إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

انطلق يوم 14 جوان ويختتم هذا السبت.. الدورة التأسيسية للمعرض الوطني للفنون التشكيلية.. هل حققت هدفها المعلن في كسر اللامركزية؟

 

  • النجاح في تنظيم المعارض الفنية لا يتحقق إلا من خلال إدارة تقنية ولوجستية دقيقة. تجارب فنية بارزة في الوطن العربي والعالم تؤكد أن النجاح الجماهيري لا يأتي من فراغ، بل من تكامل عناصر العرض والتنظيم والتواصل.

  • تقنيات الجذب والرؤية الإخراجية البصرية أصبحت أكثر من ضرورية.

  • في خضم التحولات الكبرى أصبحت معارض الفنون التشكيلية مطالَبة اليوم ليس فقط بأن تُعرض فيها أعمال فنية راقية، بل أن تتحول إلى تجارب حسية وجمالية متكاملة.

  • الإضاءة ليست وسيلة إظهار فقط، بل عنصر تكوين جمالي قائم بذاته. وإضاءة غير موزونة يمكن أن تُفسد أثر لوحة أو تنزع عن العمل حسه الدرامي.

يختتم غدًا السبت 5 جويلية الجاري المعرض الوطني للفنون التشكيلية في دورته الأولى، والذي انطلقت فعالياته منذ يوم 14 جوان الماضي بدار الفنون بالبلفدير بالعاصمة، وبمشاركة 64 فنانًا وفنانة تشكيلية عرضوا 84 عملاً فنيًا وتمّ اختيارهم من حوالي 180 مترشحًا عبر لجنة فنية مختصة. هذا المعرض في نسخته الأولى، والذي نظمته وزارة الشؤون الثقافية وجاء بمبادرة من الوزيرة أمينة الصرارفي، والذي من المنتظر أن تعقد دورته الثانية في جانفي من سنة 2026، كان الغرض منه أن لا يكون فقط ضمن روزنامة المعارض الفنية، بل سبيلا للاعتراف بالفنانين التشكيليين في الجهات كفاعلين حقيقيين في الحقل الثقافي التونسي. فهل تحققت هذه الغايات من تنظيم المعرض؟ وهل حضر الجمهور؟ وهل حدث التفاعل المنتظر؟

ربما من السابق لأوانه أن نتحدث عن عدد زوار المعرض الوطني للفنون التشكيلية، فلننتظر مبادرة وزارة الشؤون الثقافية بأن تنشر كل المعطيات والتقييمات المتعلقة بهذه النسخة الأولى وهل حققت مبتغاها وأهدافها.

للتذكير، تتوزع الأعمال المعروضة بين مختلف التعبيرات التشكيلية مثل الرسم، النحت، الحفر، الفوتوغرافيا، التنصيبات، وهي أعمال تعكس طيفًا واسعًا من المدارس والتقنيات. وللتذكير أيضًا، فإنّ هذا الصالون، ووفق ما جاء في الندوة الصحفية التي انتظمت يوم الجمعة 13 جوان الماضي بالمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، لن يكون مجرد معرض، بل لحظة لقاء، تلاقح، ومصالحة بين المركز والجهة، وبين الجيل القديم والجيل الجديد.

فهل تجسدت كل هذه الأهداف والطموحات، وخاصة من حيث ديناميكية المعرض، على أرض الواقع؟ في زيارة «الصباح» إلى المعرض قبل أيام من الاختتام، لاحظنا الحركية التي من أجلها انتظم المعرض. كما يمكن أن نسوق العديد من الملاحظات الشكلية والتقنية والجمالية حول هذه النسخة الأولى من المعرض الوطني للفنون التشكيلية، والتي كان من المفترض أن تُؤخذ بعين الاعتبار وأن تكون من أبجديات تنظيم المعارض.

ونقصد بالأساس ما يتعلق بأرضية المكان وبالإضاءة وتوزيع اللوحات والأعمال الفنية والتي تتعلق بالبهرج والرؤية البصرية والإخراجية من أجل استقطاب الجمهور وجذبه لمثل هذه النوعية من المعارض.

طبعًا، يُثمن كل قرار وكل خطوة من أجل البناء والإصلاح وإيجاد الحلول، لكن هذه القرارات والخطوات يجب أن تكون مدروسة أكثر بحيث توضع لها استراتيجية ورؤية تُجيب عن أسئلة محورية: ماذا نُريد أن نفعل؟ وإلى أي نقطة نُريد أن نصل؟ وما الهدف الرئيسي الذي نرجو تحقيقه من حيث عدد الزوار واللوحات والأعمال الفنية المعروضة للتسويق؟ ومن حيث العمل على التعريف بالفنانين والفنانات التشكيليين ووضعهم على سكة الإشعاع الوطني والانتشار الدولي والعربي والإقليمي، وغيرها من الأهداف والرؤى التي حتمًا الوصول إليها يتطلب عملاً جبّارًا في التنفيذ شكلاً ومضمونًا. فنحن في عصر تتسارع فيه الأحداث والتطورات التكنولوجية والتقنية والبصرية الجاذبة، فلم يعد التنظيم يقتصر على مجرد وضع لوحات على حائط أو وضع تنصيبات في فضاء العرض أو تعليق أعمال على الجدار، ثم المرور ثم ينتهي الأمر.

وقد مكنتنا زيارتنا إلى المعرض الوطني للفنون التشكيلية من الوقوف منذ الوهلة الأولى على شيء مهم وهو عامل الوقت. فعلى ما يبدو تمت عملية التنظيم بسرعة كبيرة. ففكرة التنظيم جاءت بمبادرة من وزيرة الشؤون الثقافية، وعليه تم الشروع في التنفيذ. حيث فتح باب الترشح في شهر أفريل مثلما تمّ التصريح به في الندوة الصحفية لهيئة التنظيم، ثمّ تقرر الانطلاق في عرض الأعمال الفنية المختارة في النصف الثاني من شهر جوان المنقضي. والنتيجة كانت عادية جدًا على الأقل على مستوى الشكل، فلا توجد أي تقنيات جذب ولا أي رؤية إخراجية بصرية تجعل الزائر يستمتع برحلة فنية تأخذه من عمل إلى آخر دون أن يملّ أو دون أن يغادر أيضًا بسرعة البرق. وطبعا تقنعه بشراء لوحات وأعمال فنية تتراوح أسعارها بين 500 دينار و12 ألف دينار.

تمّ توزيع اللوحات والأعمال الفنية للفنانين والفنانات المشاركين والمشاركات على طابقين، السفلي والطابق الأول. ومن المؤسف أن لا تُؤخذ فئة ذوي الإعاقة بعين الاعتبار، خاصة أنّ أغلب الأعمال وُضعت بالطابق العلوي. ففي زمن تتعالى فيه الأصوات المطالبة بشمولية الثقافة، يجب أن يراعي المعرض أيضًا مسألة وصول الجميع للمادة الثقافية، أي أن يكون مؤهلًا لاستقبال ذوي الإعاقة، سواء من خلال منحدرات، شروحات بلغة برايل، أو حتى أدلة صوتية للشرح. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ومنذ الخطوات الأولى لا تشعر بأي انبهار نحو المكان، فتمّ الإبقاء على نفس أرضية المكان أي «مربعات الجليز» العادية لدار الفنون التي تمّ إنشاؤها وتشييدها منذ سنوات طوال دون أن يتم بمناسبة المعرض إضفاء تغييرات أو تغليف الأرضية أو إثراء مظهرها بأي تزويق أو إنارة أو أي من المؤثرات البصرية.

ووضع إضاءة فنية على المكان من شأنها أن تبرز الجوانب الجمالية والفنية للأعمال واللوحات المعروضة، فكان من المفترض أن تُخصص إضاءات لكل عمل فني تُبرز جماليته، فالإضاءة العادية والطبيعية للمكان سيطرت على الأجواء العامة وغيبت أي شعور بالاستمتاع. والملفت أكثر أنه تمّ وضع آلات تبريد ضخمة أضاعت كل رؤية فنية وجمالية بقيت بالمكان كان يمكن أن يلتقطها زوار المعرض الوطني للفنون التشكيلية. بل أكثر من ذلك، واحدة من الآلات كانت موضوعة مباشرة تحت ثلاث لوحات فوتوغرافية فنية وغطت واحدة منها. ونعتقد أنه يجب أن تعي الأطراف من سلطة القرار، وجهات منظمة، وفنانين وفنانات وهيئات واتحادات وغيرها، أنّه في ظل التحولات الثقافية الكبرى التي يشهدها العالم، وفي خضم الزخم البصري الرقمي الذي بات يطغى على أذواق الجمهور، أصبحت معارض الفنون التشكيلية مطالَبة اليوم ليس فقط بأن تُعرض فيها أعمال فنية راقية، بل أن تتحول إلى تجارب حسية وجمالية متكاملة، تتجاوز مفهوم «الصالة» و»الإطار» إلى فضاء تفاعلي حيوي يحرّك وعي المتلقي ويستدرجه للمكوث والانخراط والتأمل.

هناك أسئلة بات من الضروري طرحها اليوم، ومن بينها: ما الذي يجعل من معرض تشكيلي حدثًا جماهيريًا ناجحًا؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها حتى لا يبقى المعرض حبيس النخبة، بل فضاء مفتوحًا للعموم، بمختلف فئاتهم ومستوياتهم الثقافية؟

الإجابة عن هذه التساؤلات تبدأ من الجانب الفني، لأن أي معرض، مهما بلغت تقنياته وحداثة عرضه، لا يمكن أن ينجح دون أن يكون مدعومًا بمحتوى فني صلب، متنوع ومتماسك.

فالزائر لا يبحث فقط عن «لوحات جميلة»، بل عن رؤية فنية تحاكي وجدانه، وتطرح أسئلة، وتستفز مخيلته. من هنا، يعتبر توفر خط فني أو سيمة واضحة من أهم مرتكزات المعرض الناجح، إذ تتيح للزائر قراءة الأعمال من زاوية موحدة، وتسهم في خلق تماسك بصري وفكري في تجربة التلقي.

والأهم من ذلك، أن يتم اختيار الفنانين بعناية، في مزيج متوازن بين أسماء معروفة تضمن الجذب، وأخرى صاعدة تقدم التجديد وتفتح أفقًا لمقاربات فنية جريئة وغير تقليدية. هذا الحوار بين الأجيال والأساليب يولّد ديناميكية ضرورية تخرج المعرض من الرتابة إلى الإبداع.

ثانيًا، الجانب التقني واللوجستي، لأنّ التفاصيل هي التي تصنع الفارق. فكم من معرض يزخر بأعمال فنية ثرية، لكنه يسقط عند أول اختبار تنظيمي. فالنجاح في تنظيم المعارض الفنية لا يتحقق إلا من خلال إدارة تقنية ولوجستية دقيقة تأخذ بعين الاعتبار كل تفاصيل العرض والتفاعل والتنقل داخل الفضاء.

لذلك أيضًا، تمّت الإشارة إلى الإضاءة، باعتبارها ليست فقط وسيلة إظهار، بل عنصر تكوين جمالي قائم بذاته. إضاءة غير موزونة يمكن أن تُفسد أثر لوحة أو تنزع عن العمل حسه الدرامي. أما تنظيم الفضاء، فيعني توفير تجربة سلسة للزائر، تتيح له التأمل والتنقل دون ازدحام بصري أو فوضى في التسلسل.

وإذا أردنا أن نكون أكثر تطورًا ومزاحمين لمعارض عربية ودولية حققت نجاحًا كبيرًا، فيمكن أن يتمّ العمل على إضافة التقنيات المعاصرة، كاستخدام الواقع الافتراضي (VR) أو الشاشات التفاعلية، أو رموز QR التي تمكّن الزائر من التعمق أكثر في فهم العمل، بل والتفاعل معه أحيانًا. المعرض هنا يتحول إلى مختبر تواصلي معاصر، لا مجرد جدران تحمل لوحات كما كان الأمر في النسخة الأولى للمعرض الوطني للفنون التشكيلية.

أما الجانب الثالث فيتعلق بالبُعد الجمالي والاتصالي، أي العمل على أن تُصاغ الهوية وتُستقطب الجماهير. فما لم يُرافق المعرض تصور بصري واضح لهوية المعرض، فإنه سرعان ما يضيع في زحام الأحداث الثقافية. فالملصقات، الشعار، الخط الطباعي، الموقع الإلكتروني، وحتى الحملة الإعلانية خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي وأيضًا مختلف وسائل الإعلام، كلها ليست مسائل تكميلية، بل مكونات أساسية لخلق الهوية البصرية للمعرض.

إلى جانب ذلك، وفي أغلب المعارض الفنية، أصبح من الضروري تحويل الفضاء الثقافي إلى مسرح متعدد التجليات بتنظيم ورشات عمل، ندوات فكرية، عروض فنية حيّة، حوارات مع الفنانين وغيرها. كل ذلك يضيف طبقات من التفاعل والتأمل، ويمنح المعرض عمقًا يتجاوز مجرد التلقي البصري.

أما الموقع الجغرافي للمعرض، فيلعب دورًا حاسمًا، إذ يرى العديد من المتابعين أنه يجب أن يكون سهل الوصول، مدعومًا بمرافق مريحة، ومتصلاً بوسائل النقل العام، أو يحتوي على فضاءات مكملة كالمقاهي والمكتبات والمعارض الجانبية.

وقد أثبتت تجارب فنية بارزة في الوطن العربي والعالم أن النجاح الجماهيري لا يأتي فقط من وفرة الأعمال الفنية، بل من تكامل عناصر العرض والتنظيم والتواصل مع الجمهور. ففي العالم العربي، يُعد بينالي الشارقة من التجارب الرائدة، ليس فقط من حيث مستوى الأعمال، بل أيضًا من حيث السينوغرافيا المتقنة، والانفتاح على قضايا عالمية معاصرة جعلت منه منصة دولية للحوار الثقافي والفني. وفي الإمارات كذلك، يبرز معرض «آرت جميل» في دبي كمثال على كيفية تحويل المعرض إلى تجربة تعليمية وتفاعلية، خاصة عبر انفتاحه على الشباب، وتقديمه برامج موازية تربط الفن بالمجتمع. أما في مصر، فقد استطاع «Art Cairo» أن يستقطب جمهورًا عريضًا عبر دمج البعد التجاري للفن مع البعد الثقافي، من خلال فضاء يجمع بين سوق الفن وبرامج فكرية وفنية مصاحبة. وفي المغرب، يُعد معرض الفن المعاصر في الرباط تجربة متميزة راهنت على إدماج جمهور الأطفال واليافعين ضمن البرنامج الموازي، مما وسّع قاعدة التلقي ورسّخ أهمية الفن في التربية الجمالية.

أما في الجزائر، فقد رسّخ متحف الفن الحديث والمعاصر (MAMA) مكانته كواحد من أبرز الفضاءات الثقافية الحديثة، بفضل تنوع برمجته واعتماده على التفاعل المستمر مع الجمهور، من خلال معارض دائمة وأخرى متجددة تستدعي النقاش. وعلى الصعيد الدولي، تبقى تجارب مثل «Documenta» في مدينة كاسل الألمانية نموذجًا فريدًا، حيث تتحول المدينة بأكملها إلى معرض مفتوح كل خمس سنوات، في تجربة حضارية تمزج بين الفن والحياة والبحث الاجتماعي والفلسفي. أما «بينالي البندقية»، أقدم وأعرق الفعاليات الفنية في العالم، فيقدّم مثالًا حيًّا عن المعرض الذي يتحول إلى مشهدية دولية شاملة، تمثل فيها الدول نفسها من خلال الأجنحة الفنية. وفي سويسرا، تظل «Art Basel»، التي تُقام أيضًا في ميامي وهونغ كونغ، أهم سوق دولي للفن المعاصر، حيث تُعرض الأعمال ضمن فضاء بصري راقٍ، يدمج بين الطابع التجاري والحضور الثقافي الرفيع.

وتشهد تونس تنظيم العديد من المعارض، ونذكر من أبرزها المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين الذي يقام في قصر تاريخي مميز بالمدينة العتيقة بالعاصمة، ونعني به قصر خير الدين، وتحتفي بلادنا سنويًا بشهر الفنون التشكيلية، وهناك مبادرات أخرى عديدة، لكن نحتاج لبذل جهد أكبر خاصة في باب إضفاء مشهدية بصرية على الحدث تعكس جمالية العمل المعروض وأثره وفلسفته.

إيمان عبد اللطيف

 

انطلق يوم 14 جوان ويختتم هذا السبت..   الدورة التأسيسية للمعرض الوطني للفنون التشكيلية..   هل حققت هدفها المعلن في كسر اللامركزية؟

 

  • النجاح في تنظيم المعارض الفنية لا يتحقق إلا من خلال إدارة تقنية ولوجستية دقيقة. تجارب فنية بارزة في الوطن العربي والعالم تؤكد أن النجاح الجماهيري لا يأتي من فراغ، بل من تكامل عناصر العرض والتنظيم والتواصل.

  • تقنيات الجذب والرؤية الإخراجية البصرية أصبحت أكثر من ضرورية.

  • في خضم التحولات الكبرى أصبحت معارض الفنون التشكيلية مطالَبة اليوم ليس فقط بأن تُعرض فيها أعمال فنية راقية، بل أن تتحول إلى تجارب حسية وجمالية متكاملة.

  • الإضاءة ليست وسيلة إظهار فقط، بل عنصر تكوين جمالي قائم بذاته. وإضاءة غير موزونة يمكن أن تُفسد أثر لوحة أو تنزع عن العمل حسه الدرامي.

يختتم غدًا السبت 5 جويلية الجاري المعرض الوطني للفنون التشكيلية في دورته الأولى، والذي انطلقت فعالياته منذ يوم 14 جوان الماضي بدار الفنون بالبلفدير بالعاصمة، وبمشاركة 64 فنانًا وفنانة تشكيلية عرضوا 84 عملاً فنيًا وتمّ اختيارهم من حوالي 180 مترشحًا عبر لجنة فنية مختصة. هذا المعرض في نسخته الأولى، والذي نظمته وزارة الشؤون الثقافية وجاء بمبادرة من الوزيرة أمينة الصرارفي، والذي من المنتظر أن تعقد دورته الثانية في جانفي من سنة 2026، كان الغرض منه أن لا يكون فقط ضمن روزنامة المعارض الفنية، بل سبيلا للاعتراف بالفنانين التشكيليين في الجهات كفاعلين حقيقيين في الحقل الثقافي التونسي. فهل تحققت هذه الغايات من تنظيم المعرض؟ وهل حضر الجمهور؟ وهل حدث التفاعل المنتظر؟

ربما من السابق لأوانه أن نتحدث عن عدد زوار المعرض الوطني للفنون التشكيلية، فلننتظر مبادرة وزارة الشؤون الثقافية بأن تنشر كل المعطيات والتقييمات المتعلقة بهذه النسخة الأولى وهل حققت مبتغاها وأهدافها.

للتذكير، تتوزع الأعمال المعروضة بين مختلف التعبيرات التشكيلية مثل الرسم، النحت، الحفر، الفوتوغرافيا، التنصيبات، وهي أعمال تعكس طيفًا واسعًا من المدارس والتقنيات. وللتذكير أيضًا، فإنّ هذا الصالون، ووفق ما جاء في الندوة الصحفية التي انتظمت يوم الجمعة 13 جوان الماضي بالمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر، لن يكون مجرد معرض، بل لحظة لقاء، تلاقح، ومصالحة بين المركز والجهة، وبين الجيل القديم والجيل الجديد.

فهل تجسدت كل هذه الأهداف والطموحات، وخاصة من حيث ديناميكية المعرض، على أرض الواقع؟ في زيارة «الصباح» إلى المعرض قبل أيام من الاختتام، لاحظنا الحركية التي من أجلها انتظم المعرض. كما يمكن أن نسوق العديد من الملاحظات الشكلية والتقنية والجمالية حول هذه النسخة الأولى من المعرض الوطني للفنون التشكيلية، والتي كان من المفترض أن تُؤخذ بعين الاعتبار وأن تكون من أبجديات تنظيم المعارض.

ونقصد بالأساس ما يتعلق بأرضية المكان وبالإضاءة وتوزيع اللوحات والأعمال الفنية والتي تتعلق بالبهرج والرؤية البصرية والإخراجية من أجل استقطاب الجمهور وجذبه لمثل هذه النوعية من المعارض.

طبعًا، يُثمن كل قرار وكل خطوة من أجل البناء والإصلاح وإيجاد الحلول، لكن هذه القرارات والخطوات يجب أن تكون مدروسة أكثر بحيث توضع لها استراتيجية ورؤية تُجيب عن أسئلة محورية: ماذا نُريد أن نفعل؟ وإلى أي نقطة نُريد أن نصل؟ وما الهدف الرئيسي الذي نرجو تحقيقه من حيث عدد الزوار واللوحات والأعمال الفنية المعروضة للتسويق؟ ومن حيث العمل على التعريف بالفنانين والفنانات التشكيليين ووضعهم على سكة الإشعاع الوطني والانتشار الدولي والعربي والإقليمي، وغيرها من الأهداف والرؤى التي حتمًا الوصول إليها يتطلب عملاً جبّارًا في التنفيذ شكلاً ومضمونًا. فنحن في عصر تتسارع فيه الأحداث والتطورات التكنولوجية والتقنية والبصرية الجاذبة، فلم يعد التنظيم يقتصر على مجرد وضع لوحات على حائط أو وضع تنصيبات في فضاء العرض أو تعليق أعمال على الجدار، ثم المرور ثم ينتهي الأمر.

وقد مكنتنا زيارتنا إلى المعرض الوطني للفنون التشكيلية من الوقوف منذ الوهلة الأولى على شيء مهم وهو عامل الوقت. فعلى ما يبدو تمت عملية التنظيم بسرعة كبيرة. ففكرة التنظيم جاءت بمبادرة من وزيرة الشؤون الثقافية، وعليه تم الشروع في التنفيذ. حيث فتح باب الترشح في شهر أفريل مثلما تمّ التصريح به في الندوة الصحفية لهيئة التنظيم، ثمّ تقرر الانطلاق في عرض الأعمال الفنية المختارة في النصف الثاني من شهر جوان المنقضي. والنتيجة كانت عادية جدًا على الأقل على مستوى الشكل، فلا توجد أي تقنيات جذب ولا أي رؤية إخراجية بصرية تجعل الزائر يستمتع برحلة فنية تأخذه من عمل إلى آخر دون أن يملّ أو دون أن يغادر أيضًا بسرعة البرق. وطبعا تقنعه بشراء لوحات وأعمال فنية تتراوح أسعارها بين 500 دينار و12 ألف دينار.

تمّ توزيع اللوحات والأعمال الفنية للفنانين والفنانات المشاركين والمشاركات على طابقين، السفلي والطابق الأول. ومن المؤسف أن لا تُؤخذ فئة ذوي الإعاقة بعين الاعتبار، خاصة أنّ أغلب الأعمال وُضعت بالطابق العلوي. ففي زمن تتعالى فيه الأصوات المطالبة بشمولية الثقافة، يجب أن يراعي المعرض أيضًا مسألة وصول الجميع للمادة الثقافية، أي أن يكون مؤهلًا لاستقبال ذوي الإعاقة، سواء من خلال منحدرات، شروحات بلغة برايل، أو حتى أدلة صوتية للشرح. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ومنذ الخطوات الأولى لا تشعر بأي انبهار نحو المكان، فتمّ الإبقاء على نفس أرضية المكان أي «مربعات الجليز» العادية لدار الفنون التي تمّ إنشاؤها وتشييدها منذ سنوات طوال دون أن يتم بمناسبة المعرض إضفاء تغييرات أو تغليف الأرضية أو إثراء مظهرها بأي تزويق أو إنارة أو أي من المؤثرات البصرية.

ووضع إضاءة فنية على المكان من شأنها أن تبرز الجوانب الجمالية والفنية للأعمال واللوحات المعروضة، فكان من المفترض أن تُخصص إضاءات لكل عمل فني تُبرز جماليته، فالإضاءة العادية والطبيعية للمكان سيطرت على الأجواء العامة وغيبت أي شعور بالاستمتاع. والملفت أكثر أنه تمّ وضع آلات تبريد ضخمة أضاعت كل رؤية فنية وجمالية بقيت بالمكان كان يمكن أن يلتقطها زوار المعرض الوطني للفنون التشكيلية. بل أكثر من ذلك، واحدة من الآلات كانت موضوعة مباشرة تحت ثلاث لوحات فوتوغرافية فنية وغطت واحدة منها. ونعتقد أنه يجب أن تعي الأطراف من سلطة القرار، وجهات منظمة، وفنانين وفنانات وهيئات واتحادات وغيرها، أنّه في ظل التحولات الثقافية الكبرى التي يشهدها العالم، وفي خضم الزخم البصري الرقمي الذي بات يطغى على أذواق الجمهور، أصبحت معارض الفنون التشكيلية مطالَبة اليوم ليس فقط بأن تُعرض فيها أعمال فنية راقية، بل أن تتحول إلى تجارب حسية وجمالية متكاملة، تتجاوز مفهوم «الصالة» و»الإطار» إلى فضاء تفاعلي حيوي يحرّك وعي المتلقي ويستدرجه للمكوث والانخراط والتأمل.

هناك أسئلة بات من الضروري طرحها اليوم، ومن بينها: ما الذي يجعل من معرض تشكيلي حدثًا جماهيريًا ناجحًا؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها حتى لا يبقى المعرض حبيس النخبة، بل فضاء مفتوحًا للعموم، بمختلف فئاتهم ومستوياتهم الثقافية؟

الإجابة عن هذه التساؤلات تبدأ من الجانب الفني، لأن أي معرض، مهما بلغت تقنياته وحداثة عرضه، لا يمكن أن ينجح دون أن يكون مدعومًا بمحتوى فني صلب، متنوع ومتماسك.

فالزائر لا يبحث فقط عن «لوحات جميلة»، بل عن رؤية فنية تحاكي وجدانه، وتطرح أسئلة، وتستفز مخيلته. من هنا، يعتبر توفر خط فني أو سيمة واضحة من أهم مرتكزات المعرض الناجح، إذ تتيح للزائر قراءة الأعمال من زاوية موحدة، وتسهم في خلق تماسك بصري وفكري في تجربة التلقي.

والأهم من ذلك، أن يتم اختيار الفنانين بعناية، في مزيج متوازن بين أسماء معروفة تضمن الجذب، وأخرى صاعدة تقدم التجديد وتفتح أفقًا لمقاربات فنية جريئة وغير تقليدية. هذا الحوار بين الأجيال والأساليب يولّد ديناميكية ضرورية تخرج المعرض من الرتابة إلى الإبداع.

ثانيًا، الجانب التقني واللوجستي، لأنّ التفاصيل هي التي تصنع الفارق. فكم من معرض يزخر بأعمال فنية ثرية، لكنه يسقط عند أول اختبار تنظيمي. فالنجاح في تنظيم المعارض الفنية لا يتحقق إلا من خلال إدارة تقنية ولوجستية دقيقة تأخذ بعين الاعتبار كل تفاصيل العرض والتفاعل والتنقل داخل الفضاء.

لذلك أيضًا، تمّت الإشارة إلى الإضاءة، باعتبارها ليست فقط وسيلة إظهار، بل عنصر تكوين جمالي قائم بذاته. إضاءة غير موزونة يمكن أن تُفسد أثر لوحة أو تنزع عن العمل حسه الدرامي. أما تنظيم الفضاء، فيعني توفير تجربة سلسة للزائر، تتيح له التأمل والتنقل دون ازدحام بصري أو فوضى في التسلسل.

وإذا أردنا أن نكون أكثر تطورًا ومزاحمين لمعارض عربية ودولية حققت نجاحًا كبيرًا، فيمكن أن يتمّ العمل على إضافة التقنيات المعاصرة، كاستخدام الواقع الافتراضي (VR) أو الشاشات التفاعلية، أو رموز QR التي تمكّن الزائر من التعمق أكثر في فهم العمل، بل والتفاعل معه أحيانًا. المعرض هنا يتحول إلى مختبر تواصلي معاصر، لا مجرد جدران تحمل لوحات كما كان الأمر في النسخة الأولى للمعرض الوطني للفنون التشكيلية.

أما الجانب الثالث فيتعلق بالبُعد الجمالي والاتصالي، أي العمل على أن تُصاغ الهوية وتُستقطب الجماهير. فما لم يُرافق المعرض تصور بصري واضح لهوية المعرض، فإنه سرعان ما يضيع في زحام الأحداث الثقافية. فالملصقات، الشعار، الخط الطباعي، الموقع الإلكتروني، وحتى الحملة الإعلانية خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي وأيضًا مختلف وسائل الإعلام، كلها ليست مسائل تكميلية، بل مكونات أساسية لخلق الهوية البصرية للمعرض.

إلى جانب ذلك، وفي أغلب المعارض الفنية، أصبح من الضروري تحويل الفضاء الثقافي إلى مسرح متعدد التجليات بتنظيم ورشات عمل، ندوات فكرية، عروض فنية حيّة، حوارات مع الفنانين وغيرها. كل ذلك يضيف طبقات من التفاعل والتأمل، ويمنح المعرض عمقًا يتجاوز مجرد التلقي البصري.

أما الموقع الجغرافي للمعرض، فيلعب دورًا حاسمًا، إذ يرى العديد من المتابعين أنه يجب أن يكون سهل الوصول، مدعومًا بمرافق مريحة، ومتصلاً بوسائل النقل العام، أو يحتوي على فضاءات مكملة كالمقاهي والمكتبات والمعارض الجانبية.

وقد أثبتت تجارب فنية بارزة في الوطن العربي والعالم أن النجاح الجماهيري لا يأتي فقط من وفرة الأعمال الفنية، بل من تكامل عناصر العرض والتنظيم والتواصل مع الجمهور. ففي العالم العربي، يُعد بينالي الشارقة من التجارب الرائدة، ليس فقط من حيث مستوى الأعمال، بل أيضًا من حيث السينوغرافيا المتقنة، والانفتاح على قضايا عالمية معاصرة جعلت منه منصة دولية للحوار الثقافي والفني. وفي الإمارات كذلك، يبرز معرض «آرت جميل» في دبي كمثال على كيفية تحويل المعرض إلى تجربة تعليمية وتفاعلية، خاصة عبر انفتاحه على الشباب، وتقديمه برامج موازية تربط الفن بالمجتمع. أما في مصر، فقد استطاع «Art Cairo» أن يستقطب جمهورًا عريضًا عبر دمج البعد التجاري للفن مع البعد الثقافي، من خلال فضاء يجمع بين سوق الفن وبرامج فكرية وفنية مصاحبة. وفي المغرب، يُعد معرض الفن المعاصر في الرباط تجربة متميزة راهنت على إدماج جمهور الأطفال واليافعين ضمن البرنامج الموازي، مما وسّع قاعدة التلقي ورسّخ أهمية الفن في التربية الجمالية.

أما في الجزائر، فقد رسّخ متحف الفن الحديث والمعاصر (MAMA) مكانته كواحد من أبرز الفضاءات الثقافية الحديثة، بفضل تنوع برمجته واعتماده على التفاعل المستمر مع الجمهور، من خلال معارض دائمة وأخرى متجددة تستدعي النقاش. وعلى الصعيد الدولي، تبقى تجارب مثل «Documenta» في مدينة كاسل الألمانية نموذجًا فريدًا، حيث تتحول المدينة بأكملها إلى معرض مفتوح كل خمس سنوات، في تجربة حضارية تمزج بين الفن والحياة والبحث الاجتماعي والفلسفي. أما «بينالي البندقية»، أقدم وأعرق الفعاليات الفنية في العالم، فيقدّم مثالًا حيًّا عن المعرض الذي يتحول إلى مشهدية دولية شاملة، تمثل فيها الدول نفسها من خلال الأجنحة الفنية. وفي سويسرا، تظل «Art Basel»، التي تُقام أيضًا في ميامي وهونغ كونغ، أهم سوق دولي للفن المعاصر، حيث تُعرض الأعمال ضمن فضاء بصري راقٍ، يدمج بين الطابع التجاري والحضور الثقافي الرفيع.

وتشهد تونس تنظيم العديد من المعارض، ونذكر من أبرزها المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين الذي يقام في قصر تاريخي مميز بالمدينة العتيقة بالعاصمة، ونعني به قصر خير الدين، وتحتفي بلادنا سنويًا بشهر الفنون التشكيلية، وهناك مبادرات أخرى عديدة، لكن نحتاج لبذل جهد أكبر خاصة في باب إضفاء مشهدية بصرية على الحدث تعكس جمالية العمل المعروض وأثره وفلسفته.

إيمان عبد اللطيف