الشاعر عادل بوعقة لـ"الصباح": حضور متوهج لاتحاد الكتاب في المعرض رغم أنه لم يكن شريكا رئيسيا
مقالات الصباح
سليل عائلة عريقة نهلت من نهر الإبداع الشعري التونسي الأصيل منذ الصبا. عادل بوعقة نحت مسيرة إبداعيّة استثنائية أكّد من خلالها أنّ الشعر عنده فعل مقاومة لحالات اجتماعيّة عاشها أو كان شاهدًا عليها بدرجة أولى، فهو من أشد المدافعين عن تعدّد التجارب والتجديد فيها، وهذا لا يعني الإسفاف، فكلّ التجارب والمشارب الشعريّة لها مكانتها في الأدب العربي. «الصباح» التقته في معرض تونس الدولي للكتاب في حوار، هذه حصيلته:
*ما هو حصادك من هذه الدورة لمعرض تونس الدولي للكتاب؟
- اغتنمت معرض تونس الدولي للكتاب للقاء العديد من الأصدقاء الشعراء وكتّاب الرواية في تونس والدول العربيّة، كما مثّل لي هذا المعرض فرصة لاقتناء ما تيسّر من الإصدارات الجديدة ذات الطابع الفكري والشعري.
ولا أخفي إعجابي الشديد بالجناح الصيني لثراء محتوياته وتعدّد مضامينه.
*أنت عضو في الهيئة المديرة لاتّحاد الكُتّاب التونسيّين، كيف تقرأ حضور الاتحاد في هذه الدورة؟
- لعلّها المرّة الأولى التي لم يكن اتّحاد الكُتّاب التونسيّين شريكًا رئيسيًا وفاعلًا في البرنامج الثقافي للمعرض، ورغم ذلك فقد عملنا كهيئة مديرة على أن يكون للاتّحاد حضوره المتوهّج في هذه الدورة من خلال الجناح الخاص به، فكان أن انتظمت عديد اللقاءات الثقافيّة والقراءات الشعريّة، والاحتفاء بيوم الصداقة التونسيّة الصينيّة من خلال إمضاء اتفاقية شراكة بين اتّحاد الكُتّاب التونسيّين واتّحاد الناشرين الصينيّين للتبادل الثقافي والأدبي وتبادل الزيارات وترجمة أعمال أدبيّة لأعضاء الاتحاد إلى اللغة الصينية.
*أنت عضو في الهيئة المديرة الحالية لاتّحاد الكُتّاب التونسيّين، ماذا عن موعد المؤتمر القادم لهذه المنظمة العريقة في ظلّ الجدل القائم بخصوص ذلك؟
- ما يمكن التأكيد عليه أنّ المؤتمر القادم لاتّحاد الكُتّاب التونسيّين ما زال حسب الموعد المحدّد له سابقًا، وهو يومي 20 و21 جوان 2025.
أذكر من جهة أخرى أنّ اتّحاد الكُتّاب التونسيّين اختار أيضًا، ومن خلال مبادرة خاصّة منه، الاحتفاء وتكريم عدد من الأدباء أعضاء الاتّحاد الذين التحقوا بالرفيق الأعلى، اعترافًا بما قدّموه للأدب والثقافة في تونس وتخليدًا لذكراهم.
*بالنسبة لك كشاعر اليوم، لو نفتح باب البدايات، من قادك إلى الشعر؟
- نشأت في مدرسة لا يحيط بها سوى الحقول والمزارع، وما كان لي من رفيق سوى ساحة المدرسة، ووالدي مديرها، وإخوة أصغر منّي، وكتب في خزائن الأقسام. رُبّيت على رائحة الورق المشبّع بالرّطوبة في ريف من أرياف مدينة الدّهماني في ولاية الكاف بالشمال الغربي للبلاد التونسيّة. كانت الكتب رفيقة دربي، وأنيسة وحدتي، ومعلّمتي في اكتشاف هذه الحياة من بوّابات أخرى. زرع حبّ المطالعة في نفسي، وحملته إلى توزر بعد انتقالنا، لأدرس في معهد الشابي، وكانت المكتبة العموميّة هي أول مقصد لي، حتّى صرت أستعير يوميًّا الكتب وفي اختصاصات مختلفة... روايات وقصص وتاريخ، وبعضها فلسفي. كانت استعاراتي بالعربيّة فقط، أمّا الفرنسيّة فكنت ألتهمها في الكتب والمجلاّت المصوّرة التي أقتنيها من مصروفي اليوميّ. هي المطالعة التي قادتني إلى الشعر، بدأت بتقليد جميل بثينة، ثمّ عنترة، وكتبت على منوال المتنبّي وأبي فراس... وكتبت مقلّدًا نزار قباني ومظفّر النوّاب. في الجامعة بدأ وعي الشعر يتأسّس.
*ما هو الباب الذي تفتحه عند اللقاء بالقصيد: باب الطفولة، أم باب الذكريات، أم باب الحنين، أم باب المكان، أم باب النسيان؟
- كلّ الأبواب يفتحها نصّها وحالتها، فالحنين يفتح بوّابات الطفولة، والألم يفتح باب الذكريات السّعيدة، والفقد يفتح باب الحنين، أمّا المكان فذاك سحر يفرضه الجمال والهدوء والسكينة، والنسيان أجمل أبوابي التي أنهل منها واقعًا مختلفًا.
*كيف تنظر إلى دور القصيد في حياة الشاعر، قلعة تحميه من عواصف الأحزان، أم نافذة يطلّ منها على خصوصيّاته؟
- هناك من كرّس حياته للكتابة اليوميّة، مقالًا أو قصّة أو شعرًا، وذلك تدريب على الكتابة وخوض لمحيطاتها الخبيئة كي يكتشف أعماقها بالدُّربة. أمّا أنا فأعتبر القصيدة بنت لحظتها التي لا تتكرّر، فكم كتبت قصائد في رأسي ونسيتها، ولكن حين تحين اللحظة، أو كما يسمّيها أستاذنا لطفي اليوسفي «لحظة الرّعب»، تلد القصيدة. حينها قد تكون مكتملة، ولكن في أغلب الأحيان تدخل الصّنعة التي تعلّمها الشاعر ليشبّ مقاطعها وأسطرها، ويهذّب كلّ إيقاعاتها، ويبحث عمّن يُعينه في تشذيبها لغويًّا أو جماليًّا أحيانًا... القصيدة وليدة اللحظة الفارقة، وبنت الإحساس الجارف، والألم الدامي، هي بنت الجوارح والعاطفة، هي بنت المشهد أحيانًا، تعبّر عن اللحظة الملتقطة بعين الشاعر الصيّادة للجمال وللحدث الفارق، يبنيه بلغة ساحرة ويطرّزه بإيقاع مجنون، تُخال الشاعر صاحب الحدث، إلاّ أنّه ليس إلاّ الراوي، وتلك قوّة الشعر والشّاعر.
*كيف تحدّد لنا مرجعيّاتك لتأسيس قصيدك؟
- قرأت ما تيسّر من الأدب، قديمه وحديثه، نثرًا وشعرًا، كما درست التاريخ والفلسفة والسوسيولوجيا وعلم النفس. ولكن ما يبني القصيدة هو الإحساس المُرهف، ولحظة اصطياد الصورة المختلفة، بلغة مجدّدة ومخاتلة... تلك هي بوّابة القصيدة ومدخلها للتشكّل.
*ماذا يمكن أن تكشف لنا عن طقوس الكتابة عندك، زمانًا وكتابة؟
-لا طقس لي في الكتابة... أحيانًا تأتي القصيدة أو مطلعها وأنا نائم، فأنتفض لأكتبه كي لا أنساه، ومن الغد أكمله، وقد لا أنجح في إكمالها غالبًا، وأحيانًا تطرد عنّي القصيدة النوم، فأجلس وأستعدّ لها وأبدأ في تشكيلها وكتابتها، وتلك أعزّ فترات الكتابة عندي: هدوء الليل، سكون البيت، والصمت رفيقي وأنيسي زمن الكتابة.
*أيّ حضور للمكان في القصيد بالنسبة لك؟
- المكان هو الوجود الفعليّ، فدونه العدم، لذلك تحتفي القصيدة به مكوّنًا لكيانها، ومؤثّثًا لزينتها في الوجود.
*ما مدى تأثير توزر، مدينة المهد والصبا، في نحت مسيرتك الشعرية؟
- توزر العشق، تجدها بين حروفي في جلّ القصائد، مختزلة في نخلة صامدة، وفي صبر الجمل، وفي رمال الصحراء، وفي صفاء قلوب أهلها، وفي كرمهم وعفّتهم. ولولا جمال واحاتها الساحرة، وصفاء صحرائها، وصمت ليلها المشعّ نجوما، ورقرقة جداولها الصافية، لما كتبت الشعر.
*أنت قليل الإصدارات الشعرية، أيّ تفسير لك لهذا التمشي؟
- هو غير مقصود، فأنا لا أمتهن الكتابة، كما أنّ مهنة التعليم قاتلة للوقت وللصحّة، لذلك لا أجد وقتًا للكتابة، بل أنا أسرق لها الوقت من راحتي ومن نومي. أصدرت أربعة دواوين شعرية، ولي 3 مخطوطات شعرية، وعملين روائيّين في الحاسوب، وأنا أعتبر ما خططت إنجازًا محترمًا، نظرًا لاعتباري أنّ الشعر ليس تمرينًا يوميًّا، بل هو حالة نفسيّة وحسيّة معقّدة.
*»ابحث عن وطني في وطني»، ديوانك الشعري الذي لاقى إقبالًا من القرّاء بشكل لافت، هل قدر الشاعر البحث الدائم عن عالم أفضل؟
- أفلاطون كتب المدينة الفاضلة التي يحلم بها، والمتنبّي كتب سيف الدولة الذي يحلم به، وشعراء فلسطين كتبوا الوطن المفقود والمنشود، وأنا أحلم بوطن فاضل ومدينة خضراء، وهذا من عادات الشعراء، خاصّة الحلم بالأفضل.
*ما مدى تفاعل النقد مع تجربتك الشعرية؟
- لم أكتب من أجل النقّاد يومًا، ولا من أجل الجوائز، أنا أعبّر عن إحساسي، وعن حالات مجتمعيّة عشتها أو كنت شاهدًا عليها. أسعد أحيانًا حين أقرأ نصًّا نقديًّا حول تجربتي، أو حول مجموعة لي، أو حول نصّ منشور. أنا أشتغل على اللغة وباللّغة، وعلى المعنى والمبنى، والناقد له شغله أيضًا. أنا أقول إنّ التجربة الشعريّة التونسيّة ما بعد الشابّي أهملها نقّادنا في تونس، بل اهتمّوا بتجارب عربيّة أخرى، أعتقد جازمًا أنّ ما وصل إليه شعر شعراء تونس أجود وأرفع قيمة.
* تعدّدت المشارب والاتجاهات والمدارس الشعرية، من قصيد الومضة، والشعر النثري، وشعر البيت... كيف هي علاقتك بها كشاعر؟
- أنا أومن بالتجارب والتجديد، وهذا لا يعني الإسفاف، فكلّ التجارب والمشارب الشعريّة لها مكانتها في الأدب العربي خاصّة، ولا يمكن نفيها أو تفضيل واحدة عن الأخرى، فالقراءات مختلفة، والشعراء يختلفون. بدأت بالعمودي، وانتقلت إلى الحرّ، وكتبت النثر، وأحاول تجارب أخرى عديدة.
* المهرجانات الشعرية اليوم – وأنت مدير أعرقها في تونس، وأعني بذلك مهرجان توزر الدولي للشعر – ماذا يمكن أن تُضيف للمشارك فيها؟
- عرفت المهرجانات في تونس وأنا شاب في الواحدة والعشرين من العمر. كانت تمثّل لي مدرسة أخرى غير الكتب، فمن تجارب الكبار تعلّمنا الإلقاء، والحديث، والأسطورة، والتاريخ، ومنهم نهلنا عصارة تجاربهم. كنّا نجالس الكبار كالعروسي المطوي، والميداني بن صالح، ومحمد القاضي، ولطفي اليوسفي، وكمال عمران، والصغير أولاد أحمد، والمنصف الوهايبي، والراحلان محمد الغزي وعبد الله مالك القاسمي، وعزوز الجمني، والمنصف المزغنّي، وجماعة لقاء الأحد بمقهى «الروتوند». كلّ هؤلاء كانوا يقدّمون الإضافة، وكان الاحترام متبادلاً بين الجميع.
حُرمت في المهرجان الذي كنت أشرف عليه من اللقاءات الهامشية، بحكم مسؤولية الإشراف، والتسيير، والسهر على راحة الضيوف، والعمل على تنفيذ البرنامج المتفق عليه. الآن سأعود للاستمتاع بالقراءة والوحدة التي كنت أعشق.
*إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن خصوصيّات ينفرد بها هذا المهرجان عن بقيّة التظاهرات الشعرية الوطنية والدولية؟
- المهرجان الدولي للشعر بتوزر هو أقدم مهرجان شعريّ في تونس، ومن أعرق المهرجانات الشعرية العربيّة، وقد تطوّر إلى أن أصبح دوليًّا، وهذا بفضل هيئاته والمشرفين على تسييره منذ تكوينه. فالمهرجان كان أوّل من دعا العرب، ثمّ الأجانب، إلى مهرجان شعريّ بحت. كما أنّه ينفرد بشراكاته مع إفريقيا جنوب الصّحراء، ومع منتديات عالميّة.
كان المهرجان محرارًا للضيوف، فمن يحضر مهرجان توزر سيكون ضيفًا على العديد من مهرجانات الوطن. كما أنّه يتميّز بالتزامه بنصرة الأدب التونسي، من خلال المحاور التي ينتقيها بعناية في كلّ دورة. كما أنّه يجمع بين الشعر والسياحة الثقافية، حيث يبرز ثراء الجهة المعماري، والحضاري، والثقافي، فأنتج العديد من الشعراء الأجانب والعرب قصائد تتغنّى بتوزر وبتونس.
*في ظل ما نعيشه من حراك، وما يعانيه الوطن العربي من أوجاع، أيّ دور للشاعر اليوم أمام جحيم غزة؟
- سقطت اليوم القيم الإنسانية أمام الجحيم الذي تعيشه فلسطين المحتلّة من مجازر، وتنكيل بالحجر، والشجر، والإنسان.
حاوره محسن بن أحمد
سليل عائلة عريقة نهلت من نهر الإبداع الشعري التونسي الأصيل منذ الصبا. عادل بوعقة نحت مسيرة إبداعيّة استثنائية أكّد من خلالها أنّ الشعر عنده فعل مقاومة لحالات اجتماعيّة عاشها أو كان شاهدًا عليها بدرجة أولى، فهو من أشد المدافعين عن تعدّد التجارب والتجديد فيها، وهذا لا يعني الإسفاف، فكلّ التجارب والمشارب الشعريّة لها مكانتها في الأدب العربي. «الصباح» التقته في معرض تونس الدولي للكتاب في حوار، هذه حصيلته:
*ما هو حصادك من هذه الدورة لمعرض تونس الدولي للكتاب؟
- اغتنمت معرض تونس الدولي للكتاب للقاء العديد من الأصدقاء الشعراء وكتّاب الرواية في تونس والدول العربيّة، كما مثّل لي هذا المعرض فرصة لاقتناء ما تيسّر من الإصدارات الجديدة ذات الطابع الفكري والشعري.
ولا أخفي إعجابي الشديد بالجناح الصيني لثراء محتوياته وتعدّد مضامينه.
*أنت عضو في الهيئة المديرة لاتّحاد الكُتّاب التونسيّين، كيف تقرأ حضور الاتحاد في هذه الدورة؟
- لعلّها المرّة الأولى التي لم يكن اتّحاد الكُتّاب التونسيّين شريكًا رئيسيًا وفاعلًا في البرنامج الثقافي للمعرض، ورغم ذلك فقد عملنا كهيئة مديرة على أن يكون للاتّحاد حضوره المتوهّج في هذه الدورة من خلال الجناح الخاص به، فكان أن انتظمت عديد اللقاءات الثقافيّة والقراءات الشعريّة، والاحتفاء بيوم الصداقة التونسيّة الصينيّة من خلال إمضاء اتفاقية شراكة بين اتّحاد الكُتّاب التونسيّين واتّحاد الناشرين الصينيّين للتبادل الثقافي والأدبي وتبادل الزيارات وترجمة أعمال أدبيّة لأعضاء الاتحاد إلى اللغة الصينية.
*أنت عضو في الهيئة المديرة الحالية لاتّحاد الكُتّاب التونسيّين، ماذا عن موعد المؤتمر القادم لهذه المنظمة العريقة في ظلّ الجدل القائم بخصوص ذلك؟
- ما يمكن التأكيد عليه أنّ المؤتمر القادم لاتّحاد الكُتّاب التونسيّين ما زال حسب الموعد المحدّد له سابقًا، وهو يومي 20 و21 جوان 2025.
أذكر من جهة أخرى أنّ اتّحاد الكُتّاب التونسيّين اختار أيضًا، ومن خلال مبادرة خاصّة منه، الاحتفاء وتكريم عدد من الأدباء أعضاء الاتّحاد الذين التحقوا بالرفيق الأعلى، اعترافًا بما قدّموه للأدب والثقافة في تونس وتخليدًا لذكراهم.
*بالنسبة لك كشاعر اليوم، لو نفتح باب البدايات، من قادك إلى الشعر؟
- نشأت في مدرسة لا يحيط بها سوى الحقول والمزارع، وما كان لي من رفيق سوى ساحة المدرسة، ووالدي مديرها، وإخوة أصغر منّي، وكتب في خزائن الأقسام. رُبّيت على رائحة الورق المشبّع بالرّطوبة في ريف من أرياف مدينة الدّهماني في ولاية الكاف بالشمال الغربي للبلاد التونسيّة. كانت الكتب رفيقة دربي، وأنيسة وحدتي، ومعلّمتي في اكتشاف هذه الحياة من بوّابات أخرى. زرع حبّ المطالعة في نفسي، وحملته إلى توزر بعد انتقالنا، لأدرس في معهد الشابي، وكانت المكتبة العموميّة هي أول مقصد لي، حتّى صرت أستعير يوميًّا الكتب وفي اختصاصات مختلفة... روايات وقصص وتاريخ، وبعضها فلسفي. كانت استعاراتي بالعربيّة فقط، أمّا الفرنسيّة فكنت ألتهمها في الكتب والمجلاّت المصوّرة التي أقتنيها من مصروفي اليوميّ. هي المطالعة التي قادتني إلى الشعر، بدأت بتقليد جميل بثينة، ثمّ عنترة، وكتبت على منوال المتنبّي وأبي فراس... وكتبت مقلّدًا نزار قباني ومظفّر النوّاب. في الجامعة بدأ وعي الشعر يتأسّس.
*ما هو الباب الذي تفتحه عند اللقاء بالقصيد: باب الطفولة، أم باب الذكريات، أم باب الحنين، أم باب المكان، أم باب النسيان؟
- كلّ الأبواب يفتحها نصّها وحالتها، فالحنين يفتح بوّابات الطفولة، والألم يفتح باب الذكريات السّعيدة، والفقد يفتح باب الحنين، أمّا المكان فذاك سحر يفرضه الجمال والهدوء والسكينة، والنسيان أجمل أبوابي التي أنهل منها واقعًا مختلفًا.
*كيف تنظر إلى دور القصيد في حياة الشاعر، قلعة تحميه من عواصف الأحزان، أم نافذة يطلّ منها على خصوصيّاته؟
- هناك من كرّس حياته للكتابة اليوميّة، مقالًا أو قصّة أو شعرًا، وذلك تدريب على الكتابة وخوض لمحيطاتها الخبيئة كي يكتشف أعماقها بالدُّربة. أمّا أنا فأعتبر القصيدة بنت لحظتها التي لا تتكرّر، فكم كتبت قصائد في رأسي ونسيتها، ولكن حين تحين اللحظة، أو كما يسمّيها أستاذنا لطفي اليوسفي «لحظة الرّعب»، تلد القصيدة. حينها قد تكون مكتملة، ولكن في أغلب الأحيان تدخل الصّنعة التي تعلّمها الشاعر ليشبّ مقاطعها وأسطرها، ويهذّب كلّ إيقاعاتها، ويبحث عمّن يُعينه في تشذيبها لغويًّا أو جماليًّا أحيانًا... القصيدة وليدة اللحظة الفارقة، وبنت الإحساس الجارف، والألم الدامي، هي بنت الجوارح والعاطفة، هي بنت المشهد أحيانًا، تعبّر عن اللحظة الملتقطة بعين الشاعر الصيّادة للجمال وللحدث الفارق، يبنيه بلغة ساحرة ويطرّزه بإيقاع مجنون، تُخال الشاعر صاحب الحدث، إلاّ أنّه ليس إلاّ الراوي، وتلك قوّة الشعر والشّاعر.
*كيف تحدّد لنا مرجعيّاتك لتأسيس قصيدك؟
- قرأت ما تيسّر من الأدب، قديمه وحديثه، نثرًا وشعرًا، كما درست التاريخ والفلسفة والسوسيولوجيا وعلم النفس. ولكن ما يبني القصيدة هو الإحساس المُرهف، ولحظة اصطياد الصورة المختلفة، بلغة مجدّدة ومخاتلة... تلك هي بوّابة القصيدة ومدخلها للتشكّل.
*ماذا يمكن أن تكشف لنا عن طقوس الكتابة عندك، زمانًا وكتابة؟
-لا طقس لي في الكتابة... أحيانًا تأتي القصيدة أو مطلعها وأنا نائم، فأنتفض لأكتبه كي لا أنساه، ومن الغد أكمله، وقد لا أنجح في إكمالها غالبًا، وأحيانًا تطرد عنّي القصيدة النوم، فأجلس وأستعدّ لها وأبدأ في تشكيلها وكتابتها، وتلك أعزّ فترات الكتابة عندي: هدوء الليل، سكون البيت، والصمت رفيقي وأنيسي زمن الكتابة.
*أيّ حضور للمكان في القصيد بالنسبة لك؟
- المكان هو الوجود الفعليّ، فدونه العدم، لذلك تحتفي القصيدة به مكوّنًا لكيانها، ومؤثّثًا لزينتها في الوجود.
*ما مدى تأثير توزر، مدينة المهد والصبا، في نحت مسيرتك الشعرية؟
- توزر العشق، تجدها بين حروفي في جلّ القصائد، مختزلة في نخلة صامدة، وفي صبر الجمل، وفي رمال الصحراء، وفي صفاء قلوب أهلها، وفي كرمهم وعفّتهم. ولولا جمال واحاتها الساحرة، وصفاء صحرائها، وصمت ليلها المشعّ نجوما، ورقرقة جداولها الصافية، لما كتبت الشعر.
*أنت قليل الإصدارات الشعرية، أيّ تفسير لك لهذا التمشي؟
- هو غير مقصود، فأنا لا أمتهن الكتابة، كما أنّ مهنة التعليم قاتلة للوقت وللصحّة، لذلك لا أجد وقتًا للكتابة، بل أنا أسرق لها الوقت من راحتي ومن نومي. أصدرت أربعة دواوين شعرية، ولي 3 مخطوطات شعرية، وعملين روائيّين في الحاسوب، وأنا أعتبر ما خططت إنجازًا محترمًا، نظرًا لاعتباري أنّ الشعر ليس تمرينًا يوميًّا، بل هو حالة نفسيّة وحسيّة معقّدة.
*»ابحث عن وطني في وطني»، ديوانك الشعري الذي لاقى إقبالًا من القرّاء بشكل لافت، هل قدر الشاعر البحث الدائم عن عالم أفضل؟
- أفلاطون كتب المدينة الفاضلة التي يحلم بها، والمتنبّي كتب سيف الدولة الذي يحلم به، وشعراء فلسطين كتبوا الوطن المفقود والمنشود، وأنا أحلم بوطن فاضل ومدينة خضراء، وهذا من عادات الشعراء، خاصّة الحلم بالأفضل.
*ما مدى تفاعل النقد مع تجربتك الشعرية؟
- لم أكتب من أجل النقّاد يومًا، ولا من أجل الجوائز، أنا أعبّر عن إحساسي، وعن حالات مجتمعيّة عشتها أو كنت شاهدًا عليها. أسعد أحيانًا حين أقرأ نصًّا نقديًّا حول تجربتي، أو حول مجموعة لي، أو حول نصّ منشور. أنا أشتغل على اللغة وباللّغة، وعلى المعنى والمبنى، والناقد له شغله أيضًا. أنا أقول إنّ التجربة الشعريّة التونسيّة ما بعد الشابّي أهملها نقّادنا في تونس، بل اهتمّوا بتجارب عربيّة أخرى، أعتقد جازمًا أنّ ما وصل إليه شعر شعراء تونس أجود وأرفع قيمة.
* تعدّدت المشارب والاتجاهات والمدارس الشعرية، من قصيد الومضة، والشعر النثري، وشعر البيت... كيف هي علاقتك بها كشاعر؟
- أنا أومن بالتجارب والتجديد، وهذا لا يعني الإسفاف، فكلّ التجارب والمشارب الشعريّة لها مكانتها في الأدب العربي خاصّة، ولا يمكن نفيها أو تفضيل واحدة عن الأخرى، فالقراءات مختلفة، والشعراء يختلفون. بدأت بالعمودي، وانتقلت إلى الحرّ، وكتبت النثر، وأحاول تجارب أخرى عديدة.
* المهرجانات الشعرية اليوم – وأنت مدير أعرقها في تونس، وأعني بذلك مهرجان توزر الدولي للشعر – ماذا يمكن أن تُضيف للمشارك فيها؟
- عرفت المهرجانات في تونس وأنا شاب في الواحدة والعشرين من العمر. كانت تمثّل لي مدرسة أخرى غير الكتب، فمن تجارب الكبار تعلّمنا الإلقاء، والحديث، والأسطورة، والتاريخ، ومنهم نهلنا عصارة تجاربهم. كنّا نجالس الكبار كالعروسي المطوي، والميداني بن صالح، ومحمد القاضي، ولطفي اليوسفي، وكمال عمران، والصغير أولاد أحمد، والمنصف الوهايبي، والراحلان محمد الغزي وعبد الله مالك القاسمي، وعزوز الجمني، والمنصف المزغنّي، وجماعة لقاء الأحد بمقهى «الروتوند». كلّ هؤلاء كانوا يقدّمون الإضافة، وكان الاحترام متبادلاً بين الجميع.
حُرمت في المهرجان الذي كنت أشرف عليه من اللقاءات الهامشية، بحكم مسؤولية الإشراف، والتسيير، والسهر على راحة الضيوف، والعمل على تنفيذ البرنامج المتفق عليه. الآن سأعود للاستمتاع بالقراءة والوحدة التي كنت أعشق.
*إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن خصوصيّات ينفرد بها هذا المهرجان عن بقيّة التظاهرات الشعرية الوطنية والدولية؟
- المهرجان الدولي للشعر بتوزر هو أقدم مهرجان شعريّ في تونس، ومن أعرق المهرجانات الشعرية العربيّة، وقد تطوّر إلى أن أصبح دوليًّا، وهذا بفضل هيئاته والمشرفين على تسييره منذ تكوينه. فالمهرجان كان أوّل من دعا العرب، ثمّ الأجانب، إلى مهرجان شعريّ بحت. كما أنّه ينفرد بشراكاته مع إفريقيا جنوب الصّحراء، ومع منتديات عالميّة.
كان المهرجان محرارًا للضيوف، فمن يحضر مهرجان توزر سيكون ضيفًا على العديد من مهرجانات الوطن. كما أنّه يتميّز بالتزامه بنصرة الأدب التونسي، من خلال المحاور التي ينتقيها بعناية في كلّ دورة. كما أنّه يجمع بين الشعر والسياحة الثقافية، حيث يبرز ثراء الجهة المعماري، والحضاري، والثقافي، فأنتج العديد من الشعراء الأجانب والعرب قصائد تتغنّى بتوزر وبتونس.
*في ظل ما نعيشه من حراك، وما يعانيه الوطن العربي من أوجاع، أيّ دور للشاعر اليوم أمام جحيم غزة؟
- سقطت اليوم القيم الإنسانية أمام الجحيم الذي تعيشه فلسطين المحتلّة من مجازر، وتنكيل بالحجر، والشجر، والإنسان.
حاوره محسن بن أحمد