صلابة المواطن الفلسطيني تُشعل الكتابة وتضيء القلب بجمال الإنسان وجوهره اللامع
لا أهتم بتكثيف الصورة للوصول إلى معنى شعري عميق بقدر ما أبحث عن المشهد العميق نفسه
*كتابة اليوميات واجب وطني بعفويتها واضطرابها، باللغة اليومية والمشاعر المرتبكة
*على الناس أن تلعن الحرب والضحايا، وعلى المبدع أن يعبد طريق الأمل، ويثق في جدارة الشعب بمستقبل مجيد
*رغم الدمار، فإنني أسمع وأرى في وجوه الناس في غزة تطلعهم لفرص قادمة من التعمير وحشد طاقاتهم لانطلاقة كبيرة.
حوار: محسن بن أحمد
تونس - الصباح
من مواليد مخيم المغازي بقطاع غزة، الصامد بشموخ وإرادة صلبة أمام غطرسة الكيان الصهيوني الغاشم، وغطرسته القمعية وسياسة الهدم والتطهير العرقي والتقتيل والدمار الممنهج منذ أكثر من عام، هو الشاعر والكاتب الروائي الفلسطيني ناصر رباح الذي يجمع إلى الشعر كتابة الرواية. له في المجال الشعري عدد هام من الدواوين، منها على سبيل الذكر لا الحصر: "مرثية طائر الحناء"، "واحد من لا أحد"، "الركض خلف غزال ميت"، "عابرون بثياب خفيفة"، وفي الرواية نجد له على سبيل الذكر لا الحصر روايتين: "سياج للغزالة" و"منذ ساعة تقريبًا".
ما يشد الانتباه في أشعار هذا المبدع الفلسطيني الصامد هو مراوحته بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ساعيًا من خلالها إلى توثيق الواقع المرّ الذي يعيشه قطاع غزة منذ أكثر من سنة تحت القصف دون هوادة.
ناصر رباح كان ضيفنا من قطاع غزة في الحوار التالي:
*ما هي نظرتك اليوم إلى بداياتك مع الكتابة؟
-لست خجولًا ولا متفاخرًا بها، هي ابنة وقتها ومكانها وظروفها، وهي نظرة الشجرة للبذرة، ونظرة الطريق للخطوة الأولى، فلولاها ما كان الطريق. أذكرها بحب وحنو ولا أتبرأ منها، كل خطوة أعطتني فرحًا ما وسعادة دفعتني للمزيد وللإجادة.
صحيح أن كل كتاب يفضل أن يكون الابن العاق لما سبقه، وكل نص هو ابن عاق لما سبقه على مستوى التطور والتجديد، ولكن كل هذه الدرجات هي لبناء واحد وكيان واحد وروح واحدة لا تنفصل ولا تذم.
ربما أقول أنني تغيرت كثيرًا عن البدايات، فلم أعد أهتم بتكثيف الصورة للوصول إلى معنى شعري عميق بقدر ما أبحث عن المشهد العميق نفسه، والذي أصوره بكلمات بسيطة. مفهوم الشاعرية تغير، فلم يعد التباهي بعضلات اللغة وتراكيبها بقدر ما هو البحث عن الصدق والوضوح لوصف ما لا تراه الكاميرا.
*كيف يمكن أن تكون كاتبًا في زمن الحرب؟
-هذه مسألة معقدة. أولًا، لا يتوافر المكان ولا البيئة المناسبة للكتابة؛ لا كهرباء، لا هدوء، لا طمأنينة بين قذيفة وأخرى، وبين أخبار الموتى والجرحى نمضي أيامنا. نفكر أولًا في النجاة، ومن ثم نفكر في تأمين طعام للأسرة وكيف سيمضي اليوم دون أن نضطر للمغادرة. يمر اليوم بمعجزة متكررة. ولكن تتحول الكتابة إلى نداء أكبر من كل هذا، نداء الواجب: لا بد من كتابة وتوثيق ما يحدث سواء للآخرين أو لنفسي.
الطبيب لا يتأخر ولا سائق الإسعاف، وهكذا لا يجب أن يتأخر الكاتب حتى لو كتب على ضوء شمعة أو على مذكرة الهاتف المحمول. لا بد من الكتابة والكتابة الجيدة أيضًا، والموجهة نحو هدف التماسك والتبشير بالصبر والصمود وفضح بربرية الاحتلال. أن نستمر في الكتابة يعني أن نستمر في الصمود، أن نستمر في الكتابة يعني أن نستمر في إسناد أنفسنا قبل مواطنينا.
الشاب سائق سيارة الأجرة باغتني بترديد سطور من قصيدة لي وقال إنها كانت منقذته في لحظة اليأس. كانت كلماته قصيدة وأجمل مما كتبت.
*أي فرق بين المعرفة بالنكبة عبر الرواة والمعرفة بها شهادة؟
-هذا فرق شاسع بالطبع، وهي مسافة تصيبنا بالصمت حين تواجهنا الأسئلة من أصدقائنا في الخارج يسألون عن الحال، وكيف نمضي الوقت، وكيف تفعلون كذا وكذا؟ وهي أسئلة المحبة، ولا نلومهم، لكنها تكسر الخاطر حقًا. المعرفة عن بعد لا تشرح الفرق الهائل الذي تختص به هذه الحرب عن غيرها. فهي بين الشوارع وعلى الأرصفة وعبر النوافذ والأبواب، وليست كما يتوقع في ساحة بين جيشين، فيما المدن آمنة. المواطن جندي رغم أنفه، وطبيب ومسعف رغم أنفه. الصورة على التلفاز تختصر المأساة في مشهد الدبابة ولا تشرح كيفية الحصول على الماء والطعام، وإنضاج الخبز، وتدفئة الصغار، وحتى شحن بطارية الهاتف.
ربما تبدو أمورًا لا يليق الحديث عنها، ولكن كيف نطالب بالصمود دونها؟ يبدو أن السؤال والإجابة لا علاقة للبعيد بهما، وهو ما يكسر الخاطر حقًا.
*بدأت شاعرًا ثم اتجهت إلى الرواية. ما المحدد في ذلك وأنت تحت القصف؟
-للتعديل فقط: الروايات كتبت قبل الحرب الأخيرة، وهذا لا يعني أنها كتبت في ظروف مثالية من الهدوء. فمنذ عقدين من الزمن وغزة تحت ظروف حروب متتالية. الشعر هنا، وهو فن الحذف والاختصار والتكثيف، مع الوقت يسبب للشاعر نوعًا من الكبت. تقليم اللغة، تشذيب الانفعالات، تقنين البوح، مما يستدرج الكاتب في حالة غزة ومظلوميتها ومأساتها إلى الحاجة لفضاء أرحب من الشعر. ولذا أفسحت الرواية لي أن أهرول في باحات السرد وفضاءات الوصف والمشهدية، وتحليل واكتشاف التأثيرات النفسية على شخص الرواية. الرواية هي فن الاكتشاف بتعبير "أمبرتو إيكو". أن تكتشف تلك العوالم المادية والنفسية للمحيط الذي تعيشه ويعيشك.
في هذه الحرب اختلف الأمر، فأصوات القصف والتفجيرات والقلق والتوتر ليست ظروفًا مناسبة للتأمل والاكتشاف، وهنا عدت إلى الشعر مرة أخرى. ولكنها قصائد مختلفة، تميل إلى الإيقاع وربما الصراخ والمباشرة لتعبر عني تمامًا كأني جندي بطريقة ما.
*أن تكون مبدعًا – شاعرًا أو روائيًا – في وطن تحت وطأة الدمار. بماذا يهمس لك الإبداع عن الوطن؟
-تقول القصيدة لي: "إنك لم تعد أنت، أنت آخر في نفس الثياب، رغم أنها متسخة ومدماة، إلا أنك شخص آخر، مختلف تمامًا عما سبق، مطالب بوظيفة وطنية جديدة. دع المشاعر جانبًا، دع روحك المفتتة جانبًا، وأكتب ما يسند روح الناس بكلمات ملهمة ومحفزة. دع انهيارك ومشاكلك الصغيرة، وأكتب للعالم عن بشاعة المحتل وإجرام القتلة. لا تدع أي صعوبات في يومك الطويل تمنعك من الكتابة. أنت تفهم الآن معنى الشعار الذي كنت تقرأه ولا تعيه: المثقف آخر من ينكسر."
بمساعدة أصدقاء آمنوا بقضيتنا، ستصدر لي كتب مترجمة في أمريكا وإسبانيا، وديوان كامل عن نصوص الحرب في القاهرة. وكذلك قمت بالتواصل مع مجلات في السويد والنرويج وإيطاليا وتم نشر نصوص تصور معاناتنا وصمودنا.
ورُفعت بعض العبارات الخاصة بي في مظاهرات عديدة منددة بالحرب.
*من وجهة نظرك كيف يمكن للشاعر أو الروائي أن يصنع صورة إبداعية جميلة في عالم متوحش مدمر، مدمر لكل جميل في الحياة؟
-سؤال جميل، فعلى الرغم من أنها ليست مهمة الكاتب بالضرورة أن يتناول الجمال في أعماله، ولكن بالضرورة أن يكتب بطريقة جميلة. تقول الكاتبة الهندية "أرونداتي روي" إن القضايا العادلة لا تغفر التعبير الرديء عنها. وهنا تكمن المفارقة: كيف يمكن لنا ونحن نشاهد القبح أن ننتج الكتابة الجيدة؟ كيف ونحن نتجرع الظلم أن نبشر بالخير والعدالة؟
هناك وسائل وحيل يمكن للكاتب أن يتسلح بها، مثلًا أن يغربل المشهد البشع لينتقي جمالياته. أرى صلابة المواطنين هنا في مواجهة اليومي الصعب، وكيف يستمرون في النضال ساعة بساعة محبة في الحياة: من جلب الماء، وإشعال النار، والسير حفاة، لا تنزعج النساء من الأردية المتسخة، والطعام السيء، وركوب العربات التي تجرها الحمير، السيارة التي تسع ثلاثة يستقلونها خمسة، يحولون خشب الكراسي والأسرة إلى حطب للنار، يحولون الخيمة إلى بيت مؤقت مقسم ومرتب، والبيت المتهدم إلى ملجأ، ويتواسون بكلمات الصبر والحمد. كل هذا يشعل الكتابة ويضيء القلب بجمال الإنسان وجوهره اللامع رغم كل شيء.
*ما الذي يمكن أن يقوم به الأدب الفلسطيني اليوم أمام المجزرة الصهيونية؟
-في الحرب الكلاسيكية يكون الكاتب مواطنًا عاديًا يختار أن يكتب أو أن يصمت. في حرب غزة حيث تدور المعارك بين البيوت وفي الشوارع، ويختلط الجنود ودباباتهم وأسلحتهم بالناس، ويمتزج الليل بالنهار، والصراخ بالدم، تعم الفوضى. ويصبح حتى المواطن العادي جنديًا في المعركة بلحمه ودمه. ويصبح الكاتب محط أنظار المجتمع لتوصيل نبضهم وصراخهم. ولكنه هو نفسه من يحتاج للمأوى والنجاة من مجزرة الحرب اليومية. كتبت ذات يوم: "لست جنديًا، ولكنني رأيتني في الحرب". وهكذا يمارس الكاتب في غزة أعماله الثلاثة كلها كجندي طارئ أولًا يحاور القذيفة والرصاصة والشظية، ويناور بين طائرتين ودبابتين، وكموطن يتقافز من بيت لبيت يؤمن الماء والغذاء لعائلة وأهل، وكأديب يسرق اللحظات من تعبه وانهياره ليكتب خلسة على ضوء جهازه المحمول كلمات الصمود والصمود. جهازه المحمول الذي أصبح يمثل الهاتف والكاميرا والمصباح والمكتب والمكتبة والمقهى في جهاز واحد.
*أي دور للكاتب المبدع في حروب بلاده من وجهة نظرك؟
-على الكاتب أن يتخلص من غبار اللحظة وضجيج العاطفة المؤقتة، وأن يقول ما يراه فيما بعد الحرب. للناس أن تشكو، وعليه أن يبشر بالغد. للناس أن تلعن الحرب والضحايا، وعليه أن يعبد طريق الأمل. للمدني أن يشك في الجندي والحاكم، وعليه أن يثق في جدارة الشعب بمستقبل مجيد.
*ماذا تقول عن كتابة اليوميات ودورها في توثيق الألم؟
هي نوع من الكتابة الإبداعية التي لا نهتم فيها بالتقنيات والشكل واللغة، وفقط نهتم بالحدث لا بالحداثة. في غزة أنجزنا كتابين، أحدهما خاص بأقلام نساء وفتيات عاديات لسن أديبات كتبن يومياتهن وكيف عايشن أحداثها. لم نقم بتعديل أو إعادة صياغة لأي سطر، تم توثيق الكتابة كما هي، بعفويتها واضطرابها، باللغة اليومية والمشاعر المرتبكة. كان الهدف هو نقل اليوميات بلحمها العاري ودمها الهادر. الكتاب الآخر لكتاب معروفين كتبوا يومياتهم كواجب وطني. المسافة لم تكن بعيدة بين الكتابين.
عمومًا هي كتابة لتفريغ الصراخ على الورق (الورق الإلكتروني غالبًا) لتجعلنا نتوازن نفسيًا ونحتمل التجربة دون أن نجن. وهي واجب أخلاقي ووطني ثانيًا، وأخيرًا هي كتابة للتاريخ.
*كيف تقرأ موقف المحتل الصهيوني من الكتابات الإبداعية الفلسطينية؟
-أعتقد أن ما يصدر من غزة طوال الحرب من كتابات ولوحات، ومشاهد تم ترويجها في العالم كله، كأدلة دامغة على الوجه الحقيقي للصهيونية، وهو غير الوجه الذي تسترت به حكومة الاحتلال. كتابات غزة وصور الشهداء، لحمها الممزق ودمها المنساب، كانت القوة الناعمة التي غيرت فكرة العالم عن "الجيش الأكثر أخلاقية" و"الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" و"الناجون من المحرقة"، وكل هذا الهراء الكاذب الذي تم تضليل العالم به على مدار قرن من الزمن، وأسقطته غزة في عام واحد.
*ما يقلقك في الشأن الثقافي في هذا الجحيم؟
-القلق من الصراع الفكري بين أصحاب الكلمة والرأي حول جدوى المقاومة غير المتكافئة والباهظة الثمن. وهو حوار متاح قبل وبعد الحرب، ومرفوض تمامًا خلالها. الصراع حول المحاور والتكتلات ووطنيتها وتخوينها. هذا الصراع الفكري هو في حد ذاته حرب أخرى موازية باهظة الثمن. ما يقلقني هو تقزيم الطروحات بين لونين: أبيض وأسود فقط. إما مع أو ضد. لدي قلق كبير جدًا من الفضائيات المكونة للرأي العام والتي تدار من تحت الطاولة بتوجيهات مضللة.
*ماذا تعرف عن الساحة الشعرية والروائية في تونس؟
-في الرواية طبعًا يعجبني شكري المبخوت، والحبيب السالمي، كمال الرياحي، وكذلك آمنة الرميلي ونجاة إدهان.
في الشعر استوقفني جمال الصليعي في "واد النمل".
*حدثنا عن غزة اليوم بعين الكاتب والمواطن العادي؟
-سأستعير كلمات محمد بنيس المغربي: "فاس عن فاس نأت". كان يصف التغير الحضاري الذي حل بمدينته. أنا أقول: غزة عن غزة نأت ولكن للخلف. عادت لقرون الظلام والبدائية. لم يعد هناك معالم ولا شوارع ولا قرى بأكملها. تلال من الركام والحطام متجاورة في مشهد يقطع القلب نصفين. حتى لو انتهت الحرب، كيف سنتخلص من هذا الركام؟ كيف سنعيد بناء المكان؟ كيف سنتقبل فقدان الأصدقاء ونتعايش مع جراح المبتورين؟
والأسوأ أن الحرب الطويلة وأيامها الصعبة، والضغوط التي لا تحتمل والتي اجترحها الناس، أخرجت أسوأ ما فيهم. تحول الناس إلى آخرين أكثر شراسة.
لكن ومع ذلك، أسمع وأرى في وجوه الناس تطلعهم لفرص قادمة من التعمير والعودة للحياة مرة أخرى وبسرعة وبقوة. إنهم يحشدون طاقاتهم وضغوطاتهم لانطلاقة كبيرة.
صلابة المواطن الفلسطيني تُشعل الكتابة وتضيء القلب بجمال الإنسان وجوهره اللامع
لا أهتم بتكثيف الصورة للوصول إلى معنى شعري عميق بقدر ما أبحث عن المشهد العميق نفسه
*كتابة اليوميات واجب وطني بعفويتها واضطرابها، باللغة اليومية والمشاعر المرتبكة
*على الناس أن تلعن الحرب والضحايا، وعلى المبدع أن يعبد طريق الأمل، ويثق في جدارة الشعب بمستقبل مجيد
*رغم الدمار، فإنني أسمع وأرى في وجوه الناس في غزة تطلعهم لفرص قادمة من التعمير وحشد طاقاتهم لانطلاقة كبيرة.
حوار: محسن بن أحمد
تونس - الصباح
من مواليد مخيم المغازي بقطاع غزة، الصامد بشموخ وإرادة صلبة أمام غطرسة الكيان الصهيوني الغاشم، وغطرسته القمعية وسياسة الهدم والتطهير العرقي والتقتيل والدمار الممنهج منذ أكثر من عام، هو الشاعر والكاتب الروائي الفلسطيني ناصر رباح الذي يجمع إلى الشعر كتابة الرواية. له في المجال الشعري عدد هام من الدواوين، منها على سبيل الذكر لا الحصر: "مرثية طائر الحناء"، "واحد من لا أحد"، "الركض خلف غزال ميت"، "عابرون بثياب خفيفة"، وفي الرواية نجد له على سبيل الذكر لا الحصر روايتين: "سياج للغزالة" و"منذ ساعة تقريبًا".
ما يشد الانتباه في أشعار هذا المبدع الفلسطيني الصامد هو مراوحته بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ساعيًا من خلالها إلى توثيق الواقع المرّ الذي يعيشه قطاع غزة منذ أكثر من سنة تحت القصف دون هوادة.
ناصر رباح كان ضيفنا من قطاع غزة في الحوار التالي:
*ما هي نظرتك اليوم إلى بداياتك مع الكتابة؟
-لست خجولًا ولا متفاخرًا بها، هي ابنة وقتها ومكانها وظروفها، وهي نظرة الشجرة للبذرة، ونظرة الطريق للخطوة الأولى، فلولاها ما كان الطريق. أذكرها بحب وحنو ولا أتبرأ منها، كل خطوة أعطتني فرحًا ما وسعادة دفعتني للمزيد وللإجادة.
صحيح أن كل كتاب يفضل أن يكون الابن العاق لما سبقه، وكل نص هو ابن عاق لما سبقه على مستوى التطور والتجديد، ولكن كل هذه الدرجات هي لبناء واحد وكيان واحد وروح واحدة لا تنفصل ولا تذم.
ربما أقول أنني تغيرت كثيرًا عن البدايات، فلم أعد أهتم بتكثيف الصورة للوصول إلى معنى شعري عميق بقدر ما أبحث عن المشهد العميق نفسه، والذي أصوره بكلمات بسيطة. مفهوم الشاعرية تغير، فلم يعد التباهي بعضلات اللغة وتراكيبها بقدر ما هو البحث عن الصدق والوضوح لوصف ما لا تراه الكاميرا.
*كيف يمكن أن تكون كاتبًا في زمن الحرب؟
-هذه مسألة معقدة. أولًا، لا يتوافر المكان ولا البيئة المناسبة للكتابة؛ لا كهرباء، لا هدوء، لا طمأنينة بين قذيفة وأخرى، وبين أخبار الموتى والجرحى نمضي أيامنا. نفكر أولًا في النجاة، ومن ثم نفكر في تأمين طعام للأسرة وكيف سيمضي اليوم دون أن نضطر للمغادرة. يمر اليوم بمعجزة متكررة. ولكن تتحول الكتابة إلى نداء أكبر من كل هذا، نداء الواجب: لا بد من كتابة وتوثيق ما يحدث سواء للآخرين أو لنفسي.
الطبيب لا يتأخر ولا سائق الإسعاف، وهكذا لا يجب أن يتأخر الكاتب حتى لو كتب على ضوء شمعة أو على مذكرة الهاتف المحمول. لا بد من الكتابة والكتابة الجيدة أيضًا، والموجهة نحو هدف التماسك والتبشير بالصبر والصمود وفضح بربرية الاحتلال. أن نستمر في الكتابة يعني أن نستمر في الصمود، أن نستمر في الكتابة يعني أن نستمر في إسناد أنفسنا قبل مواطنينا.
الشاب سائق سيارة الأجرة باغتني بترديد سطور من قصيدة لي وقال إنها كانت منقذته في لحظة اليأس. كانت كلماته قصيدة وأجمل مما كتبت.
*أي فرق بين المعرفة بالنكبة عبر الرواة والمعرفة بها شهادة؟
-هذا فرق شاسع بالطبع، وهي مسافة تصيبنا بالصمت حين تواجهنا الأسئلة من أصدقائنا في الخارج يسألون عن الحال، وكيف نمضي الوقت، وكيف تفعلون كذا وكذا؟ وهي أسئلة المحبة، ولا نلومهم، لكنها تكسر الخاطر حقًا. المعرفة عن بعد لا تشرح الفرق الهائل الذي تختص به هذه الحرب عن غيرها. فهي بين الشوارع وعلى الأرصفة وعبر النوافذ والأبواب، وليست كما يتوقع في ساحة بين جيشين، فيما المدن آمنة. المواطن جندي رغم أنفه، وطبيب ومسعف رغم أنفه. الصورة على التلفاز تختصر المأساة في مشهد الدبابة ولا تشرح كيفية الحصول على الماء والطعام، وإنضاج الخبز، وتدفئة الصغار، وحتى شحن بطارية الهاتف.
ربما تبدو أمورًا لا يليق الحديث عنها، ولكن كيف نطالب بالصمود دونها؟ يبدو أن السؤال والإجابة لا علاقة للبعيد بهما، وهو ما يكسر الخاطر حقًا.
*بدأت شاعرًا ثم اتجهت إلى الرواية. ما المحدد في ذلك وأنت تحت القصف؟
-للتعديل فقط: الروايات كتبت قبل الحرب الأخيرة، وهذا لا يعني أنها كتبت في ظروف مثالية من الهدوء. فمنذ عقدين من الزمن وغزة تحت ظروف حروب متتالية. الشعر هنا، وهو فن الحذف والاختصار والتكثيف، مع الوقت يسبب للشاعر نوعًا من الكبت. تقليم اللغة، تشذيب الانفعالات، تقنين البوح، مما يستدرج الكاتب في حالة غزة ومظلوميتها ومأساتها إلى الحاجة لفضاء أرحب من الشعر. ولذا أفسحت الرواية لي أن أهرول في باحات السرد وفضاءات الوصف والمشهدية، وتحليل واكتشاف التأثيرات النفسية على شخص الرواية. الرواية هي فن الاكتشاف بتعبير "أمبرتو إيكو". أن تكتشف تلك العوالم المادية والنفسية للمحيط الذي تعيشه ويعيشك.
في هذه الحرب اختلف الأمر، فأصوات القصف والتفجيرات والقلق والتوتر ليست ظروفًا مناسبة للتأمل والاكتشاف، وهنا عدت إلى الشعر مرة أخرى. ولكنها قصائد مختلفة، تميل إلى الإيقاع وربما الصراخ والمباشرة لتعبر عني تمامًا كأني جندي بطريقة ما.
*أن تكون مبدعًا – شاعرًا أو روائيًا – في وطن تحت وطأة الدمار. بماذا يهمس لك الإبداع عن الوطن؟
-تقول القصيدة لي: "إنك لم تعد أنت، أنت آخر في نفس الثياب، رغم أنها متسخة ومدماة، إلا أنك شخص آخر، مختلف تمامًا عما سبق، مطالب بوظيفة وطنية جديدة. دع المشاعر جانبًا، دع روحك المفتتة جانبًا، وأكتب ما يسند روح الناس بكلمات ملهمة ومحفزة. دع انهيارك ومشاكلك الصغيرة، وأكتب للعالم عن بشاعة المحتل وإجرام القتلة. لا تدع أي صعوبات في يومك الطويل تمنعك من الكتابة. أنت تفهم الآن معنى الشعار الذي كنت تقرأه ولا تعيه: المثقف آخر من ينكسر."
بمساعدة أصدقاء آمنوا بقضيتنا، ستصدر لي كتب مترجمة في أمريكا وإسبانيا، وديوان كامل عن نصوص الحرب في القاهرة. وكذلك قمت بالتواصل مع مجلات في السويد والنرويج وإيطاليا وتم نشر نصوص تصور معاناتنا وصمودنا.
ورُفعت بعض العبارات الخاصة بي في مظاهرات عديدة منددة بالحرب.
*من وجهة نظرك كيف يمكن للشاعر أو الروائي أن يصنع صورة إبداعية جميلة في عالم متوحش مدمر، مدمر لكل جميل في الحياة؟
-سؤال جميل، فعلى الرغم من أنها ليست مهمة الكاتب بالضرورة أن يتناول الجمال في أعماله، ولكن بالضرورة أن يكتب بطريقة جميلة. تقول الكاتبة الهندية "أرونداتي روي" إن القضايا العادلة لا تغفر التعبير الرديء عنها. وهنا تكمن المفارقة: كيف يمكن لنا ونحن نشاهد القبح أن ننتج الكتابة الجيدة؟ كيف ونحن نتجرع الظلم أن نبشر بالخير والعدالة؟
هناك وسائل وحيل يمكن للكاتب أن يتسلح بها، مثلًا أن يغربل المشهد البشع لينتقي جمالياته. أرى صلابة المواطنين هنا في مواجهة اليومي الصعب، وكيف يستمرون في النضال ساعة بساعة محبة في الحياة: من جلب الماء، وإشعال النار، والسير حفاة، لا تنزعج النساء من الأردية المتسخة، والطعام السيء، وركوب العربات التي تجرها الحمير، السيارة التي تسع ثلاثة يستقلونها خمسة، يحولون خشب الكراسي والأسرة إلى حطب للنار، يحولون الخيمة إلى بيت مؤقت مقسم ومرتب، والبيت المتهدم إلى ملجأ، ويتواسون بكلمات الصبر والحمد. كل هذا يشعل الكتابة ويضيء القلب بجمال الإنسان وجوهره اللامع رغم كل شيء.
*ما الذي يمكن أن يقوم به الأدب الفلسطيني اليوم أمام المجزرة الصهيونية؟
-في الحرب الكلاسيكية يكون الكاتب مواطنًا عاديًا يختار أن يكتب أو أن يصمت. في حرب غزة حيث تدور المعارك بين البيوت وفي الشوارع، ويختلط الجنود ودباباتهم وأسلحتهم بالناس، ويمتزج الليل بالنهار، والصراخ بالدم، تعم الفوضى. ويصبح حتى المواطن العادي جنديًا في المعركة بلحمه ودمه. ويصبح الكاتب محط أنظار المجتمع لتوصيل نبضهم وصراخهم. ولكنه هو نفسه من يحتاج للمأوى والنجاة من مجزرة الحرب اليومية. كتبت ذات يوم: "لست جنديًا، ولكنني رأيتني في الحرب". وهكذا يمارس الكاتب في غزة أعماله الثلاثة كلها كجندي طارئ أولًا يحاور القذيفة والرصاصة والشظية، ويناور بين طائرتين ودبابتين، وكموطن يتقافز من بيت لبيت يؤمن الماء والغذاء لعائلة وأهل، وكأديب يسرق اللحظات من تعبه وانهياره ليكتب خلسة على ضوء جهازه المحمول كلمات الصمود والصمود. جهازه المحمول الذي أصبح يمثل الهاتف والكاميرا والمصباح والمكتب والمكتبة والمقهى في جهاز واحد.
*أي دور للكاتب المبدع في حروب بلاده من وجهة نظرك؟
-على الكاتب أن يتخلص من غبار اللحظة وضجيج العاطفة المؤقتة، وأن يقول ما يراه فيما بعد الحرب. للناس أن تشكو، وعليه أن يبشر بالغد. للناس أن تلعن الحرب والضحايا، وعليه أن يعبد طريق الأمل. للمدني أن يشك في الجندي والحاكم، وعليه أن يثق في جدارة الشعب بمستقبل مجيد.
*ماذا تقول عن كتابة اليوميات ودورها في توثيق الألم؟
هي نوع من الكتابة الإبداعية التي لا نهتم فيها بالتقنيات والشكل واللغة، وفقط نهتم بالحدث لا بالحداثة. في غزة أنجزنا كتابين، أحدهما خاص بأقلام نساء وفتيات عاديات لسن أديبات كتبن يومياتهن وكيف عايشن أحداثها. لم نقم بتعديل أو إعادة صياغة لأي سطر، تم توثيق الكتابة كما هي، بعفويتها واضطرابها، باللغة اليومية والمشاعر المرتبكة. كان الهدف هو نقل اليوميات بلحمها العاري ودمها الهادر. الكتاب الآخر لكتاب معروفين كتبوا يومياتهم كواجب وطني. المسافة لم تكن بعيدة بين الكتابين.
عمومًا هي كتابة لتفريغ الصراخ على الورق (الورق الإلكتروني غالبًا) لتجعلنا نتوازن نفسيًا ونحتمل التجربة دون أن نجن. وهي واجب أخلاقي ووطني ثانيًا، وأخيرًا هي كتابة للتاريخ.
*كيف تقرأ موقف المحتل الصهيوني من الكتابات الإبداعية الفلسطينية؟
-أعتقد أن ما يصدر من غزة طوال الحرب من كتابات ولوحات، ومشاهد تم ترويجها في العالم كله، كأدلة دامغة على الوجه الحقيقي للصهيونية، وهو غير الوجه الذي تسترت به حكومة الاحتلال. كتابات غزة وصور الشهداء، لحمها الممزق ودمها المنساب، كانت القوة الناعمة التي غيرت فكرة العالم عن "الجيش الأكثر أخلاقية" و"الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" و"الناجون من المحرقة"، وكل هذا الهراء الكاذب الذي تم تضليل العالم به على مدار قرن من الزمن، وأسقطته غزة في عام واحد.
*ما يقلقك في الشأن الثقافي في هذا الجحيم؟
-القلق من الصراع الفكري بين أصحاب الكلمة والرأي حول جدوى المقاومة غير المتكافئة والباهظة الثمن. وهو حوار متاح قبل وبعد الحرب، ومرفوض تمامًا خلالها. الصراع حول المحاور والتكتلات ووطنيتها وتخوينها. هذا الصراع الفكري هو في حد ذاته حرب أخرى موازية باهظة الثمن. ما يقلقني هو تقزيم الطروحات بين لونين: أبيض وأسود فقط. إما مع أو ضد. لدي قلق كبير جدًا من الفضائيات المكونة للرأي العام والتي تدار من تحت الطاولة بتوجيهات مضللة.
*ماذا تعرف عن الساحة الشعرية والروائية في تونس؟
-في الرواية طبعًا يعجبني شكري المبخوت، والحبيب السالمي، كمال الرياحي، وكذلك آمنة الرميلي ونجاة إدهان.
في الشعر استوقفني جمال الصليعي في "واد النمل".
*حدثنا عن غزة اليوم بعين الكاتب والمواطن العادي؟
-سأستعير كلمات محمد بنيس المغربي: "فاس عن فاس نأت". كان يصف التغير الحضاري الذي حل بمدينته. أنا أقول: غزة عن غزة نأت ولكن للخلف. عادت لقرون الظلام والبدائية. لم يعد هناك معالم ولا شوارع ولا قرى بأكملها. تلال من الركام والحطام متجاورة في مشهد يقطع القلب نصفين. حتى لو انتهت الحرب، كيف سنتخلص من هذا الركام؟ كيف سنعيد بناء المكان؟ كيف سنتقبل فقدان الأصدقاء ونتعايش مع جراح المبتورين؟
والأسوأ أن الحرب الطويلة وأيامها الصعبة، والضغوط التي لا تحتمل والتي اجترحها الناس، أخرجت أسوأ ما فيهم. تحول الناس إلى آخرين أكثر شراسة.
لكن ومع ذلك، أسمع وأرى في وجوه الناس تطلعهم لفرص قادمة من التعمير والعودة للحياة مرة أخرى وبسرعة وبقوة. إنهم يحشدون طاقاتهم وضغوطاتهم لانطلاقة كبيرة.