(المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية).. فيلم مستوحى من واقعة إرهابية هزت البلاد.. "الذراري الحُمُر" للطفي عاشور.. مائة دقيقة تروي بتأثر بالغ قصة طفولة مغدورة
أداء جيد للطفل علي الهلالي ولطيفة القفصي بإقناع في دور والدة الراعي الشهيد
الفيلم يضع التونسيين أمام حتمية الإجابة على السؤال التالي: إن كانت الصدمة قد أصابت من سمع عن الحادثة الواقعة المأساوية، فما بالك بمن عاشها لحظة بلحظة؟
تونس – الصباح
عديدة هي الأفلام الروائية الطويلة التي سلّطت الضوء على أحداث الثورة التونسية وتطرقت في أغلبها إلى الأفعال الإرهابية وخطرها على البلاد والأخطاء السياسية وما خلّفته من عواقب على المجتمع التونسي.
بعض هذه الأفلام سقط في "المباشراتية " والبعض الآخر بالغ في التركيز على البعد السياسي وذلك على حساب البعدين الاجتماعي والإنساني خاصة في ما يتعلق بالطفل والعنف المسلط عليه بكلّ أشكاله وأنواعه. وربّما يكون فيلم "الذراري الحُمُر" استثناء في هذا المشهد السينمائي المتشابك، فحمل الجمهور إلى قصة أخرى مغايرة.
إيمان عبد اللطيف
غصّت قاعة "الأوبرا" بمدينة الثقافة بالعاصمة بجمهور واسع وغفير ضمّ مختلف الشرائح العمرية لمشاهدة فيلم "الذراري الحُمُر" للمخرج التونسي لطفي عاشور ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة المشاركة في الدورة الـ35 لأيام قرطاج السينمائية.
وإن كان انطلاق عرض الفيلم في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء 18 ديسمبر الجاري، إلا أنّ الحضور لم يُغادر القاعة ولم يُصبه الملل والنفور، وبقي مشدودًا لكل تفاصيل الفيلم الذي أعاد الناس إلى واقعة وجريمة اهتزّت لها تونس والعالم لفظاعتها وبشاعتها إلى حدّ أنها أحدثت صدمة في نفوس من استمع وتابع تفاصيلها عبر الأخبار التي تمّ تداولها في ذلك الوقت.
فالعمل مستوحى من القصة الواقعية للراعي الطفل مبروك السلطاني، الذي ذهب ضحية لعملية إرهابية وحشية في جبل المغيلة سنة 2015. والفيلم – مدته 100 دقيقة – يروي مأساة طفل صغير يُجبر على مشاهدة ابن عمه يُذبح على أيدي الإرهابيين، ثم كردّة فعل - يصعب تفسيرها - يحمل رأسه المقطوع إلى عائلته.
فعل الصدمة عايشه التونسيون بقوّة وبشدّة دون أن يعيشوا لحظة الفعل ولحظة الحادثة وتبعاتها، فقط تناولوا الخبر وحيثياته من مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الإذاعات والقنوات التلفزية. وبمجرّد تخيّل الحادثة كان الخوف والريبة والرهبة والألم مجتمعين على أعقاب نفوسهم ونفسياتهم.
هذا الشعور كان بعيد المدى والأنظار لعامة الناس، فما شعور من عايش فعلاً هذه الجريمة والحادثة؟ وأي صدمة وألم ووجع حلّ بمن كان شاهداً على الفعل وردّة الفعل ووقع المشهد على نفسيته وذاكرته؟
لم يكن شاهد العيان إلا طفلاً ترك مقاعد الدراسة لا لفشله وإنما مضطراً لمساعدة والدته بعد أن غادر والده التراب التونسي إلى الجزائر. فأصبح راعياً من رعاة الريف في عمق أرياف تونس المحيطة بالمخاطر التضاريسية وقساوة الطبيعة والحياة مجتمعة معًا.
اختار المخرج لطفي عاشور وفريق الفيلم عمداً أن لا يغوصوا في كل ما هو سياسي وفعل إرهابي بقدر الغوص في أعماق طفل سُلط عليه عنف يصعب حتى تصنيفه، ولكن نقله بكاميراته وبزوايا التصوير وبفترات الصمت الطويلة في عدّة مشاهد، وبالتركيز على ملامح الوجه وتوتر شخصية البطل "أشرف" الذي أدّى دوره بكلّ براعة الطفل "علي الهلالي".
انطلقت رحلة وتبعات الصدمة التي أصيب بها "أشرف" بالاضطرار إلى حمل رأس ابن عمه "نزار" وكأنه يحمل شيئًا عادياً ويعود أدراجه عبر طرقات وعرة وخطيرة من حيث التضاريس ومن حيث انتشار الألغام.
لا قدرة له على الحديث ولا حتى البكاء إلا قليلاً، وإنما خيّم الصمت العميق على الكثير من المشاهد التي أثثت طريق الرجوع إلى بيته، فلا يسمع إلا صوت أنفاسه المتوترة والمتصاعدة وعجز كبير عن التفاعل أو إصدار أي ردة فعل غير العودة إلى ذكرياته وضحكاته ومغامراته مع ابن عمه "نزار".
لم يتغافل الفيلم عن نقل ردّة فعل المحيطين بالضحية "نزار" وابن عمه "أشرف"، الأمّ التي أدّت دورها الممثلة القديرة لطيفة القفصي والعائلة الموسعة وحالة الصدمة والألم والإصرار على جلب بقية جسد الضحية من قبل شقيقه "منير" وسط تخلٍّ تام من سلطة الإشراف في ذلك الوقت وعدم تحمّلها المسؤولية إلا بعد انتشار مقطع فيديو الجريمة وتصوير "الرأس المقطوعة" الموضوعة في الثلاجة.
عن مراحل إنتاج الفيلم وتصويره، تحدّث المخرج لطفي عاشور قبل بداية العرض وأثناء النقاش، ليؤكد أنّ فترة التحضير استغرقت ست سنوات حتى يصلوا إلى النسخة التي تمّ عرضها.
وأوضح المخرج أن "هذا الفيلم المستوحى من حادثة مبروك السلطاني هو فيلم صعب تطلب ست سنوات لإنجازه بمساعدة العديد والعديد من الأشخاص من الحرس الوطني والداخلية والجيش التونسي ومسؤولي ولاية الكاف وأيضا مديري المعاهد، إذ تنقلنا وتجولنا بأغلب أرياف تونس حتى نتمكن من اختيار شخصيات الأبطال".
عن مدى مطابقة أحداث الفيلم مع الواقع والحادثة في حدّ ذاتها، أوضح لطفي عاشور قائلاً: "لم يكن لدي أكثر معلومات عما يعلمه التونسيون عن تلك الجريمة وعن ما تمّ تداوله من أخبار".
وأضاف: "لكن منذ البداية كان التوجّه نحو عدم التركيز على التفاصيل الدقيقة لتلك الجريمة، وإنما التوجه نحو إبقاء الحادثة في الذاكرة بالتسليط الضوء على الطفل والعنف الذي عاشه وكيف سيواجه الواقعة وكيف سيعيش بعد وقع الصدمة عليه".
عن عنوان الفيلم، قال لطفي عاشور إنّ كلمة "الذراري" تعني في اللهجة التونسية الأطفال، وفي بعض مناطق تونس، يُستخدم وصف "الحُمُر" للإشارة إلى القوة والشجاعة والجرأة، وهذا ما يترجمه الفيلم من خلال نقل التحولات النفسية التي عاشها كل من "نزار" في مواجهة قساوة الطبيعة وهجوم الإرهابيين و"أشرف" في التفاعل مع صدمة الجريمة وقرار مغادرة قريته وترك عائلته خوفاً من أن يلقى نفس المصير و"رحمة" التي واجهت الصدمة بأنها لم تتخل عن دراستها وامتحاناتها طيلة فترة الحادثة ليجدوا بالتالي أنفسهم في مواقف تتطلب شجاعة تتجاوز أعمارهم.
فيلم "الذراري الحُمُر" الذي استغرق تصويره 42 يومًا، تحصل على جائزتي اليسر الذهبية لأفضل فيلم طويل وجائزة اليسر لأحسن إخراج التي آلت إلى مخرج العمل لطفي عاشور ضمن فعاليات الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
أداء جيد للطفل علي الهلالي ولطيفة القفصي بإقناع في دور والدة الراعي الشهيد
الفيلم يضع التونسيين أمام حتمية الإجابة على السؤال التالي: إن كانت الصدمة قد أصابت من سمع عن الحادثة الواقعة المأساوية، فما بالك بمن عاشها لحظة بلحظة؟
تونس – الصباح
عديدة هي الأفلام الروائية الطويلة التي سلّطت الضوء على أحداث الثورة التونسية وتطرقت في أغلبها إلى الأفعال الإرهابية وخطرها على البلاد والأخطاء السياسية وما خلّفته من عواقب على المجتمع التونسي.
بعض هذه الأفلام سقط في "المباشراتية " والبعض الآخر بالغ في التركيز على البعد السياسي وذلك على حساب البعدين الاجتماعي والإنساني خاصة في ما يتعلق بالطفل والعنف المسلط عليه بكلّ أشكاله وأنواعه. وربّما يكون فيلم "الذراري الحُمُر" استثناء في هذا المشهد السينمائي المتشابك، فحمل الجمهور إلى قصة أخرى مغايرة.
إيمان عبد اللطيف
غصّت قاعة "الأوبرا" بمدينة الثقافة بالعاصمة بجمهور واسع وغفير ضمّ مختلف الشرائح العمرية لمشاهدة فيلم "الذراري الحُمُر" للمخرج التونسي لطفي عاشور ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة المشاركة في الدورة الـ35 لأيام قرطاج السينمائية.
وإن كان انطلاق عرض الفيلم في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء 18 ديسمبر الجاري، إلا أنّ الحضور لم يُغادر القاعة ولم يُصبه الملل والنفور، وبقي مشدودًا لكل تفاصيل الفيلم الذي أعاد الناس إلى واقعة وجريمة اهتزّت لها تونس والعالم لفظاعتها وبشاعتها إلى حدّ أنها أحدثت صدمة في نفوس من استمع وتابع تفاصيلها عبر الأخبار التي تمّ تداولها في ذلك الوقت.
فالعمل مستوحى من القصة الواقعية للراعي الطفل مبروك السلطاني، الذي ذهب ضحية لعملية إرهابية وحشية في جبل المغيلة سنة 2015. والفيلم – مدته 100 دقيقة – يروي مأساة طفل صغير يُجبر على مشاهدة ابن عمه يُذبح على أيدي الإرهابيين، ثم كردّة فعل - يصعب تفسيرها - يحمل رأسه المقطوع إلى عائلته.
فعل الصدمة عايشه التونسيون بقوّة وبشدّة دون أن يعيشوا لحظة الفعل ولحظة الحادثة وتبعاتها، فقط تناولوا الخبر وحيثياته من مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الإذاعات والقنوات التلفزية. وبمجرّد تخيّل الحادثة كان الخوف والريبة والرهبة والألم مجتمعين على أعقاب نفوسهم ونفسياتهم.
هذا الشعور كان بعيد المدى والأنظار لعامة الناس، فما شعور من عايش فعلاً هذه الجريمة والحادثة؟ وأي صدمة وألم ووجع حلّ بمن كان شاهداً على الفعل وردّة الفعل ووقع المشهد على نفسيته وذاكرته؟
لم يكن شاهد العيان إلا طفلاً ترك مقاعد الدراسة لا لفشله وإنما مضطراً لمساعدة والدته بعد أن غادر والده التراب التونسي إلى الجزائر. فأصبح راعياً من رعاة الريف في عمق أرياف تونس المحيطة بالمخاطر التضاريسية وقساوة الطبيعة والحياة مجتمعة معًا.
اختار المخرج لطفي عاشور وفريق الفيلم عمداً أن لا يغوصوا في كل ما هو سياسي وفعل إرهابي بقدر الغوص في أعماق طفل سُلط عليه عنف يصعب حتى تصنيفه، ولكن نقله بكاميراته وبزوايا التصوير وبفترات الصمت الطويلة في عدّة مشاهد، وبالتركيز على ملامح الوجه وتوتر شخصية البطل "أشرف" الذي أدّى دوره بكلّ براعة الطفل "علي الهلالي".
انطلقت رحلة وتبعات الصدمة التي أصيب بها "أشرف" بالاضطرار إلى حمل رأس ابن عمه "نزار" وكأنه يحمل شيئًا عادياً ويعود أدراجه عبر طرقات وعرة وخطيرة من حيث التضاريس ومن حيث انتشار الألغام.
لا قدرة له على الحديث ولا حتى البكاء إلا قليلاً، وإنما خيّم الصمت العميق على الكثير من المشاهد التي أثثت طريق الرجوع إلى بيته، فلا يسمع إلا صوت أنفاسه المتوترة والمتصاعدة وعجز كبير عن التفاعل أو إصدار أي ردة فعل غير العودة إلى ذكرياته وضحكاته ومغامراته مع ابن عمه "نزار".
لم يتغافل الفيلم عن نقل ردّة فعل المحيطين بالضحية "نزار" وابن عمه "أشرف"، الأمّ التي أدّت دورها الممثلة القديرة لطيفة القفصي والعائلة الموسعة وحالة الصدمة والألم والإصرار على جلب بقية جسد الضحية من قبل شقيقه "منير" وسط تخلٍّ تام من سلطة الإشراف في ذلك الوقت وعدم تحمّلها المسؤولية إلا بعد انتشار مقطع فيديو الجريمة وتصوير "الرأس المقطوعة" الموضوعة في الثلاجة.
عن مراحل إنتاج الفيلم وتصويره، تحدّث المخرج لطفي عاشور قبل بداية العرض وأثناء النقاش، ليؤكد أنّ فترة التحضير استغرقت ست سنوات حتى يصلوا إلى النسخة التي تمّ عرضها.
وأوضح المخرج أن "هذا الفيلم المستوحى من حادثة مبروك السلطاني هو فيلم صعب تطلب ست سنوات لإنجازه بمساعدة العديد والعديد من الأشخاص من الحرس الوطني والداخلية والجيش التونسي ومسؤولي ولاية الكاف وأيضا مديري المعاهد، إذ تنقلنا وتجولنا بأغلب أرياف تونس حتى نتمكن من اختيار شخصيات الأبطال".
عن مدى مطابقة أحداث الفيلم مع الواقع والحادثة في حدّ ذاتها، أوضح لطفي عاشور قائلاً: "لم يكن لدي أكثر معلومات عما يعلمه التونسيون عن تلك الجريمة وعن ما تمّ تداوله من أخبار".
وأضاف: "لكن منذ البداية كان التوجّه نحو عدم التركيز على التفاصيل الدقيقة لتلك الجريمة، وإنما التوجه نحو إبقاء الحادثة في الذاكرة بالتسليط الضوء على الطفل والعنف الذي عاشه وكيف سيواجه الواقعة وكيف سيعيش بعد وقع الصدمة عليه".
عن عنوان الفيلم، قال لطفي عاشور إنّ كلمة "الذراري" تعني في اللهجة التونسية الأطفال، وفي بعض مناطق تونس، يُستخدم وصف "الحُمُر" للإشارة إلى القوة والشجاعة والجرأة، وهذا ما يترجمه الفيلم من خلال نقل التحولات النفسية التي عاشها كل من "نزار" في مواجهة قساوة الطبيعة وهجوم الإرهابيين و"أشرف" في التفاعل مع صدمة الجريمة وقرار مغادرة قريته وترك عائلته خوفاً من أن يلقى نفس المصير و"رحمة" التي واجهت الصدمة بأنها لم تتخل عن دراستها وامتحاناتها طيلة فترة الحادثة ليجدوا بالتالي أنفسهم في مواقف تتطلب شجاعة تتجاوز أعمارهم.
فيلم "الذراري الحُمُر" الذي استغرق تصويره 42 يومًا، تحصل على جائزتي اليسر الذهبية لأفضل فيلم طويل وجائزة اليسر لأحسن إخراج التي آلت إلى مخرج العمل لطفي عاشور ضمن فعاليات الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.