إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الثقافة في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 في ميزان المثقفين والمبدعين (2/2) .. حان الوقت لثورة تشريعية واجتماعية تعيد للثقافة تألقها ودورها

تونس - الصباح

استعرضنا في عدد أمس آراء عدد من الباحثين والأدباء والفنانين حول وضع القطاع الثقافي في تونس منذ 14 سنة وتحديدًا منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة في 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد (وسط البلاد). ونواصل اليوم مع مجموعة أخرى من المثقفين الذين لم يترددوا هم أيضًا في تقديم رؤية قيمة وتشخيص موضوعي للحياة الثقافية بالبلاد مع مقترحات جديرة بالاهتمام.

محسن بن أحمد

البشير المشرقي (شاعر) .. معوقات مادية وغيرها تعطل الحركة الثقافية

عادة ما يتحدث المؤرخون والنقاد عن نهضة ثقافية تتبع الثورات. مثال ذلك الثورة الفرنسية وما تبعها من تداعيات ثقافية وإبداعية. فهل تحقق ذلك مع ما شهدته بلادنا بعد 17 ديسمبر 2010؟ إن المتأمل في واقع الثقافة التونسية بعد هذا التاريخ الفارق والمصيري سياسيًا واجتماعيًا يلاحظ أن الثقافة فقدت العديد من خصوصياتها ومن أركانها وفقدت الكثير من المكونات الثقافية والإبداعية التي كانت متواجدة بالساحة. أول ما نشير إليه أن المؤسسات الثقافية وأعني بها دور الثقافة بالأساس إلى جانب هياكل ثقافية أخرى لم تعد قادرة على التحرك بما يكفي ماديًا لتنظيم أنشطة ثقافية كبرى كما كان الأمر سابقًا وذلك بعد إلغاء اللجان الثقافية الجهوية والمحلية وكذلك اللجنة الثقافية الوطنية، وكانت جميعها تضطلع بدور ثقافي وتنشيطي هام. مما جعل هذه المؤسسات مكبلة ماديًا وغير قادرة على تنظيم الأنشطة الكبرى. بعد الثورة غابت المهرجانات والملتقيات الكبرى وخفت وتيرة الأمسيات الشعرية والأدبية إلا النزر القليل الذي ظلت تضطلع به بعض الجمعيات الثقافية التي لجأت إليها المؤسسات الثقافية لتساعدها على تنظيم البعض من برامجها. كانت هناك أنشطة كبرى في جل المدن والولايات كملتقيات الشعر والقصة بما ساعد على تحريك سواكن النقد الأدبي. ظاهرة أخرى نشير إليها تتمثل في تحول دور النشر من راعية للإبداع إلى دور لا تنظر في الغالب إلا لما يمكن جنيه ماديًا من عملية نشر الكتب، وهو ما انعكس سلبًا على الجودة وقيمة ما ينشر. نتج عن هذا ضعف في المادة المقدمة إذ أصبحت هذه الدور في معظمها تنشر لمن يدفع حصته من مقابل النشر، وهو ما دفع بمن يكتبون إلى استعجال النشر.

الثقافة بمعظم أبوابها أضحت لدى الكثيرين مادة سهلة. أصبحت مادة "فيسبوكية" رائجة وقد ساعد غياب حركة نقدية موازية على رواج مادة رديئة في معظمها وخاصة في الشعر حيث أصبحت وسائل الاتصال الاجتماعي تنشر الكثير من النصوص الشبيهة بكتابات المبتدئين من الناشئة. وما يقال عن الشعر يقال عن القصة والرواية والفن الغنائي والمسرحي.

وهذا لا ينقص بتاتًا من قيمة الكثير مما تنظمه المؤسسات الثقافية وبعض الجمعيات النشيطة ثقافيًا برعاية من وزارة الثقافة، وهو ما تأكد حصوله في السنوات الأخيرة من عودة تدريجية لمكونات ثقافة تونسية وإبداع تونسي يقطعان مع ما كان سائدًا في الساحة الثقافية والإبداعية الوطنية…

حبيبة المحرزي (كاتبة وناقدة) .. الثقافة تحررت من سلطة الرقيب ولكن..

في الذكرى الرابعة عشر لثورة غيّرت المشهد الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في تونس وفتحت طورًا جديدًا بعيدًا عن نظام متعسّف، خاصة في المنظومة الثقافية بشعار: "شغل، حرية، كرامة وطنية"، نتساءل اليوم: هل وفّرت هذه الثورة ما جعل الثقافة في تونس تنهل فعلاً من فيض الحرية؟ هل كان نِتاجُها مكاسب تثري الساحة الثقافية وتنهض بالمجتمع أم خلّفت تقهقرًا يغرقه في الجهل والتخلّف؟ مكتسبات أم انتكاسة؟ هل نحن متفائلون بمستقبل ثقافة نيّرة قوامها الحرية أم أننا متشائمون متنكّرون لفضل الثورة؟

عند هذا الحدّ وجب التفريق بين المنتوج الثقافيّ كمضمون ومصدره كفكر ومتلقّيه كمتقبّل بفحص المضمون والفكر الذي أنتجه معًا. أيّ مضمون إذن قبل الثورة وبعدها وأيّ فكر منتج له وأيّ متلقٍ للمضمون والفكر معًا؟

نعم، لقد تحرّرت الثقافة بعد 17 ديسمبر من سلطة الرقيب ومخالبه الفتاكة والتبعية التي تخنق المثقف وتكدس عليه الضغوطات تجريما وكبحًا لجماح المبدعين.

إن تكميم الأفواه وتوجيه الفنون بكلّ تجلّيّاتها قد ذهب وولى، إذ توقّف سعير الرقابة وانطلقت الأقلام والحناجر والفنون تبدع نصوصًا وأفلامًا ومسرحيات ورسومًا هادفة معبّرة عن القضايا الحارقة التي كانت من الممنوعات والتي كانت السلطة تعمل فيها المشرط حذفا ومنعا وعقابًا أيضًا. فكتبوا عن فساد السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وتكميم الأفواه، وارتقى الممثلون المنابر ينادون بالحرية. فالتوق إذن كان لحرية الكلمة وإنهاء سلطة الرقابة المتعسّفة.

لكن هل كان هناك توق ومطلب لحرّية الفكر؟ الفكر كمجهود عقلي وكمنهج وكزاوية نظر وكمسار وكصياغة يعدّ الأهم في فترة انتقالية حرجة لاقى العديد من الهزات إذ ظهرت جماعات متطرفة أرادت أن تبوّب وتصنّف المضامين الثقافية، تمنع هذا وتسمح بذاك، منصّبة نفسها حامية للمجتمع وأعرافه وعسسًا على الإبداع المرئي والمسموع والمكتوب بتعلّة الحفاظ على معتقداته. فأصبحت بدورها رقيبا على المضامين وعلى الفكر وسلطة تحجّم الحرية الفكرية وإبداعها.

لكن الملفت للانتباه اليوم هو تغيّر نسيج الأفراد الذين يكوّنون كتلة الرقيب وامتداد أذرع الأخطبوط ليشمل سوادًا أعظم غير متجانس تحترف تأليب "المجتمع" على المثقفين والمبدعين عبر الفضاء الأزرق المفتوح بمحكمة وقضاة وجلادين.

كيف هو المشهد اليوم إذن؟ إذا استقرأنا مرحلة ما قبل الثورة نلاحظ وجود مؤسسات ثقافية وفضاءات مادية محدودة تسمح بمضامين "غير ضارة سياسيًا" مسموح بها في ميادين عديدة دون المساس بالسلطة ولا نقد مؤسساتها وأفرادها. كان ثمة هامش من الحرية التي تسمح بها السلطة إزاء التعابير الثقافية والفنية وخاصة منها المتأتية من "الخارج".

ويمكن القول إن هامش المسموح به محليًا ووجود المؤسسات الثقافية القائمة آنذاك لم يسمح بإنتاج إنسان مفكّر حرّ غير مقيد فكريًا، بل لم يزج به بعيدًا نحو الانفتاح الفكري العقلي الفعلي ليصبح قادرًا على تقبل أنواع المضامين ومجالات الإنتاج على اختلافها دون أن يستأثر به نهج واحد أوحد دون سواه.

بعد الثورة، تحرّرت المضامين باحتشام، وقُيّدت المستويات التعبيرية للكلمة والصورة والمشهدية بفعل حركة ارتدادية تكاد تكون جماعية. أين الشباب من الإبداعات الفكرية والفنية والحضارية؟ لربما كان الشباب أكثر تيهًا أمام عوامل الفعل الثقافي ونتاجه. بين الانفتاح على العالم و"جلباب أبي وأعمامي وجيراني"، هوة عميقة لم ترمّمها الثورة ولم تُسعفها، والحال أن المأمول كان ثورة فكرية شبابية تنطلق بعيدًا عن مجال الواقع الفعلي.

الثورة الثقافية لا تزال صورة نظرية تنتظر التحقق، مادام حال الثقافة إلى اليوم ثقافة تبحث عن متنفس بعيدًا عن كتلة الرقيب، تبحث عن منفذ إزاء اللبس الحاصل في "لا فكر للكتلة" ولدى هذه الأخيرة. تكلّس مناهج المنطق والتحليل وتغييب النهج العلمي العقلاني، ثقافة تتصارع مع الهوية ومع "يجوز ولا يجوز".

فاتحة المهدوي (ممثلة ) .. الوضع قاتم لكن الأمل قائم

لا أخفي سرًا إذا قلت إننا كأهل ثقافة وإبداع كنا ننتظر الكثير من الثورة التي انطلقت شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010، لكن خاب الأمل وتبددت الأحلام في الوقت الذي انتظرنا فيه ثورة حقيقية على مستوى التشريعات والقوانين التي من شأنها أن تمثل حافزًا للمسرحيين بصفة خاصة وعلى اعتبار أنني أنتمي إلى هذا القطاع منذ سبعينات القرن الماضي.

لم يتغير شيء بل أكاد أقول إن الوضع ازداد قتامة. لقد تم استغلال الوضع بشكل مؤلم من خلال البعض لمصالحهم الخاصة على حساب الجادين والمبدعين الحقيقيين، واتسعت الهوة بشكل كبير بعد قرار حل اللجان الثقافية الجهوية لتحل محلها الجمعيات التي أكدت التجربة أن كل الأعضاء فيها لا علاقة لهم بالإبداع الثقافي وتفاصيله وأسراره وخصوصياته. ثم ها نحن ننتظر على امتداد سنوات طويلة "قانون الفنان". لكن شيئًا من ذلك لم يظهر بشأنه، واليوم ترانا نأمل في غد أفضل للثقافة والمثقفين.

الحبيب جغام (إذاعي) .. الجيد قليل والرديء كثير

كثيرًا ما أتساءل وألح في التساؤل بيني وبين نفسي وفي مرات عديدة أسأل من أدعوهم إلى برامجي في الإذاعة عن دور النخبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من واقع الثقافة في بلادنا. هذه الثقافة التي انخرطت في توجهات سيئة لعقول الناس. كنت أتصور أن تصنع النخبة من رجال الفكر والفن والثقافة والإعلام والسياسة خلال هذه السنوات الأخيرة مشهدًا ثقافيًا مغايرًا يقطع مع السائد وينفتح على آفاق جمالية وفكرية راقية.

عندما نتأمل مشهدنا هذا نرى أن من يظهر في الصورة ويؤثر هو الذي ينشر الرداءة والتفاهة والسطحية. هو من يخرج عن النص ويستخدم أدوات سيئة للذوق وللجمال. وأنا هنا استثني بعض الذين تتجلى فيهم مثل الحياة بأدب ملتزم وبمسرح لا يمزح وبموسيقى فيها إحساس جميل وبفن تشكيلي فيه تعبيرات وألوان وخطوط نرى فيها حياتنا المزدحمة بالمشاغل والتطلعات. ولكن هذا شيء قليل من رديء كثير.

لماذا لم يدرك المفكرون والمثقفون وأهل السياسة المخلصون أن الأمر يتطلب معالجة أكيدة حتى لا يتواصل التدمير الممنهج للعقول ببرامج ومنوعات ساقطة في الحضيض وبمنشطين وصحفيين همهم الكبير هو صناعة الأوهام والإثارة الرخيصة والابتزاز الماكر الخبيث للمشاهدين والمستمعين بكل الطرق والأساليب. هل أصبح العقل التونسي خاويا عاجزًا معطلاً عن الحركة حتى يغير المشهد ويجعله متفاعلاً ومبتكرًا لأحلام الناس وتطلعاتهم ودافعًا للعمل؟

هذا إنتاجنا الأدبي والفكري لا يخرج للناس، والناس لا يلتفتون إليه، والناس لا يقرؤون. المنتديات الثقافية فارغة إلا من النادر القليل، والمهرجانات أكثر من عروض البهرج الفارغ. الأفلام التونسية تحصد الجوائز ولكنها لا تعني شيئًا للتونسيين. المسرحيون والفنانون الصادقون الجيدون في ورشاتهم ومسارحهم الضيقة وتحت أضواء خافتة لا يخاطبون عامة الناس. معارض الرسم وأكشاك الصحافة والمكتبات تتناقص، ودور الثقافة ونوادي القراءة الحاضرون فيها أعدادهم قليلة.

هل التونسيون يا ترى اليوم بعد هذه السنوات عاجزون كما شعوب أخرى على تقديم الأفضل والأحسن كما الأمم الراقية التي تقرأ وتكتب وتفكر وتلتزم بالقيم كمن يقود السيارة ويحترم قانون السير ولا يتخطى الضوء الأحمر ولا تحصل الكارثة؟ أم أننا اليوم سنبقى حتى نموت والموتى لا يعودون؟

خير الدين الشابي (شاعر) .. الساحة الثقافية تتعافى تدريجيا

ماذا عساني أقول اليوم في هذه الفوضى التي سادت بعد ديسمبر 2010 إذ هجمت علينا الجمعيات المختلفة الأديان والأفكار والأيديولوجيات والأموال المشبوهة التي تصر على الرداءة والاسفاف وعلى الأشياء الخارجة تمامًا على الفعل الثقافي والضاربة في عمق ثقافة التشفي والقصاص. إن الجمعيات هي سبب التشظي والانخراط وسبب التهميش لماذا؟ لأن وزارة الإشراف لم يعد لها نفوذ في تسيير الأمور كما ينبغي، ومرت سنوات طويلة منذ دخول الثورة.

لكن وإن تعافت الساحة الثقافية في السنوات الأخيرة تدريجيًا إلا أنها ليست بالمواقف التي يريدها المثقف. لا ننسى أن الثقافة في تونس شهدت نكسة كبيرة مرت كالوباء على الأقلام وتركت إرثًا من الحقد بين المسؤولين في الشأن الثقافي والكتاب. لقد ناضلنا كثيرًا ومازلنا نصبوا إلى ما أرقى وما أجمل من هذه الفترات رغم بعض الانفراجات في مواقف الدولة وبدأ في الحقيقة التعافي في جسد الإبداع والمبدع ولكن كما قلت نحن نريد إعادة حياتنا الحقيقية في التنفس بامتلاء وبحرية في الكتابة وأعني الحرية المسؤولة التي لا تمس بهيبة البلاد في الداخل والخارج وأن نحيا بشرف الصفة وأن نكون سندًا للدولة كما أن تكون الدولة أيضًا سندًا قويًا للكتّاب وأن تتماشى مع ما يصبو إليه الكاتب لأن الثقافة هي السفير الوحيد الذي باستطاعته أن يحدد مستوى البلاد وأن ينشر الخير أو عكسه، وبالتالي إن وقعت المصالحة الحقيقية تعود البلاد إلى أحسن مما كانت عليه سابقًا. وفي الحقيقة الحديث عن الشأن الثقافي ذا بعد أولًا سياسي شاملًا وثانيًا ذا بعد إنساني يصب في خندق واحد. وأتمنى أن تتغير رغم أن بوادر الانفراج واضحة ومتجلية ولكن نريدها أكبر وأكثر وأشمل حتى نبني معًا صرحًا ثقافيًا مميزًا، وهذا لا يحصل إلا بقرارات جريئة تنفض غبار الاضطهاد والسهد والسهاد على المثقفين والمبدعين منهم خاصة

لطفي عبد الواحد (شاعر) .. ملفات عديدة في حاجة للمراجعة

أعتقد أن الوضع الثقافي في تونس بعد الثورة ودخول البلاد في طور جديد من الحكم لم يتغير كثيرًا نحو الأحسن والأفضل كما كان يتصور المبدعون والمثقفون عمومًا والشعب بأكمله، ولم نلحظ تحولًا كبيرًا يحقق الأهداف المرجوة. ولا تزال هناك في تقديري العديد من الملفات الثقافية التي هي بحاجة إلى أن تفتح وتتم معالجتها في اتجاه إيجاد حلول عملية ترتقي بالثقافة والإبداع. ولا بد في تقديري من وضع خطة عمل مستقبلية تقوم أساسًا على تقييم الراهن وتحديد النقائص والاختلالات للنهوض بالثقافة والفنون على المستوى الوطني والخارجي. ويعتبر موضوع الدعم المادي بالخصوص من المواضيع المزمنة التي تحتاج إلى حلول عملية تنهض بالإبداع والمبدعين في شتى المجالات، خاصة مع تراجع ميزانية وزارة الإشراف وتخليها التدريجي عن دورها الرئيسي في الدعم والإحاطة، خاصة بعد التخلي عن اللجان الثقافية المحلية والهوية دون إيجاد البديل. وأعتقد أن الحاجة قد أصبحت متأكدة جدًا لفتح جميع الملفات الثقافية وإجراء استشارة وطنية على أوسع نقاط تنطلق من الجهات ويكون للمبدعين والمثقفين حضور كبير فيها ومساهمة فعالة. ولا تنحصر هذه الاستشارة في الجانب الإداري المتصل بعمل وزارة الشؤون الثقافية والمؤسسات الراجعة لها بالنظر إذا كنا فعلاً حريصين على الارتقاء بالعمل الثقافي في بلادنا والسعي نحو تحقيق الإشعاع المطلوب لثقافتنا وإبداعنا خارج حدود الوطن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثقافة في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 في ميزان المثقفين والمبدعين (2/2) .. حان الوقت لثورة تشريعية واجتماعية تعيد للثقافة تألقها ودورها

تونس - الصباح

استعرضنا في عدد أمس آراء عدد من الباحثين والأدباء والفنانين حول وضع القطاع الثقافي في تونس منذ 14 سنة وتحديدًا منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة في 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد (وسط البلاد). ونواصل اليوم مع مجموعة أخرى من المثقفين الذين لم يترددوا هم أيضًا في تقديم رؤية قيمة وتشخيص موضوعي للحياة الثقافية بالبلاد مع مقترحات جديرة بالاهتمام.

محسن بن أحمد

البشير المشرقي (شاعر) .. معوقات مادية وغيرها تعطل الحركة الثقافية

عادة ما يتحدث المؤرخون والنقاد عن نهضة ثقافية تتبع الثورات. مثال ذلك الثورة الفرنسية وما تبعها من تداعيات ثقافية وإبداعية. فهل تحقق ذلك مع ما شهدته بلادنا بعد 17 ديسمبر 2010؟ إن المتأمل في واقع الثقافة التونسية بعد هذا التاريخ الفارق والمصيري سياسيًا واجتماعيًا يلاحظ أن الثقافة فقدت العديد من خصوصياتها ومن أركانها وفقدت الكثير من المكونات الثقافية والإبداعية التي كانت متواجدة بالساحة. أول ما نشير إليه أن المؤسسات الثقافية وأعني بها دور الثقافة بالأساس إلى جانب هياكل ثقافية أخرى لم تعد قادرة على التحرك بما يكفي ماديًا لتنظيم أنشطة ثقافية كبرى كما كان الأمر سابقًا وذلك بعد إلغاء اللجان الثقافية الجهوية والمحلية وكذلك اللجنة الثقافية الوطنية، وكانت جميعها تضطلع بدور ثقافي وتنشيطي هام. مما جعل هذه المؤسسات مكبلة ماديًا وغير قادرة على تنظيم الأنشطة الكبرى. بعد الثورة غابت المهرجانات والملتقيات الكبرى وخفت وتيرة الأمسيات الشعرية والأدبية إلا النزر القليل الذي ظلت تضطلع به بعض الجمعيات الثقافية التي لجأت إليها المؤسسات الثقافية لتساعدها على تنظيم البعض من برامجها. كانت هناك أنشطة كبرى في جل المدن والولايات كملتقيات الشعر والقصة بما ساعد على تحريك سواكن النقد الأدبي. ظاهرة أخرى نشير إليها تتمثل في تحول دور النشر من راعية للإبداع إلى دور لا تنظر في الغالب إلا لما يمكن جنيه ماديًا من عملية نشر الكتب، وهو ما انعكس سلبًا على الجودة وقيمة ما ينشر. نتج عن هذا ضعف في المادة المقدمة إذ أصبحت هذه الدور في معظمها تنشر لمن يدفع حصته من مقابل النشر، وهو ما دفع بمن يكتبون إلى استعجال النشر.

الثقافة بمعظم أبوابها أضحت لدى الكثيرين مادة سهلة. أصبحت مادة "فيسبوكية" رائجة وقد ساعد غياب حركة نقدية موازية على رواج مادة رديئة في معظمها وخاصة في الشعر حيث أصبحت وسائل الاتصال الاجتماعي تنشر الكثير من النصوص الشبيهة بكتابات المبتدئين من الناشئة. وما يقال عن الشعر يقال عن القصة والرواية والفن الغنائي والمسرحي.

وهذا لا ينقص بتاتًا من قيمة الكثير مما تنظمه المؤسسات الثقافية وبعض الجمعيات النشيطة ثقافيًا برعاية من وزارة الثقافة، وهو ما تأكد حصوله في السنوات الأخيرة من عودة تدريجية لمكونات ثقافة تونسية وإبداع تونسي يقطعان مع ما كان سائدًا في الساحة الثقافية والإبداعية الوطنية…

حبيبة المحرزي (كاتبة وناقدة) .. الثقافة تحررت من سلطة الرقيب ولكن..

في الذكرى الرابعة عشر لثورة غيّرت المشهد الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في تونس وفتحت طورًا جديدًا بعيدًا عن نظام متعسّف، خاصة في المنظومة الثقافية بشعار: "شغل، حرية، كرامة وطنية"، نتساءل اليوم: هل وفّرت هذه الثورة ما جعل الثقافة في تونس تنهل فعلاً من فيض الحرية؟ هل كان نِتاجُها مكاسب تثري الساحة الثقافية وتنهض بالمجتمع أم خلّفت تقهقرًا يغرقه في الجهل والتخلّف؟ مكتسبات أم انتكاسة؟ هل نحن متفائلون بمستقبل ثقافة نيّرة قوامها الحرية أم أننا متشائمون متنكّرون لفضل الثورة؟

عند هذا الحدّ وجب التفريق بين المنتوج الثقافيّ كمضمون ومصدره كفكر ومتلقّيه كمتقبّل بفحص المضمون والفكر الذي أنتجه معًا. أيّ مضمون إذن قبل الثورة وبعدها وأيّ فكر منتج له وأيّ متلقٍ للمضمون والفكر معًا؟

نعم، لقد تحرّرت الثقافة بعد 17 ديسمبر من سلطة الرقيب ومخالبه الفتاكة والتبعية التي تخنق المثقف وتكدس عليه الضغوطات تجريما وكبحًا لجماح المبدعين.

إن تكميم الأفواه وتوجيه الفنون بكلّ تجلّيّاتها قد ذهب وولى، إذ توقّف سعير الرقابة وانطلقت الأقلام والحناجر والفنون تبدع نصوصًا وأفلامًا ومسرحيات ورسومًا هادفة معبّرة عن القضايا الحارقة التي كانت من الممنوعات والتي كانت السلطة تعمل فيها المشرط حذفا ومنعا وعقابًا أيضًا. فكتبوا عن فساد السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وتكميم الأفواه، وارتقى الممثلون المنابر ينادون بالحرية. فالتوق إذن كان لحرية الكلمة وإنهاء سلطة الرقابة المتعسّفة.

لكن هل كان هناك توق ومطلب لحرّية الفكر؟ الفكر كمجهود عقلي وكمنهج وكزاوية نظر وكمسار وكصياغة يعدّ الأهم في فترة انتقالية حرجة لاقى العديد من الهزات إذ ظهرت جماعات متطرفة أرادت أن تبوّب وتصنّف المضامين الثقافية، تمنع هذا وتسمح بذاك، منصّبة نفسها حامية للمجتمع وأعرافه وعسسًا على الإبداع المرئي والمسموع والمكتوب بتعلّة الحفاظ على معتقداته. فأصبحت بدورها رقيبا على المضامين وعلى الفكر وسلطة تحجّم الحرية الفكرية وإبداعها.

لكن الملفت للانتباه اليوم هو تغيّر نسيج الأفراد الذين يكوّنون كتلة الرقيب وامتداد أذرع الأخطبوط ليشمل سوادًا أعظم غير متجانس تحترف تأليب "المجتمع" على المثقفين والمبدعين عبر الفضاء الأزرق المفتوح بمحكمة وقضاة وجلادين.

كيف هو المشهد اليوم إذن؟ إذا استقرأنا مرحلة ما قبل الثورة نلاحظ وجود مؤسسات ثقافية وفضاءات مادية محدودة تسمح بمضامين "غير ضارة سياسيًا" مسموح بها في ميادين عديدة دون المساس بالسلطة ولا نقد مؤسساتها وأفرادها. كان ثمة هامش من الحرية التي تسمح بها السلطة إزاء التعابير الثقافية والفنية وخاصة منها المتأتية من "الخارج".

ويمكن القول إن هامش المسموح به محليًا ووجود المؤسسات الثقافية القائمة آنذاك لم يسمح بإنتاج إنسان مفكّر حرّ غير مقيد فكريًا، بل لم يزج به بعيدًا نحو الانفتاح الفكري العقلي الفعلي ليصبح قادرًا على تقبل أنواع المضامين ومجالات الإنتاج على اختلافها دون أن يستأثر به نهج واحد أوحد دون سواه.

بعد الثورة، تحرّرت المضامين باحتشام، وقُيّدت المستويات التعبيرية للكلمة والصورة والمشهدية بفعل حركة ارتدادية تكاد تكون جماعية. أين الشباب من الإبداعات الفكرية والفنية والحضارية؟ لربما كان الشباب أكثر تيهًا أمام عوامل الفعل الثقافي ونتاجه. بين الانفتاح على العالم و"جلباب أبي وأعمامي وجيراني"، هوة عميقة لم ترمّمها الثورة ولم تُسعفها، والحال أن المأمول كان ثورة فكرية شبابية تنطلق بعيدًا عن مجال الواقع الفعلي.

الثورة الثقافية لا تزال صورة نظرية تنتظر التحقق، مادام حال الثقافة إلى اليوم ثقافة تبحث عن متنفس بعيدًا عن كتلة الرقيب، تبحث عن منفذ إزاء اللبس الحاصل في "لا فكر للكتلة" ولدى هذه الأخيرة. تكلّس مناهج المنطق والتحليل وتغييب النهج العلمي العقلاني، ثقافة تتصارع مع الهوية ومع "يجوز ولا يجوز".

فاتحة المهدوي (ممثلة ) .. الوضع قاتم لكن الأمل قائم

لا أخفي سرًا إذا قلت إننا كأهل ثقافة وإبداع كنا ننتظر الكثير من الثورة التي انطلقت شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر 2010، لكن خاب الأمل وتبددت الأحلام في الوقت الذي انتظرنا فيه ثورة حقيقية على مستوى التشريعات والقوانين التي من شأنها أن تمثل حافزًا للمسرحيين بصفة خاصة وعلى اعتبار أنني أنتمي إلى هذا القطاع منذ سبعينات القرن الماضي.

لم يتغير شيء بل أكاد أقول إن الوضع ازداد قتامة. لقد تم استغلال الوضع بشكل مؤلم من خلال البعض لمصالحهم الخاصة على حساب الجادين والمبدعين الحقيقيين، واتسعت الهوة بشكل كبير بعد قرار حل اللجان الثقافية الجهوية لتحل محلها الجمعيات التي أكدت التجربة أن كل الأعضاء فيها لا علاقة لهم بالإبداع الثقافي وتفاصيله وأسراره وخصوصياته. ثم ها نحن ننتظر على امتداد سنوات طويلة "قانون الفنان". لكن شيئًا من ذلك لم يظهر بشأنه، واليوم ترانا نأمل في غد أفضل للثقافة والمثقفين.

الحبيب جغام (إذاعي) .. الجيد قليل والرديء كثير

كثيرًا ما أتساءل وألح في التساؤل بيني وبين نفسي وفي مرات عديدة أسأل من أدعوهم إلى برامجي في الإذاعة عن دور النخبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من واقع الثقافة في بلادنا. هذه الثقافة التي انخرطت في توجهات سيئة لعقول الناس. كنت أتصور أن تصنع النخبة من رجال الفكر والفن والثقافة والإعلام والسياسة خلال هذه السنوات الأخيرة مشهدًا ثقافيًا مغايرًا يقطع مع السائد وينفتح على آفاق جمالية وفكرية راقية.

عندما نتأمل مشهدنا هذا نرى أن من يظهر في الصورة ويؤثر هو الذي ينشر الرداءة والتفاهة والسطحية. هو من يخرج عن النص ويستخدم أدوات سيئة للذوق وللجمال. وأنا هنا استثني بعض الذين تتجلى فيهم مثل الحياة بأدب ملتزم وبمسرح لا يمزح وبموسيقى فيها إحساس جميل وبفن تشكيلي فيه تعبيرات وألوان وخطوط نرى فيها حياتنا المزدحمة بالمشاغل والتطلعات. ولكن هذا شيء قليل من رديء كثير.

لماذا لم يدرك المفكرون والمثقفون وأهل السياسة المخلصون أن الأمر يتطلب معالجة أكيدة حتى لا يتواصل التدمير الممنهج للعقول ببرامج ومنوعات ساقطة في الحضيض وبمنشطين وصحفيين همهم الكبير هو صناعة الأوهام والإثارة الرخيصة والابتزاز الماكر الخبيث للمشاهدين والمستمعين بكل الطرق والأساليب. هل أصبح العقل التونسي خاويا عاجزًا معطلاً عن الحركة حتى يغير المشهد ويجعله متفاعلاً ومبتكرًا لأحلام الناس وتطلعاتهم ودافعًا للعمل؟

هذا إنتاجنا الأدبي والفكري لا يخرج للناس، والناس لا يلتفتون إليه، والناس لا يقرؤون. المنتديات الثقافية فارغة إلا من النادر القليل، والمهرجانات أكثر من عروض البهرج الفارغ. الأفلام التونسية تحصد الجوائز ولكنها لا تعني شيئًا للتونسيين. المسرحيون والفنانون الصادقون الجيدون في ورشاتهم ومسارحهم الضيقة وتحت أضواء خافتة لا يخاطبون عامة الناس. معارض الرسم وأكشاك الصحافة والمكتبات تتناقص، ودور الثقافة ونوادي القراءة الحاضرون فيها أعدادهم قليلة.

هل التونسيون يا ترى اليوم بعد هذه السنوات عاجزون كما شعوب أخرى على تقديم الأفضل والأحسن كما الأمم الراقية التي تقرأ وتكتب وتفكر وتلتزم بالقيم كمن يقود السيارة ويحترم قانون السير ولا يتخطى الضوء الأحمر ولا تحصل الكارثة؟ أم أننا اليوم سنبقى حتى نموت والموتى لا يعودون؟

خير الدين الشابي (شاعر) .. الساحة الثقافية تتعافى تدريجيا

ماذا عساني أقول اليوم في هذه الفوضى التي سادت بعد ديسمبر 2010 إذ هجمت علينا الجمعيات المختلفة الأديان والأفكار والأيديولوجيات والأموال المشبوهة التي تصر على الرداءة والاسفاف وعلى الأشياء الخارجة تمامًا على الفعل الثقافي والضاربة في عمق ثقافة التشفي والقصاص. إن الجمعيات هي سبب التشظي والانخراط وسبب التهميش لماذا؟ لأن وزارة الإشراف لم يعد لها نفوذ في تسيير الأمور كما ينبغي، ومرت سنوات طويلة منذ دخول الثورة.

لكن وإن تعافت الساحة الثقافية في السنوات الأخيرة تدريجيًا إلا أنها ليست بالمواقف التي يريدها المثقف. لا ننسى أن الثقافة في تونس شهدت نكسة كبيرة مرت كالوباء على الأقلام وتركت إرثًا من الحقد بين المسؤولين في الشأن الثقافي والكتاب. لقد ناضلنا كثيرًا ومازلنا نصبوا إلى ما أرقى وما أجمل من هذه الفترات رغم بعض الانفراجات في مواقف الدولة وبدأ في الحقيقة التعافي في جسد الإبداع والمبدع ولكن كما قلت نحن نريد إعادة حياتنا الحقيقية في التنفس بامتلاء وبحرية في الكتابة وأعني الحرية المسؤولة التي لا تمس بهيبة البلاد في الداخل والخارج وأن نحيا بشرف الصفة وأن نكون سندًا للدولة كما أن تكون الدولة أيضًا سندًا قويًا للكتّاب وأن تتماشى مع ما يصبو إليه الكاتب لأن الثقافة هي السفير الوحيد الذي باستطاعته أن يحدد مستوى البلاد وأن ينشر الخير أو عكسه، وبالتالي إن وقعت المصالحة الحقيقية تعود البلاد إلى أحسن مما كانت عليه سابقًا. وفي الحقيقة الحديث عن الشأن الثقافي ذا بعد أولًا سياسي شاملًا وثانيًا ذا بعد إنساني يصب في خندق واحد. وأتمنى أن تتغير رغم أن بوادر الانفراج واضحة ومتجلية ولكن نريدها أكبر وأكثر وأشمل حتى نبني معًا صرحًا ثقافيًا مميزًا، وهذا لا يحصل إلا بقرارات جريئة تنفض غبار الاضطهاد والسهد والسهاد على المثقفين والمبدعين منهم خاصة

لطفي عبد الواحد (شاعر) .. ملفات عديدة في حاجة للمراجعة

أعتقد أن الوضع الثقافي في تونس بعد الثورة ودخول البلاد في طور جديد من الحكم لم يتغير كثيرًا نحو الأحسن والأفضل كما كان يتصور المبدعون والمثقفون عمومًا والشعب بأكمله، ولم نلحظ تحولًا كبيرًا يحقق الأهداف المرجوة. ولا تزال هناك في تقديري العديد من الملفات الثقافية التي هي بحاجة إلى أن تفتح وتتم معالجتها في اتجاه إيجاد حلول عملية ترتقي بالثقافة والإبداع. ولا بد في تقديري من وضع خطة عمل مستقبلية تقوم أساسًا على تقييم الراهن وتحديد النقائص والاختلالات للنهوض بالثقافة والفنون على المستوى الوطني والخارجي. ويعتبر موضوع الدعم المادي بالخصوص من المواضيع المزمنة التي تحتاج إلى حلول عملية تنهض بالإبداع والمبدعين في شتى المجالات، خاصة مع تراجع ميزانية وزارة الإشراف وتخليها التدريجي عن دورها الرئيسي في الدعم والإحاطة، خاصة بعد التخلي عن اللجان الثقافية المحلية والهوية دون إيجاد البديل. وأعتقد أن الحاجة قد أصبحت متأكدة جدًا لفتح جميع الملفات الثقافية وإجراء استشارة وطنية على أوسع نقاط تنطلق من الجهات ويكون للمبدعين والمثقفين حضور كبير فيها ومساهمة فعالة. ولا تنحصر هذه الاستشارة في الجانب الإداري المتصل بعمل وزارة الشؤون الثقافية والمؤسسات الراجعة لها بالنظر إذا كنا فعلاً حريصين على الارتقاء بالعمل الثقافي في بلادنا والسعي نحو تحقيق الإشعاع المطلوب لثقافتنا وإبداعنا خارج حدود الوطن.