إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو".. مشهدية بصرية إنسانية عن عالم يتغير

تونس - الصباح

"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" فيلم روائي طويل أول للمخرج خالد منصور، أعاد السينما المصرية إلى مسابقات مهرجان البندقية السينمائي بعد 12 سنة من الغياب. توج بالجائزة الكبرى وجائزة النقاد في سينيميد (Cinemed) ببلجيكا، وجائزتي لجنة التحكيم في كل من مهرجان البحر الأحمر الدولي وأيام قرطاج السينمائية، ويُطرح بداية في جانفي في قاعات السينما المصرية.

تتجاوز تجربة المخرج خالد منصور السينمائية توقعاتنا عن الفيلم الروائي الطويل الأول لصانعه. فالمخرج المصري أتقن جيدًا توظيف خياراته الجمالية والفكرية ليقدم - بنضج فنّي لافت - فيلمًا عن القاهرة ما بعد 2011. لعّل ظاهر فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" (Seeking Haven For Mr. Rambo) يوحي بعمل عن علاقة شاب ثلاثيني بكلبه ومحاولاته المستميتة لإنقاذه، ولكن إذا تعمقنا أكثر، فهي علاقة ابن بوالده الغائب، ومع ذلك لا تُروى الحكايتان خارج إطارهما الزماني والمكاني.

عن جيله يتحدث خالد منصور، جيل محبط، غير قادر على مواجهة مخاوفه. بعضه يلجأ للاختباء خلف روتين يومي ممل وقاتل، أو محاولة العيش بالإمكانات المتاحة دون الرغبة في المقاومة، وأغلبه يتخذ من العنف سلاحًا للبقاء. "حسن" (الممثل عصام عمر) و"كارم" (الممثل أحمد بهاء) وجهان لعملة واحدة لشباب القاهرة من أبناء الطبقة العاملة. ملامح وأساليب هذه الحياة تختلف، ومع ذلك هي "قاهرية" بامتياز. الكل يبحث عن منفذ للخروج.

تتربع هذه المدينة الساحرة في شرقيتها وامتدادها التاريخي والحضاري في تناقض عجيب مع نبض مجتمعها وتوحش شوارعها، صورة تفوق في صياغتها كل من المخرج خالد منصور وشريكه على مستوى الكتابة محمد الحسيني ومدير تصوير الفيلم أحمد طارق بيومي عبر اللقطات التأسيسية والواسعة. فقدرة هذا الثلاثي على بناء مشاهد الفيلم تورطك في حب القاهرة. فالقاهرة في فيلم خالد منصور تتغذى من روح السينما الواقعية الاجتماعية، وهي امتداد - افتقدناه في السنوات الأخيرة - لأفلام محمد خان وعاطف الطيب وداود عبد السيد وغيرهم من صناع الواقعية الجديدة في السينما المصرية.

ولم يكن تميز فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" على مستوى تماسك بنيته السردية فحسب، فبناء المشاهد (التنوع في زوايا وأحجام اللقطات المصورة، منها القريبة أو القريبة جدًا أو الواسعة وغيرها، مع التصوير في ديكورات طبيعية وليلاً)، والتوظيف الرمزي والسردي للألوان (بين تناقضات الأزرق والأخضر والإضاءة القاتمة)، والكاستينغ المتقن (عصام عمر، ركين سعد، أحمد بهاء وسما إبراهيم) كلها عوامل منحت هذا المشروع السينمائي خصوصية نادرًا ما نعثر عليها في السنوات الأخيرة في الإنتاجات المصرية. فقد أجاد خالد منصور صناعة فيلمه بتأنٍ ومثابرة، من الواضح أنها استغرقت سنوات من العمل ليصوغ جيدا ملامح شخصياته وأبعادها النفسية والاجتماعية.

ونحن نشاهد "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، تتقاطع مشاهد شخصيته الرئيسية "حسن" (عصام عمر) مع رحلة "لانغ" (الممثل التايواني إيدي بينغ) في الفيلم الصيني "بلاك دوغ" للمخرج "غوان هو"، كلاهما من إنتاج 2024، ورغم اختلاف بيئتي الفيلمين، إلا أن المشاعر والمخاوف والانكسارات تتماهى في مواجهة توحش العالم وتغول اللاإنساني في رحلة شاب وكلب على دراجة نارية ذات عربة جانبية تعيدنا بالذاكرة إلى زمن السوفيات وسينما شرق أوروبا.

من المشاهد المفاتيح في "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" والعاكسة لنضج صانع الفيلم، المشهد الرئيسي والمفصلي في بداية العمل حين هاجم "كارم" الميكانيكي "حسن" (بطل العمل، جاره ومستأجر شقته) بعنف يوحي بالكبت النفسي والجنسي الذي تعانيه هذه الشخصية (في خلفية هذا المشهد تكوم ابن الميكانيكي الصغير أحمد صامتا مذعورًا). وأشار إليه خالد منصور في مشاهد لاحقة من فيلمه. واستكمالًا لهذه اللقطة الطويلة، كان هجوم الكلب "رامبو" على كارم دفاعًا عن صاحبه "حسن" وعض الميكانيكي في معقل "ذكورته" (من منظور كارم أكيد). ونعتقد أن هذا المشهد يتكامل مع مشهد اجتماع "حسن" وحبيبته السابقة (ركين سعد) بغرفة الاستحمام الضيقة لمداواة جرحه النازف، في إشارة لآلام الماضي والمشاعر غير المنتهية بين الطرفين. ومشهد محاولة "حسن" بمساعدة كلبه إصلاح الثلاجة في محل اختبائه، كما في مشهد الاحتفال بعيد ميلاده مع "رامبو". ليظل مشهد لقاء "حسن" بعمه الأكثر قدرة في اعتقادنا على التعبير عن الوجع الحقيقي للشخصية الرئيسية للفيلم، بالتوازي مع مشهد جلوس البطل في أحد المساجد وهو يحاول بكل قوته محو حروف بدلة عمله كحارس أمن، والتي تشير إلى عبارة "الأمن".

هذه المشاهد مثلت التحولات الكبرى لشخصية "حسن"، الشاب الفاقد للسند الذي يعيل والدته - تجسدها باقتدار سما إبراهيم - ويعيش على ذكريات والده، وهي عبارة عن تسجيلات صوتية للأب وهو يغني لمحمد منير أو يعد ابنه بالذهاب للسينما في عيد ميلاده. تسجيلات توحي بالشخصية المرحة للأب، الذي هجر عائلته خوفًا من مواجهة واقع الحياة الخانق. هذا الماضي طفا على السطح حين شعر "حسن" بإمكانية خسارة عزيز عليه من جديد. "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" ليس مجرد فيلم عن شاب ثلاثيني محب للكلاب يحاول إنقاذ كلبه "رامبو" من الموت على يد جاره "كارم"، حتى لو خسر في المقابل البيت الذي يأويه مع والدته. "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" هي مشهدية بصرية عن القاهرة، عن راهن في طور التغيير مع مسحة من السخرية. فالسيد رامبو غادر إلى كندا، فيما ظل "حسن" ووالدته جالسين مع نظرة أمل إلى الأفق، رغم الجراح والآلام والتهميش.

نجلاء قموع

فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"..  مشهدية بصرية إنسانية عن عالم يتغير

تونس - الصباح

"البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" فيلم روائي طويل أول للمخرج خالد منصور، أعاد السينما المصرية إلى مسابقات مهرجان البندقية السينمائي بعد 12 سنة من الغياب. توج بالجائزة الكبرى وجائزة النقاد في سينيميد (Cinemed) ببلجيكا، وجائزتي لجنة التحكيم في كل من مهرجان البحر الأحمر الدولي وأيام قرطاج السينمائية، ويُطرح بداية في جانفي في قاعات السينما المصرية.

تتجاوز تجربة المخرج خالد منصور السينمائية توقعاتنا عن الفيلم الروائي الطويل الأول لصانعه. فالمخرج المصري أتقن جيدًا توظيف خياراته الجمالية والفكرية ليقدم - بنضج فنّي لافت - فيلمًا عن القاهرة ما بعد 2011. لعّل ظاهر فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" (Seeking Haven For Mr. Rambo) يوحي بعمل عن علاقة شاب ثلاثيني بكلبه ومحاولاته المستميتة لإنقاذه، ولكن إذا تعمقنا أكثر، فهي علاقة ابن بوالده الغائب، ومع ذلك لا تُروى الحكايتان خارج إطارهما الزماني والمكاني.

عن جيله يتحدث خالد منصور، جيل محبط، غير قادر على مواجهة مخاوفه. بعضه يلجأ للاختباء خلف روتين يومي ممل وقاتل، أو محاولة العيش بالإمكانات المتاحة دون الرغبة في المقاومة، وأغلبه يتخذ من العنف سلاحًا للبقاء. "حسن" (الممثل عصام عمر) و"كارم" (الممثل أحمد بهاء) وجهان لعملة واحدة لشباب القاهرة من أبناء الطبقة العاملة. ملامح وأساليب هذه الحياة تختلف، ومع ذلك هي "قاهرية" بامتياز. الكل يبحث عن منفذ للخروج.

تتربع هذه المدينة الساحرة في شرقيتها وامتدادها التاريخي والحضاري في تناقض عجيب مع نبض مجتمعها وتوحش شوارعها، صورة تفوق في صياغتها كل من المخرج خالد منصور وشريكه على مستوى الكتابة محمد الحسيني ومدير تصوير الفيلم أحمد طارق بيومي عبر اللقطات التأسيسية والواسعة. فقدرة هذا الثلاثي على بناء مشاهد الفيلم تورطك في حب القاهرة. فالقاهرة في فيلم خالد منصور تتغذى من روح السينما الواقعية الاجتماعية، وهي امتداد - افتقدناه في السنوات الأخيرة - لأفلام محمد خان وعاطف الطيب وداود عبد السيد وغيرهم من صناع الواقعية الجديدة في السينما المصرية.

ولم يكن تميز فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" على مستوى تماسك بنيته السردية فحسب، فبناء المشاهد (التنوع في زوايا وأحجام اللقطات المصورة، منها القريبة أو القريبة جدًا أو الواسعة وغيرها، مع التصوير في ديكورات طبيعية وليلاً)، والتوظيف الرمزي والسردي للألوان (بين تناقضات الأزرق والأخضر والإضاءة القاتمة)، والكاستينغ المتقن (عصام عمر، ركين سعد، أحمد بهاء وسما إبراهيم) كلها عوامل منحت هذا المشروع السينمائي خصوصية نادرًا ما نعثر عليها في السنوات الأخيرة في الإنتاجات المصرية. فقد أجاد خالد منصور صناعة فيلمه بتأنٍ ومثابرة، من الواضح أنها استغرقت سنوات من العمل ليصوغ جيدا ملامح شخصياته وأبعادها النفسية والاجتماعية.

ونحن نشاهد "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، تتقاطع مشاهد شخصيته الرئيسية "حسن" (عصام عمر) مع رحلة "لانغ" (الممثل التايواني إيدي بينغ) في الفيلم الصيني "بلاك دوغ" للمخرج "غوان هو"، كلاهما من إنتاج 2024، ورغم اختلاف بيئتي الفيلمين، إلا أن المشاعر والمخاوف والانكسارات تتماهى في مواجهة توحش العالم وتغول اللاإنساني في رحلة شاب وكلب على دراجة نارية ذات عربة جانبية تعيدنا بالذاكرة إلى زمن السوفيات وسينما شرق أوروبا.

من المشاهد المفاتيح في "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" والعاكسة لنضج صانع الفيلم، المشهد الرئيسي والمفصلي في بداية العمل حين هاجم "كارم" الميكانيكي "حسن" (بطل العمل، جاره ومستأجر شقته) بعنف يوحي بالكبت النفسي والجنسي الذي تعانيه هذه الشخصية (في خلفية هذا المشهد تكوم ابن الميكانيكي الصغير أحمد صامتا مذعورًا). وأشار إليه خالد منصور في مشاهد لاحقة من فيلمه. واستكمالًا لهذه اللقطة الطويلة، كان هجوم الكلب "رامبو" على كارم دفاعًا عن صاحبه "حسن" وعض الميكانيكي في معقل "ذكورته" (من منظور كارم أكيد). ونعتقد أن هذا المشهد يتكامل مع مشهد اجتماع "حسن" وحبيبته السابقة (ركين سعد) بغرفة الاستحمام الضيقة لمداواة جرحه النازف، في إشارة لآلام الماضي والمشاعر غير المنتهية بين الطرفين. ومشهد محاولة "حسن" بمساعدة كلبه إصلاح الثلاجة في محل اختبائه، كما في مشهد الاحتفال بعيد ميلاده مع "رامبو". ليظل مشهد لقاء "حسن" بعمه الأكثر قدرة في اعتقادنا على التعبير عن الوجع الحقيقي للشخصية الرئيسية للفيلم، بالتوازي مع مشهد جلوس البطل في أحد المساجد وهو يحاول بكل قوته محو حروف بدلة عمله كحارس أمن، والتي تشير إلى عبارة "الأمن".

هذه المشاهد مثلت التحولات الكبرى لشخصية "حسن"، الشاب الفاقد للسند الذي يعيل والدته - تجسدها باقتدار سما إبراهيم - ويعيش على ذكريات والده، وهي عبارة عن تسجيلات صوتية للأب وهو يغني لمحمد منير أو يعد ابنه بالذهاب للسينما في عيد ميلاده. تسجيلات توحي بالشخصية المرحة للأب، الذي هجر عائلته خوفًا من مواجهة واقع الحياة الخانق. هذا الماضي طفا على السطح حين شعر "حسن" بإمكانية خسارة عزيز عليه من جديد. "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" ليس مجرد فيلم عن شاب ثلاثيني محب للكلاب يحاول إنقاذ كلبه "رامبو" من الموت على يد جاره "كارم"، حتى لو خسر في المقابل البيت الذي يأويه مع والدته. "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" هي مشهدية بصرية عن القاهرة، عن راهن في طور التغيير مع مسحة من السخرية. فالسيد رامبو غادر إلى كندا، فيما ظل "حسن" ووالدته جالسين مع نظرة أمل إلى الأفق، رغم الجراح والآلام والتهميش.

نجلاء قموع