إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تصاعد التوتر بين فرنسا والجزائر.. ثنائي "يتنازع بانتظام".. لكن علاقتهما لن تصل إلى نقطة اللاعودة

 

                                  

شهدت العلاقات بين فرنسا والجزائر تصعيدًا ملحوظًا في الأسابيع الأخيرة، حيث بلغت التوترات بين البلدين حد تصريحات وصفت بـ»العنيفة» وبعيدة عن الديبلوماسية صادرة عن أعلى قيادات البلدين.  ومن الواضح أن جذور الأزمة الحالية ليست قضية المؤثرين الجزائريين الذين تم اعتقالهم في فرنسا بسبب اتهامات تتعلق بدعوات للكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي ومحاولة ترحيل أحدهم المعروف باسم «دوالمن» من التراب الفرنسي ورفض قبوله من قبل السلطات الجزائرية وإعادة ترحيله من حيث جاء، بل أن هذا الملف يعد النقطة التي أخرجت التوتر للعلن.. توتر انطلق منذ إعلان السلطات الفرنسية موقفها من قضية الصحراء الغربية منذ أشهر.

هذه الحوادث المعلنة رسميا وأخرى غير معلنة، ومنها اقتصار ماكرون سنة 2021 بالاعتراف بماضي فرنسا الاستعماري دون طلب الاعتذار من الجزائر وكذلك تصريحات الرئيس الفرنسي سنة 2021 كذلك بأن الجزائر كان يحكمها «نظام سياسي عسكري له تاريخ رسمي لا يقوم على الحقيقة بل على كراهية فرنسا»، تفتح الباب أمام تساؤلات حول واقع ومستقبل العلاقات بين البلدين وتداعياتها.

ترحيل مزدوج.. «إذلال» وتهديد بالعقوبات

بالعودة إلى الملف المعلن في الأيام الأخيرة والذي أفاض كأس الخلافات، تم اعتقال عدد من المؤثرين الفرنسيين-الجزائريين في فرنسا بتهمة نشر فيديوهات على منصة «تيك توك» تدعو إلى الكراهية والعنف ضد معارضي النظام الجزائري. أبرز هذه الحالات كانت لمؤثر يُعرف باسم «دوالمن»، الذي تم توقيفه في مدينة مونبلييه. ورغم قرار ترحيله إلى الجزائر، رفضت السلطات الجزائرية استقباله، مما أجبر السلطات الفرنسية على إعادته إلى باريس وإبقائه رهن المراقبة الإدارية.

قرار رفض السلطات الجزائرية استقبال المؤثر الجزائري بعد ترحيله من باريس، أثار حفيظة السلطات الفرنسية، التي اعتبرت الأمر «محاولة لإذلال فرنسا حيث أكد وزير داخليتها برونو ريتايو أن بلاده لن تتهاون مع ما وصفه بمحاولات الجزائر «إذلال فرنسا»، مشددًا على ضرورة الرد الدبلوماسي. مشيرا أن الحكومة الفرنسية تدرس خفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين وإعادة النظر في اتفاقية عام 1968 التي تمنح تسهيلات للمواطنين الجزائريين في فرنسا. وهو ما ذهب فيه وزير الخارجية جان نويل بارو بقوله إن «باريس لن يكون لديها خيار آخر سوى الرد إذا واصل الجزائريون هذا الموقف التصعيدي.. ومن بين الأوراق التي يمكن تفعيلها التأشيرات ومساعدات التنمية وحتى مسائل التعاون الأخرى».

وبالطبع لم تتأخر السلطات الجزائرية في الرد إذ رفضت الاتهامات الفرنسية ووصفتها بأنها جزء من «حملة تضليل» مؤكدة التزامها بحماية حقوق مواطنيها في الخارج. معلقة على قضية «دوالمن» بأن القرار الفرنسي بترحيله ينتهك الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين البلدين.

خلافات تاريخية وسياسية لم تغلق

هذا التوتر الجزائري-الفرنسي الجديد، يأتي في ظل سياق سياسي معقد. فقد سبق أن أثارت فرنسا غضب الجزائر بسبب اعتقال الكاتب الجزائري -الفرنسي بوعلام صنصال (75 عاما) في الجزائر في شهر نوفمبر الماضي بتهمة «الإضرار بأمن الدولة»، وهو ما انتقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علنًا مطالبا بالإفراج عن «الرجل المريض»، واعتبرته الجزائر تدخلًا في شؤونها الداخلية.

كما كان لتغيير موقف فرنسا من قضية الصحراء الغربية أثر كبير في توتر العلاقات الثنائية بين باريس والجزائر، إذ دعمت باريس سيادة المغرب على الإقليم، مما أثار استياء الجزائر التي تدعم جبهة البوليساريو. ففي رسالة موجهة في نهاية شهر جويلية الماضي من الرئيس ماكرون إلى العاهل المغربي محمد السادس في الذكرى الـ25 لاعتلاء الملك العرش، قرر الرئيس الفرنسي الاعتراف بسيادة المملكة على الصحراء الغربية لينحاز بذلك إلى جانب إسبانيا والولايات المتحدة، معتبراً أن مستقبل الصحراء يكمن «في إطار السيادة المغربية»، وساعد ذلك في تقارب فرنسي-مغربي، واندلاع أزمة جديدة مع الجزائر، التي قررت سحب سفيرها لدى فرنسا بأثر فوري. ولم تبادر فرنسا إلى المعاملة بالمثل مثلما تقتضيه الأعراف الديبلوماسية.

وفي ديسمبر الماضي، استدعت السلطات الجزائرية السفير الفرنسي لديها بسبب ما وصفته مصادر إعلامية دون بيان رسمي بـ«تورط الاستخبارات الفرنسية في مخططات تهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر».

هذا التنازع الجديد، جاء لينضاف إلى توتر آخر انطلق منذ 2021 بعد أن جددت فرنسا رفضها الاعتذار للجزائر عن فترة الاستعمار (1830-1962) حيث رفض ماكرون طلب الصفح وأكد أنه سيقوم فقط ببعض الإجراءات الرمزية منها تسليم فرنسا لعدد من جماجم المقاومين الجزائريين وهو ما وصفه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأنه «نصف اعتذار، أتمنى أن تواصل فرنسا على نفس المنهج وتقدم كامل اعتذاراتها».

التداعيات المستقبلية

الثابت أن التوترات الحالية تمثل جزءًا من تاريخ طويل من العلاقات المعقدة بين البلدين، الذي يتداخل فيه الإرث الاستعماري بالقضايا الاقتصادية والسياسية. والمؤكد أن التصعيد الأخير قد يؤثر سلبًا على ملفات التعاون المشترك بين البلدين مثل مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. كما أن التصعيد قد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات الفرنسية في الجزائر، وهو ما قد يؤثر على الاقتصاد الجزائري الذي يعتمد بشكل كبير على الشراكات الأوروبية.

ومع ذلك فان الثابت والمؤكد كذلك أن هذه العلاقات لن تصل إلى نقطة اللاعودة رغم وقوفها الآن عند مفترق طرق. فالخطوات التي ستتخذها الحكومتان في الأسابيع القادمة ستحدد ما إذا كان بإمكانهما تجاوز هذه الأزمة أو إذا كانت ستؤدي إلى تواصل الفتور والتوتر دون الوصول إلى تدهور أكبر. والتحدي الأكبر يكمن في إيجاد أرضية مشتركة تسمح بالحفاظ على المصالح المتبادلة دون المساس بالسيادة الوطنية لكل طرف. وما يحتاجه البلدان هو حوار صريح وشامل يعالج القضايا الخلافية بروح من المسؤولية والاحترام المتبادل، بعيدًا عن التصعيد الإعلامي والسياسي الذي قد يعمق الخلافات بدلًا من حلها.

سفيان رجب

تصاعد التوتر بين فرنسا والجزائر..    ثنائي "يتنازع بانتظام".. لكن علاقتهما لن تصل إلى نقطة اللاعودة

 

                                  

شهدت العلاقات بين فرنسا والجزائر تصعيدًا ملحوظًا في الأسابيع الأخيرة، حيث بلغت التوترات بين البلدين حد تصريحات وصفت بـ»العنيفة» وبعيدة عن الديبلوماسية صادرة عن أعلى قيادات البلدين.  ومن الواضح أن جذور الأزمة الحالية ليست قضية المؤثرين الجزائريين الذين تم اعتقالهم في فرنسا بسبب اتهامات تتعلق بدعوات للكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي ومحاولة ترحيل أحدهم المعروف باسم «دوالمن» من التراب الفرنسي ورفض قبوله من قبل السلطات الجزائرية وإعادة ترحيله من حيث جاء، بل أن هذا الملف يعد النقطة التي أخرجت التوتر للعلن.. توتر انطلق منذ إعلان السلطات الفرنسية موقفها من قضية الصحراء الغربية منذ أشهر.

هذه الحوادث المعلنة رسميا وأخرى غير معلنة، ومنها اقتصار ماكرون سنة 2021 بالاعتراف بماضي فرنسا الاستعماري دون طلب الاعتذار من الجزائر وكذلك تصريحات الرئيس الفرنسي سنة 2021 كذلك بأن الجزائر كان يحكمها «نظام سياسي عسكري له تاريخ رسمي لا يقوم على الحقيقة بل على كراهية فرنسا»، تفتح الباب أمام تساؤلات حول واقع ومستقبل العلاقات بين البلدين وتداعياتها.

ترحيل مزدوج.. «إذلال» وتهديد بالعقوبات

بالعودة إلى الملف المعلن في الأيام الأخيرة والذي أفاض كأس الخلافات، تم اعتقال عدد من المؤثرين الفرنسيين-الجزائريين في فرنسا بتهمة نشر فيديوهات على منصة «تيك توك» تدعو إلى الكراهية والعنف ضد معارضي النظام الجزائري. أبرز هذه الحالات كانت لمؤثر يُعرف باسم «دوالمن»، الذي تم توقيفه في مدينة مونبلييه. ورغم قرار ترحيله إلى الجزائر، رفضت السلطات الجزائرية استقباله، مما أجبر السلطات الفرنسية على إعادته إلى باريس وإبقائه رهن المراقبة الإدارية.

قرار رفض السلطات الجزائرية استقبال المؤثر الجزائري بعد ترحيله من باريس، أثار حفيظة السلطات الفرنسية، التي اعتبرت الأمر «محاولة لإذلال فرنسا حيث أكد وزير داخليتها برونو ريتايو أن بلاده لن تتهاون مع ما وصفه بمحاولات الجزائر «إذلال فرنسا»، مشددًا على ضرورة الرد الدبلوماسي. مشيرا أن الحكومة الفرنسية تدرس خفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين وإعادة النظر في اتفاقية عام 1968 التي تمنح تسهيلات للمواطنين الجزائريين في فرنسا. وهو ما ذهب فيه وزير الخارجية جان نويل بارو بقوله إن «باريس لن يكون لديها خيار آخر سوى الرد إذا واصل الجزائريون هذا الموقف التصعيدي.. ومن بين الأوراق التي يمكن تفعيلها التأشيرات ومساعدات التنمية وحتى مسائل التعاون الأخرى».

وبالطبع لم تتأخر السلطات الجزائرية في الرد إذ رفضت الاتهامات الفرنسية ووصفتها بأنها جزء من «حملة تضليل» مؤكدة التزامها بحماية حقوق مواطنيها في الخارج. معلقة على قضية «دوالمن» بأن القرار الفرنسي بترحيله ينتهك الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين البلدين.

خلافات تاريخية وسياسية لم تغلق

هذا التوتر الجزائري-الفرنسي الجديد، يأتي في ظل سياق سياسي معقد. فقد سبق أن أثارت فرنسا غضب الجزائر بسبب اعتقال الكاتب الجزائري -الفرنسي بوعلام صنصال (75 عاما) في الجزائر في شهر نوفمبر الماضي بتهمة «الإضرار بأمن الدولة»، وهو ما انتقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علنًا مطالبا بالإفراج عن «الرجل المريض»، واعتبرته الجزائر تدخلًا في شؤونها الداخلية.

كما كان لتغيير موقف فرنسا من قضية الصحراء الغربية أثر كبير في توتر العلاقات الثنائية بين باريس والجزائر، إذ دعمت باريس سيادة المغرب على الإقليم، مما أثار استياء الجزائر التي تدعم جبهة البوليساريو. ففي رسالة موجهة في نهاية شهر جويلية الماضي من الرئيس ماكرون إلى العاهل المغربي محمد السادس في الذكرى الـ25 لاعتلاء الملك العرش، قرر الرئيس الفرنسي الاعتراف بسيادة المملكة على الصحراء الغربية لينحاز بذلك إلى جانب إسبانيا والولايات المتحدة، معتبراً أن مستقبل الصحراء يكمن «في إطار السيادة المغربية»، وساعد ذلك في تقارب فرنسي-مغربي، واندلاع أزمة جديدة مع الجزائر، التي قررت سحب سفيرها لدى فرنسا بأثر فوري. ولم تبادر فرنسا إلى المعاملة بالمثل مثلما تقتضيه الأعراف الديبلوماسية.

وفي ديسمبر الماضي، استدعت السلطات الجزائرية السفير الفرنسي لديها بسبب ما وصفته مصادر إعلامية دون بيان رسمي بـ«تورط الاستخبارات الفرنسية في مخططات تهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر».

هذا التنازع الجديد، جاء لينضاف إلى توتر آخر انطلق منذ 2021 بعد أن جددت فرنسا رفضها الاعتذار للجزائر عن فترة الاستعمار (1830-1962) حيث رفض ماكرون طلب الصفح وأكد أنه سيقوم فقط ببعض الإجراءات الرمزية منها تسليم فرنسا لعدد من جماجم المقاومين الجزائريين وهو ما وصفه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بأنه «نصف اعتذار، أتمنى أن تواصل فرنسا على نفس المنهج وتقدم كامل اعتذاراتها».

التداعيات المستقبلية

الثابت أن التوترات الحالية تمثل جزءًا من تاريخ طويل من العلاقات المعقدة بين البلدين، الذي يتداخل فيه الإرث الاستعماري بالقضايا الاقتصادية والسياسية. والمؤكد أن التصعيد الأخير قد يؤثر سلبًا على ملفات التعاون المشترك بين البلدين مثل مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. كما أن التصعيد قد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات الفرنسية في الجزائر، وهو ما قد يؤثر على الاقتصاد الجزائري الذي يعتمد بشكل كبير على الشراكات الأوروبية.

ومع ذلك فان الثابت والمؤكد كذلك أن هذه العلاقات لن تصل إلى نقطة اللاعودة رغم وقوفها الآن عند مفترق طرق. فالخطوات التي ستتخذها الحكومتان في الأسابيع القادمة ستحدد ما إذا كان بإمكانهما تجاوز هذه الأزمة أو إذا كانت ستؤدي إلى تواصل الفتور والتوتر دون الوصول إلى تدهور أكبر. والتحدي الأكبر يكمن في إيجاد أرضية مشتركة تسمح بالحفاظ على المصالح المتبادلة دون المساس بالسيادة الوطنية لكل طرف. وما يحتاجه البلدان هو حوار صريح وشامل يعالج القضايا الخلافية بروح من المسؤولية والاحترام المتبادل، بعيدًا عن التصعيد الإعلامي والسياسي الذي قد يعمق الخلافات بدلًا من حلها.

سفيان رجب