته الجامعية في مجال الفن بالعاصمة البريطانية لندن، وبعد عودته، كان من العناصر المؤسسة لمسرح الجنوب بقفصة سنة 1972، فالمسرح الجديد سنة 1976 الذي قدم أعمالاً شهيرة إلى اليوم، من بينها مسرحية «غسالة النوادر» التي كان فيها الفاضل الجزيري ممثلاً نجماً إلى جانب الممثلة جليلة بكار، ومسرحية «عرب» التي كشفت عن مواهب الممثل الأمين النهدي، والتي تحولت فيما بعد إلى فيلم.
وأخرج الفاضل الجزيري للسينما 3 أفلام: «ثلاثون» و»خسوف»،و» الڤيرة» وشارك بدوره في بعض الأفلام التونسية والأجنبية.
وقد نعت وزارة الشؤون الثقافية الفنان الكبير، وعددت خصاله واستعرضت مآثره في الساحة الفنية، ونعته الهيئة العربية للمسرح، والعديد من الهياكل المسرحية التونسية والعربية.
ولا بد من الإقرار بأن رحيل الفنان الفاضل الجزيري هو خسارة كبرى للساحة الثقافية، وليس فقط للساحة المسرحية والموسيقية. فالفاضل الجزيري كان نموذجاً للفنان غير المستكين، بل على العكس كان يؤمن بالمغامرة، وكان لا يتردد، رغم سياط النقد التي كثيراً ما تطاله، في اقتحام معاقل فنية يريد أصحابها أن تظل مغلقة أو حكراً على فئة معينة. كان أيضاً فناناً مثقفاً ومطلعاً على الحركة الفنية في العالم، وكان فناناً منفتحاً على التجريب، وكان ملماً بتاريخ تونس وبرموزها الفنية والتاريخية والسياسية والنضالية، وكان يؤمن بضرورة إعادة الاعتبار لتاريخنا المعاصر، وإعادة الاعتبار لشخصيات فنية أفنت عمرها في الفن ولم تجد إلا الإنكار والتجاهل.
لأجل ذلك كله، ولأن الفاضل الجزيري كان يملك كاريزما خاصة، وكان لحضوره هيبة لا يمكن إنكارها، وكان وربما هذا الأهم مثقفا جداً، يعتبر رحيله اليوم خسارة كبرى في الساحة الفنية. وقد لا نحتاج إلى التأكيد على أن شخصية في خصال الفاضل الجزيري الفنية والذاتية يصعب تعويضها.
حياة السايب
رحل أمس الفنان الكبير، المخرج المسرحي المعروف الفاضل الجزيري، بعد معاناة مع المرض. رحل صباح يوم الاثنين، أي بعد ساعات من عرض آخر مسرحياته «جرانتي العزيزة» في الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي، وتحديداً في سهرة الأحد 10 أوت. والمسرحية تدور فكرتها وأحداثها حول العلاقة المعقدة بين عالمي الفن والسياسة، وحظيت بتفاعل الجمهور في الحمامات.
وقد خلف خبر رحيل الفاضل الجزيري، الذي يوارى جسده التراب بعد ظهر اليوم الثلاثاء في أوتيك من ولاية بنزرت، حيث كان يقيم الفنان وعائلته، حزناً عميقاً في صفوف زملائه، وخاصة أولئك الذين عرفوه عن قرب وتعاملوا معه، وأيضاً من جمهوره، حيث حرص كثيرون على توديعه بكلمات مؤثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وإذ خير بعض المسرحيين الذين اتصلنا بهم للحديث حول رحيل الفاضل الجزيري، وهو الذي طبع الحياة الفنية في تونس لفترة طويلة، الصمت، فإن المدير العام للمسرح الوطني التونسي، معز مرابط، عبر لنا في تصريح له عن عميق تأثره لرحيل الفاضل الجزيري، وقال إن الخبر موجع جداً له، وإنه لا يجد الكلمات للتعبير عن الألم والحزن الكبيرين لفقدان المسرحي الكبير. وقال معز مرابط بتأثر: «سي الفاضل رحمه الله، أعطى الكثير للساحة الفنية والمسرحية في تونس، وبصمته ستبقى حية فينا إلى الأبد»، مضيفاً قوله: «إننا اليوم نودع فناناً كبيراً، ومدرسة فنية قائمة الذات، وأحد أهم صانعي أمجاد المسرح التونسي، وشخصية فذة وملهمة بسخاء عطائه ورفعة أخلاقه وروعة منجزه الفني».
وفي تدوينة له على صفحته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أبّن الممثل رؤوف بن عمر، الراحل الفاضل الجزيري الذي ربطتهما علاقة دامت ستين سنة وفق تأكيده. وقد ذكر رؤوف بن عمر بشخصية الفاضل الجزيري الفنية الشاملة، فتحدث عن الفاضل الجزيري الممثل والمخرج المسرحي والخطاط والمختص في الجماليات، والأهم من ذلك، عاشق الموسيقى، مذكراً ببداياتهم في قفصة، وخاصة بمسرحية «جحا والشرق الحائر»، وهي أول عمل لفرقة الجنوب بقفصة التي أسستها مجموعة من المسرحيين الشباب آنذاك، والذين تحولوا فيما بعد إلى رموز للفن الرابع، ومن بينهم الراحل الفاضل الجزيري، والمخرج الفاضل الجعايبي، ورؤوف بن عمر، وغيرهم.
ونعى مدير عام المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، عبد الحليم المسعودي، الراحل الفاضل الجزيري، في تدوينة مقتضبة لكن مشحونة بالمعاني، إذ دون ما يلي: «والآن كيف سنعوضك أيها الكبير؟ وداعاً أستاذنا».
ولنا أن نشير إلى أن مسيرة الفاضل الجزيري التي كانت مليئة بالأحداث الكبرى لم تكن سهلة جداً. وعلى الرغم من أن اسم الفاضل الجزيري كان لوحده يمثل مدرسة فنية قائمة الذات، فإن أغلب مبادراته، خاصة في مجال الفرجة الحية، رافقها جدل واسع، بداية من عرض «النوبة»، مرورا بـ»زغندة وعزوز»، و»نجوم»، و»الحضرة 1»، و»الحضرة 2»، وصولاً إلى عرض «المحفل»، وهو مستلهم من التراث الموسيقي البدوي، والذي افتتح مهرجان قرطاج الدولي في دورته السابعة والخمسين منذ عامين. وعلى الرغم من أن عروض الجزيري التي قدمها في أبرز مسارح البلاد شهدت أغلبها حضوراً جماهيرياً واسعاً، فإن الجدل حولها يكاد لا ينتهي، وتكون دائماً في مرمى النقد. وعلينا أن نعترف بأن النقاد لم يكونوا في أغلب الحالات متسامحين كثيراً مع الجزيري، وكثيراً ما يتركز النقد الموجه له حول مدى علاقته بالغناء والموسيقى، وتعامله مع التراث الفني الصوفي والشعبي في تونس، ومحاولاته تقديم قراءات مجددة من خلال إعادة توزيع بعض الأغاني التراثية والصوفية أو الشعبية، ومن خلال إضافة آلات غربية للعرض. وهو ما لا يروق للبعض، خاصة ممن نصطلح عليهم بحراس المعبد الذين يرفضون أي فكرة جديدة وهم موجودون تقريبا في كل المجالات.
وقد سعى الفاضل الجزيري إلى تجسيم حلمه في بناء مركز للفنون في جربة وافتتحه فعلاً منذ سنوات قليلة – في 2022 – وهذا المشروع جوبه بدوره بمعارضة شديدة، لأنه وفق المعارضين قد بُني على منطقة رطبة في الجزيرة غير مؤهلة للبناء.
وقد واجه الفاضل الجزيري في حياته محنة فقدان الابن، إذ فقد نجله الشاب عمر الفاروق في حادث قطار عام 2014 أثناء تصوير فيلمه «خسوف».
وللتذكير، وُلد الفاضل الجزيري في 1948 وتوفي عن عمر يناهز الـ77 سنة بعد صراع مع المرض. وقد ترك رصيداً إبداعياً أسسه على امتداد خمسة عقود كاملة. وقد نشأ الفاضل الجزيري، وهو أصيل العاصمة، في بيئة محبة للثقافة، مؤمنة بالفن والكتاب.
تلقى تعليمه الثانوي في المدرسة الصادقية، ونشط في فرقتها المسرحية المدرسية، وقد زامل كوكبة من الشباب الذين تحولوا فيما بعد إلى رموز في الثقافة والفنون، من بينهم على سبيل الذكر رؤوف بن عمر، ومحمد رجاء فرحات، وعبد الرؤوف الباسطي، ومحمد إدريس، والبشير الدريسي، وغيرهم. وقد واصل الفاضل الجزيري دراسته الجامعية في مجال الفن بالعاصمة البريطانية لندن، وبعد عودته، كان من العناصر المؤسسة لمسرح الجنوب بقفصة سنة 1972، فالمسرح الجديد سنة 1976 الذي قدم أعمالاً شهيرة إلى اليوم، من بينها مسرحية «غسالة النوادر» التي كان فيها الفاضل الجزيري ممثلاً نجماً إلى جانب الممثلة جليلة بكار، ومسرحية «عرب» التي كشفت عن مواهب الممثل الأمين النهدي، والتي تحولت فيما بعد إلى فيلم.
وأخرج الفاضل الجزيري للسينما 3 أفلام: «ثلاثون» و»خسوف»،و» الڤيرة» وشارك بدوره في بعض الأفلام التونسية والأجنبية.
وقد نعت وزارة الشؤون الثقافية الفنان الكبير، وعددت خصاله واستعرضت مآثره في الساحة الفنية، ونعته الهيئة العربية للمسرح، والعديد من الهياكل المسرحية التونسية والعربية.
ولا بد من الإقرار بأن رحيل الفنان الفاضل الجزيري هو خسارة كبرى للساحة الثقافية، وليس فقط للساحة المسرحية والموسيقية. فالفاضل الجزيري كان نموذجاً للفنان غير المستكين، بل على العكس كان يؤمن بالمغامرة، وكان لا يتردد، رغم سياط النقد التي كثيراً ما تطاله، في اقتحام معاقل فنية يريد أصحابها أن تظل مغلقة أو حكراً على فئة معينة. كان أيضاً فناناً مثقفاً ومطلعاً على الحركة الفنية في العالم، وكان فناناً منفتحاً على التجريب، وكان ملماً بتاريخ تونس وبرموزها الفنية والتاريخية والسياسية والنضالية، وكان يؤمن بضرورة إعادة الاعتبار لتاريخنا المعاصر، وإعادة الاعتبار لشخصيات فنية أفنت عمرها في الفن ولم تجد إلا الإنكار والتجاهل.
لأجل ذلك كله، ولأن الفاضل الجزيري كان يملك كاريزما خاصة، وكان لحضوره هيبة لا يمكن إنكارها، وكان وربما هذا الأهم مثقفا جداً، يعتبر رحيله اليوم خسارة كبرى في الساحة الفنية. وقد لا نحتاج إلى التأكيد على أن شخصية في خصال الفاضل الجزيري الفنية والذاتية يصعب تعويضها.