الروائي شفيق الطارقي لـ"الصباح": بعد الكومار الذهبي معركتي مع نفسي ومع أدواتي الفنية
مقالات الصباح
شفيق الطارقي بدأ مسيرته مع الكتابة شاعرًا، ليغيّر الاتجاه إلى الرواية، مؤسسًا من خلالها رؤيته الخاصة به في الكتابة السردية، رؤية قوامها الأساسي الغوص في أعماق الذات، وتشريح تفاصيلها، وكشف غموضها، واستكشاف أسرارها. لم يكن فوزه بالكومار الذهبي عن روايته «لمن تجمع وردك يا مكرم» مفاجأة، فقد أجمع النقاد على أن هذه الرواية هي كتابة جديدة للرواية في تونس وعلى المستوى العربي، حيث يلتقي فيها السياسي بالوجودي، بلغة شعرية وجمالية سينمائية.
شفيق الطارقي التقته «الصباح» في حوار، هذه حصيلته:
*هل الكتابة قدر نبحث عنه، أم قدر مسلّط؟
- أعتقد أن الإجابة عن سؤال الكتابة أشد تعقيدًا من أن نختزله في ما إذا كان المرء يسعى إليها أم أنها من قبيل القدر المسلّط. وإذا ملنا إلى الموازنة، أمكننا القول إنّ العلاقة بين الكاتب وفعل الكتابة قدر لا يكتمل إلا بشروط موضوعية لابد من توفرها، ليكون هذا القدر منجزًا، متجليًا، وأثرًا مقيمًا في الذاكرة الإنسانية. قد يولد الإنسان موهوبًا باستعدادات طبيعية تجعله مؤهّلًا أكثر من غيره ليكتب، وليقيم علاقات جديدة بين الكلمات على غير المألوف، ولينصت إلى العالم بطريقة خاصة، وليلتقط ويرى ما لا يراه الآخرون. غير أن هذه الهبة الطبيعية لابد لها من معين معرفي، ومن وعي بالقوانين الشكلية والجمالية، ومن نهل من النصوص السابقة نهلًا متنوعًا. فالكاتب الموهوب دون زاد من المقروء لن يمضي بعيدًا، والكاتب العالِم دون موهبة سيجيء بنصوص لا روح فيها.
إن الناظر في سير الكتّاب المؤثرين سيرى أنهم قد جمعوا بين ثلاثة عناصر أساسية: الموهبة، والمعرفة، والتجربة. المختص في الشعر لا يكون بالضرورة شاعرًا، والمختص بالرواية لا يكون روائيًا بالضرورة، ولكنّ الشاعر أو الروائي إذا تعمق في نظرية الشعر وفي نظرية الرواية، أضاف وتطوّر، وجاء بالإبداع الخالص.
وفيما يخصني، فأنا لم أسعَ إلى الكتابة، فأحلامي وأنا صغير أبعد ما تكون عن عوالمها، فهي من هذه الجهة قدر ارتضيته، وسعيت من جهتي إلى تطويقه بما يجب من قراءات ومن معارف، وتوفرت لي تجارب أهدتني إياها الحياة، كان لها دورها في تطعيم الموهبة.
* بماذا تحتفظ ذاكرتك عن أول نص كتبته؟
- إذا كان المقصود بأول النصوص أولها بالمعنى الذاتي، فأنا لا أتذكر أول نصوصي، لأنني بدأت الكتابة في سن المراهقة، وفضلًا عن تميّزي في كتابة المواضيع المدرسية، فإنني قد وجدتني أكتب بعد دراستي للعروض أشعارًا موزونة، وجاءت النصوص تباعًا في شكل نتف ومقاطع، ثم في شكل قصائد تامة. وإذا قصد السؤال أول نصوصي المنشورة، فقد نشرت في مجال الشعر قبل أن ألج عالم الرواية. كان الإحساس في الحالين إحساسًا مفعمًا بالنشوة من جهة، وبالخوف والمهابة من جهة أخرى، وأتصور أنني حتى اليوم مازلت بين هذا الزوج الشعوري إزاء كل ما أكتب. فلا يجب، مهما بلغنا من التمكّن، أن نطمئن لما نكتب. الكتابة سعي للكمال، ولكنها لا تنشأ إلا داخل النقصان.
* ما هو المحرّك الأساسي لكل نص تسعى إلى كتابته؟
- هناك عناصر متعددة ومتبدّلة تمثل لنا محفزات على الكتابة. لا يمكنني، في واقع الأمر، اختزالها في شخص واحد أو في غاية، ولكنّ أشخاصًا يظل لهم أثرهم المتجدد في مسيرتنا، من قبيل الجدّة، والوالدين، والحبيبة، والبنت، وهؤلاء هم الخماسي الذي يؤطر حياتي عاطفيًا ورمزيًا. فأنا أكتب لأنني أحبهم. ومن جهة أخرى، فإن محفزي اليوم على الكتابة هو ابتناء مشروع سردي خاص يكون مغايرًا، ومختلفًا، ومنشّقًا، ويكون إضافة حقيقية على المستوى الوطني والعربي والعالمي إذا امتد بنا العمر وتطورت التجربة. لا أريد أن أكون عابرًا أو أن أكتب لأسجل حضوري الثقافي هنا وهناك، بل لأسجل حضوري في تاريخ الكتابة. طموحي كبير، وأعتقد أنني أخطط له بذكاء، وأوفر له ما يستحق من أدوات معرفية ومن أسباب.
* ما هي الرسائل التي تسعى إلى إيصالها من خلال كتاباتك؟
- لا يخلو الأدب من رسائل يريد إبلاغها، رغم أنه يراهن بالأساس على ما هو فني. وإذا كان لما كتبته من هاجس مشترك، فهو إنساني عام. إنني أنتصر للإنسان، وللقيمة، وللمعنى. أنتصر للجمال، وما نقدي للواقع ولنماذجه السالبة في عالم الثقافة وفي الاجتماع والسياسة، إلا دعوة مبطنة إلى الإصلاح، لا بمعنى أخلاقي، ولكن من موقع الرؤية الجمالية. سخريتي جارحة، تعري الأشياء، وتشير إليها بوضوح، وفيها دعوة لأن نكون حقيقيين، وأن نرتقي بالأداء الوجودي كأفراد وكجماعات.
* إلى أي مدى يمكن للرواية أن تُضمّد نزيف الكاتب والقارئ على حد سواء؟
- في مرحلة ما، تتحول الكتابة إلى صيدلية، يسعى الكاتب إلى أن يتعافى عبرها، وكذلك القارئ. إنها مشروع فني لابد له من رؤية، وتخطيط، واستهداف لغايات واضحة ومحددة. لعلني في البدايات كنت أكتب لأتعافى، ولكن ما يهمني اليوم هو أن أطور تجربتي، وأن أذهب بها إلى آفاقها الممكنة.
* كيف علينا أن نقرأ الرواية اليوم؟ هل هي نافذة مفتوحة نطل من خلالها على أفكار وقناعات صاحبها، أم أفكار ومواقف متداولة بين الناس يعمل الروائي على توثيقها بقلمه؟
- ليس مهمًا أن نحدد الطريقة التي نقرأ بها الرواية، ولا أن نحدد الطريقة التي علينا أن نكتب بها الرواية. علينا، ببساطة، أن نقرأ، وسيجد كل منا في ما يقرأ واقعًا ما يمثله. فإذا كانت غاية الناقد من الرواية ظواهرها الفنية وتقنياتها، فإن القارئ العادي يريد المتعة، وأن يرى بعضًا من نفسه في شخصية ما، وبعضًا من واقعه. الكاتب لا يسلّط مواقفه على القارئ، إنه يُلبس شخصياته أفكارًا متعارضة أحيانًا، وعلى هذا الأساس، فالرواية دعوة إلى أن نجادل أنفسنا، إلى الجدل الذاتي.
* أشرت في أحد حواراتك بعد التتويج منذ أيام بالكومار الذهبي عن روايتك «لمن تجمع وردك يا مكرم» أنك كنت «في موقف صعب». هل قَدَرُ الكاتب اليوم «المعارك» التي لا تتوقف ولا تنتهي؟
- جاء التتويج بالكومار الذهبي بعد تتويج عربي بجائزة دبي الثقافية، ليجعلني أمام مسؤولية فنية وتاريخية، وهذا ما قصدته بالصعوبة. عليّ، بعد هذا الاعتراف لما أكتب بالتميز عربيًا ووطنيًا، أن أكون، فيما سأنشر لاحقًا، مضيفًا ومقنعًا. فأنا الآن تحت المجهر، وعليّ أن أؤكد لمن آمن ووثق، ولمن شكك، أنني على قدر المسؤولية. إذن فمعركتي مع نفسي ومع أدواتي الفنية قبل كل شيء. الصراعات في المشهد الثقافي لا تعنيني، ومن الطبيعي أن ينال التتويج بالكومار الذهبي، بعد تتويج عربي بجائزة دبي الثقافية، هذا الثقل في المسؤولية الفنية والتاريخية، وهذا ما قصدته بالصعوبة. عليّ، بعد هذا الاعتراف لما أكتب بالتميز عربيًا ووطنيًا، أن أكون، فيما سأنشر لاحقًا، مضيفًا ومقنعًا. فأنا الآن تحت المجهر، وعليّ أن أؤكد لمن آمن ووثق، ولمن شكك، أنني على قدر المسؤولية. إذن، فمعركتي مع نفسي ومع أدواتي الفنية قبل كل شيء. الصراعات في المشهد الثقافي لا تعنيني، ومن الطبيعي أن ينال المبدع رضاء البعض ومحبتهم، وأن يستعديه آخرون ويبخسون إنجازه. ما أؤمن به هو العمل والفعل.
* ماذا يمكن أن تضيف الجوائز للكاتب من وجهة نظرك؟ وكيف تفسر كونها، كما سبق أن أشرت، «من ضرورات الحداثة»؟
- لولا الجائزة، لما كان مثل هذا الحوار مع شفيق الطارقي. لقد نُشرت الرواية منذ أشهر، ولم ينتبه أحد إليها، ولا أتذكر أن صحفيًا حاورني، أو أن إذاعة دعتني إلى موجات أثيرها. وها إنني اليوم أحضر، وها إن نصي يجد سبلًا أوسع نحو القراء والمراجعات. وعليه، فإن للجائزة فعلها حتى قبل صدور الكتاب؛ فقد سبق أن فازت روايتي الأولى بدبي الثقافية مخطوطًا، ونالت قبل نشرها العناية. الجائزة استحقاق، ولا أسعى إليها في حد ذاتها، ولكنها ضرورة ليُحلّق النص، وليُقرأ على نطاق أوسع. وليس الأمر بيسير.
فازت «لافازا» بتتويج عربي من بين 79 نصًا من كل البلاد العربية، وأجازته لجنة مؤلفة من حيدر حيدر، وواسيني الأعرج، ونبيل سليمان. وتوّجت «لمن تجمع وردك يا مكرم» بإجماع لجنة مؤلفة من نقاد ومبدعين، رغم اختلاف اختصاصاتهم واختلاف أذواقهم. الجائزة تنافس، والاعتراف لكاتب مرتين، عربيًا ووطنيًا، وسام حقيقي. يمكن أن يحصل على رضاء البعض ومحبتهم، ويمكن أن يستعديه آخرون ويبخسون إنجازه. روايتي المتوجة متميزة بلغتها التي جمعت بين الشعرية والواقعية، وبسخريتها التي تدفعك في الوقت نفسه إلى الضحك والبكاء، ومميزة ببنيتها السردية المحكمة، وبتقنياتها العالية، وبمواضيعها المتعددة، حيث الثقافي والاجتماعي والسياسي والوجودي. إنها رواية السياسي والوجودي. إنها رواية مكثفة، بتقنيات كتابة شعرية وسينمائية.
* كيف هي علاقتك بالنقد؟ وإلى أي حد يمكن القول إنه أنصف تجربتك الروائية؟
- النقاد مشغولون في تونس عن النصوص الحقيقية ببدلاتهم، وبنظاراتهم المقعّرة، وبمجاملاتهم للصديقات والأصدقاء، وبالندوات المأجورة، وباسترضاء من يريدون رضاهم. لا أحد ينتبه. ومتى استثنيتُ دراسة واحدة حول «لافازا»، فالتونسيون لم يكتبوا حول ما نشرتُ، مما كسب الاعتراف والتبجيل، في حين أنهم يغدقون بكرم على نصوص لا أحد يسمع بها غير كتّابها، بل إن بعضهم يمجّدها، ويجعلها ضمن البرامج الجامعية. أتفهّم كل هذا، وهو يضحكني ويحفّزني أكثر. سأكتب وأضيف، هذا ما عليّ.
حاوره محسن بن أحمد
شفيق الطارقي بدأ مسيرته مع الكتابة شاعرًا، ليغيّر الاتجاه إلى الرواية، مؤسسًا من خلالها رؤيته الخاصة به في الكتابة السردية، رؤية قوامها الأساسي الغوص في أعماق الذات، وتشريح تفاصيلها، وكشف غموضها، واستكشاف أسرارها. لم يكن فوزه بالكومار الذهبي عن روايته «لمن تجمع وردك يا مكرم» مفاجأة، فقد أجمع النقاد على أن هذه الرواية هي كتابة جديدة للرواية في تونس وعلى المستوى العربي، حيث يلتقي فيها السياسي بالوجودي، بلغة شعرية وجمالية سينمائية.
شفيق الطارقي التقته «الصباح» في حوار، هذه حصيلته:
*هل الكتابة قدر نبحث عنه، أم قدر مسلّط؟
- أعتقد أن الإجابة عن سؤال الكتابة أشد تعقيدًا من أن نختزله في ما إذا كان المرء يسعى إليها أم أنها من قبيل القدر المسلّط. وإذا ملنا إلى الموازنة، أمكننا القول إنّ العلاقة بين الكاتب وفعل الكتابة قدر لا يكتمل إلا بشروط موضوعية لابد من توفرها، ليكون هذا القدر منجزًا، متجليًا، وأثرًا مقيمًا في الذاكرة الإنسانية. قد يولد الإنسان موهوبًا باستعدادات طبيعية تجعله مؤهّلًا أكثر من غيره ليكتب، وليقيم علاقات جديدة بين الكلمات على غير المألوف، ولينصت إلى العالم بطريقة خاصة، وليلتقط ويرى ما لا يراه الآخرون. غير أن هذه الهبة الطبيعية لابد لها من معين معرفي، ومن وعي بالقوانين الشكلية والجمالية، ومن نهل من النصوص السابقة نهلًا متنوعًا. فالكاتب الموهوب دون زاد من المقروء لن يمضي بعيدًا، والكاتب العالِم دون موهبة سيجيء بنصوص لا روح فيها.
إن الناظر في سير الكتّاب المؤثرين سيرى أنهم قد جمعوا بين ثلاثة عناصر أساسية: الموهبة، والمعرفة، والتجربة. المختص في الشعر لا يكون بالضرورة شاعرًا، والمختص بالرواية لا يكون روائيًا بالضرورة، ولكنّ الشاعر أو الروائي إذا تعمق في نظرية الشعر وفي نظرية الرواية، أضاف وتطوّر، وجاء بالإبداع الخالص.
وفيما يخصني، فأنا لم أسعَ إلى الكتابة، فأحلامي وأنا صغير أبعد ما تكون عن عوالمها، فهي من هذه الجهة قدر ارتضيته، وسعيت من جهتي إلى تطويقه بما يجب من قراءات ومن معارف، وتوفرت لي تجارب أهدتني إياها الحياة، كان لها دورها في تطعيم الموهبة.
* بماذا تحتفظ ذاكرتك عن أول نص كتبته؟
- إذا كان المقصود بأول النصوص أولها بالمعنى الذاتي، فأنا لا أتذكر أول نصوصي، لأنني بدأت الكتابة في سن المراهقة، وفضلًا عن تميّزي في كتابة المواضيع المدرسية، فإنني قد وجدتني أكتب بعد دراستي للعروض أشعارًا موزونة، وجاءت النصوص تباعًا في شكل نتف ومقاطع، ثم في شكل قصائد تامة. وإذا قصد السؤال أول نصوصي المنشورة، فقد نشرت في مجال الشعر قبل أن ألج عالم الرواية. كان الإحساس في الحالين إحساسًا مفعمًا بالنشوة من جهة، وبالخوف والمهابة من جهة أخرى، وأتصور أنني حتى اليوم مازلت بين هذا الزوج الشعوري إزاء كل ما أكتب. فلا يجب، مهما بلغنا من التمكّن، أن نطمئن لما نكتب. الكتابة سعي للكمال، ولكنها لا تنشأ إلا داخل النقصان.
* ما هو المحرّك الأساسي لكل نص تسعى إلى كتابته؟
- هناك عناصر متعددة ومتبدّلة تمثل لنا محفزات على الكتابة. لا يمكنني، في واقع الأمر، اختزالها في شخص واحد أو في غاية، ولكنّ أشخاصًا يظل لهم أثرهم المتجدد في مسيرتنا، من قبيل الجدّة، والوالدين، والحبيبة، والبنت، وهؤلاء هم الخماسي الذي يؤطر حياتي عاطفيًا ورمزيًا. فأنا أكتب لأنني أحبهم. ومن جهة أخرى، فإن محفزي اليوم على الكتابة هو ابتناء مشروع سردي خاص يكون مغايرًا، ومختلفًا، ومنشّقًا، ويكون إضافة حقيقية على المستوى الوطني والعربي والعالمي إذا امتد بنا العمر وتطورت التجربة. لا أريد أن أكون عابرًا أو أن أكتب لأسجل حضوري الثقافي هنا وهناك، بل لأسجل حضوري في تاريخ الكتابة. طموحي كبير، وأعتقد أنني أخطط له بذكاء، وأوفر له ما يستحق من أدوات معرفية ومن أسباب.
* ما هي الرسائل التي تسعى إلى إيصالها من خلال كتاباتك؟
- لا يخلو الأدب من رسائل يريد إبلاغها، رغم أنه يراهن بالأساس على ما هو فني. وإذا كان لما كتبته من هاجس مشترك، فهو إنساني عام. إنني أنتصر للإنسان، وللقيمة، وللمعنى. أنتصر للجمال، وما نقدي للواقع ولنماذجه السالبة في عالم الثقافة وفي الاجتماع والسياسة، إلا دعوة مبطنة إلى الإصلاح، لا بمعنى أخلاقي، ولكن من موقع الرؤية الجمالية. سخريتي جارحة، تعري الأشياء، وتشير إليها بوضوح، وفيها دعوة لأن نكون حقيقيين، وأن نرتقي بالأداء الوجودي كأفراد وكجماعات.
* إلى أي مدى يمكن للرواية أن تُضمّد نزيف الكاتب والقارئ على حد سواء؟
- في مرحلة ما، تتحول الكتابة إلى صيدلية، يسعى الكاتب إلى أن يتعافى عبرها، وكذلك القارئ. إنها مشروع فني لابد له من رؤية، وتخطيط، واستهداف لغايات واضحة ومحددة. لعلني في البدايات كنت أكتب لأتعافى، ولكن ما يهمني اليوم هو أن أطور تجربتي، وأن أذهب بها إلى آفاقها الممكنة.
* كيف علينا أن نقرأ الرواية اليوم؟ هل هي نافذة مفتوحة نطل من خلالها على أفكار وقناعات صاحبها، أم أفكار ومواقف متداولة بين الناس يعمل الروائي على توثيقها بقلمه؟
- ليس مهمًا أن نحدد الطريقة التي نقرأ بها الرواية، ولا أن نحدد الطريقة التي علينا أن نكتب بها الرواية. علينا، ببساطة، أن نقرأ، وسيجد كل منا في ما يقرأ واقعًا ما يمثله. فإذا كانت غاية الناقد من الرواية ظواهرها الفنية وتقنياتها، فإن القارئ العادي يريد المتعة، وأن يرى بعضًا من نفسه في شخصية ما، وبعضًا من واقعه. الكاتب لا يسلّط مواقفه على القارئ، إنه يُلبس شخصياته أفكارًا متعارضة أحيانًا، وعلى هذا الأساس، فالرواية دعوة إلى أن نجادل أنفسنا، إلى الجدل الذاتي.
* أشرت في أحد حواراتك بعد التتويج منذ أيام بالكومار الذهبي عن روايتك «لمن تجمع وردك يا مكرم» أنك كنت «في موقف صعب». هل قَدَرُ الكاتب اليوم «المعارك» التي لا تتوقف ولا تنتهي؟
- جاء التتويج بالكومار الذهبي بعد تتويج عربي بجائزة دبي الثقافية، ليجعلني أمام مسؤولية فنية وتاريخية، وهذا ما قصدته بالصعوبة. عليّ، بعد هذا الاعتراف لما أكتب بالتميز عربيًا ووطنيًا، أن أكون، فيما سأنشر لاحقًا، مضيفًا ومقنعًا. فأنا الآن تحت المجهر، وعليّ أن أؤكد لمن آمن ووثق، ولمن شكك، أنني على قدر المسؤولية. إذن فمعركتي مع نفسي ومع أدواتي الفنية قبل كل شيء. الصراعات في المشهد الثقافي لا تعنيني، ومن الطبيعي أن ينال التتويج بالكومار الذهبي، بعد تتويج عربي بجائزة دبي الثقافية، هذا الثقل في المسؤولية الفنية والتاريخية، وهذا ما قصدته بالصعوبة. عليّ، بعد هذا الاعتراف لما أكتب بالتميز عربيًا ووطنيًا، أن أكون، فيما سأنشر لاحقًا، مضيفًا ومقنعًا. فأنا الآن تحت المجهر، وعليّ أن أؤكد لمن آمن ووثق، ولمن شكك، أنني على قدر المسؤولية. إذن، فمعركتي مع نفسي ومع أدواتي الفنية قبل كل شيء. الصراعات في المشهد الثقافي لا تعنيني، ومن الطبيعي أن ينال المبدع رضاء البعض ومحبتهم، وأن يستعديه آخرون ويبخسون إنجازه. ما أؤمن به هو العمل والفعل.
* ماذا يمكن أن تضيف الجوائز للكاتب من وجهة نظرك؟ وكيف تفسر كونها، كما سبق أن أشرت، «من ضرورات الحداثة»؟
- لولا الجائزة، لما كان مثل هذا الحوار مع شفيق الطارقي. لقد نُشرت الرواية منذ أشهر، ولم ينتبه أحد إليها، ولا أتذكر أن صحفيًا حاورني، أو أن إذاعة دعتني إلى موجات أثيرها. وها إنني اليوم أحضر، وها إن نصي يجد سبلًا أوسع نحو القراء والمراجعات. وعليه، فإن للجائزة فعلها حتى قبل صدور الكتاب؛ فقد سبق أن فازت روايتي الأولى بدبي الثقافية مخطوطًا، ونالت قبل نشرها العناية. الجائزة استحقاق، ولا أسعى إليها في حد ذاتها، ولكنها ضرورة ليُحلّق النص، وليُقرأ على نطاق أوسع. وليس الأمر بيسير.
فازت «لافازا» بتتويج عربي من بين 79 نصًا من كل البلاد العربية، وأجازته لجنة مؤلفة من حيدر حيدر، وواسيني الأعرج، ونبيل سليمان. وتوّجت «لمن تجمع وردك يا مكرم» بإجماع لجنة مؤلفة من نقاد ومبدعين، رغم اختلاف اختصاصاتهم واختلاف أذواقهم. الجائزة تنافس، والاعتراف لكاتب مرتين، عربيًا ووطنيًا، وسام حقيقي. يمكن أن يحصل على رضاء البعض ومحبتهم، ويمكن أن يستعديه آخرون ويبخسون إنجازه. روايتي المتوجة متميزة بلغتها التي جمعت بين الشعرية والواقعية، وبسخريتها التي تدفعك في الوقت نفسه إلى الضحك والبكاء، ومميزة ببنيتها السردية المحكمة، وبتقنياتها العالية، وبمواضيعها المتعددة، حيث الثقافي والاجتماعي والسياسي والوجودي. إنها رواية السياسي والوجودي. إنها رواية مكثفة، بتقنيات كتابة شعرية وسينمائية.
* كيف هي علاقتك بالنقد؟ وإلى أي حد يمكن القول إنه أنصف تجربتك الروائية؟
- النقاد مشغولون في تونس عن النصوص الحقيقية ببدلاتهم، وبنظاراتهم المقعّرة، وبمجاملاتهم للصديقات والأصدقاء، وبالندوات المأجورة، وباسترضاء من يريدون رضاهم. لا أحد ينتبه. ومتى استثنيتُ دراسة واحدة حول «لافازا»، فالتونسيون لم يكتبوا حول ما نشرتُ، مما كسب الاعتراف والتبجيل، في حين أنهم يغدقون بكرم على نصوص لا أحد يسمع بها غير كتّابها، بل إن بعضهم يمجّدها، ويجعلها ضمن البرامج الجامعية. أتفهّم كل هذا، وهو يضحكني ويحفّزني أكثر. سأكتب وأضيف، هذا ما عليّ.
حاوره محسن بن أحمد