انتقل الحضور مساء السبت إلى كركوان بولاية نابل. وهناك انطلقت بهم رحلة زمنية إلى العهد البوني في تونس. فكركوان هي المدينة الوحيدة وفق المؤرخين وعلماء الآثار التي تشهد على تاريخ الحضارة البونيقية في أدق تفاصيلها، وهي المدينة البونيقية الوحيدة المحفوظة بشكل كامل.
وقد مثلت المناسبة فرصة لتجديد التأكيد على عراقة بلادنا وعلى تاريخها الطويل، وعلى ما تركه الأجداد من إرث ملهم إلى اليوم، وهو حريّ بأن يكون محل احتفاء. أما المناسبة فهي الاحتفال بشهر التراث الذي انطلق مساء السبت (الدورة 34) ليتواصل إلى غاية 18 ماي القادم. وأُعطيت إشارة الانطلاق من الموقع الأثري بكركوان، وذلك بحضور وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي وعدد من الإطارات الجهوية والمحلية وممثلين عن بعثات دبلوماسية بتونس وفنانين وإعلاميين.
وفي كلمتها خلال افتتاح التظاهرة التي تقام هذا العام تحت شعار «التراث والفن»، أكدت الوزيرة على أن شهر التراث أضحى تقليدًا مهمًا، مستعرضة أبرز خطوط رؤية وزارة الشؤون الثقافية واستراتيجيتها التي تركز على عدد من المشاريع ذات الأولوية، على غرار ترميم جامع الزيتونة وجامع عقبة بن نافع وفُسقية الأغالبة بالقيروان ومتحف قرطاج الأثري والمسرح الروماني بالجم، إلى جانب العمل حاليًا على استكمال ملف تسجيل قرية سيدي بوسعيد والجبة التونسية وغيرها من العناصر التراثية الوطنية لإدراجها على قائمة التراث العالمي لفرادتها وتميزها.
وقد أُقيم بالمناسبة معرض «تونس في أوج الكونية»، وهو احتفاء بكل المواقع التي تم إدراجها على قائمة التراث العالمي من قرطاج وكركوان وسوسة والقيروان ودقة وجربة، بالإضافة إلى الاحتفال بالتراث غير المادي على غرار خزف سجنان والصيد بالشرفية، ومؤخرًا فنون العرض عند طوائف غبنتن التي تم ضمها إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي.
تم أيضًا تقديم لمحة تاريخية عن الموقع البوني بكركوان، المسجل كتراث عالمي منذ 1986. وقد تابع الحضور في الموقع الأثري عرض «سيدة كركوان»، وهو مشهد تمثيلي معزز بالذكاء الاصطناعي تحاكي الحياة اليومية والثقافة البونية، وتجسد محطات هامة من السيرورة التاريخية للمدينة، إلى جانب تقديم أغنية باللغة البونية أُنتجت خصيصًا للاحتفال بشهر التراث. وانتصبت بنفس المناسبة مائدة مستلهمة من الأكلات البونية بهدف التعريف بالتراث الغذائي القديم.
ولنا أن نشير إلى أهمية متحف كركوان، الذي تأسس عام 1987، وهو من المعالم القيمة التي تقدم فكرة دقيقة حول حقبة زمنية وحضارية لا تقل أهمية في تونس. وهو يضم جزءًا من القطع الأثرية التي تم اكتشافها أثناء أعمال التنقيب في هذه المدينة البونيقية والمقابر المنسوبة إليها.
وتعرض في فناء المتحف مجموعة من العناصر المعمارية والخزفيات. ولعل من أبرز ما يشد انتباه الزائر هو المزراب المزين بنحت يجسد مقدمة ثور، ويعدّ أحد رموز تأسيس قرطاج وديانتها.
وقد خصصت القاعة الأولى للحياة اليومية، التي تضم مجموعة من الأواني والأدوات المنزلية (الأطباق، والأباريق، والأكواب، والأقداح، والكؤوس، والجرار، والمصابيح، وقنينات الرضاعة، والعديد من القطع الأخرى). وزيارة هذه القاعة هي عبارة عن رحلة داخل البيت البوني الذي يمكنه أن يعود بنا إلى التاريخ القديم، فتبرز أمامنا معالم الحياة اليومية للعائلة البونية، ونتعرف على الحرف التي كان يمتهنها البونيون الذين برعوا، وفق المؤرخين، في حرفة صناعة الذهب وفي النسيج، خاصة من خلال سعف النخيل.
أما قاعة «سيدة كركوان»، ومنها استُلهم على ما يبدو عرض «سيدة كركوان» في حفل افتتاح شهر التراث، فهي مخصصة للقطع المرتبطة بعالم الموتى. وقد استلهمت تسميتها من غطاء تابوت خشبي على هيئة إنسان يصور الإلهة عشتار.
ويوجد في هذه الغرفة أثاث جنائزي جلب من المقابر، وعدد من القطع التي تتعلق بالشعائر والممارسات الجنائزية. كما تحتوي القاعة المخصصة للآلهة على القطع التي تم استخراجها أثناء التنقيب في المعبد العظيم، الذي يعتبر بناءً على ما يؤكده أهل الاختصاص، أكبر معبد بوني في غرب المتوسط. القاعة تحتوي كذلك على تماثيل من الفخار تمثل آلهة ومباخر على شكل رأس أنثوي ومذابح من الفخار ومصابيح وغيرها.
وتتميز مجموعة الحلي المعروضة في قاعة «المرأة والحلي» بثرائها وتنوعها، وهي تضم عقودًا، وخواتم، وحلقات، وأقراطًا، وأختامًا وغيرها.
ويجمع متحف كركوان الاقتراب بين البعدين الدنيوي والروحي أو المقدس، وهو يحفظ ذاكرتنا وتاريخنا من التلاشي. هذا التاريخ الذي يتأكد في كل مرة أنه ليس معروفًا جدًا بين التونسيين أنفسهم. ولعلها فرصة لإعادة التفكير في كيفية جعل التراث والآثار، بالخصوص في تونس العريقة، أكثر جاذبية للسكان، وأن لا يكون الفضول حكرا على السياح.
ونشير من جهة أخرى إلى أن العديد من الجهات في تونس أعدت برنامجًا متنوعًا للاحتفال بشهر التراث، وأن بعضها انطلق منذ اليوم الأول في النشاط، على أمل ألا تكون البرمجة نمطية، وأن تكون فرصة حقيقية للتعريف بالتراث، والتشجيع على إعادة اكتشاف تاريخ البلاد العريق من خلال الشواهد المادية واللامادية، وهي كثيرة.
◗ ح .س
انتقل الحضور مساء السبت إلى كركوان بولاية نابل. وهناك انطلقت بهم رحلة زمنية إلى العهد البوني في تونس. فكركوان هي المدينة الوحيدة وفق المؤرخين وعلماء الآثار التي تشهد على تاريخ الحضارة البونيقية في أدق تفاصيلها، وهي المدينة البونيقية الوحيدة المحفوظة بشكل كامل.
وقد مثلت المناسبة فرصة لتجديد التأكيد على عراقة بلادنا وعلى تاريخها الطويل، وعلى ما تركه الأجداد من إرث ملهم إلى اليوم، وهو حريّ بأن يكون محل احتفاء. أما المناسبة فهي الاحتفال بشهر التراث الذي انطلق مساء السبت (الدورة 34) ليتواصل إلى غاية 18 ماي القادم. وأُعطيت إشارة الانطلاق من الموقع الأثري بكركوان، وذلك بحضور وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي وعدد من الإطارات الجهوية والمحلية وممثلين عن بعثات دبلوماسية بتونس وفنانين وإعلاميين.
وفي كلمتها خلال افتتاح التظاهرة التي تقام هذا العام تحت شعار «التراث والفن»، أكدت الوزيرة على أن شهر التراث أضحى تقليدًا مهمًا، مستعرضة أبرز خطوط رؤية وزارة الشؤون الثقافية واستراتيجيتها التي تركز على عدد من المشاريع ذات الأولوية، على غرار ترميم جامع الزيتونة وجامع عقبة بن نافع وفُسقية الأغالبة بالقيروان ومتحف قرطاج الأثري والمسرح الروماني بالجم، إلى جانب العمل حاليًا على استكمال ملف تسجيل قرية سيدي بوسعيد والجبة التونسية وغيرها من العناصر التراثية الوطنية لإدراجها على قائمة التراث العالمي لفرادتها وتميزها.
وقد أُقيم بالمناسبة معرض «تونس في أوج الكونية»، وهو احتفاء بكل المواقع التي تم إدراجها على قائمة التراث العالمي من قرطاج وكركوان وسوسة والقيروان ودقة وجربة، بالإضافة إلى الاحتفال بالتراث غير المادي على غرار خزف سجنان والصيد بالشرفية، ومؤخرًا فنون العرض عند طوائف غبنتن التي تم ضمها إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي.
تم أيضًا تقديم لمحة تاريخية عن الموقع البوني بكركوان، المسجل كتراث عالمي منذ 1986. وقد تابع الحضور في الموقع الأثري عرض «سيدة كركوان»، وهو مشهد تمثيلي معزز بالذكاء الاصطناعي تحاكي الحياة اليومية والثقافة البونية، وتجسد محطات هامة من السيرورة التاريخية للمدينة، إلى جانب تقديم أغنية باللغة البونية أُنتجت خصيصًا للاحتفال بشهر التراث. وانتصبت بنفس المناسبة مائدة مستلهمة من الأكلات البونية بهدف التعريف بالتراث الغذائي القديم.
ولنا أن نشير إلى أهمية متحف كركوان، الذي تأسس عام 1987، وهو من المعالم القيمة التي تقدم فكرة دقيقة حول حقبة زمنية وحضارية لا تقل أهمية في تونس. وهو يضم جزءًا من القطع الأثرية التي تم اكتشافها أثناء أعمال التنقيب في هذه المدينة البونيقية والمقابر المنسوبة إليها.
وتعرض في فناء المتحف مجموعة من العناصر المعمارية والخزفيات. ولعل من أبرز ما يشد انتباه الزائر هو المزراب المزين بنحت يجسد مقدمة ثور، ويعدّ أحد رموز تأسيس قرطاج وديانتها.
وقد خصصت القاعة الأولى للحياة اليومية، التي تضم مجموعة من الأواني والأدوات المنزلية (الأطباق، والأباريق، والأكواب، والأقداح، والكؤوس، والجرار، والمصابيح، وقنينات الرضاعة، والعديد من القطع الأخرى). وزيارة هذه القاعة هي عبارة عن رحلة داخل البيت البوني الذي يمكنه أن يعود بنا إلى التاريخ القديم، فتبرز أمامنا معالم الحياة اليومية للعائلة البونية، ونتعرف على الحرف التي كان يمتهنها البونيون الذين برعوا، وفق المؤرخين، في حرفة صناعة الذهب وفي النسيج، خاصة من خلال سعف النخيل.
أما قاعة «سيدة كركوان»، ومنها استُلهم على ما يبدو عرض «سيدة كركوان» في حفل افتتاح شهر التراث، فهي مخصصة للقطع المرتبطة بعالم الموتى. وقد استلهمت تسميتها من غطاء تابوت خشبي على هيئة إنسان يصور الإلهة عشتار.
ويوجد في هذه الغرفة أثاث جنائزي جلب من المقابر، وعدد من القطع التي تتعلق بالشعائر والممارسات الجنائزية. كما تحتوي القاعة المخصصة للآلهة على القطع التي تم استخراجها أثناء التنقيب في المعبد العظيم، الذي يعتبر بناءً على ما يؤكده أهل الاختصاص، أكبر معبد بوني في غرب المتوسط. القاعة تحتوي كذلك على تماثيل من الفخار تمثل آلهة ومباخر على شكل رأس أنثوي ومذابح من الفخار ومصابيح وغيرها.
وتتميز مجموعة الحلي المعروضة في قاعة «المرأة والحلي» بثرائها وتنوعها، وهي تضم عقودًا، وخواتم، وحلقات، وأقراطًا، وأختامًا وغيرها.
ويجمع متحف كركوان الاقتراب بين البعدين الدنيوي والروحي أو المقدس، وهو يحفظ ذاكرتنا وتاريخنا من التلاشي. هذا التاريخ الذي يتأكد في كل مرة أنه ليس معروفًا جدًا بين التونسيين أنفسهم. ولعلها فرصة لإعادة التفكير في كيفية جعل التراث والآثار، بالخصوص في تونس العريقة، أكثر جاذبية للسكان، وأن لا يكون الفضول حكرا على السياح.
ونشير من جهة أخرى إلى أن العديد من الجهات في تونس أعدت برنامجًا متنوعًا للاحتفال بشهر التراث، وأن بعضها انطلق منذ اليوم الأول في النشاط، على أمل ألا تكون البرمجة نمطية، وأن تكون فرصة حقيقية للتعريف بالتراث، والتشجيع على إعادة اكتشاف تاريخ البلاد العريق من خلال الشواهد المادية واللامادية، وهي كثيرة.